المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417534
يتصفح الموقع حاليا : 245

البحث

البحث

عرض المادة

احتــــــــكار الإبـــــــــادة

احتــــــــكار الإبـــــــــادة
Monopolizing the Holocaust
يحاول الصهاينة احتكار دور الضحية لليهود وحدهم دون غيرهم من الجماعات أو الأقليات أو الشعوب، بحيث تُصوَّر الإبادة النازية باعتبارها جريمة موجهة ضد اليهود وحدهم. ولهذا يرفض الصهاينة والمدافعون عن الموقف الصهيوني أية محاولة لرؤية الإبادة النازية باعتبارها تعبيراً عن نمط تاريخي عام يتجاوز الحالة النازية والحالة اليهودية. كما يرفض الصهاينة تماماً محاولة مقارنة ما حدث لليهود على يد النازيين بما حدث للغجر أو البولنديين على سبيل المثال، أو بما حدث لسكان أمريكا الأصليين على يد الإنسان الأبيض أو ما يحدث للفلسطينيين على أيديهم.


وتثبت الدراسات التاريخية أن الإبادة النازية لم تكن موجهة ضد اليهود وحسب، فعدد ضحايا الحرب العـالمية الثانية من جميع الشعوب الأوربية يبلغ ما بين خمسة وثلاثين وخمسين مليوناً. وأظهر معرض لحكومة بولندا كان يطوف أمريكا عام 1986 أن أكبر معسكرات الاعتقال هو أوشفيتس وأن التركيز النازي كان أساساً على البولنديين والاشتراكيين واليهود والغجر (بهذا الترتيب) لتفريغ بولندا جزئياً وتوطين الألمان فيها.

وتوحي الأدبيات الصهيونية بأن العالم كله تجاهل اليهود وتركهم يلاقون حتفهم ومصيرهم وحدهم. ولكن من الواضح أن المسألة أكثر تركيباً من ذلك بكثير. فصحيح أن بعض الشعوب ساعدت النازيين، كما حدث في النمسا، ولكن البعض الآخر ساعد اليهود وآواهم كما حدث في بلغاريا (خصوصاً بين أعضاء الجماعة الإسلامية) وفي الدنمارك وفنلندا ورومانيا وإيطاليا وهولندا. وفي فرنسا، تم تسليم خمسة وسبعين ألف يهودي للقوات النازية، ولكن تمت، في الوقت نفسه،حماية أضعاف هذا العدد. كما رفض السلطان محمد الخامس تطبيق القوانين النازية على يهود المغرب رغم مطالبة حكومة فيشي الفرنسية بذلك.ولا يمكن أيضاً تجاهل جهود الحكومة السوفيتية في نقل مئات الآلاف من اليهود بعيداً عن المناطق التي احتلها النازيون (رغم تحالفها في بداية الأمر مع هتلر). وتتجاهل التواريخ الصهيونية كل هذا، تماماً مثلما تتجاهل العلاقة الفكرية والفعلية بين النازية والصهيونية والزعامات الصهيونية التي تعاونت مع النازيين.

ولكن هناك من يتحدى هذا الاحتكار الصهيوني للإبادة، وقد بدأت الكنيسة الكاثوليكية المواجهة حين قامت بتنصيب الأخت تريزا بنديكتا قديسةً. والأخت تريزا هي إيديث شتاين سكرتيرة الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، وكانت يهودية. وعندما قرأت قصة حياة القديسة تريزا شعرت بإحساس ديني غامر وتنصرت وتكثلكت ثم ترهبنت، وقام النازيون باعتقالها وقتلها. ويُصر الصهاينة على أن سبب قتلها هو كونها يهودية بينما ترى الكنيسة أنها راهبة كاثوليكية استُشهدت من أجل عقيدتها. والحادثة الثانية هي الخاصة بدير الراهبات الكرمليات في أوشفيتس، الذي طالب اليهود بإزالته وتمسكت المؤسسة الكاثوليكية في بولندا بالإبقاء عليه. وقد قامت معركة إعلامية ساخنة بين الطرفين. وكتب باتريك بيوكانان (الصحفي والمرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1996) ما نتصور أنه خير احتجاج على هذا الموقف في مقال بعنوان «الكاثوليك ليـسوا بحاجة إلى محاضرات في الأخلاق من سـفاح عصابة شـتيرن السـابق» جـاء فيه:

"وفي متحف المذبحة النازية، هناك ثلاثة ملايين يهودي بولندي سيظلون في الذاكرة، ولكن ماذا عن ثلاثة ملايين تقريباً من الأوكرانيين والصرب والليتوانيين والمجريين واللاتفيين والإستونيين، نُحروا في ساحات القتل على أيدي الوثنيين العنصريين في برلين وعلى أيدي الملحدين المتعاونين معهم في موسكو؟ وما الذي يتطلبه الأمر حتى يكون المرء ضحية من الدرجة الأولى؟

فــإذا كـانت ذكــرى الضبـاط اليهــود الذيـن ماتــوا إلى جـانب إخــوانهم الكاثوليك في كاتين قد خُلدت بنجمة داود، فلمـاذا لا يتم تخليد ذكرى المليون كاثوليكي الذين أفنُوا في أوشفيتس بصليب؟ وإذا كان التذكار حيوياً، فلماذا يُستثنى المسيحيون؟".

ونحن، بطبيعة الحال، نرى أن الإبادة لم تكن موجهة ضد اليهود وحسب، وإنما ضد سائر العناصر التي اعتُبرت، من منظور النازية، غير نافعة، خصوصاً وأنه لو انتصرت قوات روميل في العلمين لامتدت آلة الفتك النازية إلى أعراق يعتبرها النازيون متدنية (مثل العرب). ومن ثم، فإن احتكار الصهاينة واقعة الإبادة ليس له ما يبرره في الواقع التاريخي.

إنــــكار الإبـــــادة والخطـــــاب الحضـــــاري الغـــربي
Denial of the Holocaust and Western Cultural Discourse
«إنكار الإبادة» مصطلح يتواتر الآن في الصحف الغربية وفي بعض الأدبيات الخاصة بالإبادة النازية لليهود، وهو يشير إلى أي كتاب أو مؤلف تجرَّأ صاحبه وكتب دراسة (علميــة أو غــير علمية) تطعن فيما ذهب إليه الكثـيرون مـن أن عـدد ضحايا النازية من اليهود سـتة ملايين، أو تثير الشكوك بخصوص أفران الغاز وغاز زيكلون بي. وقد صدرت في السنوات الأخيرة عدة كتب ودراسات تدور حول هذا المحور:


1 ـ كتب بول راسينيه Paul Rassinier في الخمسينيات دراسة ضخمة بعنوان أسطورة غرف الغاز. وكان المؤلف قد رُحِّل إلى أحد معسكرات الاعتقال. وفند في كتابه وجود مثل هذه الغرف أساساً وبيَّن أنها أكذوبة تاريخية وأورد إحصاءات ديموجرافية (رسمية) عن عدد اليهود في كل أوربا قبل الحرب وبعدها، وعقب صدور الكتاب حُوكم راسينيه وناشره وعُوقب بالسجن (مع إيقاف التنفيذ) كما فُرضت عليه غرامة مالية فادحة.

2 ـ من أهم الكتب التي صدرت في هذا المجال كتاب البروفسور آرثر باتس Arthur Butz الأستاذ بجامعة نورث ويسترن أكذوبة القرن العشرين الذي يثير الشكوك حول عملية الإبادة نفسها. ولا يزال البروفسير باتس يُدرِّس في الجامعة في الولايات المتحدة.

3 ـ أصدر روبير فوريسون R. Faurisson (أستاذ الأدب في جامعة ليون) سلسلة مقالات ثم مؤلفاً كبيراً كتب مقدمتـه اللغـوي الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي يثبت أنه لم تكن هناك أصلاً أفران غاز.

4 ـ تقدَّم هنري روكيه Henri Roquesبرسالة للدكتوراه إلى جامعة نانت يُشـكك فيهـا في وجـود غُرف الإعـدام بالغاز «زيكلون بي». وقد أجازت الجامعة الرسالة ومنحته الدرجة العلمية بامتياز. ولكن الحكومة الفرنسية ألغت قرار اللجنة وسحبت منه الدرجة. ويُعَدُّ هذا التدخل سـابقة ليـس لها مثيل في تاريخ الجامعات الفرنسية الذي يمتد ألف عام.

5 ـ أصدر ستاجليش Staglish، أحد قضاة مدينة هامبورج، كتاباً بعنوان أسطورة أوشفيتس. والكتاب هو رسالة للدكتوراه كان القاضي قد قدمها إلى جامعة جوتينجن، وتوصَّل فيها إلى أن كثيراً من النصوص وشهادات الشهود بخصوص معسكر أوشفيتس أو عما كان يجري فيه غير صحيح بالمرة ومليئة بالتناقضات. وقد أُجيزت الدكتوراه بالفعل. وما إن صدر الكتاب حتى قررت الجامعة سحب الدكتوراه من الرجل. كما أصدرت السلطات القضائية قراراً بخصم 10% من راتبه.

6 ـ يتعرض المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفينج David Irving للمطاردة منذ نهاية الثمانينيات لأنه ينكر الإبادة رغم أن مجلة ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس The New York Review of Books وصفته بأنه "يعرف عن الاشتراكية الوطنية (أي النازية) أكثر من أي عالم آخر متخصص في هذا الحقل، وأشارت إلى كتابه عن حرب هتلر بأنه أحسن دراسة عن الجانب الألماني في الحرب". ورغم كل هذا طُرد من كندا وبعد ذلك من أستراليا، ومُنع من إلقاء محاضراته فيهما. وأصدرت إحدى المحاكم الألمانية حكماً بتغريمه عشرة آلاف مارك لمجرد أنه نفى أن اليهود كانوا يموتون في غرف الغاز في معسكر أوشفيتس.

وقد وصل هذا الاتجاه إلى ذروته (أو هوته) مع صدور قانون فابيوس (رقم 43) في مايو 1990 المسمى «قانون جيسو» (وهو اسم النائب الشيوعي الذي َتبنَّى هذا القانون). ويُحرِّم هذا القانون أي تشكيك في الجرائم المقترفة ضد الإنسانية بإضافة المادة 24 مكرر إلى قانون حرية الصحافة عام 1881، جاء فيها: "يُعاقب بإحدى العقوبات المنصوص عليها في الفقرة السادسة من المادة 24، كل من ينكر وجود أي من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية كما وردت في المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة العسكرية الدولية الملحق باتفاق لندن الموقع في 8 أغسطس 1945".

وقد يظن المرء لأول وهلة أن كل القضايا المرتبطة بالإبادة النازية مثل: هل هي حقيقة أم مجرد اختلاق؟ وعدد الضحايا اليهود، وهل يبلغ عددهم ستة ملايين بالفعل أم أنه أقل من ذلك بكثير؟ هي قضايا تم حسمها تماماً في الأوساط العلمية. وقد يظن المرء كذلك أن الدراسات السابقة هي دراسات عنصرية تآمرية كتبها مهيجون يحاولون إثبات أن اليهود وراء كل الشرور والجرائم. ولكن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، فهي دراسات علمية، ذات مقدرة تفسيرية معقولة تتناول قضايا خلافية. وهي دراسات تطرح وجهة نظر قد تكون متطرفة أو خاطئة (والوصول إلى قـدر من الحقيقة في مثل هـذه الأمـور الخلافية أمر جد عسير)، إلا أنها تدلل على وجهة نظرها من خلال الأرقام والحقائق والمعلومات. ومما لا شك فيه أن هناك المئات من الكتب الأخرى التي كتبها بعض المؤلفين العنصريين، ومثل هذه الكتب لا تستحق القراءة لأنها كتابات عصبية متشنجة لا تبرهن على وجهة نظرها بطريقة علمية تفسيرية هادئة.

ولكن الإعلام الغربي والصهيوني يُهاجم هذه الكتب بشدة، العلمي منها وغير العلمي، ويشجبها بعصبية واضحة، ويهيج ضدها بطريقة غوغائية، ويوجه الاتهام لكل من تسول له نفسه أن يُنكر الإبادة أو يثير الشكوك حـول موضوع الملايين الستة حتى لو كان من العلماء المتخصصين، مع العلم بأن هناك دراسات كتبها علماء إسرائيليون يُعبِّرون فيها عن شكوكهم بخصوص رقم ستة ملايين. ولعله كان من الأجدى أن يميِّز الإعلام الغربي بين الدراسات العلمية والدراسات غير العلمية، وأن يُخضع الدراسـات العلمية للنقد العلمي الهادئ، وأن يُطالب بفتح كل الملفات السرية والأرشيفات الغربية والشرقية لنتبيَّن مدى صحة هذه الأطروحات. وقد أصبح هذا متيـسراً بعد سـقوط الاتحاد السـوفيتي إذ أصبحـت وثائقه متاحة للدراسـة. ولعل حالة ديمانجوك الذي اتُهم بأنه « إيفان الرهيب »، الذي اشترك في إبادة اليهود وغيرهم في معسكر تربلينكا، تكون مثلاً على الخطوات المطلوب اتخاذها. فقد كانت كل الدلائل التي جمعها الأمريكيون والإسرائيليون تبيِّن أن ديمانجوك هـو إيـفان الرهيب، وأصدرت المحاكم الإسرائيلية حكماً ضده بالفعل. ولكن، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ظهرت وثائق تبيِّن بما لا يقبل الشك أن هناك شخصاً آخر هو الذي قام بعمليات الإبادة فأُفرج عن ديمانجوك.

ومن الصعب فهم تلك الاستجابة الهستيرية لدى الإعلام الغربي والصهيوني إزاء عمليات إثارة الشكوك حول الإبادة وعدد الستة ملايين، ومع هذا فلنحاول تناول هذه الظاهرة غير العقلانية. ونحن نذهب إلى أن الخطاب الحضاري الغربي له حدوده التي يفرضها على عملية الإدراك. فقد قام الغرب بتحديد معنى الإبادة النازية لليهود ومستواها التعميمي والتخصيصي، فقام باختزالها وفرض منطق غربي ضيق عليها من خلال التلاعب بالمستويات التعميمية والتخصيصية، ومن خلال نزعها من سياقها الغربي، الحضاري والسياسي الحديث.

1 ـ بالنسبة للمسئول عن الجريمة: تُخضَع الإبادة النازية لعمليتين متناقضتين:

أ ) يتم تضييق نطاق المسئولية إلى أقصى حد بحيث تصبح الإبادة النازية جريمة ارتكبها الألمان وحدهم ضد اليهود.
ب) يتم توسيع نطاق المسئولية إلى أقصى حد بحيث تختفي كل الحدود وتصبح الإبادة النازية ليهود أوربا جريمة كل الأغيار بشكل مطلق، أو جريمة كلٍّ من الألمان والأغيار، أو الألمان باعتبارهم أغياراً، أو الألمان بموافقة وممالأة الأغيار.

2 ـ بالنسبة للضحية: تُخضَع الإبادة كذلك لعمليتين متناقضتين:

أ ) يتم تضييق نطاق الجريمة إلى أقصى حد بحيث تصبح جريمة موجهة ضد اليهود وحدهم، لا ضد الملايين من اليهود وغير اليهود (من الغجر والسلاف وغيرهم).
ب) يتم تعميم الجريمة إلى أقصى حد بحيث تصبح جريمة موجهة ضد اليهود، كل اليهود، لا يهود العالم الغربي وحسب.

وبعد أن تم تعريف الإبادة بهذه الطريقة، وبعد أن تم التلاعب بالمسـتويات التعميمـية والتخصيصـية وضبطها بما يتفق مع مصلحة الغرب، قام الغرب بأيقنة الإبادة، أي جعلها مثل الأيقونة تشير إلى ذاتها حتى لا يمكن التساؤل بشأنها، فهي مصدر المعنى النهائي. وكما قال دان داينر إن أوشفيتس هي أرض لا يمتلكها أحد، هي فراغ يبتلع كل التفسيرات التاريخية (فهو يشبه الثقوب السوداء التي تتحطم فيها قوانين الضوء والزمان). فأوشفتس هو "المعيار المطلق الذي يُحكَم من خلاله على التاريخ، ولا يمكن أن يصبح هو نفسه جزءاً من التاريخ"، وهو كلام لا معنى له بطبيعة الحال، فأوشفيتس حدث تاريخي، وقع في الزمان، ولا يصلح أن يكون معياراً أخلاقياً أو تاريخياً يُحكم به على كل الأمور الإنسانية في كل زمان ومكان (ألا يشكل هذا قمة التمركز الأوربي حول الذات [بالإنجليزية: إيورو سنترستي Euro-Centricity]). ولكن مثل هذا الكلام الأجوف له معنى داخل الخطاب الحضاري الغربي بسبب عملية الأيقنة التي أشرنا لها (وتجدر ملاحظة أن الأيقنة ليست مقصورة على المفكرين اليهود وإنما تشمل أعداداً كبيرة من غير اليهود). فالإبادة بهذا المعنى أصبحت من المسلمات، التي تُشكِّل فَهْم الإنسان الغربي المسبق، شأنها في هذا شأن مقولة " عبء الرجل الأبيض " في القرن التاسع عشر، وشأن إحساس الغرب بمركزيته في القرن العشرين أو الإيمان بالتقدم المادي وتحقيق الذات باعتبارهما الغاية النهائية لوجود الإنسان في الأرض. والمسلمات هي الركيزة الأساسية للنموذج، فهي التي تحدد حلاله وحرامه، وما هو مقدَّس وما هو مدنَّس. ومن ثم أصبح التساؤل بشأن الإبادة هو تساؤل بشأن إحدى المسلمات (المقدسات أو المطلقات، إن شئت) وهو ما لا يمكن لأية حضارة، مهما بلغت من سـعة صـدر وليبرالية وتعـددية قبوله.

وقد يُقال إنهم في الغرب ينتجون أفلاماً تُعرِّض بالسيد المسيح عليه السلام مثل فيلم سكورسيزيScorsese "الإغواء الأخير للمسيح"، وأعمالاً فنية مثل لوحة الفنان أندريه سيرانو Andre Serrano الشهيرة بعنوان "فلتتبول على المسيح" (Piss Christ) حيث وَضَع الفنان صورة المسـيح على الصـليب في البول، وعرضـها في معرض قامت الدولة بتمويله، إن كانوا يفعلون ذلك فلم لا يقبلون بفتح ملفات الإبادة؟ والرد على هذا هو أن السيد المسيح لم يعد ضمن المقدسات، أما الإبادة فقد أصبحت كذلك. وقل الشيء نفسه عن الشذوذ الجنسي، فحتى الستينيات كان الخطاب الغربي يرى أن ثمة معيارية مـا وثمـة انحراف عنـها، ولهـذا كان هناك مفهوم للشذوذ والانحراف، ولكن مع غياب المعيارية تآكل بالتالي مفهوم الشذوذ تماماً، وبالتدريج أصبح الشذوذ شكلاً من أشكال تأكيد الحرية الفردية المطلقة (التي تتجاوز أية معيارية اجتماعية)، وتعبيراً عن حق الفرد في اختيار الهوية الجنسية التي تعجبه والتي يمكنه من خلالها تحقيق ذاته على أفضل وجه ممكن. وبذلك تحوَّل الشذوذ الجنسي من كونه انحرافاً إلى علامة من علامات التفرد وتعبيراً نماذجياً متبلوراً عن المنظومة الحضارية والأخلاقية السائدة في المجتمع في تمركزها حول الذات والمتعة (وفي عدم اكتراثها بالقيم الدينية والاجتماعية أو بأية ثوابت إنسانية). وأصبح تقبل الشذوذ الجنسي علامة من علامات التحضر وسعة الأفق والتعددية، وأصبح رفضها دليلاً قاطعاً على تزمت الشخص وتطرفه بل "أصوليته".

لكل هذا أصبح من الممكن، داخل الخطاب الحضاري الغربي، ربط الشذوذ بالمقدسات العلمانية (المادية) الجديدة. وهذا بالضبط ما يفعله الروائي الأمريكي اليهودي ليف روفائيل، فهو يربط بين الشذوذ الجنسي والهولوكوست، فبطل إحدى رواياته يهودي يخاف من تأكيد الأبعاد الثلاثة لهويته: هويته اليهودية، وهويته كشاذ جنسي، وهويته كأحد ضحايا الهولوكوست. فيقوم صديقه الذي يعيش معه بتشجيعه على تجاوز مخاوفه. ومنذ عدة سنوات أُقيم مؤتمر للشواذ والسحاقيات في إسرائيل، وأقام أعضاء المؤتمر صلاة القاديش في نصب ياد فاشيم من أجل الشواذ جنسياً والسحاقيات ممن سقطوا ضحايا للاضطهاد النازي. ولا شك في أن ربط الشذوذ الجنسي بالهوية اليهودية بالهولوكوست تصدمنا، ولكن علينا أن ندرك ما هـو مقـدَّس وما هو مدنـَّس في خطاب الآخر قبل أن نشعر بالصدمة، والهولوكوسـت أيقونة مقدَّسـة والشـذوذ أمر عـادي، بل أمر محبب، ومن يدري لعله أصبح أمراً له « قداسته » الخاصة، ونحن لا نعرف بعد، إذ أننا لا نتابع ما يجري هناك بكفاءة عالية؟

ولنا الآن أن نطرح السؤال التالي: لم تم تحويل الإبادة إلى أيقونة مقدَّسة، ومسلمة نهائية؟ والإجابة على هذا السؤال تتطلب منا الانتقال من عالم القرائن والوثائق والاستشهادات إلى عالم محفوف بالمخاطر وهو عالم الخطاب الحضاري والنماذج الحضارية. ولذا سنحاول أن نقدح زناد الفكر وأن نـقنع بإجابات ذات مقدرة تفـسيرية معقولة وليـست ذات طابع يقيني عال. وسوف نعمد بدايةً إلى استبعاد الصيغة العربية الجاهزة للإجابة على كل الأسئلة، أي «اللوبي الصهيوني» أو «المؤامرة اليهودية» أو «النفوذ اليهودي» وغير ذلك من مقولات ما أنزل الله بها من سلطان لأنها تُفسِّر كل شيء ببساطة بالغة، وما يُفسِّر كل شيء بهذه البساطة لا يُفسِّر شيئاً على الإطلاق!

ونحن نذهب إلى أن ثمة خطاباً غربياً واحداً فيما يتصل بالإبادة، يتفرع عنه الخطاب الصهيوني، وهو خطاب لا يختلف عن الخطاب الغـربي العـام إلا في التفاصـيل، فهما يكـادان يكونان وجهين لعملة واحدة، وعلاقة الواحد بالآخر هي علاقة الكل بالجزء والأصل بالفرع. وتتلخص خصوصية الخطاب الصهيوني في تعميق الجوانب اليهودية وفي إضافة ديباجات يهودية (دينية وإثنية) كثيفة. فالخطاب الصهيوني ينزع، هو الآخر، حادثة الإبادة من سياقها الحضاري والتاريخي الغربي، ويتلاعب بالمستوى التعميمي والتخصيصي، فيُحوِّل واقعة الإبادة من جريمة ارتكبتها الحضارة الغربية ضد مجموعات بشرية داخلها إلى جريمة ألمانية أو جريمة الأغيار ضد اليهود. ولكن الخطاب الصهيوني (انطلاقاً من مفهوم الشعب المختار والحلولية اليهودية التي تسبغ القداسة على اليهود) يُعمِّق عملية التخصيص فتتحوَّل الإبادة من قضية اجتماعية تاريخية إنسانية إلى إشكالية غير إنسانية تستعصي على الفهم الإنساني، وإلى سر من الأسرار يتحـدى العقل، وإلى نقطـة نهائية ميتافيزيقية تتجاوز الزمان والمكان والتاريخ. والاختلاف هنا هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع، إذ تظل هناك وحدة أساسية، ولذا لا يجوز في الخطاب السياسي الغربي والصهيوني تشبيه إبادة أية أقلية بإبادة اليهود.


ويمكننـا الآن أن ندرج بعـض الأبعـاد التـي أدَّت إلى أيقـنة الإبادة:

1 ـ يعيش الغرب في إطار أن الإبادة جريمة ألمانية نازية وحسب ضد اليهود وحدهم، وليست حلقة في سلسلة الجرائم الإبادية التي ارتكبتها الحضارة الغربية ضد شعوب العالم، والتي تنبع من رؤيتها النفعية المادية الإمبريالية المتجردة من القيمة. وقد استقر هذا المفهوم وأصبح إطاراً مرجعياً ينظر الإنسان الغربي إلى نفسـه وإلى تاريخه من خلاله. وعملية الأيقنة تفصل هذه الجريمة عن نمط حضاري عام متكرر ولا تُذكِّر هذه الحضارة بماضيها الإبادي، كما تعفيها من مسئولية الجريمة النازية ذاتها.

ورغم أن الإبادة هي إحدى ثمرات النازية والعلم المنفصل عن القيمة، فإن عملية أيقنة الإبادة تصاحبها عملية أخرى، وهي عملية تهميش النازية ومنظومتها القيمية رؤيتها للكون، بحيث تصبح النازية وجرائمها مجرد انحراف عن الحضارة الغربية. والتخلي عن هذا الإطار (الذي يُأيقن الإبادة ويُهمِّش النازية) سيكشف فضيحة الحضارة الغربية ومسئوليتها عن هذه الجريمة البشعة المنظمة وعن غيرها من الجرائم التي هي جزء من نمط عام متكرر.

وفي هذه الإطار يمكن فهم الحرج الزائد الذي يسببه اكتشاف تورط كثير من الشخصيات الفكرية الأساسية في الحضارة الغربية (مثل هايدجر) مع النازيين، ومحاولة إخفاء هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق (مثل تلكؤ أيزنهاور في ضرب القطارات التي كانت تقل اليهود إلى معسكرات الاعتقال والسخرة، ورفض الدول الغربية فتح أبوابها للمهاجرين). فإبراز تورط هايدجر وغيره قد يشير إلى تورط الحضارة بأسرها وقد يقوض المعنى الغربي المفروض على الإبادة.

2 ـ لا يمكن إنكار الدور الذي يلعبه شعور الغربيين بالذنب تجاه ما حدث لليهود على يد النازيين. ولكن الإحساس بالذنب هنا يوجه نحو الأيقونة (الفريدة التي تشير إلى ذاتها) ومن ثم يتحول من إحساس خُلقي عميق ورغبة في إقامة العدل إلى حالة شعورية تدغدغ الأعصاب بل إلى مصدر راحة، إذ يمكن للإنسان الغربي أن يهنئ نفسـه بأنــه لا يزال يمـارس مثل هـذه المشـاعر النبيلة. وبدلاً من أن يحفز الشعور بالذنب الإنسانَ الغربي إلى التصدي لما يجري في العـالم من عمليات إبــادة (تقــوم بهـا حكــوماته أو تقف موقف « الحياد » تجاههــا) فــإنه يتــجه نحو تأكيد تفرد الهولوكوست والمبالغة في أهـوالها، وبالتالي يتحول الحس الخُلقي إلى حس جمالي أو حالة شعورية لا تُترجم نفـسها أبداً إلى فعل فاضـل؛ إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وأيقنة الإبادة بذلك تغطي على ما يجري من مذابح سواء في فيتنام أو البوسنة والهرسك أو الشيشان أو لبنان.

3 ـ لكن الفضيحة الأســاسية التـي تغطيــها عملـية أيقنة الإبادة النازية هي الجريمة التي ارتكبتها الحضارة الغربية في حق الشعب الفلسطيني الذي طُرد من أرضه بموجب وعد بلفور وقرار هيئة الأمم المتحدة وبدعم كل الدول الغربية. فإذا كانت الجريمة هي حقاً جريمة الألمان على وجه الخصوص أو الأغيار على وجه العموم، وضد اليهود على وجه العموم وضـد اليهود وحـدهم كما يدَّعي الخطاب الحضاري الغربي، فلابد إذن من حلها على مستوى عالمي وألماني، ولابد من تعويض الضحـايا اليهود وحسـب وإهمال الضحايا الآخرين. ومن ثم، يصبح من المنطقي أخذ (لا اغتصاب) فلسطين من "الأغيار" وردها «لليهود» بسبب الجرم الذي حاق بهم على يد هؤلاء الأغيار. كما يمكن أخذ التعويضات من الألمان وتمويل المستوطن الصهيوني باعتباره المأوى الذي "عاد" إليه ضحايا الإبادة. وإذا كانـت الإبــادة هــي حقاً جريمة موجهة ضد اليهود وحسب، فإن المتحدثين اليهود هم وحدهم أصحاب الحق في فرض المعنى الذي يريدونه على الواقعة، وهم وحدهم أصحاب الحق في التعويض.

4 ـ ترتكز المنظومة الغربية التحديثية بأسرها إلى العلم المنفصل عن القيمة وعن الغائية الإنسانية. ورغم الإدراك المتزايد لوحشية هذا الافتراض، فإنه لا يزال هو المقولة المعرفية الحاكمة. وفتح باب الاجتهاد بخصوص الإبادة يعني في واقع الأمر فتح باب الاجتهاد بخصوص الأساس الفلسفي الذي تستند إليه الحداثة الغربية بأسرها.

5 ـ ويمكننا الآن أن نثير قضية ليست ذات علاقة مباشرة بالإبادة، إلا أنها قد تلقي الضوء على عملية أيقنتها. فالمجتمعات الغربية مجتمعات تسـيطر عليها العلمانية الشـاملة، وتسـود فيها النسبية المعرفية والأخلاقية، ولذا فهي تعيش بلا مقدَّسات أو ميتافيزيقا، وهو أمر مستحيل بالنسبة لمعظم البشر. إذ يبدو أن حياة الإنسان لابد أن يكون فيها شيء مقدَّس ما، فإن لم يكن الإله فيمكن أن يكون أي شيء، وكل شيء. وما حدث بالنسبة للإنسان الغربي أنه فقد إيمانه بمقدَّساته الدينية التقليدية، فأخذ يبحث عن مقدَّسات مادية حديثة يمكنه أن يدركها بحواسه الخمس (المصدر الوحيد للمعرفة بالنسبة له) وبوسعه أن يُقسِّم العالم من خلالها إلى مقدَّس ومدنَّس، وإلى محرَّم ومباح. إن الإنسان الغربي دائب البحث عن ميتافيزيقا علمانية مادية، تريحه نفسياً ولا تُحمِّله أية أعباء أخلاقية (مثل الإيمان بالأطباق الطائرة أو علاقة الأبراج بمصير الإنسان وسلوكه). ويبدو أنه وجد ضالته في الإبادة النازية لليهـود التي تولِّد فيه إحـساسـاً لذيذاً بالـذنب، لا يكلفه أي جهد أخلاقي. وقد تحولت الإبادة إلى أيقونة تجسِّد ميتافيزيقا كاملة من خلال علمنة المفاهيم الدينية المسيحية، إذ أصبح اليهود (في لاهوت موت الإله وفي الخطاب الحضاري الغربي ككل) هم المسيح المصلوب وأصبح ظهور الدولة اليهودية هو قيامه. والصلب والقيام هنا أمران ماديان يتمان داخل الزمان والتاريخ. فكأن الإبادة النازية لليهود هي الأيقونة العلمانية الشاملة المقدَّسة في الوجدان الغربي، فهي مفهوم قبلي بُنيت عليها مجموعة من المفاهيم الأخرى، فإن سقطت الأيقونة سقط كل ما بُني عليها وأصبح من الضروري مراجعة كل شيء، وهو أمر صعب للغاية على البشر.

وهذا لا يعني بطبيعة الحال إنكار أهمية البُعد الصهيوني للاستجابة الغربية الهستيرية.

1 ـ لا يمكن إنكار وجود قدر كبير من الضغط الذي تمارسه المؤسسات اليهودية والصهيونية للإبقاء على الوضع المعرفي والمعلوماتي القائم، الذي يُحقق لها فوائد جمّة. كما أن هناك الآلاف من أعضاء الجماعات اليهودية ممن تقاضوا التعويضات الألمانية عما لحق بهم من أذى وممن لا يزالون يطالبون بها، وهؤلاء أيضاً أصبحوا جزءاً من "جمـاعة مصـالح" تحـوَّلت إلى جماعة ضـغط. وليـس من صـالح هؤلاء كشـف حقيقة ما حدث.

2 ـ أصبح الخطاب الصهيوني يستند بشكل شبه كامل إلى الإبادة النازية، وأصبحت الشرعية الصهيونية ذاتها تستند إلى حادث الإبادة. والشرعية عادةً لا تستند إلا إلى مطلقات، لا يمكن إخضاعها للتساؤل.

ويميل كاتب هذه الموسوعة إلى القول بأن معسكرات الاعتقال والسخرة والإبادة حقيقة مادية لا شك فيها، وأن أفران الغاز هي الأخرى حقيقة (ومن ثم لا يمكن إنكار الإبادة باعتبارها تصفية جسدية متعمدة). ولكن حجم هذه الأفران ومدى كفاءتها وعدد ضحاياها ودلالة هذه الحقائق المادية وتفسيرها تظل كلها موضوعات قابلة للاجتهاد والفحص العلمي والوثائقي بل تتطلبها، فهي موضوعات خلافية. وهنـاك فيما يبـدو مصلحة للبعض في أن يُضـخمهـا أو يُقلل من أهميتها. فإذا كان الحياد الكامل مستحيلاً في مثل هذه الأمور (كما في غيرها)، فلابد، على الأقل، أن ننفصل إلى حدٍّ ما عن الظاهرة موضع الدراسة ونُعيد قراءة الوثائق المتاحة ونطالب بإتاحة كل الوثائق السرية، وخصوصاً أن الموضوع أصبح موضوعاً تاريخياً مر عليه أكثر من خمسين عاماً.

  • الخميس PM 02:33
    2016-03-24
  • 2627
Powered by: GateGold