المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417499
يتصفح الموقع حاليا : 228

البحث

البحث

عرض المادة

تحـــول الإمكانيــة الإباديـــة إلــى حقيقـة تاريخية

تحـــول الإمكانيــة الإباديـــة إلــى حقيقـة تاريخية 
Historical Realization of the Genocidal Potential 
هذه القابلية أو الإمكانية الكامنة للإبادة، ولتفكيك الإنسان لعناصره المادية الأساسية لاستخدامها على أكمل وجه، تحققت أول ما تحققت بشكل جزئي وتدريجي في التجربة الاستعمارية الغربية بشقيها الاستيطاني والإمبريالي. فقد خرجت جيوش الدول الغربية الإمبريالية تحمل أسلحة الدمار والفتك والإبادة، وحَوَّل الإنسان الغربي نفسه إلى سوبرمان له حقوق مطلقة تتجاوز الخير والشر، ومن أهمها حق الاستيلاء على العالم وتحويله إلى مجال حيوي لحركته ونشاطه وتحويل العالم بأسره إلى مادة خام، طبيعية أو بشرية. فاعتُبرت شعوب آسيا وأفريقيا (الصفراء والسوداء المتخلفة) مجرد سبمن، مادة بشرية تُوظَّف في خدمته، كما اعتُبر العالم مجرد مادة طبيعية تُوظَّف في خدمة دول أوربا وشعوبها البيضاء المتقدمة، واعتُبرت الكرة الأرضية مجرد مجال حيوي له يصدِّر له مشاكله. بل لم تفرق الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الشاملة في نهاية الأمر بين شعوب آسيا وأفريقيا وشعوب العالم الغربي، فالجميع مادة بشرية، نافعة أو غير نافعة، ضرورية أو فائضة. فكان العمال يُنظر لهم باعتبارهم مادة بشـرية نافعة، ومصدراً لفائض القيمة، أما المتعـطلون فهم مادة بشرية فائضة. وصُنِّف المجرمـون (وفي مرحلة أخرى، المعوقـون والمسـنون) مادةً بشريةً غير نافعة. وهذه المادة يجب أن « تُعالج»، وكانت الوسيلة الأساسية للمعالجة هي تصدير المادة البشرية الفائضة إلى مكان آخر لتحويلها إلى مادة نافعة إن أمكن (مع عدم استبعاد « الحلول الأخرى » إن استلزم الأمر). 
وكانت أولى عمليات " المعالجة " هي نقل الساخطين سياسياً ودينياً (البيوريتان) إلى أمريكا، والمجرمين والفاشلين في تحقيق الحراك الاجتماعي في أوطانهم إلى أمريكا وأستراليا. وتبعتها عمليات ترانسفير أخرى تهدف جميعاً إلى تحقيق صالح الإنسان الغربي: 
ـ نقْل سـكان أفريقيا إلى الأمريكتين لتحـويلهم إلى مادة اسـتعمالية رخيصة. 
ـ نقْل جيوش أوربا إلى كل أنحاء العالم، وذلك للهيمنة عليها وتحويلها إلى مادة بشرية وطبيعية تُوظَّف لصالح الغرب. 
ـ نقْل الفائض البشري من أوربا إلى جيوب استيطانية غربية في كل أنحاء العالم، لتكون ركائز للجيوش الغربية والحضارة الغربية (فيما يُعَد أكبر حركة هجرة في التاريخ). 
ـ نقْل كثير من أعضاء الأقليات إلى بلاد أخرى (الصينيين إلى ماليزيا ـ الهنود إلى عدة أماكن ـ اليهود إلى الأرجنتين) كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني، إذ أن هذه الأقليات تشكل جيوباً استيطانية داخل البلاد التي تستقر فيها. 
ـ نقْل كثير من العناصر المقاتلة من آسيا وأفريقيا وتحويلهم إلى جنود مرتزقة في الجيوش الغربية الاستعمارية، مثل الهنود (خصوصاً السيخ) في الجيوش البريطانية. وفي الحرب العالمية الأولى، تم تهجير 132 ألفاً من مختلف أقطار المغرب لسد الفراغ الناجم عن تجنيد الفرنسيين، بالإضافة إلى تجنيد بعضهم مباشرةً للقتال (وهذه هي أول «هجرة » لسكان المغرب العربي، وقد استمرت بعد ذلك تلقائياً). 
ـ مع ظهور فكر حركة الاستنارة في الغرب تم تعريف الناس حسب نفعهم للمجتمع والدولة وقد طُبِّق هذا المعيار على كل المواطنين وبخاصة أعضاء الأقليات. فتم تقسيم اليهود في كثير من البلاد الغربية ـ كما أسلفنا ـ بحيث أصبح غير النافعين قابلين للترحيل. 
ـ في هذا الإطار المعرفي الترانسفيري، تمت عملية الاستيطان الصهيونية التي هي في جوهرها تصدير لإحدى مشاكل أوربا الاجتماعية (المسألة اليهودية) إلى الشرق. فيهود أوربا هم مجرد مادة (فائض بشري لا نفع له داخل أوربا يمكن توظيفه في خدمتها في فلسطين)، والعرب أيضاً مادة (كتلة بشـرية تـقف ضد هـذه المصالح الغربية)، وفلسطين كذلك مادة، فهي ليست وطناً وإنما هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة تُطلَق عليه كلمة «الأرض». فتم نقل العرب من فلسطين ونُقل اليهود إليها، وتمت إعادة صياغة كل شيء بما يتلاءم مع مصالح الإنسان الغربي. 
ـ تمت عمليات ترانسفير ضخمة بعد الحرب العالمية الأولى، فنُقل سكان يونانيون من تركيا إلى اليونان، وسكان أتراك من اليونان إلى تركيا، كما نُقل سكان ألمان من بروسيا الشرقية بعد ضمها إلى بولندا. وهذه العمليات هي التي أوحت لهتلر بعمليات نقل اليهود خارج الرايخ. بل إنه في السنين الأخيرة من حكم الرايخ طوَّر هملر جنرال بلان أوست Generalplan Ost لنقل 31 مليوناً «غير ألمان» من أوربا الشرقية وتوطين ألمان بدلاً منهم. 
وما يهمنا في هذا كله هو نزع القداسة عن البشر كافة (في الشرق والغرب) وتحويلهم إلى مادة استعمالية ليست لها قيمة مطلقة، ولا علاقة لها بأية معيارية. ولكن لنركز على التجربة الاسـتيطانية الغربية في جميع أنحاء العالم، خصوصاً في أمريكا الشمالية، وهي تجربة كانت تفترض ضرورة إبادة تلك العناصر البشرية الثابتة التي كانت تقف عقبة كأداء في طريق الإنسان الغربي وتحقيق مشروعه الإمبريالي. وقد قبلت الجماهير الأوربية عملية الإبادة الإمبريالية وساهمت فيها بحماس شديد، لأن هذه العملية كانت تخدم مصالحها، كما أوهمتها الدول الإمبريالية ذات القبضة الحديدية في الداخل والخارج. 
وتُعدُّ العقيدة البيوريتانية (أو التطهرية)، عقيدة المستوطنين البيض في أمريكا الشمالية، هي أولى الأيديولوجيات الإمبريالية الإبادية التي كانت تغطيها ديباجات دينية كثيفة. فكان هؤلاء المتطهرون يشيرون إلى هذا الوطن الجديد باعتباره «صهيون الجديدة» أو «الأرض العذراء» فهي «أرض بلا شعب». وكان المستوطنون يشيرون إلى أنفسهم باعتبارهم «عبرانيين»، وللسكان الأصليين باعتبارهم «كنعانيين» أو «عماليق» (وكلها مصطلحات توراتية إبادية، استخدمها معظم المستوطنين البيض فيما بعد في كل أرجاء العالم متجاهلين تماماً القيم المسيحية المطلقة مثل المحبة والإخاء). 
وكان كل هذا يعني في واقع الأمر إبادة السكان الأصليين حتى يمكن للمستوطنين البيض الاستقرار في الأرض الخالية الجديدة! وقد تم إنجاز هذا من خلال القتل المباشر، أو نقل الأمراض المختلفة (كأن تُترَك أغطية مصابة بالجدري كي يأخذها الهـنود فينتشر الوباء بينهـم ويتم إبادتهم تماماً). وكانت الحكومة البريطانية في عصر الملك جورج الثالث تعطي مكافأة مالية لكل من يحضر فروة رأس هندي قرينة على قتله. واستمرت هذه التقاليد الغربية الإبادية بعد استقلال أمريكا، بل تصاعدت بعد عام 1830 حين أصدر الرئيس جاكسون قانون ترحيل الهنود، والذي تم بمقتضاه تجميع خمسين ألفاً من هنود الشيروكي من جورجيا وترحيلهم (ترانسفير) أثناء فصل الشتاء سيراً على الأقدام إلى معسكر اعتقال خُصِّص لهم في أوكلاهوما. وقد مات أغلبهم في الطريق (وهذا شكل من أشكال الإبادة عن طريق التهجير [ترانسفير]، فهو شكلاً ترانسفير من مكان لآخر ولكنه فعلاً ترانسفير من هذا العالم للعالم الآخر). ووصلت العملية الإبادية إلى قمتها في معركة ونديد ني Wounded Knee (الركبة الجريحة) عام 1890. وكانت الثمرة النهائية لعمليات الإبادة هذه أنه لم يبق سوى نصف مليون من مجموع السكان الأصليين الذي كان يُقـدر بنحو 6.5مليون عـام 1500 لدى وصول الإنسان الأبيض، أي أنه تمت إبادة سـتة مليون مواطن أصلي (وهو رقم سحري لا يذكره أحد هذه الأيام)، إذا لم نحـسب نسبة التزايد الطبيعي (يُقدر البعض أن العدد الفعلي الذي تم إبادته منذ القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين قد يصل إلى عشرات الملايين). وقد تكرر نفس النمط في أستراليا التي كان يبلغ عدد سكانها الأصليين 2 مليون عند استيطان البيض للقارة في عام 1788 لم يبق منهم سوى 300 ألف. ولا تزال عملية إبادة السكان الأصليين مستمرة في البرازيل وأماكن أخرى (وإن كان بشكل أقل منهجية وخارج نطاق الدولة).
وترتبط بالتجربة الاستيطانية في أمريكا الشمالية عمليات نقل ملايين الأفارقة السود للأمريكتين لتحويلهم إلى عمالة رخيصة. وقد تم نقل عشرة ملايين تقريباً، ومع هذا يجب أن نتذكر أن كل أسير كان يقابله بوجه عام عشرة أموات كانوا يلقون حتفـهم إما من خـلال أسـباب « طبيعية » بسبب الإنهاك والإرهاق وسوء الأحوال الصحية أو من خلال إلقائهم في البحر لإصابتهم بالمرض. 
وكانت أعمال السـخرة الاسـتعمارية في أفريقيا ذاتهـا لا تقل قسوة. ففي كتابه رحلة إلى الكونغو (1927)، يُبيِّن أندريه جيد كيف أن بناء السكة الحديد بين برازفيل والبوانت السوداء (مساحة طولها 140 كيلو متر) احتاجت إلى سبعة عشر ألف جثة. ويمكن أن نتذكر أيضاً حفر قنال السويس بنفس الطريقة وتحت نفس الظروف وبنفس التكلفة البشرية. 
وقد ورد في إحدى الدراسات أن عدد المواطنين الأوربيين الذين لهم علاقة بعمليات التطهير العرْقي والإبادة داخل أوربا (إما كضحايا أو كجزارين) يصل إلى مائة مليون، فإذا أضفنا إلى هذا عدد المتورطين في عمليات القمع والإبادة الاستعمارية في الكونغو وفلسطين والجزائر وفيتنام وغيرها من البلدان فإن العدد حتماً سوف يتضاعف. 
ولكن الإمكانية الإبادية الكامنة التي تحققت بشكل غير متبلور وجزئي في التجربة الإمبريالية والاستيطانية الغربية، تحققت بشكل نماذجي كامل في الإبادة النازية أو في «اللحظة النازية النماذجية» في الحضارة الغربية، أي اللحظة التي تبلور فيها النموذج وأفصح عن نفسه بشكل متبلور فاضح، دون زخارف أو ديباجات (ولذا أذهلت الجميع، وضمنهم المدافعون عن النموذج في صوره الأقل تبلوراً وأكثر اعتدالاً). 
وكان النازيون يُدركون تمام الإدراك أن نظامهم النازي وممارساته الإبادية هما ثمرة طبيعية للتشكيل الحضاري الإمبريالي الغربي الحديث. وقد بيَّن كاتبو سيرة حياة هتلر أن أولى تجارب الإنسان الغربي الاستعمارية الاستيطانية، أي تجربته في أمريكا الشمالية، كانت تجربة مثالية أوحت له بكثير من أفكاره التي وضعها موضع التنفيذ فيما بعد. وكما يقول المؤرخ جون تولاند إن هتلر، في أحاديثه الخاصة مع أعضاء الحلقة المقرَّبة إليه، كثيراً ما كان يعبِّر عن إعجابه بالمستوطنين الأمريكيين وطريقة " معالجتهم " لقضية الهنود الحمر. فقد قاموا بمحاولة ترويضهم عن طريق الأسر، أما هؤلاء الذين رفضوا الرضوخ فكان يتم إبادتهم من خلال "التجويع أو القتال غير المتكافئ ". ويقول يواقيم فست إن حروب هتلر القارية المستمرة كانت محاكاة للنموذج الاستعماري الغربي في أمريكا الشمالية. وبالفعل صرح هتلر في إحدى خطبه بأنه حين قام كورتيز وبيزارو (وهما من أوائل القواد الاستعماريين الإسبان) بغزو أمريكا الوسطى والولايات الشمالية من أمريكا الجنوبية، فهم لم يفعلوا ذلك انطلاقاً من أي سند قانوني وإنما من الإحساس الداخلي المطلق بالتفوق. فاستيطان الإنسان الأبيض لأمريكا الشمالية، كما أكد هتلر، لم يكن له أي سند ديموقراطي أو دولي، وإنما كان ينبع من الإيمان بتفوق الجنس الأبيض. ولذا في مجال تبريره للحرب الشرسة التي شنها على شرق أوربا قال هتلر: " إن هناك واجباً واحداً: أن نؤلمن هذه البلاد من خلال هجرة الألمان الاستيطانية وأن ننظر إلى السكان الأصليين باعتبارهم هنوداً حمراً ". وأكد هتلر أن الحرب التي تخوضها ألمانيا ضد عناصر المقاومة في شرق أوربا لا تختلف كثيراً عن كفـاح البيـض في أمريكـا الشـمالية ضــد الهنود الحمر. ومن هنا كان هتلر يشير إلى أوربا الشرقية باعتبارها "أرضاً عذراء" و"صحراء مهجورة " ("أرض بلا شعب" في المصطلح الصهيـوني). وقد بيَّن ألفريد روزنبرج، أثنـاء محاكمته في نورمبرج، هـذه العلاقة العضـوية بين العنصـرية النازية والمشـروع الغربي الإمبريالي، فأشار مثلاً إلى أنه تعرَّف لأول مرة على مصطلح «الإنسان الأعلى» (السوبرمان) في كتاب عن الاستعماري الإنجليزي كتشنر، وأن مصطلح «الجنس المتفوق» أو «الجنس السيد» مأخوذ من كتابات العالم الأمريكي الأنثروبولوجي ماديسون جرانت والعالم الفرنسي لابوج، وأن رؤيته العرْقية هي نتيجة أربعمائة عام من البحوث العلمية الغربية، فالنازية - كما أكد روزنبرج لمحاكميه - جزء من الحضارة الغربية. 
ولعل أكبر دليل على أن الإبادة إمكانية كامنة، تضرب بجذورها في الحضارة الغربية الحديثة، أنها لم تكن مقصورة على النازيين وإنما تشكل مرجعية فكر وسلوك الحلفاء، أعداء النازيين الذين قاموا بمحاكمتهم بعد الحرب! فإرنست همنجواي، الكاتب الأمريكي، كان يُطالب بتعقيم الألمان بشكل جماعي للقضاء على العنصر الألماني. وفي عام 1940 قال تشرشل إنه ينوي تجويع ألمانيا وتدمير المدن الألمانية وحرقها وحرق غاباتها. وقد عبَّر كاتب يُسمَّى كليفتون فاديمان عن هذا الموقف الإبادي بشكل متبلور. ولم يكن فاديمان هذا شخصية ثانوية في المؤسسة الثقافية الأمريكية فقد كان محرر مجلة النيو يوركر (وهي من أهم المجلات الأمريكية) ورئيس إحدى الوكالات الأدبية التي أنشأتها الحكومة الأمريكية إبَّان الحرب بغرض الحرب النفسية. وقد شن حملة كراهية ضارية ضد الألمان (تشبه في كثير من الوجوه الحملة التي شنها الغرب ضد العرب في الستينيات والتي يشنها ضد المسلمين والإسلام في الوقت الحاضر) وجعل الهدف منها "إضرام الكراهية لا ضد القيادة النازية وحسب، وإنما ضد الألمان ككل... فالطريقة الوحيدة لأن يفهم الألمان ما نقول هو قتلهم... فالعدوان النازي لا تقوم به عصابة صغيرة... وإنما هـو التعبير النهـائي عن أعمق غرائز الشعب الألماني، فهتلر هو تَجسُّد لقوى أكبر منه، والهرطقة التي ينادي بها هتلر عمرها 2000 عام". ومثل هذا الحديث لا يختلف كثيراً عن الحديث عن عبء الرجل الأبيض وعن الخطر الإسلامي ومن قبله الخطر الأصفر.
وقد اشترك بعض الزعماء والكُتَّاب اليهود في هذه الحملة، فصرح فلاديمير جابوتنسـكي عـام 1934 بأن مصلحـة اليهود تتطلب الإبادة النهائية لألمانيا، « فالشعب الألمـاني بأسره يُشكِّل تهديداً لنا». ولكن يمكن القول بأن كتاب الكاتب الأمريكي اليهودي تيودور كاوفمان بعنوان لابد من إبادة ألمانيا هو من أهم الكتب المحرضة على الإبادة، وقد استفادت منه آلة الدعاية النازية وبيَّنت أبعاد المؤامرة الإبادية ضد الألمان، وهو ما شكَّل تبريراً لفكرة الإبادة النازية نفسها. وقد ورد في هذا الكتاب أن كل الألمان، مهما كان توجههم السياسي (حتى لو كانوا معـادين للنازيـة، أو شـيوعيين، أو حتى محبين لليهود) لا يستحقون الحياة، ولذا لابد من تجنيد آلاف الأطباء بعد الحرب ليقوموا بتعقيمهم حتى يتسنى إبادة الجنس الألماني تماماً خلال ستين عاماً! 
وكان هناك حديث متواتر عن ضرورة «هدم ألمانيا »، وعن «تحويل ألمانيا إلى بلد رعوية » (بالإنجليزية: باستوراليزيشن patsoralization)، أي هدم كل صناعاتها ومؤسساتها الحديثة (كما حدث لمحمد علي). ونجحت غارات الحلفاء على المدن الألمانية في إبادة مئات الألوف من المدنيين (من الرجال والأطفال والنساء والعجائز) وتحطيم كل أشكال الحضارة والحياة. وقد بلغ عدد ضحايا الغارات على مدينة درسدن الألمانية وحـدها 200 ألف قتـيل. كما اسـتمرت النزعة الإبادية بعد الحرب،فقامت قوات الحلفاء بوضع مئات الألوف من الجنود الألمان في معسكرات اعتقال وتم إهمالهم عن عمد، فتم تصنيفهم على أساس أنهم DEFS وهي اختصار عبارة «ديس آرميد إنيمي فورسيز disarmed enemy forces» أي «قوات معادية تم نزع سلاحها» بدلاً من تصنيفهم «أسرى حرب». وإعادة التصنيف هذه كانت تعني في واقع الأمر حرمانهم من المعاملة الإنسانية التي تنص عليها اتفاقيات جنيف الخاصة بأسرى الحرب، وبالفعل قضى 793.239 جندي ألماني نحبهم في معسـكرات الاعتـقال الأمريكية عام 1945،كما قضى 167 ألف نحبهم في معسكرات الاعتقال الفرنسية نتيجةً للجوع والمرض والأحوال الصحية السـيئة (حسبما جاء في دراسة لجيمس باك James Bacque)، وفي الوقت ذاته كان يوجد 13.5 مليون طرد طعام في مخازن الصليب الأحمر،تعمدت سلطات الحلفاء عدم توزيعها عليهم. 
ولم تقتصر الإبادة على التصفية الجسدية بل كانت هناك إبادة ثقافية، فقد قام الحلفاء بما سُمِّي «عملية نزع الصبغة النازية عن ألمانيا» (بالإنجليزية: دي نازيفيكيشن denazification) للقضاء على النازيين في الحياة العامة، فأُقيمت 545 محكمة دائمة على الأقل يتبعها طاقم من الفنيين والسكرتارية عددهم اثنان وعشرون ألفاً. وقام الأمريكيون بتغطية ثلاثة عشر مليون حالة (أي معظم الذكور الألمان البالغين)، وتم توجيـه الاتهـام إلى ثلاثة مـلايين وسبعمائة ألف، أُجريت لهم محاكمات عاجلة. وأدين تسعمائة وثلاثون ألفاً منهم، وصدرت أحكام بشأنهم من بينها 169.282حكماً بتهمة ارتكاب جرائم نازية لا مجرد التعاون مع النظام النازي. وأصـدر البريطانيـون 22.296 حكـماً والفرنسـيون 17.353 حكماً، والروس ثمانية عشر ألف حكم. وبحـلول عـام 1945، كان قد تم طرد 141 ألف ألماني من وظائفهم، من بينهم معظم المدرسين في منطقة الاحتلال الأمريكية، وزُج بعدد أكبر من هؤلاء في السجن. 
وتظهر نفس النزعة الإبادية في استجابة الحلفاء لليابان، فقبل اكتشاف القنبلة الذرية، كان الجنرال الأمريكي كورتيس لي ماي يقوم بتحطيم مدن اليابان الواحدة تلو الأخرى بشكل منهجي لم يسبق له مثيل في التاريخ. فخلال عشرة أيام في مارس 1945، قامت الطائرات الأمريكية بطلعات جوية بلغ عددها 11.600، تم خلالها إغراق 32 ميل مربع من أكبر أربع مدن يابانية بالقنابل، وهو ما أدَّى إلى محو هذه المساحات وكل ما عليها من الوجود وتسببت في مقتل150.000. أما الغارات الجوية على طوكيو يوم 25 مايو 1945، فتسببت في اندلاع عاصفة نارية ضخمة حتى أن قائدي الطائرات المقاتلة كانوا يشمون رائحة لحم البشر المحترق وهم على ارتفاع آلاف الأقدام. وأدَّت هذه الغارات إلى مقتل الآلاف وتشريد مليون شخص على الأقل. 
وكانت عملية الإبادة من الشمول لدرجة أن الجنرال جروفز المسئول عن مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية كان « يخشى» ألا يجد أي هدف سليم يمكن أن يُلقي عليه بقنابله ويدمره. ورغم أن الولايات المتحدة كانت تعرف أن اليابانيين كانوا قد بدأوا يفكرون بشكل جاد في إنهاء الحرب، فقد رأى الجنرال جروفز ضرورة استخدام القنبلة مهما كان الأمر (بعد أن تم إنفاق 2 بليون دولار في تطويرها وهو ما يُعادل 26 بليون دولار بحسابات اليوم). كما أن ترومان كان يشعر بعدم الثقة في نفسه أمام تشرشل وستالين، ولذا كان يود أن يذهب للاجتماع بهم وهو في موقع قوة، خصوصاً وأن الدب الروسي كان قد بدأ في التضخم. ومن ثم، كان لابد من إلقاء القنبلة الذرية بغـض النـظر عن عـدد الضحـايا أو حـجم التدمـير. وكان الجـنرال جروفـز « محظوظاً » (كما تقول بعض الدراسات) إذ وجد ضالته المنشودة في هيروشيما التي كان يقطنها 280 ألف نسمة ووجد أنها محاطة بتلال يمكن أن تُحوِّل المدينة إلى جهنم حقيقية بعد الانفجار إذ أنها ستركز الحرارة. وبالفعل قُتل فور وقوع الانفجار 70 ألف مدني ومات 130 ألف آخرون بعد عدة شهور متأثرين بحروقهم من الإشعاع. وكأن هيروشيما لم تكن كافية، فأُلقيت قنبـلة أخرى على ناجازاكي، أدَّت هي الأخـرى إلى مقـتل 70 ألـف آخرين، غير مئات الألوف الآخرىن الذين لقوا مصرعهم فيما بعد. فما بين ألمانيـا واليابـان تم إبـادة وإصـابة حوالي مليوني شخص معظمهم من المدنيين. 
كما يجـب أن نتـذكر عمليات الإبادة التي قام بها النظام السـتاليني ضد الشعوب الإسلامية في الخانات التركية (التي أصبحت الجمهوريات السوفيتية الإسلامية). وكان عدد شعب التتار وحده يساوي عدد سكان روسيا، أما الآن فهو لا يُكوِّن سوى نسبة مئوية ضئيلة، ومصيره بهذا لا يختلف كثيراً عن مصير السكان الأصليين في أستراليا وأمريكا الشمالية. وقد استمر النظام الستاليني في عمليات الإبادة المنهجية والمنظمة لأعدائه الطبقيين مثل الكولاك الذين قاوموا تحويل مزارعهم إلى مزارع جماعية، بل تم إبادة كثير من أعضاء الحزب الشيوعي ممن عارضوا الديكتاتور. وكانت الإبادة تأخذ أشكالاً مختلفة مثل الإعدام والعمل في معسكرات السخرة. وقد بلغ عدد الضحايا 20 مليون مات منهم 12 مليون على الأقل في معسكرات الجولاج: هذا حسب التقديرات المحافظة، أما أعداء النظام الستاليني فيقولون إن عدد الضحايا بلغ 50 مليوناً! وبعد حوالي نصف قرن لا تزال عمليات الإبادة والتطهير العرْقي على قدم وساق في البوسنة والهرسك والشيشان ولا تزال بعض الدول الغربية تراقب هذا بحياد غير عادي. 
إبادة الآخر إذن آلية أساسية استخدمها التشكيل الحضاري الإمبريالي الغربي في تحقيق رؤيته ومثالياته الداروينية، ومع هذا تظل الإبادة النازية لليهود لها مركزية خاصة، فكيف نفسِّر هذا؟ تعود هذه المركزية، فيما أعتقـد، إلى حـداثة الإبادة النـازية ومنهجيتها، الأمر الذي جعلها تقض مضجع الإنسان الغربي، فمشروعه الحضاري يستند إلى العلم المتجرد من القيمة وعبقرية حضارته تكمن في الترشيد المتزايد. كما أن الإبادة الاستعمارية كانت تتم دائماً "هناك" بعيداً عن أوربا، في آسيا وأفريقيا، أما الإبادة النازية فتمت « هنا » على أرض الحضارة الغربية، وعلى بُعد أمتار من منازل المواطنين العاديين. كما أن العنـاصر التي أُبـيدت لم تكـن داكـنة اللـون أو صفراء، وإنما « مثلنا تماماً ». وأخيراً يشغل اليهود مكانة خاصة في الوجدان الغربي الديني والحضاري، فاليهودي يقف دائماً على الهامش، موضع تقديس وكُره عميقين، وحينما صرعته الإبادة النازية تنبه الإنسان الغربي إلى الإمكانية الكامنة، التي تقف فاغرة فاهها، في قلب حضارته الحديثة.

  • الخميس PM 02:03
    2016-03-24
  • 2520
Powered by: GateGold