المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417554
يتصفح الموقع حاليا : 235

البحث

البحث

عرض المادة

موسى بن ميمون (1135-1204) والفلسفة الإسلامية

Maimonides and Islamic Philosophy
موسى بن عبد الله بن ميمون القرطبي. مفكر عربي إسلاميُّ الحضارة والفكر يؤمن باليهودية وعضو في الجماعة اليهودية في إسبانيا الإسلامية. وُلد في قرطبة لأسرة من القضاة والعلماء اليهود. وعُرف أيضاً باسم «رمبم» وهي الحروف الأولى من اسمه ولقبه حيث تجيء الراء اختصاراً لكلمة «رابي» أى «حاخام». وكان من الأقوال المأثورة بين اليهود قولهم « لم يظهر رجل كموسى من أيام موسى إلا موسى » وذلك لأنه كان بارعاً في آداب الدين والعهد القديم والطب والعلوم الرياضية والفلسفة. تلقى تعليماً عربياً ودينياً يهودياً، ومن بين شيوخه تلميذ من تلاميذ ابن باجه.


وحين استولى الموحِّدون على قرطبة عام 1148، اتخذوا سياسة متشددة تجاه الأقليات الدينية بسبب تصاعد المواجهة مع الدولة المسيحية في شمال شبه جزيرة أيبريا. وقد خُيِّر اليهود والمسيحيون بين أن يسلموا أو يرحلوا خلال مدة محددة. وبقي موسى بن ميمون وأظهر الإسلام حتى أتته الفرصة فسافر إلى فلسطين ومكث فيها بعض الوقت ومنها ذهب إلى الإسكندرية ثم إلى الفسطاط فعاش بين أعضاء الجماعة اليهودية وأظهر اليهودية وتزوج بنت كاتب يهودي وشمله القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني برعايته وقدر له راتباً كطبيب. وفي آخر عمره دخل مصر فقيه أندلسي فشنع عليه وهاجمه لأنه كان بالأندلس يُظهر الإسلام فدافع عنه القاضي عبد الرحيم بأنه أسلم مكرهاً فلا يصح إسلامه شرعاً. وقد عمل ابن ميمون في بداية الأمر تاجر جواهر ثم طبيباً للوزير القاضي الفاضل. وحينما تولى ابن صلاح الدين (الأفضل) الملك، أصبح موسى بن ميمون طبيبه الخاص. وقد ألَّف ابن ميمون معظم كتبه أثناء إقامته في القاهرة (ومن بينها عدة كتب في الطب). ومات فيها عام 1204م.

من أهم كتبه كتاب السراج وهو تفسير دقيق للمشناه. ومن كتبه الأخرى كتاب مشنيه توراه أي «تثنية التوراة» وهو الكتاب الوحيد الذي كتبه بالعبرية حتى يستطيع كل قضاة اليهود قرّاءته والاستفادة بما جاء فيه ولا يضطروا إلى العودة للتلمود. والكتاب عمل تصنيفي متأثر بالتصنيفات الإسلامية المماثلة، رتب فيه في نظام منطقي وبإيجاز واضح ما حواه العهد القديم من قوانين بالإضافة إلى جميع قوانين المشناه والجماراه.

وإذا كانت طريقة التلمود هي عرض الموضوع وإفساح المجال للمناقشة بين أصحاب المذاهب والآراء المختلفة بدون ترجيح في أغلب المشكلات، فإن ابن ميمون اعتمد على رجاحة عقله وعلى التقاليد الموروثة في الحكم بشكل مجرد. وهو لا يجمع روايات ولا يدخل في غمرة مناقشات، بل يُفصِّل تفصيلاً ويحكم حكماً صريحاً مبيناً. ومن هنا، نراه لا يشير إلى مصادر أو إلى أسانيد أو إلى أصحاب المذاهب من أحبار التلمود إذ ليست المذاهب جوهر الموضوع الذي يبحثه. وقد ُسمِّي هذا الكتاب اليد القوية (يد حازاقاه)، وكلمـة «يـد» تعـادل الرقـم 14 وهـو عدد فصول الكتاب.

أما أهم كتب ابن ميمون على الإطلاق فهو كتاب دلالة الحائرين الذي كتبه بالعربية ثم تُرجم إلى العبرية، وهو مقسَّم إلى ثلاثة فصول. ويحاول ابن ميمون في هذا الكتاب أن يُوفِّق بين العقل والدين، لأن العقل غرسه الخالق في الإنسان. وحينما يبحث ابن ميمون في الذات الإلهية، فإنه يستنتج مما في الكون من شواهد التنظيم المُحكَم أن عقلاً سامياً يسيطر على هذا الكون. فالخالق حسب رأيه عاقل ولا جسم له، وكل العبارات التي تشير إلى شيء من أعضاء الجسم في وصف الخالق يجب أن تُفسَّر تفسيراً مجازياً. وصفاته لا تنفصل عن ماهيته وهو المحرِّك الأول والصلة الأولى الواجبة. وهو خالق العالم من العدم، ولذا فهو يدحض فكرة أرسطو الخاصة بأزلية الكون. والعالم كلٌ تترابط أجزاؤه على أساس قوانين معينة تتوقف في كليتها على فعل الخلق (أي عملية الخلق) ذاته، وهو فعل لا نظير له في التاريخ، وهذا الرأي يقترب من رأي الأشاعرة رغم هجوم ابن ميمون عليهم. ويصر ابن ميمون على فكرة فعل الخلق هذه إذ بدونها يصبح العالم عبارة عن مادة محضة تتحرك بقانون السببية المادي. وهو يضيف أنه لو كان هذا هو الوضع حقاً لفهمنا كل شيء في الطبيعة بقوانين المنطق. ولكن هناك في الطبيعة من الظواهر ما لا يمكننا فهمه.

تعرَّض موسى بن ميمون للمعجزات فآمن بإمكانية حدوثها، ولكنه حاول أن يُبقي هذه الإمكانية في أدنى حد ممكن. وفسَّر بعض ما ورد من المعجزات في العهد القديم تفسيراً علمياً وأوَّل كثيراً من الأفكار الدينية اليهودية تأويلاً يجعلها تتفق مع العقل. ويتعرض الكتاب أيضاً لطبيعة النبوَّة حيث عرَّفها بأنها ظاهرة تكاد تكون طبيعية يستطيع المرء أن يصل إليها من خلال المران اللازم حتى يرتفع إلى الكمال الخلقي والعقـلي. ولكن، مع هـذا، ليس بإمكان النبي أن يصبح نبياً إلا بإرادة الخالق. وأبو الأنبياء هو موسى، فكل الأنبياء يأتيهم الوحي منقطعاً، أما موسى فقد أتى بشريعة وأطلق نبوءته بشكل مستمر. وشريعة موسى من أهم المعجزات في التاريخ، ومع هذا كان على الشريعة أن تتنازل للعقل الشعبي، ومن هنا تأتي بعض الشعائر مثل تقديم الضحايا والقرّابين التي تُعَدُّ تنازلاً لهذا العقل الذي ينجذب دائماً نحو الوثنية (ولذا لا يمكنه تخيُّل عبادة بدون تضحية).

والشر، حسب رأي ابن ميمون، ليس له وجود ذاتي موجَب وإنما هو انتفاء الخير. وكثير مما يبدو لنا أنه شر في ذاته إنما هو نتيجة خطأ الإنسان. كما أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف الغرض الإلهي النهائي. وقد خلق الإله العالم بإرادته وحكمته. وعناية الإله لا تتوقف عند النوع والعام وإنما تصل إلى الأفراد، وهي تتناسب مع جهد الفرد في أن ينشِّط عقله ويسمو به. ثم يتحدث ابن ميمون عن دين الكمال الإنساني، دين قوامه التأمل الفلسفي في الخالق. ويضرب مثلاً ليوضح فكرته فيشبِّه مستويات العقل الإنساني بمجموعات من الناس يقفون حول قصر الملك بعضهم خارج حوائط المدينة، وهؤلاء هم الذين لا يؤمنون بعقيدة ما. وبعضهم داخلها، وهؤلاء يؤمنون بعقيدة ولكنهم وقعوا في خطأ ما أثناء تأملهم أو أنهم اتبعوا رأي حجة وقع هو نفسه في الخطأ. ويحاول بعضهم دخول قصر الملك ولكنهم لا يستطيعون لأنهم لا يعرفون الطريق (وهؤلاء هم الذين يعرفون الشريعة بسذاجة). وهناك من يسيرون حول القصر (وهم علماء اليهود الذين يؤمنون بالآراء الدينية الصائبة ولكنهم لا يتأملون فلسفياً). أما في داخل القصر، فهناك هؤلاء الذين انغمسوا في تأمل مبادئ الدين، ولهؤلاء كتب ابن ميمون كتابه.
والتأمل الفلسفي في الخالق يعادل حب الإله. ولكن هل يعني هذا الرغبة الصوفية في الاتحاد به؟ يقتبس ابن ميمون من سفر إرميا (9/23 ـ 24): "لا يفتخرنَّ الحكيم بحكمته ولا يفتخر الجبار بجبروته ولا يفتخر الغني بغناه. بل بهذا ليفتخرنَّ المفتخر: بأنه يفهم ويعرفني أني أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض لأني بهذه أُسر". ويُفسِّر ابن ميمون هذه الكلمات بأن الخالق يُسرُّ بمقدرة الإنسان على أن يسمو على كل ما هو متغير مثل القوة الجسدية والكمال الجسدي. ويذهب ابن ميمون إلى أن السلوك الأخلاقي ذاته لا يحقق هذا إذ أنه خاضع للتغير باعتبار أنه يتوقف على وجود الآخرين. وعلى الفرد أن يطمح إلى أن يُشبه اكتفاء الخالق بذاته. ولا توجد صفة واحدة يستطيع الإنسان أن يحقق من خلالها هذا الاكتفاء إلا معرفة الخالق داخل الحدود المتاحة للإنسان (أي صفاته) وهي معرفة تدفع الإنسان إلى أن يحاول محاكاة الخالق.

وضع ابن ميمون ما يُعرَف بالأصول الثلاثة عشر (بالعبرية: شلوشاه عسار عيقاريم) لليهودية، وهي أهم محاولة لتحديد عقائد الدين اليهودي، التي وردت في مقدمة ابن ميمون لكتاب السنهدرين في كتاب السراج، وهي في جوهرها لا تختلف عن المعتقدات الإسلامية كثيراً، فهي تنفي أية حلولية عن الإله:

1 ـ الإله هو خالق ومدبِّر هذا الكون.

2 ـ واحد منذ الأزل وإلى الأبد.

3 ـ لا جسد له ولا تحدُّه حدود الجسد.

4 ـ هو الأول والآخر.

5 ـ على اليهودي ألا يعبد إلا إيّاه.

6 ـ كلام الأنبياء حق.

7 ـ موسى أبو الأنبياء؛ من جاء قبله ومن جاء بعده.

8 ـ التوراة التي بين يدي اليهود هي التي أُعطيت لموسى.

9 ـ التوراة غير قابلة للتغيير ولن تنسخها شريعة أخرى.

10 ـ الخالق عالم بكل أعمال البشر وأفكارهم.

11ـ إنه يجزي الحافظين لوصاياه ويعاقب المخالفين لهـا.

12 ـ سيجيء الماشيَّح، وعلى اليهودي انتظاره.

13 ـ على اليهودي أن يؤمن بقيامة الموتى.

ويوجد نوعان من الاختلاف بين هذه الأصول وبين العقائد الإسلامية؛ اختلاف سطحي ينصرف إلى الألفاظ لا إلى البنية حين يحل موسـى بن ميمـون كلمـة «توراة» محل «القرآن» وكلمة «موسى» محل «محمد»، واختلاف أساسي بنيوي يتعلق بالعقيدة الخاصة بعودة الماشيَّح. ولكننا، حتى في هذا المجال، نجد أن موسى بن ميمون يحاول أن يضفي عليها صيغة عقلية إذ يذهب إلى أن عصر الخلاص بعودة الماشيَّح سيأتي في مسار التاريخ وسيكون حدثاً يتم في هدوء بعيداً عن أية كوارث وعلامات للظهور، وسيأخذ شكل عصر جديد لا يختلف عن عصرنا هذا وإن كان سيأخذ شكلاً أعلى من أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي. ورغم تأثر موسى بن ميمون بالفكر الإسلامي العقلاني في كتابات الفارابي وابن سينا وربما ابن رشد، فإنه يؤمن بأن الشريعة الشفوية (التلمود) مرسلة من الإله ويشير إلى الشعب المقدَّس والشعب المختار.

وقد ذهب موسى بن ميمون إلى أن العقيدة اليهودية وفكرة الخالق لا يمكن فهمهما واستيعابهما إلا من خلال الفلسفة الأرسطية، وإلى أن أيَّ تفسيرات أخرى هي شكل من أشكال الوثنية، ولذا يجب أن نلقن الناس (حتى العوام) التعريف الدقيق للخالق.

ويبدو أن بعض أقواله تحتمل تأويلات يُفهَم منها أنها إلحادية أو تبث الشك في قلوب المؤمنين، مثل قوله إن جوهر الإله غامض على الإنسان ولا يمكنه فهمه. وهناك ما يوحي بأنه لا يؤمن بالبعث، خصوصاً أن فكرة الآخرة ظلت باهتة في اليهودية. كما أنه كان يؤمن بأن النبوَّة أمر يحققه الإنسان من خلال الجهد العقلي. ومن ثم ذهب بعض علماء اليهود إلى أن الأرسطية الميمونية تشوِّه معنى الكتاب المقدَّس وأن ابن ميمون يظهر احتراماً لأرسطو أكثر من احترامه لنصوص الكتاب المقدَّس أو التراث الحاخامي.

ولذا، حدثت مواجهة بين أنصار ابن ميمون وأعدائه. ففي عام 1230 حاول معارضوه أن يمنعوا دراسة دلالة الحائرين والأجزاء الفلسفية في كتاب مشنيه توراه. وكان نحمانيدس ضمن مهاجميه، بل واستعدى بعض اليهود في بروفانس (فرنسا) محاكم التفتيش على كتابات ابن ميمون فأُحرقت عام 1232. واندلع السجال مرة أخرى عام 1300 ومُنعت دراسة كتابات ابن ميمون قبل سن الخامسة والعشرين. وانتهى السجال حين طُرد اليهود من فرنسا عام 1306.

ويبدو أن أعمال موسى بن ميمون لم تكن لها أهمية تذكر في العالم الإسلامي بين المثقفين المسلمين، فلم يسمع أحد بأعماله في الحوار الفلسفي في عصره، إذ أن ابن رشد أهم فلاسفة وعلماء عصره لم يسمع عنه ولم يقرأ أياً من كتبه. ولا ندري إن كان هذا يرجع إلى أن فكر ابن ميمون لا يتسم بالأصالة أم إلى أن الثقافة العربية اليهودية في الأندلس كانت ثقافة تابعة للحضارة الأم إلى درجة كبيرة، أم أن ذلك يرجع إلى أن مؤلفاته كُتبت بحروف عبرية فظلت مجهولة لجمهرة القرّاء والمثقفين؟

وقد بعثت حركة التنوير اليهودية كتاباته لإدخال شيء من العقلانية على الدين اليهودي بعد أن خنقته الدراسات التلمودية والاهتمامات الحسيدية والقبَّالية. ومن بين المتأثرين بفكره، إسبينوزا وموسى مندلسون (أبو حركة التنوير اليهودية) وهرمان كوهين. بل إن كتابات ابن ميمون تُعَدُّ النقطة الأساسية التي اجتمع عليها دعاة التنوير، وهي إطار مرجعي أساسي لليهودية الإصلاحية.

  • الاربعاء AM 11:50
    2021-04-07
  • 1931
Powered by: GateGold