المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417554
يتصفح الموقع حاليا : 241

البحث

البحث

عرض المادة

باروخ إسبينوزا (1632-1677) والعقلانية المادية

Baruch Spinoza and Materialist Rationalism
فيلسـوف عقلاني مادي. من أهم فلاسـفة الحضارة الغربية الحديثة، بل هو في تصوُّرنا (مع نيتشه ومن بعده دريدا) فيلسوف العلمانية الأكبر. عاش في هولندا، ولكنه من أصل ماراني. أفصح أبوه وجده عن انتمائهما اليهودي بعد وصولهما إلى أمستردام حيث أصبحا من قادة الجماعة اليهودية ومن كبار التجار فيها، وكانا يعملان بالاستيراد أساساً. وبإمكان القارئ أن يعود إلى مدخل «هولندا» لمعرفة الخلفية الاقتصادية والثقافية العامة ليهود أمستردام في القرن السابع عشر.


ومن المعروف أن أزمة اليهودية الحاخامية كانت قد بدأت في القرن السابع عشر، وهي الأزمة التي قوضت دعائمها بحيث أصبحت في نهاية الأمر عقيدة أقلية صغيرة من يهود العالم، إذ تبنَّى بقية أعضاء الجماعات اليهودية أشكالاً مختلفة من اليهودية (مثل اليهودية التجديدية) ليس لها علاقة كبيرة باليهودية الحاخامية. ومن أهم مظاهر هذه الأزمة سيطرة القبَّالاه، خصوصاً اللوريانية، على معظم يهود أوربا ابتداءً من منتصف القرن السادس عشر، وهي صيغة حلولية كمونية واحدية (وحدة وجود روحية لم يبق فيها من الإله سوى الاسم) استوعبها إسبينوزا وغيره من أعضاء الجماعات اليهودية، وأثرت في رؤيتهم للعالم بشكل عميق. تلقى إسبينوزا تعليماً تقليدياً فدرس التلمود، ولكن التفسيرات القبَّالية كانت قد تغلغلت حتى في المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، وأصبحت تفاسير التلمود ذات طابع قبَّالي لورياني، وقرأ كتابات ابن ميمون وتعرف من خلالها إلى فكر ابن رشد، كما درس اللاتينية. وإلى جانب ذلك، كان إسبينوزا يجيد الإسبانية والبرتغالية والعبرية وكان ملماً بالفرنسية والإيطالية، الأمر الذي فتح له كثيراً من الآفاق فدرس فكر عصر النهضة الأوربية، وقرأ أعمال ديكارت وهوبز اللذين تركا أعمق الأثر فيه، واستوعب فكر جوردانو برونو وهو فكر ذو طابع حلولي كموني واضح. وتعلَّم إسبينوزا اللاتينية على يد فان دن اندج، كما تلقى على يديه أيضاً مبدأ وحدة الوجود.

ويبدو أن إسبينوزا كان يُعد نفسه ليكون حاخاماً. وكان يعمل في تجارة أبيه وكذلك كانت تربطه علاقة طيبة بكثير من المسيحيين الهولنديين الذين بدأت ترتفع بينهم معدلات العلمنة. وكانت هولندا آنذاك مسرحاً للاضطرابات بين أنصار بيت أورانج والنبلاء (والجماهير) من جهة، والطبقة الوسطى الثرية التي كانت لها اتجاهات جمهورية من جهة أخرى. وقد أعلن إسبينوزا تمرده على العقيدة اليهودية (وكل العقائد في واقع الأمر)، وحاول الحاخامات رشوته في بادئ الأمر حتى يخفي رأيه، ولكنه أصر عليه وعلى إعلانه، فاتُهم بالإلحاد وطُرد من حظيرة الدين، فقبل هذا القرّار بهدوء ولكنه لم يتبن عقيدة دينية جديدة بديلة. وانتقل ليعيش بعيداً عن الحي اليهودي، وغيَّر اسمه إلى «بنيديكتوس Benedictus» (المرادف اللاتيني لاسم «باروخ» أي «مبارك»)، وعاش على صقل العدسات البصرية.

لم ينشر إسبينوزا سوى كتابين في حياته ولم يصدر باسمه سوى واحد منهما فقط وهو مبادئ الفلسفة الديكارتية، أما الكتاب الثاني فهو رسالة في اللاهوت والسياسة. ونُشرت بقية مؤلفاته بعد وفاته ومن بينها الأخلاق و البحث السياسي و إصلاح العقل و الرسائل و رسالة في النحو العبري. وتتسم فلسفة إسبينوزا بشمولها، فهي نظرية في الدين والدنيا، وفي الأخلاق والعاطفة، وفي الإنسان والطبيعة، وفي الفرد والمجتمع. وتدور معظم (إن لم يكن كل) النمـاذج والمنظـومات الفكرية حول عناصر ثلاثـة، الإله والطبيعة والإنسان، والعلاقة بينها. وإذا كان هذا القول ينطبق على معظم النماذج الفكرية، فهو أكثر انطباقاً على فلسفة إسبينوزا إذ تدور فلسفته حول هذه العناصر الثلاثة بشكل واضح.

أولاً: رؤية إسبينوزا للإله والطبيعة:

يُفرِّق إسبينوزا بين الجوهر (ما يوجد وهو علة ذاته)، وبين الصفات (الجوهر كما ينكشف للمعرفة)، والأحوال (ما يطرأ على الجوهر)، وكلها جزء من الجوهر الواحد الأزلي اللامتناهي. هذا الجوهر هو الإله الذي يصفه إسبينوزا بأنه الوجود الضروري اللانهائي الأزلي الشامل. وحينما تُطرَح هذه الأوصاف قد نظن لأول وهلة أننا أمام إله متجاوز للطبيعة والتاريخ، ولكننا حينما ندقق النظر سنكتشف أن صفات الإله هي ذاتها صفات الطبيعة. فالطبيعة لا تأتي من أية علة (أي أنها علة ذاتها) وهي مبدأ خلاق وهي النظام الكلي الشامل للعالم.

وقد استخدم إسبينوزا للتفرقة بين تصوري الإله والطبيعة تعبيرين لاتينيين «ناتورا ناتورانز natura naturans»، أي «الطبيعة الطابعة»، و«ناتورا ناتوراتا natura naturata»، أي «الطبيعة المطبوعة». والطبيعة الطابعة هي النظام الشامل للأشياء من حيث هو ذو وجود ضروري، ولا يمكن أن يتم تصوُّره بغيره لأن شيئاً لا يخرج عنه، كما أن العلة كامنة فيه باطنة، أي لا يتحكم فيه شيء خارج عنه. أما الطبيعة المطبوعة، فهي الأوجه الجزئية أو المكوِّنات الموجودة في العالم من حيث هي تعبير جزئي عن صفات الجوهر الشاملة. ويمكن القول بأن «الطبيعة الطابعة» هي الإله/الطبيعة في حالة اكتمال، أما الطبيعة/المطبوعة فهي الإله/الطبيعة في حالة صيرورة آخذاً في التحقق في المادة (وهذا يقابل العقل المطلق عند هيجل ثم تحقُّقه من خلال الجدل داخل الطبيعة إلى أن يكتمل في نهاية التاريخ).

وبهذا، ردَّ إسبينوزا العالم بأسره، في ثباته وحركته، إلى مبدأ واحد، وهذا المبدأ هو القوة الدافعة للمادة والسارية في الأجسام، الكامنة فيها، والتي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء، نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. ويُسمي دعاة وحدة الوجود الروحية هذا المبدأ «الإله» ويسميه دعاة وحدة الوجود المادية «الطبيعة»، ويكتشف إسبينوزا التقابل بين شكلي وحدة الوجود ويؤكد هذه الحقيقة الأساسية بالنسبة لمنظومته الفلسفية في عبارته اللاتينية الشهيرة «ديوس سيفي ناتورا Deus sive natura» وهي عبارة تعني «الإله أي الطبيعة». والطبيعة هي النظام الكلي للأشياء، ومن ثم فإن الإله هو النظام الكلي للأشياء.

وإن أدركنا هذا الترادف الحرفي (وليس التقابل المجازي) بين الإله والطبيعة، فإننا سندرك أن إله إسبينوزا ليس إله الديانات التوحيدية التقليدية، إذ تذهب هذه الديانات إلى أن الإله مفارق للطبيعة والتاريخ متجاوز لهما، ومع هذا فإنه منشغل بمصير البشر، رحيم بهم، يرسل لهم العلامات والرسائل. الإله في نسق إسبينوزا هو مجرد علة أولى أو قانون لا يعلو على المادة بل يحل أو يكمن فيها، فهو النظام الثابت المحدد للطبيعة أو سلسلة الحوادث الطبيعية التي هي الحركة الآلية التي تعبِّر عن القوانين الثابتة. وعلاقته بالعالم ليست علاقة خلق فهو لم يخلق العالـم من العـدم بل ولم يصـدر عنه العالم (كما يقول الغنوصيون وغيرهـم)، فالأشياء لا تصدر عنه كما لو كانت تصدر عن خالق موجود في الخارج سابق عليها وإنما العالم تال بالضرورة لطبيعة الإله أو ينبثـق عنه مثلما ينتج من تعريف المثلث أن مجموع زواياه يسـاوي قائمتين. فالعلاقة، إذن، منطقية وباقية أشبه ما تكون بعلاقة السبب بالنتيجة، شريطة أن نرى الأسباب والنتائج في حالة تلاصق كامل لا تفصلهما ثغرة زمنية أو مسافة. والحديث عن خلق العالم تحقيقاً لغرض إلهي هو بمثابة إسناد أغراض إنسانية (أغراضنا نحن البشر) إليه هو المتجرد. وبالتالي، فهو إله غير شخصي غير إنساني محايد غير مكترث بآلام البشـر أو أفراحهـم أو خيرهم أو شـرهم أو ثوابهم أو عقابهم، لا يتدخل البتة في شئونهم. بل إنه إله بلا إرادة، فكل ما يحدث لا يمكن أن يحدث إلا بهذه الطريقة، وكما يقول إسبينوزا فإن الإله ما كان بوسعه أن " يختار " أن يسلك بطريقة مختلفة عن تلك التي يسلك بها بالفعل، أي أن ثمة حتمية آلية تتجاوز البشر والطبيعة والإله. فالإله، إذن وببساطة بالغة، هو المبدأ المادي الأوحد في الكون، قوة قد يصل الموجود الطبيعي إلى كماله الطبيعي من خلالها، ولكنها أيضاً قوة لا تكترث بالتمايز الفردي، ولا تمنح الإنسان أية منزلة خاصة.

وفي ضوء هذا التعريف المبدئي، لابد أن يُعاد تعريف معجم إسـبينوزا. فأزلية الإله ليـست أزلية منفصـلة عن الزمـان وإنما هي أزلية الماهية، أي أزلية الضرورة المنطقية، أي الوجود الآلي للشيء (مثل لا زمانية الموضوعات الهندسية). إنه أزلي بالمعنى الذي تكون فيه ماهية الدائرة أزلية. والأمر الإلهي والإرادة الإلهية والعناية الإلهية ما هي إلا نظام الطبيعة كما ينبثق بالضرورة من قوانينها الحتمية. وكل ما يحدث هو إرادة الإله، ولكن ما حدث لا يحدث من خلال إرادة إله عاقل خيِّر شخصي وإنما من خلال حتمية مطلقة. فالإرادة تحدث لأنها مقرَّر لها أن تحدث ولا يمكن لإرادة الإله، إن وُجدت (وهي بطبيعة الحال غير موجودة)، أن تغيِّر ذلك. ولذا، فإن قبلنا مفهوم عون الإله، فنحن نعني النظام الثابت، والقول بأن « كل شيء يحدث بأمر الإله » يعني في واقع الأمر أن « كل شيء يحدث وفقاً لقوانين الطبيعة ».

الإله هو الطبيعة، وكلاهما هو النظام الثابت والمحدد للطبيعة، أي أنه لا توجد أية ثغرات أو فجوات في هذا النموذج، فهو نموذج مغلق تماماً، سلسلة من الأسباب والنتائج المرتبطة رياضياً ومنطقياً وعقلياً من بدايته إلى نهايته، كل جزئية فيه تخضع لقانون صارم أزلي لا يتغيَّر، عالم مادي تماماً لا مجال فيه لروح أو لما فوق الطبيعة أو حتى ما يوازيها أو يجاورها، ولامجال فيه لأية غاية (فالغاية فكرة إنسانية يخلعها الإنسان على الطبيعة)، وهو لا مجال فيه للقلب أو الضمير أو حتى الشخصية المستقلة. فنحن أمام مذهب واحدي أحادي مادي استخدم خطاباً دينياً تقليدياً (الإله ـ الأزلية ـ الكمال)، ولذا فلنسمِّه حلولية بدون إله (وحدة وجود مادية)، وهي تعني أن الخالق حلَّ في مخلوقاته تماماً وتوحَّد بها وأصبح كامناً فيها حتى أصبح هو هم، وأصبح الخالق والمخلوق والخلق واحداً فهما مكوَّنان من جوهر واحد.

ويمكن القول بأن الواحدية والكمونية الفلسفية بلغت ذروتها عند إسبينوزا، فقد ألغى كل الثنائيات التقليدية، ولذا فنحن نرى أن فلسفته هي نظام مادي خال من أية رواسب دينية سوى المصطلح، بل يمكن القول بأنه من أكثر النظم المادية تبلوراً ومن أكثرها نقاءً وخلواً من العناصر غير المادية. فالإله هو الطبيعة، والعقل هو الجسم، والفكرة هي الموضوع، والدال هو المدلول، والجوهر هو الصفة، والكون كله ـ كما أسلفنا ـ هو في نهاية الأمر جوهر واحد لا متناه ذو صفات عديدة يُدرَك منها الفكر والامتداد. ولكن الموجودات، في علاقتها بالجوهر الواحد، تشبه الأمواج في علاقتها بالمحيط، أي أنها أجزاء مستقلة بشكل ظاهري وحسب، إذ لا وجود لها خارج الواحد المادي.

ثانياً: رؤية إسبينوزا للإنسان:

بعد أن تناولنا موقف إسبينوزا من الإله والطبيعة، يمكننا الآن تناول موقفه من الإنسان. فنقطة البدء عند إسبينوزا، كما هو الحال مـع مفكري عصر النهضة وممثلي التفكير الإنسـاني الهيـوماني في الغرب، هي إعلان الإيمان بمقدرة العقل البشري غير المحدودة على إزالة أية عقبة قد تحول دون اقتحام هذا العقل جميع ميادين المعرفة أو تحول دون فهمه كل قوانين الطبيعة فهماً كاملاً. ومن هذا المنظور، فهو ممثل جيد للفكر الإنساني (الهيوماني) الغربي. ولكن الفكر الهيوماني، كما بيَّنا في مدخل «عصر النهضة والرؤية الإنسانية (الهيومانزم)»، يتفرع إلى رؤيتين: رؤية متمركزة حول الإنسان تدور حول ثنائية الإنسان والطبيعة، والأخرى متمركزة حول المادة تلغي هذه الثنائية. كما أن الفكر الغربي الحديث هو انتقال تدريجي من الرؤية الأولى التي تمنح الإنسان مركزية في الكون إلى الرؤية الثانية التي ترى الكون بشكل محايد ولا تمنح الإنسان أية خصوصية، بل تساوي بينه وبين كل الكائنات. وتتميَّز المنظومة الفلسفية عند إسبينوزا بأنها حققت هذا الانتقال منذ البداية بشكل جذري وجعلت منه رائداً حقيقياً للفكر الغربي الحديث وللمشروع التحديثي والتفكيكي الغربي والاستنارة المظلمة، ومن هنا جاء هجومه الشرس على ظاهرة الإنسان، بعد تمجيده للعقل، وقوله إن الإنسان يستثني نفسه بصلف شديد من قوانين الطبيعة الحتمية المحايدة ومن موضوعية الضرورة الكاملة التي لا ثغرات فيها. والإنسان، لهذا، يحاول أن يُحدث ثغرات هي في واقع الأمر المجال الذي يحاول أن يطبِّع فيه صورته البشرية (وهو ما نسميه «الحيز الإنساني»)، أي يحاول أن يتصرف كطبيعة طابعة (خالقة) لا كطبيعة مطبوعة (مخلوقة). بل إنه يَعدُّ نفسه سيداً للطبيعة ويظن نفسه سيداً مطلقاً أو أن له وضعاً خاصاً، وهو في واقع الأمر ليس سوى جزء من الطبيعة، شيء بين الأشياء يسري عليه ما يسري عليها، لا تحيط به أية أسرار ولا يتمتع بأية قداسة خاصة.

ويذهب إسبينوزا إلى أن خطأ من جاءوا قبله يَكمُن في ترددهم في أن يطبقوا على الإنسان المبادئ نفسها التي تُطبَّق على الطبيعة بوجه عام، ونظروا إلى الإنسان كاستثناء من المجرى العام للطبيعة وتحيزوا له ووضعوه في مركز مميَّز يعلو فيه سلوكه على سائر الظواهر الطبيعية. وهذا يفسر (من وجهة نظره) سبب بقاء طبيعة الإنسان مجهولة لدى الدارسين والفلاسفة، إذ ظل الإنسان ـ كظاهرة ـ غير مدرج ضمن الظواهر الطبيعية الخاضعة للبحث، مع أن كل ما يحدث في الطبيعة لا يمكن أن يُفسَّر بأنه انحراف عنها « إذ إن الطبيعة هي هي على الدوام، وهي دوماً متماثلة في أحكامها، أي أن قوانين الطبيعة وأوامرها، التي تحدث على أساسها كل الأشياء وتتغير من صورة إلى أخرى، واحدة في كل شيء وكل زمان، بحيث يجب أن يوجد منهج واحد لفهم طبيعة كل الأشياء على إطلاقها أو اختلافها»، أي أن إسبينوزا هو من رواد الدعوة إلى وحدة العلوم (ترجمة الواحدية المادية على مستوى المنهج).

ويُشبِّه إسبينوزا الإنسان بالحجر المندفع الذي قذف به أحد، ومع هذا يظن هذا الحجر أنه يتحرك بإرادته. إن الإرادة الإنسانية إن هي إلا جهل بالأسباب، فالإنسان (كالحجر) ليس سوى حلقة في السلسلة الكونية السببية الكاملة الشاملة التي لا يملك فيها من أمره شيئاً. كل هذا يعني سقوط الإنسان كهوية مستقلة وذات فاعلة حرة، فليس بإمكانه أن يطرح غاية إنسانية مستقلة عن الطبيعة. ومع هذا، يطرح إسبينوزا مفهوماً جديداً للحرية إذ يُعرِّفها بأنها اتفاق السلوك الخارجي للكائن مع الضرورة الباطنية لطبيعته وحسب، بحيث لا يرغمه شيء خارجه، أي أن حرية كل الكائنات لا يمكن أن تكون كلية، فهي دائماً جزئية. أما الحرية الكلية والمطلقة، فهي لا تتوافر إلا للكون بمعناه الشامل الذي لا يتحكم فيه شيء ولا يوجد شيء خارجه يرغمه، أي أن الإله/الطبيعة/القوانين المادية الثابتة هي الشيء الوحيد الحي، أي أن قوانين الطبيعة/المادة هي المطلق الوحيد الحق الذي لا يتقيد بأية حدود ويتجاوزها جميعاً.

وانطلاقاً من هذه الواحدية المادية، ومن هذا المفهوم للإله/الطبيعة (المادة) باعتباره الكل الذي يعلو على كل الأجزاء، يرى إسبينوزا أن الإنسـان جزء من الطبيعة ليـست له دلالة خاصة ولا يختلف عن بقية الأجزاء، فهو خاضع لقوانينها خضوع الأشياء الأخرى لها، ولذا يذهب إسبينوزا إلى ضرورة البحث في الإنسان لا باستخدام أدوات ومناهج خاصة مقصورة عليه، وإنما بالبحث فيه كما نبحث في الأجسام المادية، أي لابد من تفكيك كل الأشياء بما في ذلك الإنسان لتصبح كلها أجساماً وخطوطاً ومسطحات ومعادلات رياضية وذرات وأرقام، ومن هنا حتمية المنهج الهندسي واللغة الهندسية.

وتبنَّى إسبينوزا هذا المنهج الهندسي التفكيكي لأسباب خارجية تتصل بالعصر، وداخلية تتصل ببنية فكره. فالعصر جعل الرياضة نموذجاً ومثلاً أعلى للمعرفة البشرية في ميادينها كافة، ولذا كان على كل العلوم أن تحذو حذو الرياضة وتنحو منحاها. كما أن اتجاه إسبينوزا الماراني (أن يُظهر غير ما يُبطن، وأن يقول شيئاً ويرمي إلى عكسه) جعله يتبنى الخطاب الهندسي بحيث يتحدث عن الإله (ب) طيلة بحثه ولكن بعد أن أكد في البداية أن الطبيعة (أ) تعادل (ب)، وعلى القارئ أن يفك الشفرة ببساطة شديدة بأن يحل (أ) محل (ب). ولكن، مع هذا، يوجد داخل المنظومة الإسبينوزية ما يجعل من اختيار المنهج الهندسي أمراً شبه حتمي، فهي منظومة خالية من الثغرات، مقدماتها مرتبطة بنتائجها ارتباطاً كاملاً. وهي منظومة استبعدت الغائية والانفعالات، بل استبعدت الإنسان كعنصر حر وركزت على القوانين الثابتة المجردة. فالمنهج الهندسي، في هذا الإطار، يصبح أفضل طريقة للوصول إلى الفهم والوضوح وأعلى درجات التجريد والسببية واليقين. واستخدام اللغة الهندسية يعني تجنب الأسلوب البلاغي والإطناب واستبعاد العواطف والانفعالات الإنسانية ذاتها، وكل التشبيهات والصور المجازية التي تسترجع الإنسان. ويمكننا أن نقول أيضاً إن مفهوم وحدة العلوم الذي يبشر به إسبينوزا، إذا دُفع إلى نهايته المنطقية (ويتميَّز إسبينوزا باستعداده الكامل للقيام بهذه الخطوة)، فإنه يصل إلى عالم الهندسة والجبر، فإن المنهج الهندسي هو أصلح المناهج لفلسفة تساوي بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والأشياء بحيث يتحول الكون بأسره إلى نقط وخطوط ومسطحات وأرقام، فهي فلسفة التمركز حول الموضوع بالدرجة الأولى.

ثالثاً: الرؤية المعرفية:

لا توجد في منظومة إسبينوزا الفلسفية أية فراغات بين الإله والطبيعة والإنسان، فهي منظومة مصمتة تماماً؛ شكل من أشكال الحلولية الكمونية الواحدية المادية. وهي حلولية كمونية بمعنى أن كل الأسباب تحل في المادة وقوانين الحركة كامنة فيها، ومادية بمعنى أن الأسباب لا تتجاوز المادة وأن القوانين كامنة في الأشياء لا تفارقها أبداً (إلا من خلال مقدرة العقل البشري على التجريد، وهي عملية عقلية لا تُغيّر من طبيعة الأشياء شيئاً).

ولكن الذهن والجسم في المنظومة الإسبينوزية شيء واحد، يُنظَر إليه في الحالة الأولى من خلال صفة الفكر وفي الحالة الثانية من خلال صفة الامتداد، وهو ما يعني أن الأفكار والتطلعات والأحلام والغائيات الإنسانية كلها في نهاية الأمر « إن هي إلا » تعبير عن حركة القوانين الثابتة للطبيعة/المادة/الإله. ويُلاحَظ هنا أن الذهن هو الذي يُردُّ إلى المادة، فنظام الأفكار (البناء الفوقي) لا يوازي نظام الأشياء (النظام التحتي) وإنما يُردُّ الأول للثاني.

ويتحدث إسبينوزا عن القانون الطبيعي، وهو المجرى الذي حددته الطبيعة كي يسير فيه الإنسان وكل الأشياء، وهو يسير فيه لا لأنه يريد ذلك، بل لأنه مُقدّر عليه ذلك بالطبيعة. فالطبيعة هي المصدر وهي المآل، وهي المرجعية النهائية. وقمة المعرفة الإنسانية هي معرفة ذلك، أي أن يعي الإنسان النظام الكوني ويدرك آلياته، وعليه أن يفعل ذلك من خلال ما يمكن تسميته «المنظور الكوني الموضوعي»، أي أن يستبعد الإنسان أية إرادة أو رغبات إنسانية أو اعتبارات خلقية مرتبطة بوهم مركزية الإنسان في الكون، وأن ينظر إلى الكون وإلى ذاته المتعينة كما لو كان إله إسبينوزا، أي أن يتجرد تماماً من العواطف ويُحيِّد كل انفعالات. وهو يجب أن يدرك أن العالم هو آلة دقيقة الصنع تدور حسب قوانين آلية كامنة فيها (وهذا هو جوهر الترشيد المادي العلماني: أن يُخضع الإنسان ذاته من الداخل ومن الخارج للواحدية المادية وللطبيعة/المادة، وأن يدرك ذاته في ضوء القوانين الحتمية المادية، وأن يذعن لها وأن يعيد صياغة حياته وبيئته بما يتفق معها). إن قمة المعرفة الإنسانية هي أن ينفي الإنسان ذاته من خلال معرفة القانون الطبيعي والاستسلام تماماً له (وهذا تعبير عن النزعة الرحمية التي تسم الفكر الواحدي المادي والتي تتبـدَّى في الرغبة في الانسـحاب من عـالم تذوب فيه الجزئيات في الكليات، والإنسان في الواحد المادي، حتى يتخلص من عبء الهوية ومن المسئولية التي تأتي مع حرية الاختيار الخلقي ومع إمكانية العقل، وهذه النزعة مهيمنة تماماً على منظومة إسبينوزا الفلسفية).

وإذا أدرك الإنسان انعدام هويته الإنسانية المتعينة فإن ذلك لا يسبب أي أسى أو حزن، بل العكس، فحرية الإنسان تَكمُن في فهم هذه القوانين الحتمية وفي التحرر من وهم قدرته على تغيير الأشياء، أي أن حريته تكمن في تخليه عن وهم الحرية. فالإنسان يحقق سعادته القصوى ويشعر بانفعالات إيجابية طاغية بإدراكه سيادة فكرة الضرورة وبنفي ذاته كذات فاعلة حرة، وإعادة تعريفها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ومجرد انعكاس للقانون العام وجزءاً من منظومة رياضية هائلة لا يوجد فيها مجال للحرية (وهذه كلها انفعالات تذكر الإنسان بصفاء النفس أتاركسيا عند الرواقيين وأباتيا عند الأبيقوريين). وهكذا يظهر الانفعال في اللحظة التي تصل فيها المعقولية إلى قمتها، أي أن الإنسان سيصل إلى قمة الفرح في اللحظة التي يشعر فيها بالمشاركة في الطبيعة بأسرها، أي يتوحد معها ويذوب فيها ويتحرر من عبء الهوية ويسقط في الرحم الكوني.

ولكن ماذا إذا لم يصل الإنسان للمعرفة الكاملة ولم يتوصل إلا إلى قدر ضئيل منها (كما هو متوقع مع معظم البشر)؟ هذا لا يعني بطبيعة الحال عدم صحة التعريفات. فقصور البشر عن إدراك القوانين الكونية الشاملة لا يعني تكذيب المبدأ القائل بأن الأشياء تخضع لضرورة شاملة، فلو عرفنا قوانينها الكاملة لاكتمل علمنا بالكون. إن إدراك قوانين الكون يجب أن يظل هدفاً يسعى إليه العلم، فهو علم يصدر عن الإيمان الكامل بأنه لا توجد عناصر متجاوزة للمادة غير كامنة فيها، وهو إيمان لابد من التمسك به حتى ولو أدَّى قصور إدراك كثير من البشر إلى عدم التوصل إلى هذه النتيجة، أي أن واحدية العالم المادية هي الأطروحة التي يصدر عنها العلم، وهي الأطروحة التي يحاول إثباتها والتي على كل البشر الإيمان الكامل بها، حتى لو لم يتمكن العلم من إثباتها. إن الواحدية الكمونية المادية هي ميتافيزيقا إسبينوزا الحقيقية.

ولكن ثمة قلة قليلة من البشر قادرة على الوصول إلى مثل هذه المعرفة. وهنا تصبح هذه القلة القليلة موضع الحلول وهنا تصبح المعادلة الحلولية ليست مجرد الإله ـ الطبيعة ـ الإنسان، أي إنسان، وإنما تصبح الإله ـ الطبيعة ـ الإنسان العارف من أمثال إسبينوزا (الذي يذكرنا بالماشيَّح في المنظومة القبَّالية، وبالإنسان الروحاني في المنظومة الغنوصية).

رابعاً: الرؤية النفسية:

يذهب إسبينوزا إلى أن الفرح المصاحب لعملية المعرفة الكونية الموضوعية لا يشكل تجرداً كاملاً من الحالة الإنسانية، ولذا فهو يؤكد أن الإحساس الأكثر ثباتاً هو نوع من الاتزان والحياد الكامل والتحرر من الخوف الذي يحققه الإنسان عن طريق الخضوع لقانون الطبيعة وللمنطق السائد في الواقع وإدراك الضرورة الكونية (قانون الضرورة). وبهذه الطريقة، نفصل الانفعال عن أسبابه المباشرة وعن الأفكار الغامضة غير الكافية ونربطه بالأفكار العقلية الصحيحة، وبذلك تتخلص النفس من عبودية الانفعال عن طريق تأمله في ضوء العقل الباهر، ويزداد المرء اقتراباً من حالة الصفاء كلما اتسع نطاق فهمه للأشياء، حتى إذا ما توصل إلى تأمل النظام الكلي للأشياء في ضرورته الشاملة حقق بذلك أسمى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من الفضائل وأمكنه التغلب تماماً على انفعالاته عن طريق ربطها بالمنطق الكلي للأشياء. بل إن فكر الإنسان، بذلك، ينحصر في التفكير في الحياة ودون تفكير في الموت، فكأن الحلولية الكمونية المادية تحل مشكلة الموت بإلغائها. فإذا كان الإنسان مادة وحسب فإنه حينما يموت، ينحل إلى مادة ويلتحم مرة أخرى بالمادة ويعود إلى الرحم الأكبر الذي جاء منه، وهو ما يعني أنه لم تحدث تحولات، فالإنسان لا يموت لا لأنه حر بشكل مطلق، وإنما لأنه كان ميتاً من الأصل، وهو لا يفقد حريته لأنه لا يمتلكها أصلاً! ويصبح الجهد المعرفي والنفسي للإنسان منصرفاً إلى الحصول على المعرفة الشاملة التي ستبين له بما لا يقبل الشك أنه لا حرية ولا إرادة ولا حياة (مستقلة) له، أي أن الإنسان ينفي حريته بكامل حريته، وينفي إرادته بإرادته.

فالإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة تسري عليه القوانين نفسها التي تسري عليها. ومن ثم، فإن الانفعالات ظواهر طبيعية خالصة منفصلة تماماً عن كل ما كان يُعزَى إليها من أسباب استثنائية متعلقة بمجال الإنسان وحده (وهذه هي نقطة انطلاق المدرسة السلوكية، وهي تعبير آخر عن وحدة العلوم والواحدية المادية). فانفعالات الإنسان لا تختلف عن انفعالات الحيوانات أو حتى الأشياء (إن استطعنا تسجيل انفعالاتها). والانفعالات هي تلك التغيرات التي تطرأ على الجسم وتزداد بها قوة هذا الجسم الفعالة أو تَنقُص وتُنَمَّى أو تُعاق. وهذا التعريف يعلمن الانفعال تماماً فيستبعد كل إشارة إلى قيم الخير والشر، بل يستبعد كل تفرقة كيفية بين انفعال وآخر ويجعل أساس التمييز بين جميع الانفعالات هو ما يؤدي إليه كل منها من زيادة أو إنقاص لقدرة الكائن على حفظ ذاته، أي المساعدة على استمراره في الوجود أو الحيلولة دون ذلك. وتُردُّ جميع الانفعالات إلى انفعالات ثلاثة: اللذة والألم والرغبة، والتي تُردُّ جميعاً بدورها إلى النزوع الأساسي للكائن (الحيوانات والإنسان) إلى حفظ ذاته أو البقاء (المنظومة الداروينية العلمانية). واللذة هي ما يساعد على حفظ الإنسان (جسمه)، والألم هو الذي يعود بالضرر على جسم الإنسان. والانفعالات التي تساعد على حفظ الذات واستمرار الوجود انفعالات تتمشى مع العقل، ومثل هذه الانفعالات هي الفضيلة، وجـوهر الفضيلة غريزة البقاء، (وتتفق مع النظام الكلي للأشياء/الإله). ومن ثم، فالسعي وراء اللذة التي تفيدنا بحق يؤدي إلى زيادة كمالنا وبالتالي إلى ازدياد مشاركتنا في الطبيعة الإلهية (أي السير وفقاً للنظام الكلي للطبيعة) أما ما يعوق وجودنا فمن الواجب تجنبه بأي ثمن (وهذه هي الفلسفة النفعية المادية وقد تلبست ثوباً حلولياً كمونياً روحياً).

خامساً: الرؤية الأخلاقية:

تنبع رؤية إسبينوزا الأخلاقية من الإيمان بأن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة ليس له أي استقلال عنها. والطبيعة كما يقول إسبينوزا محايدة خالية تماماً من القيم البشرية، فلا هي بالجميلة ولا بالقبيحة، ولا هي بالخيِّرة ولا بالشريرة (فهذه كلها أفكار إنسانية ذاتية لا توجد إلا في ذهن الإنسان المتمركز حول ذاته) هي « أحوال للفكر »، فالقيم الأخلاقية ليس لها مكان في المجرى الفعلي للطبيعة (الواقعية المادية). وبينما نجد أن القيم الأخلاقية في نظر كثير من الفلاسفة التقليديين (المؤمنين بوجود خالق) هي الغاية النهائية لسلوك الطبيعة بأسرها، نجد أن ظهور القيم عند إسبينوزا هو في حقيقته تعبير عن ضيق حدود الذهن الإنساني وعدم قدرته على استيعاب الطبيعة بأطرافها اللامتناهية. وهكذا يحد الإنسان نظرته إلى الطبيعة بمجال معيَّن يتأمله من خلال أمانيه ورغباته الخاصة ويفسره على أساسها، بينما لو كان قادراً على إدراك مجموعة العلاقات اللانهائية المتشابكة في الطبيعة لاختفت تماماً هذه القيم التي صنعها، ولظهر كل شيء على حقيقته جزءاً من نسق هائل لا نهائي التعقيد في الكون، ولطرح المُثُل العليا جانباً. وحيث إن الكمال هو الواقع (فكل القوانين كامنة في المادة ولا توجد خارجها)، فالأخلاق تنتقل من مجال ما ينبغي أن يكون إلى مجال ما هو كائن، وبالتالي «تجاوز إسبينوزا الحواجز بين الواقع والمثل الأعلى، وبين ما هو فعلي وما هو معيار مثالي، وأنكر الخير المطلق، وبالتالي عالم الغايات الذي تركزت فيه الأخلاق المثالية بأسرها »، وأحل بدلاً من ذلك عالماً محايداً لا غاية له ولا هدف يتحرك حسب قوانينه الداخلية. والأخلاق الحقة هي محاولة عدم إعاقة هذه القوانين عن التحقق لأن الإنسان (بتحقيقه هذه القوانين) يضمن لنفسه البقاء، فالبقاء هو القيمة المطلقة الكبرى باعتبار أن قوانين الكون ثابتة (ويُعَدُّ هذا الطرح الإسبينوزي بداية الفكر البرجماتي).

وترتبط فكرة الحقوق (التي تساندها القوة) بالنظرية الأخلاقية. يقول إسبينوزا: « أعني بالحق الطبيعي قوانين الطبيعة نفسها أو قواعدها التي يحدث كل شيء وفقا لها، أي بعبارة أخرى قوة الطبيعة ذاتها... وعلى ذلك، فكل ما يفعله الإنسان، وفقاً لقوانين طبيعية، يفعله بحق طبيعي كامل، ويكون ما له من الحق على الطبيعة بقدر ما له من القوة ». وتحوُّل القوة هنا إلى مطلق (بدلاً من الطبيعة) أمر مفهوم ومتسق فلسفياً مع فكرة أن البقاء المادي هو القيمة. فالقوة هي التي تضمن البقاء (وداخل هذا الخطاب نسمع داروين ونيتشه وهتلر وكل الخطاب المعرفي العلماني الإمبريالي الغربي).

بل إن فكرة الحقوق تخضع لفكرة القوة « فحق كل فرد يمتد بقدر ما تمتد قوته ». وعلى أية حال، كما يقول إسبينوزا، فإن الطبيعة (مثلاً) قَدَّرت أن تأكل الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة كحق طبيعي لا نزاع فيه، ذلك لأن للطبيعة الحق المطلق في أن تفعل ما تستطيع، أي أن حقها بمقدار قدرتها. وهكذا تكون الغلبة في هذه الحالة للقوى التي لا يحد من قوتها شيء إلا اصطدامها بالقوى الأخرى وتوقفها عند الحد الذي تبطلها فيه هذه القوى (تماماً كما امتدت رقعة الإمبريالية بمقدار قوة جيوشها). ولهذا، فإن حقوق الفرد لا تُحدُّ إلا بحدود قدرته، وحدود قدرته تتحدد بواسطة طبيعته. ولما كان من حق الإنسان الحكيم أن يعيش وفقاً لقوانين العقل، فإن الإنسان الجاهل أو الأحمق له مطلق الحق في أن يعيش وفقاً لقوانين الشهوة. فالجاهل أو الأحمق ليس ملزماً بأن يسير وفقاً لما يأمر به العقل المستنير، كما أن القط ليس مُلزَماً بأن يعيش وفقاً لقوانين الأسد (ولنلاحظ كيف وُلدت النسبية الأخلاقية ثم وُلد التفاوت بين البشر من داخل مفهوم القانون الطبيعي، وكيف ظهرت اللاعقلانية المادية من العقلانية المادية، وهو الاتجاه الذي وُلدت منه فيما بعد العنصرية الغربية، حيث يصبح البقاء للأصلح وللأقوى، وحيث تصبح القوة علامة التفوق الحضاري والإنساني، وحيث لا جدوى من أية منظومات معرفية أو أخلاقية).

إن للإنسان، سواء بمقتضى عقله أو بمقتضى أهوائه وشهواته، أن يسعى لتحقيق مصلحته بحسب ما يعتقد أنه مصلحته، سواء أكان ذلك بالقوة أو بالدهاء والحيلة أو بالتملق والخدعة أو بأية وسيلة أخرى. والسبب في ذلك أن الطبيعة ليست ملزمة بقوانين العقل الإنساني. كما أن أغراض الطبيعة، إن كان للطبيعة أغراض، إنما تتعلق بنظام الطبيعة وليس للإنسان في هذا النظام إلا مكان ضئيل تافه. وإذا بدا لنا في الطبيعة شيء غير معقول أو شرير، فما ذلك إلا بسبب جهلنا بنظام الطبيعة وتوقف أعضاء هذا النظام بعضها على بعض، وكذلك لأننا نريد أن يحدث كل شيء وفقاً لما يقتضيه عقلنا ومصلحتنا. ولو أننا أفلحنا في التحرر من تصوراتنا التشبيهية بالإنسان وطرائقنا الإنسانية في النظر إلى الطبيعة، لأدركنا أن الحق الطبيعي لا تحده إلا الرغبة والقوة. وليُلاحَظ هنا أننا دخلنا العصر العلماني الحديث حيث تُوجَد كل القوى المحركة داخل الأشياء (قوانين الحركة) دون احتكام لأية معايير خارجية غائية، حيث تأخذ الحركة شكل أجسام تصطدم من الخارج. ولكن هذا أمر مفهوم تماماً في السياق الإسبينوزي، فقوانين الطبيعة واحدة تسري على كل الأشياء والكائنات والأفراد والمجتمعات. وهكذا، كما حل إسبينوزا قضية الإرادة الإنسانية بإنكار الحرية، وكما حل قضية وضع الإنسان في الكون بإنكار مركزيته وأهميته، وحل مشكلة عواطف الإنسان بإنكارها هي الأخرى، فإنه يحل القضية الأخلاقية عن طريق إنكار الأخلاق تماماً وإحلال الصراع والقوة محلها.

سادساً: النظرية السياسية:

وفي هذا النسـق الواحدي تماماً، الذي يُردُّ فيه الكمال إلى الواقع، ويُردُّ الإنسان فيه إلى الطبيعة، ويتجرد الواقع فيه تماماً من القيمة، ويتجرد الإنسان فيه من القداسة ويفقد مركزيته: ما وضع الدولة؟ سنكتشف أن نظرية إسبينوزا عن الدولة امتداد لنظريته عن الطبيعة وقوانينها. ويذهب إسبينوزا إلى أن الإنسان لديه دافع طبيعي للمحافظة على نفسه، فغريزة البقاء هي جوهر الإنسان، ومن حق الإنسان أن يتخذ كل وسيلة لتحقيق هذا الغرض، وأن يعد كل من يحول بينه وبين المحافظة على نفسه عدواً له. ومن هنا، يود كل إنسان أن يعيش آمناً على حياته، متحرراً من الخوف. لكن من المستحيل تحقيق ذلك إذا مارس الإنسان حقه الطبيعي بطريقة طبيعية وفعل كل ما يريده. ولهذا السبب، لم يكن ثمة مفر لكل فرد من أن يتعاون مع غيره ويتفق معه من أجل تحقيق هذا الغرض، أي تحقيق بقاء النفس والعيش في وئام بدلاً من حالة الصراع الدائم. فقَبل الأفراد التنازل عن شريعة الطبيعة والخضوع لقانون العقل، كما تنازلوا عن بعض رغباتهم وحقوقهم الطبيعية لهيئة حاكمة في المجتمع الذي ينظمه القانون المدني لا القانون الطبيعي. فالاجتماع البشري يقوم إذن على المصلحة الشخصية المستنيرة، وهو أمر مختلف عن الحق الطبيعي والمصلحة المباشرة غير المستنيرة.

وبهذه الطريقة، يتم الانتقال من الحالة التي يسودها الحق الطبيعي إلى حالة العقد الاجتماعي. وينبغي على الأفراد طاعة الهيئة الحاكمة وإلا لما أمكن قيام الدولة. ويظل حق الحاكم قائماً مادامت لديه القدرة على إقرّاره. وبعبارة أخرى، فإن القاعدة نفسها « الحق الخاضع للقوة » تسري على الدولة بدورها، بحيث تُحَدد سلطة الدولة بما لديها من القوة. ولكن لابد أن تجد الدولة أيضاً أن من مصلحتها هي الأخرى أن تسترشد بالعقل، وأن تحفظ قدرتها بتوخي الصالح العام: أي أن تحد من ذاتها بمعنى أن تضع حدوداً لنفسها ولا تستخدم قواها أكثر مما ينبغي حتى لا تُقابَل بالمقاومة (كما جاء في دراسة د. فؤاد زكريا التي اعتمدنا عليها في هذا المدخل).

ولنلاحظ وجود تشققات عديدة هنا في الخطاب الإسبينوزي. فثمة ثغرة بين الطبيعة والعقل، إذ يوجد حق طبيعي من جهة وعقل يسترشد به الجميع (الأفراد والدولة) من جهة أخرى. ومن خلال إيمانهم بالعقل، فإنهم يتنازلون عن حقوقهم الطبيعية (المادية) ويكبحون رغباتهم الطبيعية المباشرة (الغريزة) باسمه. فالمطلق هنا ليس الطبيعة وإنما العقل، بل إن هناك قانونين لا قانوناً واحداً: شريعة الطبيعة وقانون العقل، والإنسـان لا يخضع للطبيـعة وإنما يخضع لما هو ليـس بطبيعـة، أي للعقل، أي أن الإنسان لا يخضع للمادة بل يتجاوزها بفضل ما هو ليس بمادة. وهكذا سقطنا مرة أخرى في الثنائيات الدينية التقليدية، ولم يعد نسق إسبينوزا معقماً بما فيه الكفاية من الثنائيات والمطلقات والغايات كما كان (وهذا ما يُسمَّى «السقوط في الميتافيزيقا»). بل إن الوئام يحل لا من خلال القوة وحسب وإنما من خلال الخضوع للعقل أيضاً! يخضع له الأفراد كما تسترشد به الدولة. ويبدو أن إسبينوزا هنا يتنصل مما قاله من قبل من أن العقل ليس إلا حالة من أحوال الطبيعة والمادة (وسيظل هذا الوضع قائماً إلى أن يظهر نيتشه ودريدا، اللذان سيحاولان تنقية النموذج العلماني من أي مطلقية أو مرجعية أو ما يسميه نيتشه «ظلال الإله»).

سابعاً: موقف إسبينوزا من الدين:

يمكننا أن نقول إن إسهام إسبينوزا الأكبر في تاريخ الفلسفة الغربية هو اكتشافه التوازي والترادف بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية، وأن عبارة « لا موجود إلا هو » (أي الإله) هي ذاتها عبارة « لا موجود إلا هي » (أي الطبيعة)، ومن ثم أمكنه (من خلال المنظومة الحلولية الكمونية) أن يُعلمن الفلسفة الغربية ويشيع الفكر الفلسفي الواحدي المادي دون أن يسبب أي فزع لأحد، ودون أن يدرك أحد أن خلف غنائيته الحلولية الكمونية الصوفية يوجد النموذج الواحدي المادي بكل وحشيته ولا إنسانيته. بل يمكن القول بأنه نجح في توليد المنظومة العلمانية المادية من داخل المنظومة الدينية واستخدم مصطلحاتها الغيبية (كما يفعل كثير من العلمانيين العرب(.

وانطلاقاً من واحديته المادية الصارمة (التي تجعل هدف المعرفة فهم قوانين العالم الثابتة وتجعل الحرية إدراك الحتمية واستحالة الحرية)، يصنف إسبينوزا الرؤية الدينية باعتبارها ظاهرة بشرية ذات هدف عملي جزئي تحاول تحقيق أمانيَّ معينة للإنسان وتجنبه مخاوف خاصة، وهي تفعل هذا بهدف تنظيم أحوال البشر ومعاملاتهم، أي أن الرؤية الدينية لا علاقة لها بالرؤية الكونية الموضوعية التي يبشر بها إسبينوزا، والتي ترى الإنسان باعتباره شيئاً ضمن الأشياء وجزءاً لا يتجزأ من النظام الطبيعي الضروري والكلي للأشياء، وهو نظام كوني ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً، ولذا فهو لا يمنح الإنسان أو أي كائن جزئي آخر أية أهمية خاصة، فهو نظام يدور حول المادة وليس كالدين الذي يدور حول الإنسان. ولنلاحظ هنا أن إسبينوزا يرى أن الدين يمنح الإنسان مركزية في الكون (لا يستحقها) على عكس الرؤية الكونية الموضوعية العلمية (العلمانية) التي تنزع عن الإنسان ـ في تصوُّر إسبينوزا ـ هذه المركزية وتجعله كائناً ضمن كائنات أخرى أو شيئاً ضمن أشياء أخرى. والمفارقة هنا أن إسبينوزا ينسب للرؤية الدينية ما ينسبه أصحاب الرؤية الإنسانية الهيومانية لرؤيتهم للكون، فهم يزعمون أن رؤيتهم رؤية مادية وضعت الإنسان في مركز الكون. ولكننا نرى أن موقف إسبينوزا أقرب إلى الدقة وأنه استطاع بثاقب نظره وبصيرته أن يستشرف المستقبل ويرى الحلقات الأخيرة في المنظومة العلمانية (والاستنارة المظلمة). فالمنظومة العلمانية بدأت بالزعم الهيوماني العلماني أن الإنسان يقف في مركز الكون، لكن الأمر انتهى بها في العصر الحديث إلى الموقف المعادي للإنسان الذي ينكر عليه أية مركزية أو حرية أو استقلالية ويجعل المادة أو النظام الكلي للأشياء مركزاً للكون، ويجعل الكون ذاته كوناً أحادياً لا غاية فيه ولا اتجاه ولا مركز، كوناً خالياً من الثنائيات، معقماً من المطلقات، متجرداً من الأخلاقيات، متجاوزاً للعواطف. وأدرك إسبينوزا، منذ البداية، القانون الداخلي للنموذج العلماني ودفعه إلى نتيجته المنطقية ورأى في مخيلته كيف أن الواحدية الكونية المادية لابد أن تقضي على الإنسان وتحوِّل العالم إلى آلة هندسية دقيقة، ولا يبقى بعد ذلك سوى الحركة الهندسية للذرات والتكرار الرتيب للأرقام، ورأى أن إدراك هذا وقبوله هو قمة المعرفة والحرية.

ومع هذا، يتعرض إسبينوزا لقضية الدين، ويشير إليه مستخدماً الكلمة نفسها في ثلاثة معان مختلفة تماماً. أما النوع الأول وأهمها فهو ما سماه ثالث أنواع المعرفة «الحب الفكري للإله» (باللاتينية: أمور ديي إنتلكتواليس amor dei intcllectualis) وهذه هي الديانة الحقيقية، وهي ديانة عقلية عقلانية يمارسها الإنسان الذي يتمكن من نفي ذاته كذات مستقلة فاعلة حرة عن قوانين الكون، فيتخلص من عبودية الانفعال عن طريق ربطها بالمنطق الكلي للأشياء في ضرورته الشاملة. فالإله هنا هو الطبيعة/المادة وحب الإله هو الإذعان للحتمية الطبيعية وهو « فهم » الإله/الطبيعة، وهذا الفهم يجعل الإنسان أكثر تواضعاً ولكن أكثر انعتاقاً، خالياً من الخوف من الموت، إذ أن الإنسان باكتشافه أنه جزء لا يتـجزأ من الإله/الطبيعة سـيكتشف أن المـوت هو إحدى حقائق الطبيعة، تماماً مثل حقائق الحيـاة والنمـو، أي أنه تتم تسـوية الحياة والموت والنمـو بالعدم. ومن ثم، فإن حديث إسبينوزا عن الاتحاد الصوفي (باللاتينية: يونيو مستيكا unio mystica) وحلول اللامتناهي في المتناهي، وهو ما يمنحه الخلود والأزلية، هو في واقع الأمر حديث عن الاتحاد مع الطبيعة/المادة والامتزاج بها والإذعان لها. وهذا الدين هو فلسفة إسبينوزا، وإطلاق كلمة «دين» عليه يشبه تماماً إطلاق كلمة «الإله» على الطبيعة. والوصول إلى هذه المرحلة من المعرفة مسألة نادرة للغاية لا يصلها سوى الخاصة، أما العامة فإن أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه هو ما يسميه إسبينوزا الديانة العالمية (باللاتينية: ريليجيو كاثوليكا religio catholica)، وهي ليست العقيدة الكاثوليكية وإنما هي عقيدة تمكث في نطاق عالم الخيال والوجدان ولكنها تحاول أن تصوغ نفسها حسب تعاليم العقل مُستخدمة في ذلك مبدأ طاعة الإله. وكلمة «الإله» مختلفة عن معناها في المعجم الإسبينوزي، فهي تعني الإله الشخصي الذي يتدخل في التاريخ ويرسل رسائل للإنسان. ويرى إسبينوزا أن مثل هذه العقيدة يمكن الاستفادة منها وتوظيفها اجتماعياً عن طريق التفسيرات العقلية للعهد القديم (ومن هنا نقده للعهد القديم والدعوة لتطهيره). ويمكن ترجمة إرادة الإله (الوهمية) إلى مجموعة من القواعد النافعة: العدل ـ وطاعة قوانين الدولة (التي تصبح المفسر الوحيد لإرادة الخالق).

إن الدين من منظور إسبينوزا ليست له قيمة من الناحية المعرفية، فهو مجرد وظيفة ذات نفع للإنسان (هذا الكائن الذي ليس له أهمية كونية خاصة). ولذا، فلا أهمية على الإطلاق للأساس النظري الذي ترتكز عليه هذه العقائد مادامت تؤدي وظيفتها العملية على النحو المنشود. ولكن « السلوك الفاضل الذي يتحقق في إطار خارجي تماماً عن العقيدة (في إطار فلسفة إسبينوزا والمرجعية المادية الكامنة)، يصبح على هذا الأسـاس مسـاوياً لذلك الذي يتحقق في الإطار الديني »، أي أن السلوك « يُعدُّ مطابقاً للغاية المنشودة سواء أقام على أسس دينية أم لم يقم، مادام ينفذ الأغراض نفسها التي يدعو إليها الدين ». لكن تحويل الدين إلى مجرد وظيفة عملية ذات نفع دنيوي هو « علمنة من الداخل » إن صح التعبير، إذ يصبح المعيار هنا مدى التأثير العملي للدين ومدى تكيفه مع الواقع العملي والمادي حتى يحتفظ بفاعليته، أي أن الدين هنا يصبح تابعاً لهذا النظام الضروري والكلي للأشياء. وعملية العلمنة هذه لا تقل في ضراوتها وشراستها عن عملية العلمنة من الخارج، أي الهجوم المباشر على الدين، بل لعلها أكثر خطورة.

أما ثالث الأنواع فهو الديانة التاريخية السوقية أو الفارغة (باللاتينية: فانا ريليجيو vana religio)، وهي الديانة التي تستند إلى مجموعة من القصص الأسطورية والتاريخ المقدَّس والشعائر وتمتد لتشمل عالم السياسة وهي عقيدة تضرب بجذورها في مخاوف الإنسان وعواطفه (لا في عقله) وجهله بالأسباب الحقيقية، ولذا تحل الخرافات محل العقل ويظهر الإيمان بالمعجزات والقوى الخفية، وهي مخاوف يستخدمها الحكام ويوظفونها لصالحهم. وهذا النوع من الديانة يرفضه إسبينوزا جملةً وتفصيلاً قلباً وقالباً.

ومن المفارقات التي تستوجب النظر أن الفيلسوف الذي يشير له البعض بأنه فيلسوف العلمانية الذي حاول استبعاد الدين تماماً من منظومته الفلسفية والذي حاول تأسيس مذهب فلسفي يخلو من جميع عناصر ما فوق الطبيعة أو العناصر التشبيهية أو اللاعلمية أو فلنقل الروحية الدينية والإنسانية، نقول إن من المفارقات أنه صرح بأنه يحاول عن طريق فلسـفته الوصول إلى « الغاية نفسها التي تتخذها الأديان هدفاً أسـمى لها »، أي أنه تخلص من الغائية الإنسانية الروحية ليُحل محلها غائية مادية مجردة لا إنسانية (أي أنه حاول تحقيق قدر من التجاوز داخل الإطار المادي الكموني). ففي منظومته الفلسفية يوجد خلاص عن طريق إدراك النظام الكلي للأشياء، وفيه أيضاً حرية عن طريق فهم موقع كل شيء في السلسلة الضرورية الشاملة، وفيه أيضاً طمأنينة وبركة عن طريق إدراك وحدة الكون والذهن الذي هو مظهر جزئي له، وفيه أيضاً حب هو حب المعرفة والعلم. إن فلسفة إسبينوزا ليست علمية وليست مادية بما فيه الكفاية، أي لم تتم علمنتها تماماً، وإلا فلم البحث عن الخلاص والطمأنينة، بل وعن شيء قديم إنساني متخلف مثل الحب؟ ولذا سُـمِّيت فلسفته « صوفية العلم الذي لا تداخله أية سمة من النزوع إلى ما فوق الطبيعة »، أي أن فلسفته هي ميتافيزيقا بدون إله، أو حلولية مادية. وهو أيضاً من مفكري الربوبية المتطرفين، فالربوبية حاولت أيضاً أن تجد الرب في قوانين الطبيعة بحيث يمكن الوصول إليه عن طريق العقل وحسب. وإسبينوزا، بذلك، يكون قد بدأ المشروع المعرفي التحديثي والحداثي ولكنه تعثَّر وسقط في مفهوم الكل (والميتافيزيقا) وبحث عن الطمأنينة والحب، وهو ما يدل على ضعف الرؤية الكونية الموضوعية عنده. أما نيتشه، فقد اتسم بالجسارة وأكمل هذا المشروع المعرفي، فظهر النسق المعرفي المادي المعقم من كل مطلقات، وأعلن موت الإله وتطهير العالم من ظلاله وسقوط فكرة الكل والمركز بل والحقيقة، وإن كان قد ترك فكرة إرادة القوة كمصدر لتماسك النسق وكمركز له. ويتحقق المشروع المعرفي الغربي الحداثي في فكر دريدا (وهو يهودي سفاردي آخر) الذي أعلن سقوط الكل والمركز وعلاقة الدال بالمدلول وبداية عصر ما بعد الحداثة!

وقد فرَّق إسبينوزا بين اليهودية والمسيحية وصنف اليهودية باعتبارها نسقاً دينياً لا يتناول إلا الجانب الظاهر من سلوك الإنسان، في مقابل المسيحية التي تُعَدُّ نموذجاً دينياً يركز على حياة الإنسان الباطنة، والتي تجعل الجزاء روحياً أكثر منه دنيوياً. وقد أصبحت هذه التفرقة أساساً للتفرقة بين النموذجين الدينيين المسيحي واليهودي في الفكر الغربي (سواء بين اليهود أو بين غير اليهود) فتبناه موسى مندلسون وكانط وهيجل وماركس وأصبح أحد البدهيات والمقولات التحليلية في علم مقارنة الأديان في الغرب، وهي تفرقة أقل ما يُقال عنها إنها مغرضة وسطحية وأحادية.

وقد أثر إسبينوزا في الفكر الألماني، خصوصاً في فكر هردر ولسنج ( « لا يوجد سوى فلسفة إسبينوزا »)، وفي فكر موسى مندلسون وهيجل ( « لا يوجد سوى الفلسفة أو الإسبينوزية » )، وشلنج ( « لا يمكن لإنسان أن يتقدم نحو الحق والكمال في الفلسفة دون أن يغوص مرة على الأقل في حياته في هوة الإسبينوزية » ). وأشاع كوليردج فكر إسبينوزا وصرح بأنه لا يوجد سوى نسقين فلسفيين: فلسفة كانط وفلسفة إسبينوزا (ولكنه رفض حلولية إسبينوزا في أواخر حياته). وقد تأثر به كذلك الهيجليون اليساريون إذ كان فيورباخ ينظر إلى مادية إسبينوزا بعين التقدير، وتحدث بليخانوف (مؤلف كتاب تطور النظرة الواحدية للتاريخ) عن إسبينوزية ماركس وإنجلز أي واحديتهما التاريخية الكونية. واعترف إنجلز بأنه يؤمن بفكرة إسبينوزا القائلة بأن الامتداد والفكر صفتان لجوهر واحد، لأن الفكرة ليست لها دلالة سوى الدلالة المادية. كما نوه إنجلز في كتابه جدلية الطبيعة بفكرة إسبينوزا بأن الطبيعة علة نفسها، لا نهائية وأزلية، وهي صفات الإله التي خلعها إسبينوزا على الطبيعة.

وقد بدأ الباحثون يهتمون بأثر فكر إسبينوزا في فرويد، كما أن فلسفته لقيت اهتماماً غير عادي في الاتحاد السوفيتي. وشعر كثير من العلماء والمفكرين في العصر الحديث مثل أينشتاين وبرجسون بوجود علاقة وثيقة بين رؤيتهم للكون ورؤية إسبينوزا.

ونحن نذهب إلى أن المنظومـة العلمانية الشاملة اكتمـلت في كتـابات إسبينوزا، وأن المتتالية التي أدَّت إلى تفكيك الإنسان في القرن العشرين بدأت مع واحديته المادية الصارمة، وأن هناك داخل منظومته (بشكل جنيني) معظم الفلسفات العلمانية الأساسية: الفلسفة النفعية المادية (بنتام) والرؤية المادية الآلية التجريبية للعقل والنفس (لوك) ونسبية الأخلاق وإعلاء القوة كمطلق (نيتشه) والبرجماتية (وليام جيمس وجون ديوي). ومع هذا لم يُقدَّر لفلسفة إسبينوزا أن تكون الإطار الأساسي للفلسفات العلمانية الحديثة، فالهيجلية أحرزت قصب السبق في هذا المضمار، وهذا يعود إلى سكونية منظومة إسبينوزا، وفكرة الإله/الطبيعة المكتمل الذي يتجلى في الطبيعة، على عكس فكرة الإله/الصيرورة الهيجلية (هو إله غير مكتمل ويتحقق تدريجياً داخل الطبيعة والتاريخ).

وقد يكون من المفيد التوقف قليلاً عند علاقة إسبينوزا بنيتشه. قال نيتشه (في كارت بوستال أرسل به لصديق له) إنه يتعرف على نفسه في عدة نقاط في عقيدة إسبينوزا: إنكار حرية الإرادة ـ إنكار الغائية ـ إنكار وجود نظام أخلاقي في العالم وإلغاء فكرة الخير والشر ـ رفض فكرة إيثـار الغـير والتأكيد على حـب الذات والقوة كأساس للحياة وللأخلاق. وأكد نيتشه أنه هو وإسبينوزا يجعلان المعرفة جزءاً لا يتجزأ من الغريزة وليس نشاطاً مستقلاً عن رغبات الإنسان وغرائزه، أي أن نظامهما المعرفي يتسم بالكمون الكامل (موت الإله المتجاوز) وأن الحياة مكتفية بذاتها. ومع هذا، يمكن القول بأن ثمة نقط اختلاف مهمة بينهما تعود إلى أن إسبينوزا يقف عند بداية المتتالية العلمانية بينما يقف نيتشه في مرحلتها النهائية، ذلك أن إسبينوزا أخذ أول خطوة في عمليات العلمنة حينما أمكن تهميش الإله أو القول بموته (باعتبار أن الإله هو الطبيعة)، كما أنه رفض أن يُمنَح الإنسان أية مركزية في الكون. ولهذا، أكد أن العالم تحكمه قوانين لا شخصية آلية لا تكترث بالإنسان أو بغائياته. ولكنه لم يأخذ الخطوة الثانية الحاسمة وهي تطهير العالم من ظلال الإله، أي من كل عناصر الثبات والمطلقية والتجاوز. فالعالم المادي (الطبيعة) والإنسان يرثان كثيراً من صفات الإله، فالعالم هو علة ذاته وغاية ذاته ومرجعية ذاته، عالم أزلي تحكمه قوانين ثابتة آلية خالدة، والطبيعة المطبوعة في حالة حركة دائمة ولكنها تحركها الطبيعة الطابعة التي لها عقل وهدف وغاية وهي التي تمنح الطبيعة المطبوعة شيئاً من الثبات. وهذه الطبيعة الطابعة هي العقل الأكبر الذي يحكم الكون والذي تتجسد عقلانيته في الطبيعة المطبوعة وثباتها. هذا الإيمان بالعقلانية هو سقوط في الغائية الإنسانية إذ أننا نُسقط صفاتنا ورغباتنا الإنسانية على عالم الطبيعة فنراه ثابتاً معقولاً!

وقد ورث الإنسان، هو الآخر، بعض هذه الصفات الربانية، فهو يتصور أنه كائن عقلاني وأن ثمة عقلاً إنسانياً عالمياً شاملاً قادراً على مراكمة المعرفة. ومن خلال إيمانه هذا، يدَّعي الإنسان أنه يؤمن بأنه قادر على تحقيق قدر من تجاوز الصيرورة والتناهي ومن هنا مفهوم الحب العقلي للإله، فهو يعني أسبقية العقل على الوجود، فالوجود بعض من جوهر الإله ولذا فهو وجود عقلاني، أما الحتمية التي ينصب عليها حب الإنسان فيمكن فهمها وفهم قوانينها ويمكن الإذعان لها برضا ويمكن للإنسان تحقيق الصفاء والغبطة (أتاركسيا) من خلالها باكتشافه الوحدة الكامنة فيه. بل إن الحب العقلي للإله يدخل عنصراً أزلياً في عقل الإنسان بحيث يصبح هذا العقل خالداً أيضاً، ومن هنا حديث إسبينوزا عن وحدة صوفية بين الإنسان والطبيعة والخالق.

أما نيتشه، فتحرر تماماً من الإله وهرب من ظلاله فتجربته الكمونية كاملة، فهي لا تترك أي مجال للنظام أو الثبات أو الاستمرارية أو العقلانية في الكون. والإنسان نفسه في حالة سيولة وتغير، فهو إرادة قوة محضة وموازين قوى. كل هذا يعني استحالة تفسير أي شيء أو تبرير أي شيء. ولذا، بدلاً من فكرة الحب العقلي للإله عند إسبينوزا، يظهر حب القَدَر (باللاتينية: آمور فاتي amor fati). والحتمية، موضع الحب عند إسبينوزا، هي حتمية داخل نظام عقلاني متسق، أما الحتمية في نظام نيتشه فهي قَدَر غامض غاشم لا يمكن فهمـه، حتمـية تلقي بكلكـلها على كل المخلوقات كـعبء لا يمكن التخلص منـه. ولذا، لا يمكن تحقيق الصفاء أو الأمن، فالعالم أرض خراب ميتافيزيقية، عالم من الصراع والتحول ولا يوجد أي عزاء فلسفي، فالفرد في حالة عزلة دائمة، وحب القدر عمل من أعمال التحدي، فهو رفض لفكرة الطبيعة البشرية ولفكرة السببية وقبول للصيرورة والعود الأبدي لا تنتج عنها أية وحدة صوفية. ومن هنا، دعا نيتشه إلى إعادة تقييم القيم حتى يمكن اتخاذ الخطوة الحاسمة نحو تأسيس حضارة نسبية كاملة لا توجد فيها طبيعة معقولة ولا إنسان عاقل، حضارة تتجاوز ثنائية الذات والموضوع لتصل إلى السيولة الشاملة.

  • الاربعاء AM 11:51
    2021-04-07
  • 1549
Powered by: GateGold