المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417529
يتصفح الموقع حاليا : 253

البحث

البحث

عرض المادة

إشــكالية الحــــل النهـــائي ومؤتمر فانــسي

إشــكالية الحــــل النهـــائي ومؤتمر فانــسي 
The Problematic of the Final Solution and the Wannsee Conference 
تزعم الأدبيات الصهيونية أنه في 20 يناير 1942 عُقد مؤتمر يُسمَّى «مؤتمر فانسي» بهدف التنسيق بين الوزارات المختلفة التي اشتركت هي والحزب النازي وقوات الإس. إس. في محاولة تنفيذ الحل النهائي، باعتباره التصفية الجسدية لليهود. ويُقال إن رينهارد هايدريش دعي إلى هذا المؤتمر بناء على خطاب من هرمان جورنج بتاريخ 31 يوليه 1941، وأشـار إلى «الحـل الكامل للمسألة اليهودية». وقد أعد أيخمان الإحصاءات والبيانات اللازمة لمناقشة الموضوع. وحضر المؤتمر كبار موظفي الدولة والحزب وناقشـوا كيفية تهجير اليهود وإرسـالهم إلى معتقلات العمل والسـخرة. 
وعبارة «الحل الكامل» هي صيغة أخرى لعبارة «الحل النهائي» (بالألمانـية: إندلوسـونج Endlosung) التي ترد في بعض الأدبيـات النازية، وتعني في الأدبيات الغربية التي تتناول الحركة النازية «المخطط الواعي الذي وضعه النازيون لحل المسألة اليهودية بشكل جذري ونهائي ومنهجي وشامل عن طريق إبادة اليهود»، أي بمعنى تصفيتهم جسدياً. والمفتـرض أن هذا المخطط تم تنفيـذه من خلال المؤسسات الحكومية النازية. (وهذا المعنى خلافي كما سنبين فيما بعد). 
ويمكن القول بأن مقولة «الحل النهائي»، مثلها مثل مقولة «نهاية التاريخ»، كامنة في بنية الأيديولوجيا النازية، وفي كثير من الأيديولوجيات الأخرى الشبيهة التي تعتمد العلم الطبيعي مصدراً أساسياً وربما وحيداً للمعرفة والقيم الأخلاقية. فهذه الأيديولوجيات تؤمن بإمكانية، أو حتى بحتمية، التقدم الدائم من خلال تراكم المعرفة حتى تتم معرفة قوانين الحركة أو قـوانين الضرورة أو القـوانين الطبيعية (التي تسري على الطبيعة والإنسان). ومن خلال هذه المعرفة الكاملة أو شبه الكاملة، يمكن ترشيد الواقع تماماً والهيمنة عليه ووضع الحلول النهائية لكل المشاكل وإعلان «نهاية التاريخ» (كما فعل فوكوياما في الولايات المتحدة في أواخر الثمانينيات). والنازية، من هذا المنظور، ما هي إلا إحدى هذه الأيديولوجيات. ومن ثم، فحتى لو لم يعلن النازيون الحل النهائي، فإن الفكرة كامنة في بنية الفكر الغربي والنازي. وعلى كلٍ، لا يمكن فهم التجارب الاستيطانية الإحلالية، سواء في الولايات المتحدة أو في أستراليا أو فلسطين، إلا في إطار فكرة الحل النهائي الذي يُطبَّق على السكان الأصليين، هنوداً كانوا أم فلسطينيين، ويمكن إنجاز الحل النهائي إما عن طريق الإبادة أو عن طريق التهجير. ووعد بلفور وثيقة سياسية تهدف إلى وضع حل نهائي للمسألة اليهودية عن طريق التهجير. والمسألة الفلسطينية أو العربية، من هذا المنظور، هي نتيجة لعدم تطبيق الحل النهائي الصهيوني أو سـببها الفشـل في تطبـيق هذا الحـل حتى الآن. وقد عبَّر عن هذا المعنى صراحةً رحبعام زئيف (رئيس حزب موليديت) الذي انضم إلى الوزارة الإسرائيلية وطالب صراحةً بتهجير العرب، فقد بيَّن بما لا يقبل الشك أن مقولة «الحل النهائي» مقولة أساسية في الفكر الصهيوني، وتنتمي إلى عائلة من الأيديولوجيات الغربية الحديثة التي تبحث عن حل جذري ونهائي ومنهجي لمشكلتها السكانية كما فعل المستوطنون الأمريكيون من قبل، وكما فعل النازيـون في ألمانيا، وكما يفعل الصـرب في البوسـنة والهرسـك، وكما يفعل المستوطنون الغربيون في كل زمان ومكان! 
ويمكننا الآن أن نثير قضية ترادف عبارة «الحل النهائي» مع عبارة «الإبادة كتصفية جسدية»، كما تزعم الأدبيات الصهيونية، وهو ترادف ينكره رجاء جارودي، وغيره من الدارسين، للأسباب التالية: 
1 ـ لوحظ عدم ورود لفظ «الإبادة كتصفية جسدية» مقروناً بعبارة «الحل النهائي» في أية مذكرة نازية. وقد بيَّن ريمون آرون وجاك فيوريت (عام 1979) - في ختام مؤتمر عُقد خصيصاً لهذه القضية وغيرها من القضايا المتعلقة بالإبادة النازية ليهود أوربا - أنه لم يتم العثور على أية مذكرة تحمل هذا المعنى رغم كل الجهود المبذولة. وقد وافقهما المؤرخ الصهيوني النزعة وولتر لاكير على رأيهما هذا (عام 1981)، ولذا أضاف أن مثل هذا الأمر لم َيصدُر قط. 
2 ـ يروج بعض الصهاينة فكرة مؤداها أنه لم يتم العثور على مثل هذه المذكرة لسبب بسيط وهو أن النازيين كانوا يستخدمون لغة مشفرة أو رمزية حتى لا يكتشف أحد أمرهم. والرد على مثل هذا الرأي ـ كما بيَّن جارودي ـ هو الإشارة إلى عدد لا حصر له من الوثائق النازية تضم أوامر صريحة بإبادة السكان الذكور في ستالينجراد (على سبيل المثال) وقتل الجنود البريطانيين الذين يتم أسرهم أثناء تأديتهم بعض العمليات الخاصة (الكوماندوز)، وقتل المسنين بالوسائل العلمية. فلماذا يُشفر النازيون الأوامر الخاصة بإبادة اليهود وحدهم؟ 
3 - حينما يذكر النازيون الإبادة فهي بديل ضمن بدائل عديدة، كما أنها تتم بعدة طرق. فقد تحدَّث هتلر عن الإبادة من خلال "التجويع والقتال غير المتكافئ"، بل تحدَّث عن "هجرة الألمان الاستيطانية" في شرق أوربا وحرب ألمانيا ضد عناصر "المقاومة الشعبية" باعتبارها شكلاً من أشكال الإبادة (وهو تعريف جيد للإبادة يخرج بها عن معناها الضيق المباشر، ويُوسِّع حقلها الدلالي بحيث تصبح الحروب الاستعمارية حروب إبادة، ويصبح الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي يلجأ إلى التجويع والقتال غير المتكافئ وتهجير اليهود وضرب المقاومة الشعبية أيضاً شكلاً يُصنَّف بكل تأكيد ضمن أشكال الإبادة). 
وبغض النظر عن رؤية هتلر للتاريخ، فإن مؤتمر فانسي قد قسَّم طريقة التخلص من العناصر غير الاجتماعية غير المرغوب فيها من خلال أربعة طرق مختلفة: التعقيم أو الإبادة بالجوع أو الإبادة بالعمل أو حتى من خلال برنامج الألمنة. 
4 ـ كان النازيون يتحركون في إطار الحل الإمبريالي للمسألة اليهودية وهو تصديرها للخارج. وقد بيَّن هتلر أنه يميِّز بين معاداة اليهود العاطفية ومعاداة اليهود المنهجية، فالأولى تنتهي بالمجازر، أما الثانية فتنتهي بتهجير (ترانسفير) اليهود. وقد حدد هتلر مشروعه بالنسبة لليهود باعتباره عملية تهجير. وفي رده على سؤال وُجه إليه في اجتماع عام بشأن حقوق اليهود الإنسانية، قال: « ليبحث اليهودي عن حقوقه الإنسانية في دولته فلسطين ». 
وفي 10 أغسطس 1941 دافع هتلر عن الحل الشامل للمسألة اليهـودية باعتـباره نقل 600 ألف من أراضي الرايخ. وكانت مجلة الإس. إس. قد استخدمت العبارة نفسها بهذا المعنى في عددها الصادر في 24 نوفمبر 1938 حين تحدثت عن الحل الشامل باعتباره « الفصل والعزل الكلي لليهود ». 
5 ـ طبق النازيون هذه الرؤية الإمبريالية (الصهيونية) على اليهود، ولذا بدأ الحل النهائي بتهجير اليهود من أصل بولندي إلى بولندا، ولكن الحدود أُوصدت دونهم. ثم طرح النازيون مشاريع صهيونية عديدة تهدف إلى توطين اليهود وتأسيس وطن قومي لهم في أي مكان خارج أوربا (أكوادور ـ سوريا ـ مدغشقر). 
وقد تعاون النازيون مع الصهاينة انطلاقاً من قبول هذا الحل الصهيوني النازي للمسألة اليهودية فتم توقيع معاهدة الهعفراة للمساعدة في تهجير اليهود إلى فلسطين. وحقق النازيون بعض النجاح في هذا المضمار إذ بلغ عدد اليهود الذين هاجروا من ألمانيا وحـدها حوالي 150 ألف (بين 1933 ـ 1938) وهي نسـبة مئوية عالية. وظل النازيون يدافعون عن فكرة تهجير اليهود، وكانوا لا يكفـون عن الشـكوى من أن سـيل الهجرة لم يكن سـريعاً بما فيه الكفـاية، ومن أن الدول الغربية توصـد أبوابها في وجه المهاجرين اليهود.
وفي السنين الأخيرة للحرب، بعد مؤتمر فانسي (يناير 1942) وبعد وقوع مساحات شاسعة من الأرض السوفيتية البولندية في أيدي النازيين، بدأت فكرة توطين اليهود فيها تراود النازيين («ترحيل اليهود إلى الشرق» في المصطلح النازي). وقد جاء في مذكرة رسمية بتاريخ 10 فبراير 1942 صادرة من وزارة الخارجية الألمانية ما يلي: « إن الحرب ضد الاتحاد السوفيتي وفرت لنا أراضي جديدة لتنفيذ الحل النهائي. وقد قرر الفوهرر أنه بدلاً من إرسال اليهود إلى مدغشقر فسيقوم بإرسالهم إلى الشرق. ولذا ليـس هناك ما يدعو إلى التفكير في مدغشـقر باعتبارها [مجال] الحل النهائي ». 
وكل هذا يعني في واقع الأمر أن الحل النهائي هو حل صهيوني إقليمي، يعني التخلص من اليهود عن طريق ترحيلهم (ترانسفير) من مكان لآخر، تماماً كما فعلت الحضارة الغربية مع اليهود حيث نقلتهم إلى فلسطين، وكما فعل الصهاينة مع الفلسطينيين بنقلهم منها. 
6 ـ كان النازيون في حاجة ماسة للأيدي العاملة، فلماذا تُضيِّع آلة الحرب النازية وقتها في إبادة الملايين بدلاً من توظيفهم في أعمال السخرة؟ ومن الواضح أن النازيين كانوا أكثر رشداً ونفعية مما يتصوره الدارسون الصهاينة. فكانوا يزيدون من عدد العمال الذين يعملون نظير دولار واحد في اليوم للاستفادة من العمالة الرخيصة. وقد أرسل هملر مذكرة إلى أحد رؤساء معسكرات الإبادة (بتاريخ 25 يناير 1942) يخبره فيها أن يستعد لاستقبال 200 ألف يهودي حيث ستسند للمعسكر مهام اقتصادية مهمة. وفي مايو 1944 أصدر هتلر أمراً باستخدام 200 ألف يهودي كعمال في أحد المشاريع الإنسانية. وقد أصدرت قيادة الإس. إس S. S. أمراً بمنح مكافأة لكل السجناء (ومنهم اليهود) الذين أبلوا بلاءً حسناً في العمل. كما وفرت المؤسسات النازية لهؤلاء العاملين كل الأنشطة الترفيهية، وضمنها بيت دعارة، لزيادة الإنتاجية. 
7 ـ حينما يرد لفظ «الإبادة» في نصوص نازية فإنه لم يكن يعني دائماً «التصفية الجسدية»، ففي 26 مارس 1941 في حفل افتتاح معهد فرانكفورت لدراسة المسألة اليهودية أشار أحد المتحدثين إلى الإبادة (بالألمانية: فولكشتود Volkstod) باعتبارها الحل الشامل للمسألة اليهودية وعُرِّف هذا الحل بأنه « أن يترك اليهود أوربا ». وقد أفاض المتحدث وقال إنه يمكن أن يترك اليهود أوربا عن طريق وضعهم في معسكرات عمل في بولندا (حيث يتم إفقارهم) أو في مستعمرة. ولعل تجربتي جيتو وارسو وتيرس آينشتات (وغيرهما من التجارب) قد تمتا في هذا الإطار. 
8 ـ لوحظ أثناء محاكمات نورمبرج أن المدّعين الذين مثلّوا الحلفاء كانوا يحاولون قصارى جهدهم أن يلووا عنق بعض الكلمات الألمانية ليترجموها بكلمة «إبادة». فكلمة «أوسروتونج Ausrottung» على سبيل المثال، والتي تعني «استئصال شأفة» شيء ما بأية طريقة فعلية أو مجازية تُرجمت إلى «إبادة» بمعنى «تصفية جسدية متعمدة»، مع أن النازيين اسـتخدموا في إحـدى وثائقهم عبارة «استئصال شأفة المسيحية»، ولم يُفسِّر أحد هذه العبارة باعتبارها مخططاً نازياً لإبادة المسيحيين. 
9 ـ ما تهملـه كثير من الدراسـات الغربية هو ما يمكن تسـميته «الاختفاء»، أي اختفاء أعداد كبيرة من اليهود من خلال عوامل طبيعية مثل الزواج المختلط والموت بسبب الغازات والأوبئة أثناء الحرب. 
لكل هذا فعبارة «الحل النهائي» تعني ما تقول دون زيادة أو نقصان، ومن ثم فهي لا تعني بالضرورة «تصفية جسدية متعمدة»، وقد تعني «تصفية من خلال التهجير وأعمال السخرة».

  • الخميس PM 02:37
    2016-03-24
  • 2597
Powered by: GateGold