المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417498
يتصفح الموقع حاليا : 212

البحث

البحث

عرض المادة

الحركة الشعبوية الروسية (نارودنكي)

Narodnichestvo (Narodniki)
«الحركة الشعبوية الروسية» حركة ظهرت بين فئة المثقفين الروس في الستينيات من القرن التاسع عشر وعُرفت باسم «نارود نيشيتفو»، وعُرف أتباعها باسم «النارودنيك» نسبة إلى «النارود» أو «الشعب العضـوي» (فولك) وسـنشير إليهم بمصطلح «الشعبويون الروس». وقد اشتد نشاط هذه الجماعة خلال السبعينيات ووصلت إلى ذروتها حينما قام جناحها الإرهابي باغتيال ألكسندر الثاني، قيصر روسيا، عام 1881. وعبَّرت هذه الحركة عن نفسها بالدعوة إلى « العودة إلى الشعب » حيث كان الشعبويون يسعون إلى الاختلاط والاندماج مع الشعب الكادح والعمل على تثويره وخدمة الفلاحين في مطالبهم ومصالحهم اليومية. وجمعت هذه الحركة بين الفكر الاشتراكي الغربي والفكر الماركسي ومفاهيمه حول فائض القيمة ورفض الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج من جهة، ومن جهة أخرى النزعة السلافية المشيحانية وإيمانها بالشعب الروسي، وخصوصاً جماهير الفلاحين، وبالفضائل الكامنة فيه. وفي حين كانت النزعة السلافية ترى أن سرَّ الحياة والحقيقة الدينية مستترة وكامنة في هذا الشعب، كان الشعبويون يؤمنون بأن الحقيقة الاجتماعية كامنة فيه، وأن هذه الحقيقة محجوبة عن الطبقات الحـاكمة المثقـفة التي تقـوم حيـاتها وثقافتها على استغلال عمل الشعب، وبالتالي فيجب على فئة الإنتليجنسيا (المثقفين) التي انفصلت عن الشعب، الذي يعيش ملتصقاً بالأرض، أن تعود إلى الشعب وإلى الأرض. كما آمن الشعبويون بطريق خاص لتطوُّر روسيا وأن بإمكانها الإفلات من مرحلة الرأسمالية البورجوازية وفظائعها والانتقال مباشرة إلى الاشتراكية الحديثة، خصوصاً أن حياة الفلاح تدور حول «الكوميون» أو القرية المشاعية التي مجَّدها الشعبويون مثلما مجَّدها قبلهم أنصار النزعة السلافية واعتبروها نتاجاً أصيلاً للتاريخ الروسي، والنمط المثالي أو الأعلى الذي يجب أن يحتذيه المجتمع بأسره في عمليات الإنتاج والتوزيع.


وانضم كثير من أعضاء الجماعات اليهودية من المثقفين إلى هذه الحركة، وكانوا من دعاة الاندماج الذين يؤمنون بأن حل المسألة اليهودية يأتي من خلال تحرير الجماهير الروسية أولاً، وبالتالي أعطوا أولوية للعمل الثوري داخل الإطار الروسي على العمل من أجل حل مشاكل اليهود. كذلك اعتبروا أن الجماعة اليهودية في روسيا في أغلبها طبقة بورجوازية من التجار والحرفيين المستغلين. وأكد بانيل أكسيلرود (1850 ـ 1928) ـ وهو من أهم المثقفين الروس اليهود من الشعبويين، إيمانه بأن المسألة اليهودية لن تُحَل إلا بتحرير الجماهير الروسية. ومن هذا المنطلق، شارك الثوريون اليهود الشباب الروسي في حركة «الذهاب إلى الشعب الروسي» والعمل الدعائي والتنويري بين جماهير الفلاحين. وكما قال أحد الثوريين اليهود آنذاك: « نحن شعبويون روس، والفلاحون هم إخواننا الطبيعيون ». ولكي يكسبوا ثقة الفلاحين، قام الشعبويون من اليهود وغير اليهود بتعلُّم الزراعة والحرف والتعرف على التقاليد الشعبية للفلاحين وأسلوب حديثهم وارتدوا ملابسهم. بل ذهب بعض اليهود إلى أبعد من ذلك حيث اعتنق بعضهم المسيحية الأرثوذكسية (وذلك رغم أن فلسفة الحركة الشعبوية كانت فلسفة إلحادية ووضعية) حتى يوجدوا رابطة روحية بينهم وبين الفلاحين المتدينين، فالمسيحية الأرثوذكسية بالنسبة للشعبويين الروس كانت جزءاً من الفلكلور أو الميراث الثقافي الشعبي الروسي. ومن أبرز الشعبويين الروس اليهود جوزيف أبتكمان الذي اعتنق المسيحية، وكذلك ليف ديتش اليهودي المتروِّس الذي ارتدى ثياب الفلاحين وعمل بينهم في القرى الروسية.

ولكن جهود الشعبويين لم تنجح في نهاية الأمر، فهم من ناحية تعرضوا للمطاردة والاعتقال والمحاكمات السياسية من قبَل السلطات. ومن ناحية أخرى، لم تتجاوب معهم جماهير الفلاحين التي وجدت أفكار المثقفين القادمين من المدن غريبة عليهم، كما كان افتقار الشعبويين إلى الدين من دواعي نفور الشعب الروسي المتدين منهم، والذي قام أفراده أنفسهم بتسليمهم إلى أيدي السلطات.

وتُعَدُّ سيرة حياة أكسيلرود وتأرجُحه بين الحلول الشعبوية والثورية من جهة والحل الصهيوني من جهة أخرى نمطاً متكرراً بين كثير من المثقفين الروس اليهود الثوريين. وأكسيلرود هو أحد مؤسسي الحزب الاشتراكي الروسي، وُلد في إقليم شيرنيجون وعاش طفولته في فقر شديد. وقد بدأ أكسيلرود نشاطه الثوري عام 1872 حينما كان طالباً في كييف، وانضم للحركة الشعبوية الروسية. ولكنه اضطر تحت وطأة الاضطهاد القيصري إلى الفرار عام 1874 إلى الخارج حيث عاش لفترة في برلين درس خلالها الحركة الاشتراكية الألمانية، ثم استقر في جنيف حيث واصل نشاطه الثوري. وكان على اتصال وثيق بمنظمة «الأرض والحرية» وقام بتحرير جريدتها. وقد تكونت هذه المنظمة السرية عام 1876 كرد فعل للمطاردة الحكومية.

وعلى صعيد العمل السياسي، اختلف الشعبويون فيما بينهم، إذ اجتمعت آراء الجناح المعتدل على أهمية العمل التنويري والدعائي بين جماهير الفلاحين من أجل تقويض النظام القيصري وفرض نظام ديموقراطي. ولكنهم اختلفوا حول كيفية تنفيذ ذلك المخطط، فآمن الفوضوي باكونين بأنه يكفي تحريض الشعب على الثورة دون أن تسبق ذلك مرحلة تعليم للشعب، وأن قوة الانتفاضات الفلاحية ستنتج عنها تحولات سياسية. أما لافروف، فكان يرى ضرورة تنوير الشعب وتعليم جماهير الفلاحين أولاً على أن تَعقُب ذلك الإصلاحات السياسية والثورة.

أما الجناح الراديكالي، فدعا إلى الإطاحة بالنظام القيصري بالقوة واستيلاء أقلية ثورية على السلطة تفرض سلطانها على جماهير الشعب وتقوم بتعليمه وتنويره إلى أن يصل إلى مرحلة كافية من الثقافة والتعليم تسمح له بالمشاركة في الحكم.

وبعد أن أخفقت حركة المثقفين المتجهة صوب الشعب وتبددت أوهام الشعبويين الروس في الفلاحين، بدأت عودتهم إلى المدن. ومن هنا، بدأ التحول من النشاط السلمي إلى العنف والإرهاب. وقد عمَّق هذا التطور الخلافات بين الجناح المعتدل والجناح الراديكالي داخل الحركة وانتهى بانشقاقها عام 1879 حيث اتجه المعتدلون بقيادة أكسيلرود (الذي عارض اللجوء إلى العنف) وبليخانوف إلى تأسيس منظمة كانت تهـدف إلى توزيع أراضـي النبلاء على الفلاحـين. أما الجنـاح الراديكالي، فاتجه إلى تأسيس منظمة «إرادة الشعب» التي كانت تهدف إلى حل المشكلة السياسية بالقضاء على الملكية المطلقة والاستيلاء على السلطة بأقلية ثورية (عن طريق الإرهاب)، وقامت بتنفيذ سلسلة من الاغتيالات السياسية انتهت باغتيال ألكسندر الثاني في مارس 1881.
ولعب الشعبويون اليهود دوراً نشيطاً في هذه المرحلة أيضاً، خصوصاً في المجال التنظيمي والإداري، حيث ساهموا في تأسيس الحلقات الثورية وتوزيع المنشورات والمطبوعات السرية وتنفيذ عمليات الاغتيال. وكان من بينهم أعرون جوبيت الذي أُعدم عام 1879 بتهمة محاولة اغتيال ألكسندر الثاني، ومارك نيثانسون وأهارون زوندبليفيتش اللذان شاركا في تأسيس منظمة «الأرض والحرية»، وقد كان زوندبليفيتش عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة «إرادة الشعب». وكان من بين طلبة المعهد الحاخامي في فيلنو أولئك الذين انضموا إلى الحركة مثل أهرون ليبرمان وفلاديمير أيوخيلسون (وكان من دعاة استخدام الإرهاب كسلاح سياسي، وشارك في تنفيذ عمليتين إرهابيتين). كذلك شارك جريجوري جولدنبرج الذي كان عضواً في «إرادة الشعب» في العمليات الإرهابية ومات منتحراً عام 1880 بعد اعتقاله وبعد أن اعترف على رفاقه. أما هيسي هيلفمان، فأُدينت بالاشتراك في اغتيال ألكسندر الثاني عام 1881 وتوفيت في السجن.

وأعقب اغتيال ألكسندر الثاني عملية قمع واسعة للحركة أسرعت بأفولها وتمزُّقها. ومع ذلك، نجد أن كثيراً من ملامح الحركة الشعبوية الروسية وجدت طريقها إلى المنظمات اليهودية ذات النزعة القومية أو الصهيونية والتي بدأت تتشكل في تلك الفترة، وذلك في أعقاب ما شهدته أعوام 1881 - 1883 من تزايُد الاضطهاد والهجمات ضد الجماعات اليهودية نتيجة تعثُّر التحديث في روسيا (وهو ما أصاب جميع الأقليات أيضاً)، وقد آمنت هذه المنظمات ومن أهمها جمعيات أحباء صهيون بالنارود، أى الشعب العضوي الكادح، ولكنه في هذه الحالة، في تصوُّرهم، هو « الشعب اليهودي » فدعت إلى ضرورة الذهاب إلى هذا الشعب اليهودي، كما نادت بالعودة إلى الأرض (أي فلسطين) والعمل الزراعي والمشاعية.

ويُعتبَر الحزب الاشتراكي الثوري، الذي تأسَّس عام 1901، وريث الحركة الشعبوية وحزب «إرادة الشعب» الذي ساهم في تأسيسه حاييم جيتلويسكي. وقد حدثت تطورات في فكر أكسيلرود حيث وجد نفسه منجذباً نحو أفكار حركة أحباء صهيون ونحو ضرورة دعوة الشباب والمثقفين اليهود إلى " الذهاب إلى الشعب العضوي " (اليهودي) والعمل بين الجماهير اليهودية. وفي أوائل عام 1882، بدأ في تحضير منشور حمل عنوان "حول مهام الشباب اليهودي الاشتراكي" أعرب فيه عن تبدُّد أوهام الشباب الثوري اليهودي تجاه موقف الحركة الثورية الروسية بالنسبة لمشاكل الجماعة اليهودية في روسيا (وكان بعض زعماء الحركة قد أيَّدوا الهجمات ضد اليهود)، وأكد أن هذه الجماعة تشكل «أمة» وأنها تواجه كراهية قطاع واسع من الجماهير المسيحية بغض النظر عن الانتماءات الطبقية لأعضاء الجماعة. ولكنه فسَّر هذه الكراهية في ضوء الوضع الاجتماعي والاقتصادي الخاص بالجماعة اليهودية في روسيا والذي تكَّون داخل سياق تاريخي معيَّن، حيث يشتغل قطاع واسع من أعضاء الجماعة في الأعمال الوسيطة غير المنتجة التي تنطوي على قدر كبير من استغلال الجماهير الروسية. وقد رأى أكسيلرود صعوبة تحـولهم إلى قطاعات منتجـة في ظل الأوضاع التي كانت قائمةً في روسيا، كذلك رأى صعوبة اندماجهم بين الجماهير الروسية الريفية أو العمالية التي اعتبرها أكثر تخلُّفاً من الناحية الثقافية بالمقارنة باليهود. ومن ثم، شجَّع فكرة الهجرة إلى الخارج سواء إلى الولايات المتحدة حيث يمكنهم التحول إلى طبقة منتجة، أو الانصهار مع السكان المحليين، أو الهجرة إلى فلسطين التي يمكن أن تكون « بفضل الميراث التاريخي، وطن اليهود الحقيقي ودولتهم الصغيرة الخاصة بهم ». وهنا نلاحظ ميلاد الصهيونية الاشتراكية (على طريقة بوروخوف) من رحم الأفكار الشعبوية والثورية الروسية، تماماً كما وُلدت الصهيونية التنقيحية من رحم الفاشية الأوربية، والصهيونية الدبلوماسية من رحم الليبرالية الغربية، وكما وُلدت مدارس الصهيونية كلها من رحم الإمبريالية الغربية والاستعمار الاستيطاني الغربي. وواجهت آراء أكسيلرود هذه معارضة شديدة من رفاقه ومن بينهم رفاقه اليهود، وخصوصاً ليف رايتش الذي أكد أولوية العمل الثوري الاشتراكي على أية اعتبارات إثنية أو قومية أخرى، ونجح في إقناع أكسيلرود بالعدول عن موقفه، والذي حسم أمره في نهاية الأمر لصالح الاتجاه الثوري الاندماجي وتحوَّل تماماً إلى الماركسية وأصبح من المعارضين لكل من حزب البوند والصهيونية.

وفي عام 1883، شارك أكسيلرود في تأسيس حركة تحرير العمل التي تحوَّلت بعد ذلك إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي، وشارك في تحرير جريدة الحزب (إيسكرا). وبعد انشقاق الحزب عام 1903، انضم أكسيلرود إلى المناشفة وأصبح أحد زعمائهم، وعاد إلى روسيا عقب ثورة فبراير عام 1917. وبعد قيام الثورة البلشفية، اعتزل أكسيلرود العمل السياسي واستقر في برلين حيث ظل معارضاً للنظام البلشفي واتهمه بأن «ديكتاتورية البروليتاريا» التي زعم أنه أقامها ما هي إلا ديكتاتورية مفروضة على البروليتاريا. وقد أصدر عدداً من الأعمال حول الفكر الاشتراكي الديموقراطي إلى جانب مذكراته التي صدرت عام 1922 تحت عنوان حياتي وأفكاري.

  • الاحد PM 03:18
    2021-04-04
  • 1150
Powered by: GateGold