المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409032
يتصفح الموقع حاليا : 314

البحث

البحث

عرض المادة

هوراس كالن (1882-1974 ) والبرجماتية

Horace Kallen and Pragmatism
مفكر تربوي وفيلسوف برجماتي أمريكي يهودي صهيوني، وأحد تلاميذ وليام جيمس، وأحد أهم المفكرين الصهاينة التوطينيين. وهو ابن حاخام ألماني إصلاحي (من أتباع المتصوف الحلولي السويدي سويدينبورج). هاجر إلى الولايات المتحدة وهو بعد طفل ودرس فيها الفلسفة والتربية واشتغل هناك بالتدريس في عدة جامعات. وهو لا يُعَدُّ من بين كبار المفكرين التربويين، ولكنه يُذكَر بين الفلاسفة البرجماتيين.


قـام هـوراس ماير كـالن، المفكر الصـهيوني وتلميذ وليام جيمس، بتحرير مختارات من أعمال أستاذه، وأكد في المقدمة التي كتبها لهذه المختارات أن موقف وليام جيمس من الواقع (بل ومن الوجود الأمريكي ككل) يشبه موقف الرائد الأمريكي من عدة وجوه، فالشعب الأمريكي يستجيب للواقع استجابة حرة لم تقررها من قبل عادات اجتماعية أو أية عادات خاصة استجلبوها من أوربا معهم، فقد طرحوا هذا التاريخ جانباً ليدخلوا في علاقة (طبيعية/مادية) مع عالم لم يسبق له مثيل؛ عالم محفوف بالمخاطر ولا يمكن التنبؤ به. فالدخول في تجربة لا تُعرَف نتائجها مقدماً هو جوهر تجربة الرجل الأبيض في أمريكا. فالرجل الأبيض في أمريكا هو الرجل البرجماتي بالدرجة الأولى والسوبرمان الحق والكاوبوي الذي لا يهاب شيئاً ويبني بيته بجوار البركان، يخاطر بكل شيء فيفقد كل شيء أو يربح كل شيء.

ويُلاحظ كالن، البرجماتي الصهيوني، في كتابه المثاليون في مأزق، العلاقة الوجدانية الوثيقة بين إسرائيل والولايات المتحدة بل والتشابه البنيوي بينهما. فهو في بداية كتابه يؤكد لقارئه أن كلاًّ من إعلان استقلال إسرائيل وإعلان استقلال الولايات المتحدة يعبِّر عن مسيرة الإنسان نحو الحرية ونحو مزيد من التقدم. وهو في كل صفحة من صفحات الكتاب يُعرِّفنا بنفسه باعتباره «أمريكياً» يُلاحظ بعيون أمريكية، ونجده أمام إحدى مستعمرات الناحال في إسرائيل يتذكر كتابات وليام جيمس. والواقع أنه محقٌ تماماً في رصده التشابه بين البرجماتية والصهيونية. فكلتاهما تصدُر عن فكرة الطبيعة السائلة الكونية، وعن تجزؤ الكون وانقطاعه، وعن الإنسان الطبيعي (المادي) الذي يصبح جزءاً مستقلاًّ يتوحد بهذه السيولة، فتسقط كل الحدود التاريخية والقيم المطلقة وأي شكل من أشكال التجاوز، ولا يبقى سوى البقاء كهدف نهائي والقوة كآلية لتحقيق هذا البقاء. والإرادة التي لا تكترث بالآخر هي مصدر القيمة والمعنى. والصهيونية، مثل البرجماتية، حلولية بدون إله (وحدة وجود مادية) تصدُر عن فكرة الطبيعة التي استوعبت الإله والإنسان وصهرتهما فتوحدا بها حتى اختفيا ولم تَعُد هناك قداسة أو مركز في الكون، ولا تبقى سوى الحركة الطبيعية المتدفقة والسيولة الكونية والإنسان الطبيعي السائل الذي لا تحده حدود أو سدود والذي لا يخضع لأي قانون وكأنه الطبيعة السيّالة نفسها أو هو الجزء المستقل بذاته. وهذا ما تفعله الصهيونية مع فلسطين، فهي تُسقط عنها أية قداسة أو خصوصية أو تاريخية وتحوِّلها إلى مجرد أرض لا تاريخ لها ولا علاقة بالتاريخ الإنساني، مجرد شيء ينتمي إلى عالم الطبيعة/المادة. وتطبيع أرض فلسطين وتطبيع أهلها (أي تحويلهم إلى جزء من الطبيعة) وتغييبهم أول موجة في تيار السيولة الكونية، ولذا ينكر كالن وجود القومية العربية، فالعرب هم أساساً بدو ينظر إليهم كالن باحتراس وحذر شديدين، تماماً مثلما يعامل العالم الأنثروبولوجي القبيلة البدائية التي يدرسها بعد أن يعزلها عن تاريخها وعن إنسانيتها المتعيِّنة.

ويقول بعض دارسي البرجماتية إن إنكار الأمريكيين قيمة التاريخ مردُّه أنهم نشأوا في العالم الجديد وليس في العالم القديم، وأن الهنود الحمر كانوا يعيشون في اتساق مع الطبيعية، ولذا لم تصل حضارتهم إلى وعي تاريخي بالذات، كما كان محتماً على المستوطنين البيض أن ينكروا التاريخ في بلد لا تاريخ له. ولكننا نعتقد أن لا تاريخية الوجدان الأمريكي تعود إلى البناء الفلسفي البرجماتي ذاته، فالهنود الحمر رغم أنهم لم يكن عندهم وعي بالتاريخ، إلا أنهم كانوا يشكلون نوعاً من الوجود التاريخي، كما أن الاستيطان الإسباني البرتغالي (الكاثوليكي) في أمريكا اللاتينية لم يكن مبنياً على إنكار التاريخ. ولعل الاستيطان الصهيوني في فلسطين أكبر دليل على أن إنكار التاريخ جزء من بناء البرجماتية ذاته، فالصهيوني يذهب إلى فلسطين وهو يعرف أنها بلد عربي وجزء من تاريخ عربي قديم متماسك. ومع ذلك، نجده يصر على القول بأنها « أرض بلا شعب ».

ويؤكد كالن أنه لا يوجد شعب عربي وإنما شعوب متحدثة بالعربية، وما يُسمَّى بالعروبة إن هو إلا رد فعل للنهضة الصهيونية المباركة، ولم يخلق جامعة الدول العربية سوى الرشوة البريطانية، كما يؤكد أن البلاد العربية لا يوحِّدها سوى كره إسرائيل. أما الفلسطيني فهو أيضاً لا وجود له، فهو خليط لا نهاية له من كل الأجناس. والقومية العربية شيء مُصطنَع اصطنعته طبقة «الأفندية» وهم يستخدمونها كأداة لتحقيق أغراضهم الكريهة (ولكننا نُفاجأ بعدم اتساق واضح في كتابات كالن، إذ نجده فجأة يقتبس مثلاً إنجليزياً يقول « إنك إذا ضربت عربياً في فلسطين فأنت أيضاً تضرب جده في الأردن »، وهو ما يعني أن ثمة وحدة ما تتجاوز ما رصده).

وحينما يترك كالن العروبة ويتحدث عن العرب أنفسهم، فإن الأمر لا يختلف كثيراً، فالعرب دائماً يبحثون عن البقشيش، وهو حينما يذهب لحي عربي فإنه يُلاحظ أن هذا الحي كان (قبل مجيء الإسرائيليين) حياً للعاهرات ومدمني المخدرات. وهناك شيخ قبيلة في صحراء النقب يلبس هو وأولاده ساعات أجنبية لا تبيِّن الوقت ويحملون أقلام حبر في جاكتات غربية يرتدونها فوق جلاليبهم، وهم يلبسون أحزمة أغمدوا فيها خناجر، ووظيفة هذا الخليط الإنساني هي تهريب الحشيش. ولكن ماذا عن الفدائيين الذين يحلمون ويحملون السلاح دفاعاً عن حقوقهم ويحاولون تحقيق البقاء (ومن ثم فهم مستوفون للشروط البرجماتية: الذاتية والعملية)، هؤلاء يصفهم كالن بأنهم كالديدان. كل هذا التغييب والتهميش والتطبيع وإسقاط القداسة والخصوصية يهدف إلى شيء واحد وهو جعـل العربي خاضـعاً لقوانين السـيولة الكونية؛ جزءاً لا يرتبط بشيء، ولذا يمكن تحريكه ببساطة.

إن رؤية كالن للطبيعة البشرية برجماتية مخيفة، فالإنسان كيان مطاط ولا ثبات في الطبيعة البشرية. وشخصية الإنسان حدث مستمر وليست مجرد حالة جامدة (تماماً مثل الأفكار والمعرفة)، وكل شيء يتغير ويتبدَّل دائماً (مثل الحقيقة والقيمة). ولذا، فإن حل القضية الفلسطينية في رأيه يتلخص في أن يترك الفلسطيني أرضه وأن يتحول الفلسطيني الثابت في أرضه (الجامد مثل الحقيقة والقيمة) إلى الفلسطيني التائه (المتغير مثل الأفكار البرجماتية الناجحة): يُدفَع له بعض المال ويُعطَى جواز سفر ويصبح العالم كله مجال اختياره، أي أن يتحول إلى إنسان برجماتي مرن يقـبل الحقائق المالية المباشرة (القيمة النقدية «كاش فاليو cash value»، وليس القيمة الثابتة، القيمة الفورية التي تحقق له النجاح الفردي والبقاء الشخصي). أما الوجود الإنساني كجماعة، فيجب على الفلسطيني البرجماتي ألا يشغل باله به، على الفلسطيني أن يتحول إلى شيء متحرك يتجاوز القيم الثابتة (مثل حب الأرض والالتصاق بها) ويقبل الترانسفير (التهجير) بصدر رحب، حتى يصبح العالم كله حيزاً مليئاً بالفوضى محفوفاً بالمخاطر. ولتعميق هذه المرونة وهذه الحركية، يؤكد كالن أن العربي عليه أن يُغيِّر معتقداته الدينية (مثلما يغير الفلسطيني وطنه). بل ويرى أن التغير بدأ بالفعل، وعلى هذا فإن الإسلام قد أخذ في الاختفاء، أو في التحول الذي هو مرادف للاختفاء، إذ بدأت تنتـشر البهائية، وهو يرى أن البهائية بمنزلة الإصلاح الديني في الإسـلام.

هذا فيما يتصل بالعرب المستضعفين الذين يخضعون لقانون السيولة الكونية الذي يكتسحهم والذي يوجب عليهم أن يتركوا هويتهم وأرضهم ودينهم ويسبحوا مع التيار أينما يأخذهم، فماذا عن العباقرة (اليهود) الذين يجسدون هذه السيولة التي تتبدَّى من خلالهم، وتصبح إرادتهم وأحلامهم هي النقطة المرجعية ويصبحون هم المطلق؟ يؤسس كالن حق اليهود في فلسطين على أسس برجماتية راسخة وهي ذاتيتهم المطلقة إذ يقول إن هذا الحق يستند إلى الشعور القوي والجارف لدى اليهود بمركزية إسرائيل في حياتهم، فأينما ذهبت في العالم تجد اليهود يتطلعون لإرتس يسرائيل ويحلمون بها. كما يستند هذا الحق إلى خوف اليهود الدائم من أن هتلر قد يجيء في أيِّ مكان. وبسبب هذه «الحالة الشعورية»، تصبح فلسطين من حق اليهود وليس العرب، وهذه حالة شعورية ذات قيمة نقدية فورية، وهي منسجمة مع آراء الصهاينة وتطمئن لها نفوسهم ولا تتعارض مع قيمهم العملية، ولذا فإنها تصبح الحقيقة المطلقة. وفكرة الحقوق التي تستند إلى حالة شعورية تستند بدورها لرؤية غريبة للتاريخ، فالتاريخ عنده حالة شعورية وإيمان، ولا تهم أية حقائق خارجية، فالسيولة تكتسحه. ويتفق الفيلسوف البرجماتي مع الرؤية الحلولية اليهودية التقليدية حين يساوي بين عقائد اليهود وتاريخهم المقدَّس وتاريخهم الحقيقي. فإن أخبر الإله اليهود في التوراة أنه وعدهم بإرتس يسرائيل، فقد أصبحت هذه الرقعة من الأرض أرضهم عبر التاريخ. فالتاريخ ـ حسب تعريف كالن « هو الماضي كما يتذكره الإنسان ». ولكن التاريخ كوجود ذاتي، أو كذكرى وحسب، هو الأسطورة بعينها. فالتاريخ ليس مجرد تذكُّرنا له وإنما هو كيان موضوعي نحاول نحن استرداده من الماضي، واسترداد الماضي شيء ووجوده في الذهن شيء آخر. ولكن، في عالم السيولة الكونية، تكون كل هذه اعتبارات ثانوية.

ويحاول كالن أن يشرح لنا فكرته عن التاريخ كذكرى والذكرى كتاريخ فيقول: "تحولت الرغبة إلى نبوءة والنبوءة بدورها تحولت إلى ذكرى، والذكرى أُعيدَ تشكيلها إلى وعد، والوعد تحول إلى مشروع". وهذا يُذكِّرنا بتعريف وليام جيمس للفكرة كمشروع وكمخطَّط، فرغبة العبرانيين تحولت إلى نبوءة مقدَّسة ثم صَدَر الوعد الإلهي الذي تحول إلى مشروع استيطاني، فشرعية المشروع الاستيطاني تستند إلى أحلام اليهود.

يذوب التـاريخ والواقـع إذن في وجـدان من يرغب، ويصبح بلا حدود، ثم يظهر جيل من حملة التراث اليهودي، المثاليون الذاتيون الذين يحلمون ويفرضون حلمهم دون أدنى اعتبار لأي تاريخ، فالتاريخ هو ما تشاء (!) والطوباويون أو المثاليون الذين يشير إليهم عنوان الكتاب هم الإسرائيليون، كل الإسرائيليين. ويخبرنا كالن أن اليوتوبيا حالة عقلية، وهذا أمر لا جدال فيه. ولكن ما ينساه كالن هو أن اليوتوبيا ـ مثل الحالات العقلية ـ أنواع ودرجات، فهناك الفردوس السماوي الذي نحلم به ونحمله في قلوبنا أينما سرنا ونضع فيه آمالنا، وكل ما لم وما لن يتحقق «الآن» و«هنا»؛ فهو حلم فردوسي كامل نحن في أمس الحاجة إليه رغم استحالة تحقيقه، إذ يساعدنا هذا الحلم على تجاوز الواقع المادي المباشر. ولكننا نعلم جيداً، إن لم نكن من الذاتيين البرجماتيين، أن أحلام الآخرين وذكرياتهم ورغباتهم وأشواقهم تضع حدوداً لأحلامنا الفردوسية، كما نعلم أن الفردوس السماويَّ سماويٌ ولذا فنحن لا نتوقع أبداً تحقيقه الآن وهنا. ولكن هناك أيضاً اليوتوبيا التي يتحدث عنها كالن البرجماتي، فاليوتوبيا - كما يقول - هي مادة الأشياء التي نأمل فيها وتقوم شاهداً على أشياء غير منظورة دون أن تحدها الحدود. وفي إسرائيل الموعودة، يكتشف البرجماتي أن كل الرجال والنساء طوباويون وأن أرض بيولاه (وهو اصطلاح قبَّالي يعني الفردوس) هي الرؤية التي لم تتجسد بعد في أي مكان ولا زمان، ولم تتحقق في الواقع في أي مكان ولا زمان على الأرض، ولكنها دائماً على وشك التجسد في هذا الزمان وفي هذا المكان: الآن وهنا. إن الفردوس الذي يريده كالن هو فردوس أرضي يتحقق الآن وهنا، وهو بهذا يكون حقاً أمريكياً علمانياً حتى النخاع. وإذا كان هناك أيُّ شك في مكان الفردوس الذي يحلم به كالن، فإنه يزيله تماماً بقوله إن بعض الأديان حددت اليوتوبيا باعتبارها « غداً » سماوياً لن يلحق به الإنسان بتاتاً في يومه الذي يعيشه. ولكن توجد أديان أخرى ترى أن « الغد » إن هو إلا يوم يعمل ويحارب من أجله المؤمنون ويحاولون تحقيقه في أيامهم الأرضية كي يستمتعوا بحاضر فردوسي. هؤلاء المؤمنون يحاولون يوماً بعد يوم أن يشيدوا مدينتهم الفاضلة التي يحلمون بها الآن وهنا. إنهم يريدون أن يحيوا فردوسهم وهم أحياء وليس بعد موتهم (وهذا يشبه تماماً الأفكار الأخروية الحلولية اليهودية والعقائد الألفية الاسترجاعية). الفردوس السماوي كما يرى كالن قابل للتحقيق إذن، ونهاية التاريخ ممكنة في أية لحظة. والطوباويون الإسرائيليون ـ حسب تصوُّر كالن ـ يقومون بالفعل بتشييد الفردوس الأرضي (بأموال يهود العالم). وهم، في محاولتهم هذه، لا يفصلون بين المعجزات الإلهية والمنجزات الآلية، ولا بين مبادئ التوراة والتلمود ومبادئ وممارسات رجال العلم في معهد وايزمان.

وقد قال له أحد الفردوسيين: « إننا بشر عاديون؛ نحارب مثل أي شخص آخر »، ولكن البرجماتي الذي أسقط القداسة عن العرب تماماً يجد الإسرائيليين مفعمين بالقداسة، فسعيهم من أجل لقمة العيش (علاقات الإنتاج) أمر ميتافيزيقي، فلقمة العيش هذه لا تغذي الجسد الذي يكد ويعرق، وإنما تغذي تفرُّد الروح، هذا التفرد الذي تعبِّر عنه كلمات مثل «يهودي» و«إسرائيلي». ثم تتكشف الحلولية بدون إله بشكل واضح وصريح حينما يتحدث كالن عن تحول الخبز الذي يتناوله الإسرائيليون إلى ما يشبه الخبز المقدَّس الذي يتناوله المسيحي في صلواته على أنه جسد المسيح: أي أن المجتمع الإسرائيلي تحول إلى ما يشبه الكنيسة أو التجربة الدينية المطلقة أو حتى الفردوس السماوي، وبذا يتداخل النسبي والمطلق تداخلاً كاملاً ويصبح المجتمع الإسرائيلي العبد والمعبود والمعبد، أي أن المثل الأعلى البرجماتي تحقق تماماً في إسرائيل حيث أصبح المستوطنون الصهاينة (هؤلاء السوبرمانات المقدَّسون) تجسيد البرجماتية القديمة قدَم الأزل، فقد اشتقوا أسماءهم في بداية التاريخ من الصراع (الواقعي) والقداسة (المثالية)، فاسم يسرائيل كما يخبرنا البرجماتي الحلولي يعني المتصارع مع الرب، فهو شعب نيتشوي دارويني يعيش في صراع دائم مع الطبيعة القاسية من رمال وتلال ومستنقعات يواجهونها بالإيمان نفسه الذي يواجهون به الطبيعة البشرية المعادية لهم، طبيعة جيرانهم (من العرب) الذين يكنون الكره لهم وينوون تحطيمهم ولا يتمتعون بأية قداسة، فالصراع هنا يصبح صراعاً ضد جمادات لا حياة فيها، وبالتالي يسهل اجتثاثها. وحينما كان الكاوبوي يقف أمام أعدائه، فإنه كان يصرعهم، سواء كانوا من الهنود أو من الذئاب أو من رعاة البقر الآخرين. وكذا الحالوتس (الرائد الصهيوني) فكان عليه أن يحارب حتى يمكنه البقاء، مجرد البقاء في أرض فلسطين الجرداء.

إن البيئة الطبيعية، بما في ذلك الإنسان، تقف ضد الحالوتس الذي لم يكن يحارب ضد طبيعتها الحجرية المستنقعية البرية بل ضد طبيعتها الإنسانية المفترسة. والبرجماتي رجل عملي مرن يتعامل مع ما هو قائم بشكلٍّ مباشر دون أن يُصدِّع رأسه بالتاريخ، فعليه أن يذهب للواقع الجديد الذي يفرضه بالمسدس ضد الطبيعة الإنسانية العنيدة (وهذه حقيقة مريحة بالنسبة له تتفق مع آرائه وأحلامه).

والطوباويون، في صراعهم المستمر ضد الطبيعة والإنسان، أصبحوا تجسيداً كاملاً للقيمة الكبرى، الصراع من أجل البقاء، ولذا فإن السيولة الكونية تكتسحهم فيصبحون برجماتيين طيعين. وقد استجابوا للنداء البرجماتي الدارويني النيتشوي وتحوَّلوا إلى جيش محارب عظيم، أو لم يقل فيلسوف البرجماتية وليام جيمس: « لقد وُلدنا كلنا لنحارب، وإن المجتمع سيصاب بالعقم دون ذلك البذل الصوفي الحلولي للدم »؟ وكأن المجتمع الإنساني آلهة وثنية متعطشة للدماء، وليس الإطار الذي يتجاوز الإنسان من خلاله حالة الطبيعة والصراع! ويُلاحظ كالن بقلب برجماتي مبتهج عسكرة المجتمع الإسرائيلي عسكرة كاملة: إن شعب إسرائيل هو جيش إسرائيل، وجيش إسرائيل هو شعبها، وهذا ليس بالمعني المجازي وإنما هو معنى حرفي، فالجيش الإسرائيلي هو المدرسة التي يتعلم فيها الجميع. ومرة أخرى أيضاً، يُلاحظ كالن بقلب برجماتي مبتهج أنه لم يقابل أيَّ فتى أو فتاة لا يتطلع إلى الخدمة العسـكرية. ويخبرنـا بكل سـرور أنه يمكن جمع الاحتياط في ساعات قليلة، أي أن إسرائيل ( « إسرائيل القلعة » كما يسميها خلال الكتاب كله) على أهبة الاستعداد دائماً لملاقاة العدو براً وبحراً وجواً.

ويمكننا ملاحظة ما يلي على فلسفة كالن:

1 ـ لا يمكن الحديث عنه باعتباره فيلسوفاً يهودياً أو حتى باعتباره مفكراً يهودياً، فيهوديته أصبحت ملتصقة تماماً بالعقيدة الأساسية للمجتمع (وهي العلمانية في شكلها البرجماتي) أي الحلولية بدون إله. وفلسفته برجماتية تماماً سواء حين يتعامل مع النسق الفلسفي أو حين يتعامل مع المجتمع الصهيوني. ولا يمكن فهم موقف كالن من المجتمع الصهيوني إلا في إطار تطور الفكر الفلسفي الغربي وتصاعد معدلات العلمنة وتزايد هيمنة الفكر الحيوي.

2 ـ يمكننا الآن إدراك المضمون الحقيقي للدعوة الموجهة للفلسطينيين والعرب بأن يكونوا أكثر مرونة وبرجماتية، فهي تعني الخضوع للعنف. إذ لو كان الأمر مجرد مرونة وتعويضات تُدفَع، فلم لا تدفع التعويضات للإسرائيليين كي يغتنموا الفرصة المتاحة أمامهم في هذا العالم الرحب النيتشوي المحفوف بالمخاطر؟ لم لا يُطبَّق الترانسفير (أعلى درجات الحركية والمرونة) على الإسرائيليين وهم جزء من الحضارة الغربية ويتباهون بذلك، كما أن عودتهم لن تُشكِّل مشكلة كبيرة (خصوصاً أن حوالي ربع الشعب الإسرائيلي موجود بالفعل في الغرب)؟ إن الأمر ليس مجرد مرونة وواقعية، وإنما هو مرتبط بحجم المدفع وبمقدار العنف، فمن لا يملك آليات البقاء وسبل العنف يصبح مستضعفاً وعليه أن يقلع عن الجهاد ويُسلِّم بروح رياضية برجماتية تتجاوز المطلقات والمثاليات والأحلام وكل ما هو نبيل وكل ماهو إنساني في الإنسان.

ويمكن تصنيف كالن باعتباره من صهاينة الدياسبورا التوطينيين، فهو يرى أن الصهيونية تنبع من الإيمان بالتعددية الحضارية. فالحركة الصهيونية بمنزلة توكيد على ولاء اليهود الأمريكيين لقيمهم الحضارية اليهودية، وهو ما يجعلهم لا يذوبون تماماً في التيار الرئيسي لحضارتهم الأمريكية، ولكنهم مع هذا جزء منه ويقومون بتغذية هذا التيار بعناصر جديدة عليه. وهذا الطرح لدور اليهود يختلف عن الطرح الصهيوني الاستيطاني الذي يطالب اليهودي بالهجرة إلى فلسطين بدعوى أنه لا يمكنه الحياة السوية خارج أرض الميعاد.

  • الاربعاء PM 12:01
    2021-04-07
  • 972
Powered by: GateGold