المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417499
يتصفح الموقع حاليا : 204

البحث

البحث

عرض المادة

البوند (حزب)

The Bund
«بوند» كلمة يديشية معناها «الاتحاد»، وهي الكلمة الأولى في عبارة « الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندا وليتوانيا ». وهو أهم التنظيمات الاشتراكية اليهودية في شرق أوربا. وقد تأسَّس الحزب داخل منطقة الاستيطان في مقاطعات ليتوانيا وروسيا البيضاء التي كانت تتميَّز بوجود عمال يهود متركزين بأعداد كبيرة نسبياً في الصناعات. كما أن الكثافة السكانية اليهودية ككل كانت عالية إلى حدٍّ ما، الأمر الذي كان يعني عزلة اليهود عن بقية السكان. وعُقد الاجتماع التأسيسي للحزب سراً في فلنا في أكتوبر عام 1897، أي بعد مرور أقل من شهرين على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول. وحضر الاجتماع ثلاثة عشر مندوباً كان من بينهم ثمانية عمال. وكان الحزب يُعَدُّ أكبر الأحزاب اليهودية وأكثرها جماهيرية، فكان يضم في صفوفه جماهير يهودية يفوق عددها عدد أعضاء المنظمة الصهيونية في شرق أوربا بل في العالم كله. فقد كان عدد أعضاء حزب البوند في الفترة 1903 ـ 1905 ما بين 25 و35 ألفاً، وقيل إن العدد قد وصل إلى 40 ألفاً عام 1905.


ويُقسَّم تاريخ حزب البوند في العادة إلى مرحلتين. ويمكن تقسيم المرحلة الأولى بدورها إلى فترتين، وقد سيطرت في الفترة الأولى من المرحلة الأولى عناصر ثورية من المثقفين على قيادات الحزب. ويُلاحَظ أن برنامج الحزب في سنواته الأولى لم يكن له توجُّه محلي أو يهودي واضح، فكانت قيادته ترى أنه حزب اشتراكي روسي يضطلع بمهمة التجنيد الثوري في القطاع اليهودي للطبقة العاملة. وتقبَّل الحزب يهودية العمال اليهود ولغتهم اليديشية بوصفها مجرد حقائق تؤخذ في الاعتبار. ولذا، أكد الحزب في برنامجه أهمية اللغة اليديشية باعتبارها إحدى الوسائل العملية للوصول إلى الجماهير اليهودية. ولكنه رفض من البداية أية تصورات صهيونية لقومية يهودية عالمية، وطرح بدلاً من ذلك مفهوماً كان يُشار إليه بكلمة «دوإكييت» اليديشية والتي تعني «هنا»، أي الاهتمام بأوضاع أعضاء الجماعة اليهودية (هنا) في شرق أوربا خارج أي إطار يهودي عالمي وهمي. ولذا، كان البوند يعارض التعاون مع الحركات العمالية اليهودية في البلاد الأخرى (وقد ظل الالتزام بهذا المفهوم أحد ثوابت النظرية البوندية). بل إن حزب البوند كان يرى أن وجود حركة عمالية يهودية مستقلة هو مرحلة مؤقتة انتقالية، وأن الهدف النهائي هو الاندماج في الشعب الروسي (أو البولندي).

وفي هذا الإطار، أكد الحزب التزامه بالماركسية واهتمامه بالمصالح العامة للطبقة العاملة ككل بصفة أساسية وبالمصالح الخاصة بالعمال اليهود بالدرجة الثانية، وانضم إلى الحزب العمالي الديموقراطي الاشتراكي الروسي عام 1898، وكان البوند أحد مؤسسي هذا الحزب. وقد كان عدد المندوبين في اللجنة التأسيسية للحزب تسعة من بينهم ثلاثة من أعضاء البوند. وقام الحزب بنشاطات واسعة ذات طابع سياسي في صفوف العمال من أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانت تتزايد أعدادهم بسبب تزايُد معدلات التحديث الاقتصادية والتصنيع في روسيا وتعثُّرها من الناحية الاجتماعية مع نهاية القرن. وأدَّى نجاحه في نشاطه إلى تأليب النظام الروسي القيصري ضده.

وفي هذه الآونة، كان المفكران الروسيان اليهوديان سيمون دبنوف وحاييم جيتلوسكي قد صاغا نظريتهما عن قومية الدياسبورا (أو بتعبير أدق قوميات الجماعة اليهودية، وربما أيضاً: القومية اليديشية). وتذهب هذه النظرية إلى أن ثمة ثقافات يهودية مستقلة عن بعضها البعض وعن الحضارات التي يتواجد داخلها اليهود، وأن استقلال اليهود الثقافي النسبي عن محيطهم الحضاري لا يعني ارتباطهم جميعاً على مستوى يهودي عالمي. وأكد دبنوف أن الجماعة اليهودية في شرق أوربا (أي يهود اليديشية) لها هوية ثقافية مختلفة عن الهويات اليهودية الأخرى التي نشأت في أماكن وأزمنة أخرى، وأن هذه الهوية تستحق الحفاظ عليها وتطويرها على أرض شرق أوربا ذاتها دون الحاجة إلى الهجرة إلى فلسطين، وهي الهجرة التي كانت تتم في إطار تصوُّر وجود هوية يهودية عالمية واحدة.

ووجدت هذه النظرية صدى لدى قيادات البوند، خصوصاً أن التأكيد على الخصوصية اكتسب شيئاً من الشرعية الماركسية من القرار الذي اتخذه الحزب الديموقراطي الاشتراكي في النمسا، والذي بمقتضاه غيَّر الحزب بنيته من حزب مركزي إلى حزب فيدرالي قومي يتفق بناؤه مع التعددية القومية التي كانت تسم النمسا آنذاك. كما أن الواقع الفعلي لكثير من أعضاء الحزب كان يؤكد أنهم أقلية قومية شرق أوربية (يديشية) لها لغتها وهويتها الثقافية الخاصة. وقد ساهم التحديث المتعثر في روسيا القيصرية في هذه الآونة في دعم هذه الهوية وفي تعميق كثير من أبعادها، ولعل هذا يُفسِّر سبب تَرعرُع الثقافة اليديشية وازدهارها. وقد أعلن البوند في مؤتمره الرابع عام 1901 أن اليهود يشكلون أقلية إثنية لا دينية وأن مصطلح أمة (كما هو مستخدم في روسيا) ينطبق عليهم. وهنا تبدأ الفترة الثانية من المرحلة الأولى، حيث دعا الحزب إلى إعادة تأسيس روسيا كاتحاد فيدرالي من القوميات مع إدارة ذاتية قومية كاملة لكل أمة دون إشارة إلى الإقليم الذي تسكنه. ومع هذا، تقرر ألا يقوم البوند بحملة من أجل الإدارة الذاتية اليهودية حتى لا يتضخم الشعور القومي لدى أعضــاء الجـماعة اليهودية، الأمر الذي قد يمُـيِّع الوعي الطبـقي للعمـال. ولكن هـذا التحفظ الأخير لم يُطبَّق، وأُلغي رسمياً في المؤتمر السادس (عام 1905). وكان البوند قد أكد في مؤتمره الخامس (عام 1903) حقه كممثل للعمال اليهود في أن يضيف إلى برنامج الحزب الاشتراكي الديموقراطي العام مواد لا تتعارض مع ذلك البرنامج، وتتوجه في الوقت نفسه إلى مشاكل العمال اليهود الخاصة. واقترح البوند على مؤتمر الحزب الاشتراكي عام 1903 الاعتراف بأعضاء الجماعة كأقلية قومية روسية لها حق الإدارة الذاتية مثل بقية الأقليات. لكن الطلب رُفض، فانسحب ممثلو البوند.
ويُلاحَظ تذبذب البونديين بين نظرتين إلى أعضاء الطبقة العاملة من اليهود، إحداهما ترى أنهم يشكلون طبقة عاملة يهودية ذات هوية يهودية شرق أوربية محلية أي يديشية، ولذا لا يمكن دمجها بشكل كامل في الطبقة العاملة الروسية. ويرى الموقف الآخر (البلشفي) أن ثمة طبقة عاملة روسية، وأن العمال اليهود هم جزء لا يتجزأ منها، ومن ثم يكون حل مشكلة اليهود القومية والطبقية هو الاندماج. ويدل تذبذب قيادة البوند على مدى ذكائهم الحضاري ومدى التصاقهم بجماهيرهم التي كانت لها هوية مستقلة آخذة في التبلور. فهذه الجماهير كانت كتلة بشرية كبيرة تَصلُح أساساً لتطوير شخصية قومية شرق أوربية يديشية مستقلة. ولكن، لأن هذه الهوية ليست متبلورة وإنما آخذة في التبلور، طرح فلاديمـير ميـديم (1879ـ 1923)، أحـد منظـري الحزب، فكـرة " الحياد " التي تذهب إلى أنه لا يمكن تحديد الشكل الذي سيحقق من خلاله أعضاء الجماعة اليهودية في شرق أوربا بقاءهم، فهم قد يحتفظون بهويتهم وقد يندمجون في محيطهم الثقافي. وتصبح مهمة البوند بالتالي هي أن يحارب من أجل التوصل إلى إطار سياسي يضمن حرية التطور لكل من الاتجاهين، وألا يتخذ أية خطوات من شأنها أن تساعد على الاستمرارية الإثنية أوعلى عمليات التذويب. ولذا، لم تستمر القطيعة طويلاً مع الحزب الديموقراطي الاشتراكي وعاد البوند إلى التحالف معه عام 1906. وبعد أن مارس الحزب نشاطه بشكل علني بعد ثورة 1905، وسَّع نشاطاته ووصل إلى قطاعات كبيرة من أعضاء الطبقة العاملة من اليهود. ولكنه بدأ ينتكس بعد عام 1908 (وهي الفترة التي شـهدت المـد الرجعي في روسـيا) حيث قُبض على رؤسـاء الحزب وتم نفيهم، وانحصر اهتمام الحزب لبعض الوقت في الأمور الثقافية مثل اليديشية، واشترك في عدة مؤتمرات ومؤسسات ثقافية ذات طابع يهودي روسي عام مثل جمعية تنمية الثقافة بين يهود روسيا.

ورغم تأكيد البوند الهوية اليديشية، وربما بسبب هذا، نجده يقف في حزم ضد الرؤية الصهيونية للقومية اليهودية العالمية التي تضم اليهود في كل زمان ومكان. وقد بيَّن البوند أن المشروع الصهيوني لن يؤدي إلى حل المسألة اليهودية لأن الدولة الصهيونية لن تستوعب كل يهود العالم، كما أنها تُفقد يهود العالم حقهم في المطالبة بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والمدنية حيثما وجدوا. ذلك بالإضافة إلى أن إنشاء هذه الدولة يجعل الصراع بين اليهود والعرب أبدياً، كما أن بقاءها يعتمد على رضا يهود الغرب. وقد بيَّن البوند أن الافتراض الصهيوني بأزلية معاداة اليهود بين الأغيار يهدف إلى تمييع الصراع الطبقي وإعاقة تطوُّر شعور المواطنة لدى اليهود وإلى تقوية عقلية الجيتو.

وتبدأ المرحلة الثانية في تاريخ الحزب بحدوث تغيير أساسي في صفوف الحزب في تلك الآونة، إذ انسحب المثقفون من قيادته، وأصبحت أغلبية أعضائه وقياداته من العمال. وزاد التركيز على خصوصية العمال اليهود وعلى خصوصية وضعهم. ولذا، كانت لغة المؤتمر العاشر للحزب (عام 1910) هي اليديشية، كما اتُخذت قرارات تدعو إلى استخدام هذه اللغة في المدارس والمؤسسات وإلى اشتراك الحزب في انتخابات الدوما (البرلمان) لعام 1912. وحينما حدث الانشقاق بين البولشفيك والمنشفيك، انضم البوند إلى المنشفيك لقبولهم مبدأ الإدارة الذاتية، ولأن لينين والبلاشفة بشكل عام رفضوا فهم البوند للمسألة اليهودية (أو المسألة اليديشية) ولخصوصية وضع العمال من يهود اليديشية.

وبعد اندلاع الثورة عام 1917، زادت عضوية البوند بسرعة ووصلت إلى خمسة وأربعين ألف عضو. ولكن أعداداً كبيرة منهم انضمت إلى الحزب الشيوعي، وكوَّن بعض أعضاء الحزب في أوكرانيا حزباً بوندياً شيوعياً، ولكن أعضاءه انضموا أيضاً إلى الحزب الشيوعي بعد تصاعُد الهجمات ضد أعضاء الجماعة اليهودية. وتم القضاء على ما تبقى من البوند عام 1919.

وهاجرت شرذمة صغيرة من البوند إلى برلين بعد الثورة، واستمرت في نشاطها الحزبي وأصدرت مجلة.ولم يبق من الحزب سوى أرشيفه الذي نُقل إلى جنيف عام 1927 ثم إلى باريس عام 1933.

وكانت هناك أحزاب بوند في أماكن أخرى من بينها جاليشيا ورومانيا، ولكن أهم هذه الأحزاب هو حزب البوند في بولندا الذي استقل في نشاطاته حين عُزل عن روسيا نتيجة اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد ازداد الحزب راديكالية في بولندا، وانضم إلى الحزب الاشتراكي اليهودي في جاليشيا عام 1919. ثم انضم الحزبان إلى الكومنترن، الأمر الذي تسبَّب في قمع الحكومة لهما. واختفى حزب البوند بين عامي 1920 و1924،ولكنه حينما عاود الظهور في عام 1924 أصبح أكبر حزب عمالي يهودي في بولندا، فأصدر مجلة أسبوعية وأخرى شهرية وجريدة يومية وبلغت عضويته سبعة آلاف (ويُقال 12 ألفاً) إلى جانب منظمة شبابية كانت تضم عشرة آلاف عضو.

ولعب حزب البوند دوراً مؤثراً في الحياة السياسية في بولندا. فاستمر في حربه ضد الصهيونية واليهودية الأرثوذكسية، وكان يحصل على أغلبية الأصوات في انتخابات اتحادات نقابات العمال اليهـود التي كانت تضـم نحـو تسـعة وتسـعين ألف عامل في عام 1939. وساهم الحزب في تأسـيـس منظـمة المدارس اليديشية المركزية، كما كان يسيطر على نحو 80% من كل المؤسسات التعليمية اليديشية. واستمر البوند في معارضته للعبرية.

ووصل البوند في بولندا إلى قمة نفوذه السياسي بين عامي 1936 و1939، حين حصل على أغلبية أصوات اليهود في انتخابات البلديات، نظراً لأنه كان ينظم الجماهير اليهودية وغير اليهودية في الحرب ضد معاداة اليهود. وبعد الاحتلال النازي، اشترك البوند في المقاومة ضده. وقد تم القضاء على البوند مع تصفية معظم أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا على يد النازيين.

ويُلاحَظ أن حزب البوند لايزال له فروع في الولايات المتحدة وبريطانيا تضم كبار السن من نشطاء الحزب السابقين في بولندا وروسيا. وقد كوَّنت البقية الباقية من أعضائه وفروعه اتحاداً عالمياً له هيئة تنفيذية مقرها نيويورك، وقد عقدت هذه الهيئة مؤتمراً عاماً في أبريل عام 1965، والمنظمة عضو في الاشتراكية الدولية. ولا يزال الحزب يرفض الفكر الصهيوني ويحاول أن يأخذ موقفاً محايداً من الصراع العربي الإسرائيلي.

ورغم الجماهيرية الواضحة للبوند أثناء فترة نشاطه، سواء في روسيا أو في بولندا، فإن أثره في تواريخ أعضاء الجماعات كان محدداً. ولعل هذا يعود إلى عدة أسباب:

1 ـ ارتبط البوند من البداية بثقافة اليديشـية التي ازدهـرت لفترة محدَّدة، بسبب تعثُّر التحديث في شرق أوربا بعد عام 1880، وحتى في هذه الفترة كان عدد المتحدثين باليديشية آخذاً في التناقص.

2 ـ يحوي برنامج حزب البوند جوانب اندماجية عديدة، ولذا فإن الاختفاء هو في واقع الأمر جزء من البرنامج وتحقق له.

3 ـ أدَّت عملية التصنيع والتحديث، بعد الثورة البلشفية، إلى تصفية التجمعات اليهودية الكثيفة وإلى انتشار أعضاء الجماعات في روسيا، كما أدَّت الإبادة النازية إلى الشيء نفسه بالنسبة لبولندا، الأمر الذي أدَّى إلى تصفية القاعدة الجماهيرية للحزب في البلدين.

4 ـ تولت الدولة السوفيتية، بنفسها، تنفيذ الجانب الثقافي لبرنامج البوند. فاعترفت باللغة اليديشية بوصفها إحدى اللغات الرسمية، وشجعت دراستها، وأنشأت العديد من المؤسسات الثقافية اليديشية، ثم أنشأت أخيراً مقاطعة بيروبيجان وهي التنفيذ العملي للبرنامج البوندي. وإذا كانت اليديشية آخذة في الاختفاء وإذا كان مشروع بيروبيجان لم ينجح، فإن هذا يعود إلى الطبيعة المؤقتة للنهضة الثقافية اليديشية وإلى أن أعضاء الجماعة آثروا الاندماج وما يتبعه من حراك اجتماعي سريع على الاحتفاظ بخصوصيتهم اليديشية. وعلى كلٍّ، فقد كان منظرو البوند غير متأكدين منذ البداية من أن الهوية اليديشية ستنمو وتزدهر، ولذا طالبوا بإطار منفتح يسمح بتطوُّر هوية أعضاء الجماعة إما نحو مزيد من الاندماج أو نحو مزيد من الضمور ثم الاختفاء، وتركوا النتيجة ليحددها مسار التاريخ نفسه. ويبدو أن البديل الثاني هو الذي كتب له أن يتحقق.

  • الاحد PM 03:20
    2021-04-04
  • 1435
Powered by: GateGold