المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417492
يتصفح الموقع حاليا : 215

البحث

البحث

عرض المادة

المواثيـــــق والمزايـــــا والحمايــة

المواثيـــــق والمزايـــــا والحمايــة
Charters, Priviliges and Protection
يُسمَّى الميثاق باللاتينية كارتا «carta» وفي الإنجليزية، يُسمَّى الميثاق تشارتر «charter». والمواثيق نصوص كانت تُصدرها جهة رسمية تتعهد فيها بتزويد فرد أو مجموعة من الأفراد بحماية خاصة وتمنحهم المزايا وتحدد حقوقهم وواجباتهم. وكان الأمراء والملوك يمنحون أعضاء الجماعات اليهود مثل هذه المواثيق التي كانت تؤكد وضعهم كجماعة وظيفية مالية داخل المجتمع الإقطاعي الوسيط في الغرب. وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، لم يعد هناك قانون عام واحد يسري مفعوله في التشكيل السياسي الغربي كله رغم اعتراف الدول بمثل هذا القانون. وكان اليهود قد مُنحوا حق المواطنة حسب مرسوم كاركالا. ولكن، مع انتشار القانون أو العرف الألماني، تَغيَّر الوضع القانوني (فيما بعد) للجماعات اليهودية. وكان القانون الألماني يرى أن الغريب لا مكانة له ولا حقوق، كما كان يمكن قتله دون أن يُعاقَب قاتله، وكان كل من يمنحه المأوى يصبح مسئولاً عن أفعاله، وكذلك كان لا يحق له امتلاك شيء وليس لورثته حق الميراث. وكان الغريب يعيش حسب قانون حاميه، كما كان الاعتداء عليه اعتداءً على حاميه. وكان اليهودي هو الغريب الأساسي في المجتمع، نظراً لأنه لم يكن يعمل لا بالزراعة ولا بالقتال، وهما المهنتان الأساسيتان في المجتمع الإقطاعي، كما لم يكن اليهودي ملحقاً بأي من المدن أو مؤمناً بالمسيحية. وحسب القانون الألماني، فإن أي فرد لا حقوق له، ولا يتمتع بحماية أية جماعة أو فرد، كان يُوضَع تحت حماية الملك ويصبح من أقنانه. وكانت الحقوق والواجبات تُحدَّد بشكل دقيق ولا تسري إلا على الغرباء. أما أعضاء المجتمع، فكانوا يتعاملون بشكل شخصي داخل إطار الأعراف القائمة. ومن ثم، كان الملوك يُصدرون المواثيق التي تؤكد وضع اليهود تحت حمايتهم وتمنحهم المزايا. وكان إطار هذه المواثيق هو المبادئ الأساسية العامة، ثم تنشأ حولها بعد ذلك مجموعة أخرى من الحقوق والمزايا غير المكتوبة. ومن أشهر المواثيق ما أصدره في ألمانيا رودريجز هاوتسمان (أسقف سبير) عام 1084، والميثاق الذي أصدره الإمبراطور هنري الرابع لبعض اليهود في بعض المدن عام 1090، وميثاق هنري الرابع ليهود ورمز عام 1090، وميثاق الإمبراطور فريدريك الأول عام 1157 والذي استُخدم فيه مُصطلَح «أقنان البلاط» ربما لأول مرة. وقد استخدم فريدريك الثاني هذا المُصطلَح عام 1236 للإشارة إلى يهود ألمانيا جميعاً كما أصدر ميثاقاً عام 1238 ليهود فيينا. وهناك ميثاق الملك جون الذي أصدره ليهود إنجلترا عام 1201، والميثاق الذي أصدره شارل الخامس ليهود فرنسا عام 1360. وكانت هذه المواثيق تشبه من بعض الوجوه جواز السفر. وعلى سبيل المثال، أصدر لويس التقي عام 820 ميثاقاً كان يحمله اليهود يُطلَب فيه من الأساقفة والنبلاء والحكام وجامعي الضرائب وكل الرعايا المخلصين ألا يتعرضوا لليهود وألا يضايقوهم أو يصادروا أموالهم أو يفرضوا عليهم أية ضرائب أو يطلبوا إليهم أن يزودوا الجنود والموظفين العابرين بالطعام أو المأوى أو يطلبوا منهم هبات أو مساهمات مالية لصيانة الطرق والأنهار والكباري أو يُحصِّلوا منهم ضريبة مرور.


بل إن الميثاق كان أكثر من جواز سفر إذ كان يعطي أصحابه مزايا عديدة، ومن هنا أصر اللومبارد والتجار الآخرون على الحصول على مواثيق شبيهة بتلك التي مُنحت لليهود. ومن أهم المزايا التي حصل عليها أعضاء الجماعة اليهودية: حرية التجارة، وحرية استيراد العبيد من البلاد السلافية الوثنية، وحرية بيعهم في الإمبراطورية، وحماية تجارة العبيد بتحريم تنصيرهم أو تعميدهم لأن هذا كان يُعدُّ تأميماً لهم (إن صح التعبير) شريطة أن يلتزم اليهود بعدم الاتجار في العبيد المسيحيين. وأعطت بعض المواثيق اليهود الحق في استئجار المسيحيين ليكونوا خدماً شريطة ألا يعملوا في أيام الأحد والأعياد. ونصت بعض المواثيق على أن من حق المرابي اليهودي، عند اكتشاف أن السلعة المرهونة مسروقة، أن يبيعها ويحصل على ما قام بدفعه إن أثبت أنه لم يكن يعرف أنها مسروقة. ومنعت بعض المواثيق أن يشتغل اليهود بأعمال الصيرفة في مكان يعمل فيه صيارفة مسيحيون. وسمحت لأعضاء الجماعات اليهودية أن يعيشوا حسب قوانينهم وأن تكون لهم مدافنهم الخاصة ومعابدهم ومحاكمهم، كما منحتهم حق فض المنازعات التي كانت تقوم فيما بينهم. وسُمح لليهود بحمل سلاح، مع أن هذا الحق كان مقصوراً على النبلاء وبعض رجال الدين، وذلك حتى إذا كانوا لا يضطلعون بأية مهام قتالية. وكان من حق اليهود بناء أسوار حول منطقتهم السكنية. وقد كان الجيتو في بدايته إحدى المزايا التي كانت تُمنَح لهم. كما منحتهم بعض المواثيق حق ارتداء زيٍّ خاص بهم حمايةً لهم فلا يعتدي عليهم أحد بالضرب أو بغيره. وكانت شهادة اليهود تُقبَل أمام المحاكم، وهو أمر لم يكن متاحاً للكثيرين. وأُعفي اليهود من أشكال الاستجواب المختلفة في العصور الوسطى مثل الاستجواب عن طريق التعذيب، وهي وسيلة بدائية اصطُنعت لمعرفة ما إذا كان المتهم بريئاً أو مجرماً. وأعفت بعض المواثيق أعضاء الجماعة اليهودية من عقوبـة التعـذيب أو الضرب وهي عقـوبة كانت تُطبَّق على الفـلاحين والأقنـان.

وفي العصور الوسطى، كان الوضع القانوني لأعضاء الجماعات اليهودية يُعدُّ مزية كبرى. فاليهودي لم يكن كالأقنان مرتبطاً بضيعة محـددة أو مكان محـدد، كما لم يكن كالنبلاء مرتبطاً بالأرض على الإطلاق، ولم يكن كرجال الدين مرتبطاً بالكنيسة. ولم تكن تحد من حركته عشرات القوانين المحلية المتناقضة. وقد أكد مرسوم الملك جون في إنجلترا (عام 1201) هذا الحق بوضوح تام. وكما قال أحد الكُتَّاب اليهود، كان بوسع اليهود أن يتنقلوا من مكان إلى آخر كالفرسان. ووصف كاتب آخر اليهودي في العصور الوسطى بأنه مثل مالك الأرض الذي فقد أرضه ولم يفقد حريته. ووفَّرت المواثيق لليهود الجو المستقر اللازم للقيام بالأعمال المالية والتجارية وحمتهم من هجمات الغوغاء وسكان المدن والحرفيين ومحاكم التفتيش والتعميد القسري والاتهامات المختلفة مثل تهمة الدم.

ولم يكن اليهود الجماعة الوحيدة التي تحصل على مواثيق، فاللومبارد والأرمن والحرفيون حصلوا كذلك على مواثيق تحدد حقوقهم وواجباتهم والمزايا التي يحصلون عليها. وكانت المواثيق تختلف من جماعة إلى أخرى، فالميثاق الذي كان يُمنَح لليهودي الغريب يختلف عن الميثاق الذي يُمنَح للحرفي المقيم. ولذا، لم يكن من الأمور المستغربة في المجتمع الأوربي الوسيط أن تُوجَد في المدينة أو القرية الواحدة عدة قوانين مختلفة، فالقوانين التي تنطبق على النبلاء كانت لا تنطبق مثلاً على الفلاحين. وكان نظام العقوبات يختلف كذلك من جماعة إلى أخرى.

ويمكن القول بأن المواثيق جعلت اليهود جماعة مميَّزة تتمتع بمستوى معيشي يفوق مستوى كثير من طبقات المجتمع الإقطاعي الغربي الأخرى. ولعل من أهم القرائن على ذلك أنه، رغم وجود ما يشبه المجاعة في أوربا في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، فلا يوجد أي ذكر لها في المصادر اليهودية، فقد كان اليهود يعيشون عيشة أرستقراطية جديرة بالتجار الدوليين.

ولكن يجب الانتباه إلى أن تَميُّزهم هذا حوَّلهم إلى جماعة وظيفية وسيطة وإلى سلعة ممتازة وأداة إنتاج متقدمة راقية ومادة بشرية تمت حوسلتها تماماً، فاليهودي في نهاية الأمر كان ملكية خاصة للملك أو لأي شخص يعطيه المواثيق والمزايا. وتستخدم المواثيق عبارات تُضمر حق امتلاك اليهود، مثل «جودايوس هابيري judaeos habere» وتعني «حق امتلاك اليهود» أو «جودايوس تنيري judaeos tenere» أي «حق الاحتفاظ باليهود»، وهي حقوق كان بإمكان الملك أن يبيعها للمدن أو للسلطات المحلية، تماماً مثلما تبيع إحدى المدن في الوقت الحاضر امتياز استغلال منجم أو مد طريق سكة حديدية. فاليهودي لم يكن عضواً في المجتمع وإنما كان شيئاً مملوكاً تُفرض عليه ضرائب، وكلما ازدادت الحقوق والمزايا التي كان يشتريها اليهودي ازدادت أرباح مانح الميثاق الذي كان يعتصر اليهودي عن طريق الضرائب وغيرها من الرسوم. كما أن عملية منح الميثاق كانت تدر على الملك عائداً ضخماً حيث كان يتعيَّن على أعضاء الجماعة شراؤها. وإذا نشأت حاجة إلى مزيد من المال، فإن هذه المواثيق كانت تُلغَى لبيعها لهم من جديد حيث لم تكن هناك أية قيود على مانحها كما كان بوسعه أن يبيع اليهود لمالك آخر يمكنه أن يعتصرهم بشكل أكثر كفاءة.

وكانت المواثيق الوسيلة التي استخدمها الملوك والأمراء لتحويل اليهود إلى أداة يمكنهم عن طريقها ضرب المدن التي كانت تحاول توسيع نطاق سيادتها واستقلالها، بل ضرب كل القوى الاجتماعية التي كان الملك يود التخلص منها أو كبح جماحها.

ولكل ما تقدَّم، نستطيع أن نقول إن أعضاء الجماعة اليهودية، برغم كل ما تمتعوا به من مزايا وما حققوا من ثراء، ظلوا مجرد إسفنجنة تُعتصَر أو قناة موصلة وأداة لضرب الآخرين. ولعل هذا يفسر عدم مساهمة اليهود في نشأة ما يُسمَّى «الرأسمالية الرشيدة» التي نشأت في صفوف الجماعات البرتستانتية في هولندا وإنجلترا.

ويُلاحَظ أن من كان يتنصَّر من اليهود كان يفقد كل المزايا التي أعطيت له بموجب الميثاق، بل كان يفقد كل أملاكه لأنه لم يَعُد من أقنان البلاط. كذلك لم يكن من حق اليهودي أن يغادر البلد إلا بأمر من الإمبراطور، وإن ضُبط متلبساً بمحاولة الهرب فإنه كان يُعتبَر لصاً يسرق أملاك الملك.

ومن ناحية أخرى، فإن المواثيق لم تمنح اليهود أية سلطة سياسية. ولكن هذا الأمر لم يكن مقصوراً على اليهود وحدهم وإنما كان ينطبق على جميع طبقات المجتمع باستثناء كبار الملاك وكبار رجال الكنيسة.

وظلت المواثيق والمزايا والحماية تشكل عنصراً أساسياً في الحضارة الغربية، وبالذات في وسط وشرق أوربا. فحتى القرن الثامن عشر الميلادي، كانت الدويلات الألمانية تُقسِّم اليهود فيها إلى يهود تحت الحماية، وهم أصحاب امتيازات، ويهود خارج الحماية أي أولئك الذين تسللوا وسكنوا في ألمانيا دون وجه حق، وكان يُشار إليهم بأنهم بدون جواز. وتطوَّر هذا المُصطلَح فيما بعد ليقسمهم إلى يهود نافعين ويهود غير نافعين، وهو تقسيم تبنته روسيا القيصرية وغيرها من الدول الأوربية في القرن التاسع عشر الميلادي.

بل عرفت أوربا المواثيق حتى القرن التاسع عشر الميلادي، فقد قام النبلاء الإقطاعيون (بويار) في رومانيا بمنح اليهود مواثيق (هيرسفو) حصلوا بمقتضاها على مزايا معيَّنة من بينها الإعفاء من الضرائب لعدة سنين، والحصول على أرض فضاء لإقامة معابدهم. وأسس النبلاء اليهود مدناً صغيرة تشبه الشتتلات، وكان يُطلَق على هؤلاء اليهود «هيرسوفلتس» أي «الميثاقيون» أو «أصحاب الميثاق». وكان يهود الهيرسوفلتس يُستجلَبون من خارج رومانيا، أي أنهم كانوا في منزلة جماعة وظيفية استيطانية. وكانت كلمة «الميثاق» (بالإنجليزية: تشارتر charter) تُطلَق أيضاً على الامتيازات التي كانت تُمنَح للشركات الغربية الاستيطانية في أفريقيا.

ولا يمكن استبعاد أن هذا كان هو الإطار المرجعي لوعد بلفور الذي يشار إليه في الأدبيات الصهيونية قبل صدوره بلفظ «تشارتر charter» أي «ميثاق»، فهو وثيقة سياسية وضعت اليهود تحت حماية الإمبراطورية الإنجليزية وأعطتهم مزايا وحقوقاً كثيرة شريطة أن يستوطنوا فلسطين ويقوموا على خدمة الإمبراطورية بعد أن أصبحوا أداة لمن منحهم الميثاق. وكان ُيشار للصهاينة بأنهم «تشارترايتس Charterites» أي «الميثاقيون».

  • الثلاثاء PM 05:16
    2021-04-20
  • 1061
Powered by: GateGold