المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417523
يتصفح الموقع حاليا : 249

البحث

البحث

عرض المادة

الفكر الاشتراكي الغربي وموقفه من الجماعات اليهودية

Western Socialist Thought: Its Attitude toward the Jewish Communities
تتسم النظرة الاشتراكية إلى أعضاء الجماعات اليهودية بالإبهام نفسه الذي تتسم به رؤية عصر الاستنارة إليهم. فقد دعا مفكرو عصر الاستنارة إلى المساواة بين كل البشر، وبالتالي إلى إعتاق اليهود وإعطائهم حقوقهم السياسية والاقتصادية كاملة. وهذا تيار أساسي في الفكر الاشتراكي يُوجَد في كثير من كلاسيكيات هذا الفكر.


لكن إعتاق اليهود، بل الإنسان عموماً، يتم في إطار مفاهيم علمانية مادية مثل مفهوم الإنسان الطبيعي أو المادي أو العالمي أو الأممي. فهو مفهوم مادي اختزالي يُسقط أية خصوصية أو هوية، ويرى الإنسان باعتباره جزءاً من الطبيعة/المادة. ويترتب على هذه المقدمات عدة نتائج أهمها رفض خصوصية اليهود العرْقية، ثم يُنظَر إليهم باعتبارهم مواطنين عاديين وحسب يمكن دمجهم في المجتمع وإعطاؤهم حقوقهم كافة. ومن ثم نجد أن كثيراً من كلاسيكيات الفكر الاشتراكي ترفض الفكرة الصهيونية التي ترى أن اليهود أمة عرْقية مستقلة.

ولكن، كما أن هناك تياراً داخل فكر حركة الاستنارة يرى أن اليهود عنصر له خصوصيته، وأن تخلُّصه من هذه الخصوصية أمر صعب بل مستحيل أحياناً، فإن الفكر الاشتراكي قد اشتمل على مثل هذا التيار. وهو يترجم نفسه أيضاً إلى اتجاه معاد لليهود ومتحيِّز للصهيونية في آن واحد. ويطرح أتباع هذا التيار فكرة هوية يهودية مستقلة عضوية يُفترَض فيها عادة أنها ذات طابع شرقي أو آسيوي أو سامي. وقد ازداد الاهتمام بهذا الجانب مع تزايُد الاهتمام بالعنصر الهيليني (الآري فيما بعد) في الهوية الغربية. وهو اهتمام صار محورياً في الخطاب السياسي الغربي في النصـف الثاني من القرن التاسـع عشر. وقد أكد هيجل على ما أسماه «الطابع الشرقي» للروح القومية اليهودية التي لم تدرك المثل العليا (الهيلينية) للحرية والعقل، فظلت اليهودية لذلك مرتبطة بشعائر بدائية لاعقلانية أو طقوس لا روح فيها تسبَّبت في نهاية الأمر في إدخال العنصر العبراني السلبي على الحضارة الغربية.

وكجزء من هجومهم على المؤسسات القائمة في المجتمع، قام المفكرون الاشتراكيون بالهجوم الضاري على المسيحية وعلى كل الأفكار الدينية، فوجَّهوا النقد إلى اليهودية باعتبارها أساس المسيحية، بل باعتبارها شكلاً متخلفاً منها. واتهموا اليهودية أيضاً بأنهـا تتضمن عناصر نفعية أنانية تشجع اليهود على الاهتمام بأنفسهم وعلى كُره البشر. كما أن اليهودية تشجع اليهود على ضرب العزلة حول أنفسهم وعلى البقاء سجناء شعائرهم البدائية المتخلفة مثل قوانين الطعام التي تجعل اندماجهم مع بقية الجنس البشري مستحيلاً. بل إن بعضهم ذهب إلى حد القول بأن اليهودية تتضمن عناصر هضمية أو معوية، وأن كل إشارة إلى الإله في العهد القديم مرتبطة بالطعام، وأن تقديم القرابين البشرية كان أحد العناصر المكوِّنة للعبادة اليسرائيلية القديمة.

وللقضية أيضاً جانب اقتصادي، فكثير من المفكرين الاشتراكيين ينظر إلى اليهود بوصفهم عنصراً هامشياً غير منتج يتركز في التجارة والأعمال المالية ولا يتجه إلى الصناعة أو الزراعة أبداً (أي أنهم جماعة وظيفية وسيطة). كما أن بعض الاشتراكيين يرون أن ثمة علاقة عضوية بين اليهود والرأسمالية، خصوصاً في شكلها التجاري المتمثل في الأعمال المالية والبورصة.

لكل ما تقدَّم، ذهب بعض المفكرين الاشتراكيين إلى أن اليهود يشكلون جماعة بشرية غير سوية وغير طبيعية. وكان الحل الذي يطرحونه هو ضرورة تخليص اليهود من هويتهم المتخلفة أو الخسيسة أو الأنانية (البورجوازية أو الرأسمالية) وتحويلهم إلى عناصر منتجة ودمجهم في المجتمع أو تأكيد هويتهم وتوطينهم في فلسطين داخل مجتمع تعاوني اشتراكي. وقد ساوى كارل ماركس بين " برجزة " المجتمع (أي سيادة العلاقات التعاقدية البورجوازية فيه) من جهة، وبين تهويده من جهة أخرى.

ومن أوائل الدعاة إلى الاشتراكية المفكر كونت دي سان سيمون (1780 ـ 1825)، وهو ممن يسمون «الاشتراكيين الطوباويين»، أي المثاليين. ويبدو أنه يوجد تيار يهودي مشيحاني في فكره، إذ طالب بتأسيس مجتمع صناعي يحكمه نخبة من العلماء وأصحاب الأعمال والمصرفيين الذين يهتدون بهدي «المسيحية الجديدة» ـ وهي مسيحية علمانية (أو لادينية) لا تستند إلى الإيمان بالإله أو باليوم الآخر أو الزهد في الدنيا ـ وهي تشبه في ذلك اليهودية الإثنية. وثمة إشارة في كتابات سان سيمون إلى الماشيَّح الأم، وهي أنثى يهودية من الشرق ستصوغ الأخلاق الجديدة. وبطبيعة الحال، سيتمتع اليهود بالمساواة الكاملة في هذا المجتمع الجديد. وقد كان الكثير من تلاميذ سان سيمون وحوارييه من اليهود.

وأدَّى هذا العنصر اليهودي اللاديني الفاقع في اشتراكية سان سيمون إلى رد فعل عنيف من الكنيسة ومن شارل فورييه (1772 ـ 1837) أحد أهم المفكرين الاشتراكيين وأحد أهم النقاد الاشتراكيين لليهود. ويذهب فورييه إلى أن التجارة هي مصدر كل الشرور، وأن اليهود هم تجسيد لها، كما أنهم المستغلون الاقتصاديون الرئيسيون في أوربا. واليهود (في تصوُّره) ليسوا جماعة دينية، وإنما هم جماعة قومية غير متحضرة وبدائية ومعادية للحقيقة، ولابد للمجتمع من التخلص منها بالدمج أو الطرد. ومعنى ذلك أنه يتحرك في إطار فكرة الشعب العضوي المنبوذ.

وقد أشار فورييه إلى قوانين الطعام اليهودية كقرينة على صدْق كل الشائعات التي أطلقها أعداء اليهود عنهم مثل اتهامهم بأنهم يعتبرون سرقة المسيحي أمراً مباحاً لهم شرعاً. ولذا، يرى فورييه أن لفظتي «يهودي» و«لص» مترادفتان، وأن الإنسان عند التعامل معهم لا يتوقع سوى أكاذيب ولا شيء سوى الأكاذيب التي يشجعهم عليها دينهم. بل يرى فورييه أن اليهـود عنصر تجاري لا ارتبـاط ولا انتماء له بوطن. ولذا، فهم لا يتورعون عن ارتكاب أعمال الخيانة العظمى ويعملون جواسيس لكل الأمم وجلادين لها. وهم كذلك غير مبدعين في الفنون والآداب ولا يتميَّزون إلا بسجل طويل من الجريمة والقسوة. ونشاطات اليهود الاقتصادية كلها هامشية وشرهة وغير منتجة، فهم لا يعملون أبداً بالزراعة ويشتغلون بالتجارة والأعمال المالية. وهم إلى جانب هذا متمرسون في التهرب من دفع الضرائب ولا يستثمرون رأسمالهم في الصناعة أبداً حتى لا يرتبط مصيرهم بمصير الدولة التي يعيشون فيها. ويقتصر نشاطهم التجاري على الاستيراد والتصدير حتى يحرموا تجار البلاد المضيفة من الاحتكاك بالبلاد الأخرى. وهم يحققون الثروات الهائلة على حساب المواطنين، خصوصاً أنهم بخلاء إلى درجة أن بإمكانهم العيـش على أقل القليل وهو ما يسـاعدهم على مراكمة الثروة بسـرعة. ومن الواضح أن فورييه يتحـدث عن الجمـاعة الوظيفيـة الوسيطة، ولكنه نظراً لجهله بهذه الظاهرة وتواتُرها في المجتمعات الأخرى تصوَّر أنها ظاهرة يهودية وحسب، وأن خصائص أعضاء الجماعة الوظيفية هي خصائص لصيقة بطبيعة اليهود، أينما كانوا وعَبْر التاريخ.

وقد طرح فورييه برنامجاً لحل المسألة اليهودية، وذلك عن طريق دمج اليهود بالقوة اقتصادياً وروحياً. وهذا لن يتأتى إلا بالقضاء على خصوصيتهم اليهودية القومية الاقتصادية عن طريق تطبيق قوانين قاسية عليهم، ومنعهم من الاشتغال بالأعمال التجارية، وإبعادهم عن الحدود والسواحل والأماكن التي يمكنهم أن يمارسوا فيها التهريب والتجارة، وكذلك عن طريق توطينهم بالقوة في القرى. ويجب أن يواكب عملية الدمج الاقتصادي عملية دمج روحي عن طريق التعليم حتى يتخلى اليهود عن مبادئهم الشريرة.

والحل الثاني للمسألة اليهودية الذي يطرحه فورييه قد يبدو وكأنه نقيض الأول، ولكنه في الواقع امتداد له. فإذا كان الحل الأول يفترض إمكانية التخلص من الشعب العضوي المنبوذ عن طريق تخليصه من هويته الكريهة ودمجه، فإن الحل الثاني الذي ورد في كتاب الصناعة الزائفة (1835 ـ 1836) إذ يرى أنه يمكن التخلص منهم عن طريق توطينهم في فلسطين وسوريا ولبنان ليصبحوا أمة معترفاً بها لها ملك وعلم وقناصل وعملة! ويتوجه فورييه بالنصح إلى اليهود، فبدلاً من مضاربات البورصة يمكنهم تحويل فلسطين وما حولها في المنطقة الممتدة من لبنان إلى سيناء إلى أرض صالحة للسكنى عن طريق توفير منافذ لنهر الأردن والبحر الميت على موانئ البحر الأحمر، وأن يتم ري الصحراء وزراعة الغابات الخضراء فيها بواسطة الجيوش الصناعية والمزارع التعاونية وذلك بتمويل روتشيلد وبدعم أوربا، وهذا أدق وصف لعملية الاستيطان الصهيوني وللزراعة الصهيونية التعاونية المسلحة ولكل من الصهيونية التوطينية والاستيطانية (وقد قضت الحركة الصهيونية بين اليهود نحو سبعين عاماً لتكتشف هذه الصيغة البسيطة). ويجب أن نشير إلى أن تاريخ نشر الكتاب هو أيضاً الوقت الذي طُرحت فيه المسـألة الشـرقية وبحدة بسـبب ثـورة محمد علي على السلطان العثماني.

وقد ترك فورييه أعمق الأثر في الفكر الاشتراكي بعده. فنجد أن تلميذه ألفونس توسينيل (1803 ـ 1885) يؤلف كتابه اليهود ملوك العصر: تاريخ الإقطاع المالي (1845) حيث يمثل الإقطاع المالي البنوك في أوربا وفرنسا. والكتاب ليس هجوماً عنصرياً تقليدياً على اليهود إذ يُحذِّر الكاتب في البداية من أنه سيستخدم كلمة «يهودي» لا بمعناها المحدد الذي يشير إلى جماعة إثنية أو دينية، وإنما يستخدمها بالمعنى الشائع لها، أي «مصرفي» أو «مراب» أو «تاجر». ولذا، فإنه يستخدم هذه الكلمة للإشارة إلى كل من يشتغل في الأمور المالية، كل الطفيليين غير المنتجين الذين يعيشون على وجود الآخرين وجهدهم. وقد ربط توسينيل بين القدس اليهودية وجنيف البروتستانتية الكالفنية، فكأن من يقول « يهودي» يقول «بروتستانتي، أي تجار وطيور جارحة». وقد وصل توسينيل إلى أن اليهود، أي كبار المموِّلين، هيمنوا على أوربا في القرن التاسع عشر.

وقد ظهر هذا الاتجاه أيضاً في كتابات أدولف ألايزا الذي ترأَّس مجلة لا رينوفاسيون الناطقة باسم الحركة الاشتراكية من أتباع فورييه وأعطاها اتجاهاً معادياً لليهود. ويرى ألايزا أن اليهود مثل البكتيريا القذرة (وهذه صورة مجازية استخدمها الزعيم الصهيوني نوردو ثم الزعيم النازي هتلر من بعده) تؤدي إلى عفن المكان الذي تصل إليه. فاليهودي يتآمر ضد الأمن الوطني مثل دريفوس. وربطت مدرسة فورييه أيضاً بين ماركس والبلشفية من جهة، وبين ماركس واليهودية من جهة أخرى.

وتُعبِّر آراء ميخائيل باكونين (1814 ـ 1876)، المنظِّر والمفكِّر الفوضوي الروسي، عن كُره عميق لليهود. ففي كتابه الاعتراف الذي ألفه في السجن عام 1851، انتقد قادة الاستقلال في بولندا لاتخاذهم موقفاً إيجابياً تجاه اليهود. وقد نُشر عام 1869 رداً على خطاب من موسى هس أشار فيه إلى اليهود باعتبارهم أمة من المُستغلِّين تقف على الطرف النقيض تماماً من مصالح البروليتاريا. ويمكن فَهْم موقفه هذا من اليهود من خلال حقيقتين، أولاهما: خلافه الفكري الحاد مع الاشـتراكيين وبالذات اليهـود، منهم كارل ماركـس وموسى هس وأمثالهما. وثانيتهما: الدور البارز لأعضاء الجماعة اليهودية في التجارة والمال في أوربا، وهو ما كان نتاجاً لميراثهم التاريخي كجماعات وظيفية هامشية. وقد ذهب باكونين إلى أن اليهود يشكلون خطراً أكبر من اليسوعيين، وأنهم القوة الحقيقية في أوربا، إذ يسيطرون بشكل مطلق على التجارة والبنوك وعلى ثلاثة أرباع الصحافة الألمانية وعلى جزء كبير من صحافة الدول الأخرى. ووصف باكونين الفوضوي ظهور ماركس وأعماله بأنها ظهور جديد للنبي موسى، وأنه يعتبر نموذجاً يمثل الشعب اليهودي.

وقد كان عداء الاشتراكيين والثوريين لليهود يستند إلى تحليل طبقي يفترض فيه أصحابه علميته وموضوعيته. ولكن مع العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وظهور الخطاب العرْقي واكتساحه الفكر الأوربي، نجد أن أتباع فورييه أيضاً يتبنون التفسير العرْقي. فالعرْق اليهودي، بحسب تصوُّرهم، قبيح من الناحية الجسدية، فوجوههم تخرق قواعد الجماليات تماماً كما تخرق روحهم الروح الآرية (الهيلينية من قبل) التي تتسم بالجمال. والعرْق اليهودي لا يمكن دمجه ولا هضمه، وهو عرْق طفيلي كليةً، فاليهودي في كل مكان وزمان كان طفيلياً يصيب المجتمعات بالتحلل. وهم طفيليون لأسباب عرْقية ولا يمكنهم أن يغيِّروا دورهم، تماماً كما لا يمكن للمخلوقات الطفيلية التي تقتل الأجساد الحية أن تتوقف عن وظيفتها. وهم معروفون بشكل خاص بمقدرتهم على تخريب قوانين البلاد التي ينتمون إليها.

ويُلاحَظ أن كل هذه الأوصاف هي أوصاف الشعب العضوي المنبـوذ ، فما الحــل إذن؟ طرحت المجلة، الناطقة بلسان أتباع فورييه، حلاًّ صهيونياً حيث طلبت من اليهود الجلاء عن فرنسا طواعية. ولذا، توجهت بنداء إلى اليهود: "أيها اليهود! إلى أعالي سيناء، حيث أرسل الإله بالوصايا العشر التي تخرقونها دائماً، إلى موسـى والإلـه الذي تركتمـوه بسـبب حبكم الشديد للذهب... اعبروا البحر الأحمر مرة أخرى، ولتنزلوا إلى الصحراء مرة أخرى، إلى أرض الميعاد التي تنتظركم، الأرض الوحيدة التي تناسبكم، أيها الشعب الشرير الوقح الخائن، اذهبوا إلى هناك". وهذا هو الحل الاستعماري الصهيوني، إرسال كل مشاكل أوربا إلى الشرق.

ومن الطريف أنه برغم صهيونية مثل هذه الحلول التي طُرحت عام 1899 بعد عقد المؤتمر الصهيوني الأول، فإن المجلة لم تُعط أية أهمية للحركة الصهيونية أو المنظمة الصهيونية. بل إنه حينما نشر أحد أتباع فورييه ويُدعى فيرييه كتيبه المسألة اليهودية (1902)، فإنه يقدِّم رؤية إيجابية للحركة الصهيونية ويفرق بين يهود الغرب المندمجين الذين سيبقون في أوطانهم ويهود شرق أوربا (أي يهود اليديشية) الذين يجب تهجيرهم إلى وطن قومي خارج فلسطين لأنها ـ حسب تصوُّره ـ غير مناسبة. ورد عليه ألايزا قائلاً إنه يؤيد الحل الصهيوني الذي طرحه تيودور هرتزل من ناحية المبدأ، ويحب أن يرى اليهود في وطنهم وأن هذا سيحقق مصلحتهم، وأكثر من هذا فإنه سيحقق مصلحة فرنسا ذاتها! ولكنه عبَّر عن شكه في إمكانية تحقُّق هذا الحلم بسبب طبيعة اليهود الهامشية.

وقد أصبح ارتباط اليهود بالرأسمالية وكبار المموِّلين موضوعاً أساسياً متواتراً في الفكر الغربي امتزج بالأطروحة العرْقية التي تنظر إلى اليهود بوصفهم ساميين (مقابل الآريين). ويُلاحَظ أن مقولة «الآريين» انفصلت بالتدريج عن مقولة «الهيلينيين»، وبالتالي فقدت بعدها الثقافي واكتسبت بعداً عرْقياً فاقعاً. ولذا، نجد أن بعض الكتاب يقرنون بين التاجر اليهودي والتاجر اليوناني باعتبارهما من التجار الوسطاء.

وتبلور كتابات يوجين دوهرنج ( 1833 ـ 1921) هذه الاتجاهات كافة، فكتابه الحالة اليهودية كمسألة عرْقية وأخلاقية وحضارية ينسب النزعة الليبرالية في الاقتصاد السياسي (أي الرأسمالية والديموقراطية) إلى اليهود الذين يتهمهم باستغلال مبدأ الاقتصاد الحر وتسخيره في خدمة الاحتكار اليهودي الذي يحاول استعباد كل الناس. ورغم أن اليهود يلعبون دوراً طبقياً، فإنهم يُشكِّلون عرْقاً وضيعاً لا مثيل له. واتجاه اليهود نحو التجارة يعود إلى أن جمجمة الإنسان اليهودي ليست جمجمة إنسان مفكر فهي ملأى على الدوام بالربا والشئون التجارية. فاليهود، إذن، فئة تجارية نظراً لأن خصائصهم العرْقية تجعلهم ينزعون نحو التجارة، وهم يحققون ترابُطاً غير عادي بسبب شعائرهم القديمة التي لم يطرحوها جانباً تماماً. وتهمة الدم، بحسب رأي دوهرنج، ذات أساس علمي، فهي تعود إلى التضحيات البشرية التي كان اليهود يقدمونها. وقد استمرت هذه التضحيات بسبب رغبة قيادات اليهود في أن تجعل كل فرد في الجماعة اليهودية متورطاً في جريمة قتل الأطفال المسيحيين.

وحل المسألة اليهودية بالنسبة لدوهرنج هو أيضاً خليط عرْقي اشتراكي علمي، فهو ينادي باعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي وبالاقتصاد الموجَّه وبنوع من الاشتراكية المقيدة وبالحفاظ على الشرف العرْقي الذي يستدعي إنقاذ جميع الدوائر العامة وعالم المال والأعمال من تسلُّط اليهود وسيطرتهم. وبهذا، فإن دوهرنج قد وحَّد بين الرأسماليين بوصفهم تشكيلاً اقتصادياً واليهود بوصفهم عرْقاً وقرن بينهم. ولهذا، فهو يرفض الحل الصهيوني لأن الصهيونية ستدعم قوة اليهود العالمية، ويجد أن الحل الأسمى للمسألة اليهودية هو القتل والطرد. ومن هذا المنظور، فإن مفكراً اشتراكياً مثل ماركس، في رأي دوهرنج، هو الشر المجسد بسبب نظرياته الشيوعية وعرْقه اليهودي، فقد استقى كل نسقه الفكري من القانون الموسوي رغم أنه قد تم تعميده. وقد ظهرت الأطروحة مرة أخرى في كتابات ورنر سومبارت عن علاقة الرأسمالية باليهودية ووصلت إلى ذروتها في الفكر النازي.

وينبغي ألا نتصوَّر أن هذه الرؤية المعادية لليهود مقصورة على المفكرين غير اليهود وحدهم، ففرديناند لاسال (1825 ـ 1864) المفكر الألماني الاشتراكي اليهودي كانت له آراء شبيهة. فقد أكد تنصُّله من اليهودية لأنه يبغض اليهود، إذ لا يرى فيهم سوى سلالة منحلة لماض عظيم ولَّى. وبعد قرون طويلة من العبودية، اكتسب هؤلاء الرجال سمات العبيد. ويجب ذكر أنه كان يوجد عديد من المفكرين، من الاشتراكيين اليهود، لم يهتموا باليهود واليهودية، وإنما افترضوا أن المساواة داخل المجتمع الاشتراكي ستحل المشاكل كافة.

وقد يكون من المفيد ذكر أن ماكس فيبر يستخدم أيضاً منظوراً دينياً لتحليل إشكالية ظهور الرأسمالية في الحضارة الغربية، ولكنه طرح فكرة الرأسمالية الرشيدة مقابل الرأسمالية المنبوذة. وقد وجد أن الرأسمالية الرشيدة مرتبطة بالكالفنية في حين ترتبط الرأسمالية المنبوذة باليهود، وبالتالي فإن اليهود من هذا المنظور غير مسئولين عن ظهور الرأسمالية. (انظر الباب المعنون «الرأسمالية والجماعات اليهودية»).

 

  • الاحد PM 03:12
    2021-04-04
  • 968
Powered by: GateGold