المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417496
يتصفح الموقع حاليا : 212

البحث

البحث

عرض المادة

العداء العربي لليهود واليهودية

تحاول الأدبيات الصهيونية في الآونة الأخيرة أن تبيِّن أن ظاهرة العداء لليهود واليهودية ظاهرة متأصلة في المجتمعات العربية وفي التراث الإسلامي وفي الحضارة الإسلامية. وهذه المحاولة جزء من المحاولة الصهيونية المستمرة لتشويه صورة العرب والمسلمين. إلا أنها تعبِّر أيضاً عن رغبة الصهاينة الدفينة في تناسي تاريخ الجماعات اليهودية في الغرب، وتراث العداء لليهود واليهودية الثري الطويل الممتد، الذي انتهى بطردهم وإعادة توطينهم في فلسطين في إطار المشروع الصهيوني.

وقضية عداء العرب لليهود واليهودية (عداء العرب للسامية) مسألة مركبة متعددة الأبعاد، تختلف عن معاداة اليهود واليهودية في الغرب. فتاريخياً تحوَّلت أعداد من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي إلى جماعات وظيفية، ولكنهم لم يكونوا الأقلية الوحيدة التي تضطلع بهذا الدور. فالعالم الإسلامي، على عكس الغرب المسيحي، يضم جماعات دينية وإثنية كثيرة. كما أن النشاط التجاري، والنشاطات المالية والوسيطة على وجه العموم، لم تكن مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية دون غيرهم.

ورغم أن اليهود (وبني إسرائيل) أتى ذكرهم في القرآن عشرات المرات وتحت مسميات مختلفة في سياقات معظمها سلبي، إلا أن رؤية الخلاص الإسلامية لم تعط اليهود أية مركزية خاصة، ولذا لم يكن اليهود يمثلون إشكالية خاصة بالنسبة للفقه الإسلامي. وقد ظهرت بعض الأعمال الأدبية والفكرية داخل التشكيل الحضاري العربي والإسلامي تحاول اختزال أعضاء الجماعات اليهودية من خلال صور إدراكية نمطية سلبية، إلا أن اليهود لم يحتلوا أي مركزية خاصة في الوجدان الأدبي والثقافي العربي والإسلامي. وقد استقر وضع أعضاء الجماعات اليهودية داخل الحضارة العربية والإسلامية في إطار مفهوم أهل الذمة الذي حدد حقوقهم وواجباتهم. ومن ثم فلم يعرفوا المذابح أو عمليات الطرد المتكررة التي تسم علاقتهم بالحضارة الغربية في بعض الفترات. هذا لا يعني أن تجربة يهود العالم الإسلامي مع المجتمعات الإسلامية التي ينتمون إليها كانت خالية من التدافع أو الصراع والظلم (الذي يتنافى مع تعاليم الإسلام ومفهوم أهل الذمة) وأنها كانت عصراً ذهبياً ممتداً، فهذا ليس من طبائع البشر ولا من طبيعة المجتمعات البشرية. كل ما نود تأكيده أن أعضاء الجماعات اليهودية تمتعوا بقدر معقول من الاستقرار والطمأنينة، الأمر الذي أدَّى إلى اندماجهم في مجتمعاتهم.

ولكن الوضع تغيَّر بشكل حاد في العصر الحديث، فيُلاحَظ انشغال عربي وإسلامي كبير بالشأن اليهودي (وإن كان يُلاحَظ أن الأعمال الأدبية العربية، بما في ذلك الفلسطينية، لا تكترث بأعضاء الجماعات اليهودية). وبدأت تظهر أدبيات كثيرة كتبها عرب ومسلمون تدور في إطار مفاهيم ومقولات عنصرية (معظمها مستورد من العالم الغربي). ومن بين هذه المقولات أن اليهود مسئولون عن كل أشرار العالم، كما هو مدوَّن في بروتوكولات حكماء صهيون (الذي يقرأه الكثيرون)، وفي التلمود (الذي لم يقرأه أحد). وبدأ الحديث عن المؤامرة التي يحيكها اليهود ضد المسلمين والعرب، وارتبط اليهود بالشيطان وبالصور الإدراكية النمطية الاختزالية السلبية في عقل كثير من العرب والمسلمين. وبدأت تظهر في الصحف والمجلات وعلى أغلفة الكتب صورة اليهودي ذي الأنف المعقوف الذي تقطر أظافره دماً والذي يمتص دماء الآخرين وأموالهم. بل بدأت تظهر تهمة الدم في أرجاء متفرقة، وهو أمر لم يكن معروفاً في العالم الإسلامي من قبل. وتُرجمت البروتوكولات التي يعتقد البعض أنها من كتب اليهود المقدَّسة، كما نُشرت مقتطفات متفرقة من التلمود. بل بدأ بعض المسلمين يرون أن «اليهودية» صفة بيولوجية تورَّث، أي أن اليهودي - حسب هذه الرؤية - هو من وُلد لأم يهودية، وهو تعريف قد يتفق مع العقيدة اليهودية ولكنه لا يتفق ألبتة مع العقيدة الإسلامية التي لا تنظر للدين باعتباره أمراً يورَّث، وإنما هو رؤية يؤمن بها من شاء.

ومن المفارقات التي تستحق التسجيل أنه كلما ازداد الرعب من إسرائيل و"اليهود" كلما ازدادت صورة اليهودي سوءاً، وكلما ازداد النموذج التفسيري التآمري الذي ينسب لليهود قوى عجائبية انتشاراً، وهو نموذج يصوِّر اليهود باعتبارهم قوة أخطبوطية لا تُقهَر، فهم يمسكون بكل الخيوط ويُحركون كل القوى (الرأسمالية والاشتراكية) حتى ينفذوا مخططهم اليهودي الجهنمي المستقل، وما اللوبي الصهيوني سوى تعبير جزئي عن مخطط صهيوني أشمل.

وهذه النظرة العنصرية الاختزالية تشكل فشلاً أخلاقياً، فهي لا تحاول أن تميز بين الخبيث والطيب، وتضع اليهود، كل اليهود، في سلة واحدة بمن في ذلك على سبيل المثال أعضاء جماعة الناطوري كارتا الذين يقضون معظم أيامهم في الحرب ضد الصهيونية، بمثابرة وإخلاص ودأب نفتقدهم في كثير من العرب هذه الأيام! والرؤية العنصرية حتمية ترى أن من وُلد يهودياً لابد أن يسلك حسب نمط معيَّن وكأن الإله لم يمنحه فطرة سليمة ومقدرة على تمييز الخير من الشر.

والنظرة العنصرية الاختزالية، تشكل كذلك فشلاً معرفياً لأن الخريطة الإدراكية التي ستفرزها مثل هذه الرؤية ستكون عامة رمادية كالحة سطحية واحدية لا تساعد كثيراً في فَهْم الواقع. فهي على سبيل المثال لن تساعدنا كثيراً في معرفة توجُّهات أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة بكل نتوئها وتموجاتها. فنحن في حاجة لأن نعرف منْ منهم يساند الصهيونية ومنْ يعارضها، ومنْ منهم يجاهر بمناصرتها علناً ويبذل قصارى جهده في التملص منها، ومنْ منهم ناصرها في الماضي، وتنكَّر لها في الحاضر، ومنْ منهم تنكَّر لها في الماضي وبدأ يناصرها في الحاضر، ومنْ منهم توجد لديه إمكانية كامنة لقبولها أو رَفْضها أو التملص منها، ومنْ منهم تجب محاربته ومنْ منهم يمكن تجنيده ومنْ منهم يمكن تحييده، فالرؤية التآمرية العرْقية ترى أن كل يهودي صهيوني وكل صهيوني يهودي، وهي بهذا تتبنَّى الرؤية الصهيونية لليهود، التي تضع اليهود، كل اليهود، في سلة واحدة، هي سلة الشعب اليهودي.

والرؤية العنصرية في نهاية الأمر لها مردود سلبي من الناحية النفسية، فهي تنسب لليهود قوة هائلة، الأمر الذي يُولِّد الرعب في نفوس العرب (ولنتخيل صانع القرار العربي الذي يعتقد أن "اليهود" قادرين على كل شيء وأنهم ممسكون بكل الخيوط!).

ومن المفارقات التي تستحق التسجيل أن هذه الرؤية العنصرية تُترجم نفسها إلى كُره أعمى يُطالب بملاحقة اليهود والانتقام منهم وطردهم من أوطانهم والتضييق عليهم. وما ينساه حملة مثل هؤلاء الرؤية أن المواطن اليهودي الذي يتم التضييق عليه وطرده من وطنه يضطر للهجرة إلى فلسطين ليصبح مستوطناً صهيونياً يحمل السلاح ضـدنا، فكــأن العداء العـربي لليهـود لـه مــردود صهيوني. ومــن المعـروف أن الحركة الصهيـونية قامـت بالتضـييق على يهـود العــراق وخلقت وضعاً صهيونياً بنيوياً اضطرهم للاستيطان في فلسطين.

ويحاول بعض المتحدثين العرب رد تهمة العنصرية باللجوء لاعتذاريات أقل ما توصف به أنها مضحكة، وجميعها له طابع قانوني وكأننا نقدِّم مرافعة قانونية شكلية، ليس لها سند في الواقع المتعيِّن. فمثلاً هناك من يقول: "كيف يمكن أن نكون لا ساميين ونحن أنفسنا ساميون؟" وهي حجة واهية مردود عليها، فالإجابة على هذا السؤال البلاغي الأحمق هي بالإيجاب: "نعم يمكن أن يكون الإنسان سامياً ومعادياً للسامية"، وهناك شواهد كثيرة على ذلك. فيمكن أن يكون الإنسان عربياً ومعادياً للعرب، وظاهرة العداء اليهودي لليهود واليهودية ظاهرة معروفة للدارسين.

وهناك حجة أخرى لا تقل تهافتاً عنها وهي أننا لا يمكننا أن نكون "معادين للسامية" لأن اليهود ليسوا ساميين فهم من نسل قبائل الخزر التي تهوَّدت، والخزر عنصر تركي غير سامي. والرد على هذا أن عبارة «العداء للسامية» تعني في واقع الأمر «العداء لليهود واليهـودية»، فسـواء كان اليهود ساميين أم لا، تظـل القضـية مطروحة.

وهناك بطبيعة الحال من يشيرون إلى عصر اليهود الذهبي في الحضارة الإسلامية خصوصاً في الأندلس ويستنتجون من هذا العداء أننا بالتالي لسنا معادين لليهود واليهودية باعتبار أنه إذا كان الماضي كذلك، فلابد أن يكون الحاضر كذلك. وهذه مغالطة، فلا يوجد استمرار عضوي بين الحاضر والماضي، ويمكن أن يكون إنسان عنصرياً في مرحـلة من حـياته ويتخـلى عن عنصـريته في مرحلـة لاحقة، والعكـس بالعكس. ويســري هذا على تواريـخ كل الشعوب.

ومما يجدر ذكره أن كل مراكز البحوث العلمية في العالم العربي والمجلات العلمية المسئولة لا تسقط، إلا فيما ندر وبدون وعي، في هذا الخطاب العنصري، فمعظم هذه المراكز تتناول الشأن اليهودي وظاهرة الصهيونية بطريقة علمية، تحاول تفسيرها وفهمها ولا تختبئ، بطريقة جنينية اختزالية طفولية، وراء منطق المؤامرة.

ورغم رفضنا المبدئي للخطاب الاختزالي الواحدي العنصري، ورغم إدراكنا لسلبياته من الناحية الأخلاقية والمعرفية والنفسية، إلا أننا يجب أن نفهم سر ذيوعه وانتشاره وهيمنته على بعض الكُتَّاب الشعبيين (في الصحف والمجلات) وبعض أعضاء النخب العربية السياسية والثقافية.

1 - حينما ظهر «اليهودي» في العصر الحديث على شاشة الوعي العربي والإسلامي فقد ظهر داخل التشكيل الإمبريالي الغربي، وجاء إلى بلادنا ممثلاً له حاملاً لواءه وعميلاً له. وقد قامت هذه الإمبريالية بغرسه غرساً وسطنا داخل إطار الدولة الوظيفية ليقوم على خدمة مصالحها بعد أن اقتطعت جزءاً من الوطن العربي الإسلامي، يقع في وسطه تماماً ومن ثم يقسمه قسمين، وهي منطقة لها دلالة دينية خاصة، إذ تضم القدس والمسجد الأقصى.

2 - قامت الإمبريالية الغربية بتحويل يهود البلاد العربية إلى عنصر وظيفي استيطاني يدين لها بالولاء. وشهدت الجماهير العربية أعضاء الجماعات اليهودية وهم ينسلخون تدريجياً عن التشكيل الحضاري العربي والإسلامي. فعلى سبيل المثال أصبح كل يهود الجزائر مواطنين فرنسيين، واستفاد يهود مصر من الامتيازات الأجنبية وحصلت نسبة مئوية كبيرة منهم على الجنسيات الأجنبية. وقد دعَّم هذا من صورة اليهودي كأجنبي وغريب ومغتصب ومتآمر وعميل، شخص لا انتماء له يبحث عن مصلحته اليهودية.

3 - من المُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي يوجدون بشكل ملحوظ في الحركات الشيوعية العربية (شأنهم في هذا شأن أعضاء الأقليات في كثير من المجتمعات). كما لوحظ أن عدداً كبيراً من الرأسماليين ممن راكموا ثروات ضخمة هم أيضاً من أعضاء الجماعات اليهودية. ولعل وجود أعضاد الجماعات اليهودية في كل من الحركات الشيوعية والطبقة الرأسمالية قد دعَّم صورة اليهودي اللا منتمي أو المنتمي لمصالحه اليهـودية، ودعَّم فكـرة المؤامــرة اليهودية.

4 - من الأمور التي رسَّخت فكرة المؤامرة والهيمنة اليهودية على العالم في الوجدان العربي، الدعم الغربي للتجمُّع الصهيوني بغير تحفُّظ أو شروط أو حدود أو قيود. وهو دعم سياسي واقتصادي وعسكري. وكثير من العرب يفترضون أن العالم الغربي عالم عقلاني، تُتخذ فيه القرارات بشكل رشيد يخدم مصالح الدولة، وأنه عـالم ديمـوقراطي تنتـشر فيـه مُثُل العدل والمساواة وحقوق الإنسان، ولذا حين يقوم الغرب العلماني العقلاني الديموقراطي بتأييد ودعم مشروع غير عقلاني، غير ديموقراطي يستند إلى ديباجات دينية وعلمانية موغلة في الشوفينية ويتسم بضيق الأفق وينكر على الفلسطينيين أبسط حقوقهم، فإن هذا أمر غير مفهوم ولا يمكن تفسيره بطريقة عقلانية. واهتمام الغرب المحموم بالإبادة النازية لليهود (التي مضى عليها ما يزيد عن خمسين عاماً) والإصرار على الاستمرار في تعويض الضحايا وتقديم الاعتذار لهم والتعبير عن الندم عما بَدَر من الألمان وغيرهم قد يكون أمراً محموداً في حد ذاته (فهو في نهاية الأمر تعويض لفئة من ضحايا الحضارة الغربية) إلا أن هذه الظاهرة المحمودة في حد ذاتها تثير الشك حين يلاحظ المواطن العربي والمسلم أن سلسلة كاملة من المذابح قد ارتكبت منذ الخمسينيات حتى منتصف التسعينيات (الجزائر - فيتنام - البوسنة - الشيشان) معظمها في العالم الإسلامي وتم التزام الصمت تجاهها ولم يتحدث أحد عن تعويض أو اعتذار أو توبة أو ندم! هذا في الوقت الذي تستمر الآلة الإعلامية الغربية في التركيز على الهولوكوست دون غيرها. كما أن الزعم الغربي بأن فلسطين في الشرق العربي قُدِّمت لليهود تعويضاً لهم عما حدث لهم في ألمانيا في العالم الغربي، هو أمر يصعُب فهمه.

كل هذه الظواهر تثير التساؤلات في نفوس الناس، وبما أنهم لا وقت عندهم للبحث والاستقصاء، لذا تظهر الإجابات الاختزالية السهلة، وصيغة المؤامرة اليهودية صيغة تملك مقدرة هائلة على سد الهوة التي تفصل عقلانية الرؤية الغربية عن لاعقلانية الممارسة الغربية. وما لم يخطر ببال هؤلاء أن عقلانية الغرب ودفاعه عن حقوق الإنسان ليسا مطلقين وأنهما لا ينصرفان لحقوق الإنسان العربي أو المسلم على سبيل المثال. وأن العقلانية تدور في إطار المصالح الإستراتيجية الغربية، التي تم تحديدها بطريقة ليست بالضرورة عقلانية وإنما من خلال مقولات قَبْلية متمركزة حول الغرب، معظمها عنصري.

5 ـ قامت الدولة الصهيونية باعتبارها تعبيراً عن مشروع استيطاني إحلالي عليه أن يلجأ إلى الحد الأقصى من العنف ليتخلص من السكان الأصليين، بما في ذلك الإبادة والطرد والعزل. وقد سمت هذه الدولة نفسها «الدولة اليهودية» فربطت بين اليهودي والعنف والإرهاب.

والأسوأ من هذا أن هذه الدولة ادَّعت أنها تتحدث باسم كل يهود العالم أينما كانوا، ومن ثم فهي تتحدث باسم يهود البلاد العربية، بل تطالب بالتعويضات باسمهم، فكأن الدولة الصهيونية تنكر أن أعضاء الجماعات اليهودية مواطنين في بلادهم، وتدعم الصورة الإدراكية العرْقية أن اليهودي لا انتماء له وأنه يدافع عن مصالحه اليهودية وحسب.

هذه هي بعض الأسباب التي أدَّت إلى هيمنة الرؤية التآمرية على إدراكنا لليهود في العالم العربي وإلى ذيوع البروتوكولات وغير ذلك من كتابات عنصرية تهدف إلى تفسير الواقع بشكل سريع سهل وإلى تفريغ شحنة الغضب عند كثير من العرب. ولكن تفريغ الشحنة هنا بهذه الطريقة له جوانبه السلبية العديدة، والمطلوب هو أن نفهم أسباب الغضب ونحاول استثماره في إطار مشروع نضالي إنساني يهدف إلى تصفية الجيب الاستيطاني الصهيوني ولا يسقط في العنصرية العمياء.

 

  • السبت PM 03:11
    2016-03-12
  • 2424
Powered by: GateGold