المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 655926
يتصفح الموقع حاليا : 426

البحث

البحث

عرض المادة

موقف أهل الكتاب من الميثاق الاجتماعي والسياسي

د\احمد نصير

موقف أهل الكتاب من الميثاق الاجتماعي والسياسي[1]

 

المبحث الأول : الوثيقة الدستورية ميثاق أمان لأهل الكتاب والمسلمين  (12-19)

المطلب الأول : أهمية تشكيل المجالس النيابية بمجتمع المدينة المنورة لإقامة الدين ثم الدنيا  

المطلب الثاني : موقف السلطة السياسية من خيانة الأقليات المعارضة

المطلب الثالث : انشغال المعارضة بنزاعاتهم الخاصة أوهن أدائهم السياسي

المطلب الرابع : المبادئ فوق الدستورية سابقة على  صياغة الدستور ولا تقر بالاتفاق ولا بالمغالبة

المطلب الخامس : الوثيقة الدستورية لا تمس حرية الاعتقاد إلا بما يكفل حرية الدعوة ووسائل التعبير

 

المبحث الثاني : بنود الوثيقة الدستورية مع أهل الكتاب (20-40)

المطلب الأول  : حكم الخدمة العسكرية و"حكم التهرب منها"

المطلب الثاني : حرمة الدم "القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد"

المطلب الثالث : الأمن الاجتماعي "حد الحرابة"

المطلب الرابع : حماية الأموال "حد السرقة"

 

المبحث الثالث : سلطان التشريع الإسلامي على أهل الكتاب  (41– 50)

المطلب الأول : تملص أهل الكتاب من تطبيق حكم الله من شريعتهم

المطلب  الثاني  : إستناد القاضي المسلم في التحكيم الدولي إلى أحكام الشريعة

المطلب  الثالث  :جواز احتكام أهل الكتاب غير الذميين إلى حكامهم في نزاعاتهم

المطلب  الرابع : حفظ الدين بحفظ الدولة وحفظهما بحفظ العلماء

المطلب  الخامس : مقاصد الشرع الضرورية ثابتة ومرعية في كل ملة

المطلب  السادس : توارث أمانة الأحكام المرعية - بلا نسخ - عبر الزمان (لا يخلو زمان من بيان حكم الله)

المطلب  السابع : مدى ولاية القاضي المسلم على أهل الذمة من أهل الكتاب

 

 

المبحث الأول

الوثيقة الدستورية ميثاق أمان لأهل الكتاب والمسلمين

 

قال تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (19)

 

قال الرازي (اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهاً : -

الأول : أنه تعالى خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال (واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ الله وَأَطَعْنَا) [ المائدة : 7 ] ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به ، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل أولئك اليهود في هذا الخلق الذميم لئلا تصيروا مثلهم فيما نزل بهم من اللعن والذلة والمسكنة .

 

 والثاني : أنه لما ذكر قوله (اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) [ المائدة : 11 ] وقد أرادوا -اليهود- إيقاع الشر برسول الله r ، فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بذكر فضائحهم وبيان أنهم أبداً كانوا مواظبين على نقض العهود والمواثيق .

 

 الثالث : أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان ، فذكر تعالى أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والإلزام غير مخصوصة بهم ، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده)[2] .

 

المطلب الأول

أهمية تشكيل مجالس نيابية في المدينة المنورة لإقامة الدين ثم الدنيا

 

روي أن الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ – عم النبي r- تكلم في الوفد الذي قدم على النبي r في بيعة العقبة ، فكان أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ فَقَالَ (يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ)[3] قَالَ (إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ وَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ) قَالَ فَقُلْنَا (قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ) قَالَ فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ r فَتَلَا وَدَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ) قَالَ فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ (نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ r فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ) قَالَ فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ r أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَقَالَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالًا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا يَعْنِي الْعُهُودَ فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا) قَالَ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ r ثُمَّ قَالَ (بَلْ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ تِسْعَةٌ مِنْ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَوْسِ)[4] ، فهذا الحديث سوف نعرض لشرحه في الآية 12 من السورة بإذن الله .

 

قوله تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ) عني القرآن ببني إسرائيل لكونهم الوارثين لهذه الدعوة ، الذين أوصاهم نبي الله إسرائيل "يعقوب" بها ، قال تعالى (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/133) .

وأكثر القرآن من الإخبار بشأنهم- أي بني إسرائيل- لما لهم من مكانة –كانت- بين الأمم وتأثير ملموس في الماضي والحاضر والمستقبل ، كما أنهم في نظامهم الاجتماعي والسياسي يتميزون عن غيرهم ، يقول النَّبِيُّ r (لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ لآمَنَ بِي الْيَهُودُ)[5]، وهذا يعني أن العصبية القبلية والعشائرية عند اليهود في أوجها ، وأن نظامهم الاجتماعي قائم على التبعية للأحبار والعلماء بصورة صارمة ، قال المناوي (والمراد عشرة مخصوصة ممن ذكر في سورة المائدة وإلا فقد آمن به أكثر)[6] .

قَالَ النَّبِيُّ r (لَوْ تَابَعَنِي عَشَرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا أَسْلَمَ)[7] ، قال السيوطي (المراد عشرة من أحبارهم)[8]، قال كعب (هم الذين سماهم الله في سورة المائدة فعلى هذا فالمراد عشرة مختصة)[9] ، أي (من رؤسائهم الموجودين حينئذ كعبد الله ابن سلام وأبي ياسر بن أخطب وأخيه حيي، ونظرائهم، هذا مراده r ، وإلا فقد آمن به أكثر من عشرة أضعافا مضاعفة)[10] ، إذن لو حصل تمثيل نيابي صحيح لليهود بحيث ولوا أمرهم أرشدهم وأعقلهم لاتبعوا النبي r كما اتبعوا في بادئ الأمر نبيهم موسى عليه السلام قبل فتنة السامري وبعد أن تركهم ، ولكنهم وبعد ذلك تسلط عليهم سفهاءهم في كل عصر كما تسلط عليهم السامري ، فكما خالفوا موسى عليه السلام ، خالفوا النبي محمد r وحاربوا المسلمين ولا يزالون .

 

والنقيب هو الضمين والأمين ، و(النقيب) فوق (العريف) ، وقيل أنهما بمعنى واحد (النقيب) و(العريف)(يعني: عُرَفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع، والطاعة لله ولرسوله ولكتابه)[11] وسمي (النقيب) نقيبا لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعلم مناقبهم[12] ، قال الماوردي (نقيب القوم هو الذي ينقب أحوالهم)[13]، كما سمي النقيب نقيبا لأنه يفتش عن أحوال قومه ويعلم أسرارهم، فهو "فعيل" بمعنى "فاعل" مشتقاً من "النقب" بمعنى التفتيش ، ومنه قوله تعالى (فَنَقَّبُواْ فِى البلاد) [ ق : 36 ] ،قال الزجاج :و(أصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل)[14].

 

قال الشعراوي (إن إختيار الحق لكلمة نقيب ، يَدل على أن النقيب الصادق ينبغي أن يكون صاحب عينين في منتهى اليقظة حتى يختار لكل فرد المهمة التي تناسبه ، ويركز على كل فرد بما يجعله يؤدي عمله بما ينفع الحركة الكاملة ، وبذلك يكون كل فرد في السبط له عمله ومكانه المناسب ،ولا يتأتى ذلك إلا بالتنقيب ، أي معرفة حالة كل واحد وميوله فيضعه في المكان المناسب ، إذن فالنقيب هو المنقب الذي لا يكتفي بظواهر الأمور بل ينقبها ليعرف ظروف وأسباب كل واحد ، واختار الحق من كل سبط نقيباً ، ولم يجعل لسبط نقيباً من سبط آخر حتى يمنع السيطرة من سبط على سبط ،ويمنع أن يكون النقيب على جهالة بمن يريد حركتهم من الأسباط الآخرين)[15] .

 

ولقد أقر الإسلام أهل الكتاب في تنظيماتهم السياسية لشئونهم الحياتية وتمثيلهم النيابي لقومهم ، فشهدت السنة النبوية المطهرة مواقف شتى تدل على أن النبي r تبني نظام التمثيل النيابي ومشاورة أصحابه في الأمور السياسية واتخاذ القرارات الإدارية والسياسية بناء على مشاورتهم ، فعنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ : "أَخْرِجُوا إِلَيَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْكُمْ " ، يَكُونُوا كُفَلاَءَ عَلَى قَوْمِهِمْ ، كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ، فَكَانَ نَقِيبَ بَنِي النَّجَّارِ ، قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ : وَهُمْ أَخْوَالُ رَسُولِ اللهِ r : أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَبُو أُمَامَةَ ، وَكَانَ نَقِيبَيْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَسَعْدُ بْنُ رَبِيعٍ ، وَكَانَ نَقِيبَيْ بَنِي سَلِمَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ، وَكَانَ نَقِيبَيْ بَنِي سَاعِدَةَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو ، وَكَانَ نَقِيبَ بَنِي زُرَيْقٍ رَافِعُ بْنُ مَالِكَ ، وَكَانَ نَقِيبَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَهُمَ الْقَوَاقِلُ ، عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، وَكَانَ نَقِيبَيْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ ، وَأَبُو الْهَيْثَم بْنُ التِّيهَانِ ، وَكَانَ نَقِيبَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ : سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَة)[16] ، وفي الصحيح أن عبادة بن الصامت كان قد شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة [17]، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ تِسْعَةٌ مِنْ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَوْسِ)[18].

 

إذن لهذا التمثيل النيابي أهمية في إقناع الرعية بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي وتحمل المسئولية ، ولذلك قال رسول الله r في بيعة العقبة (الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ)[19] ، أي (أنكم تُطْلَبُون بدَمي وأطْلَب بدَمكُم ودَمي ودَمُكُم شيءٌ واحد)[20] ، قال ابن الأثير في قوله (وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ) أي مَنْزِلُكُم مَنْزِلي كحَديثه الآخر [ المَحْيَا مَحْياكُم والمَمات مَمَاتُكُم ] أي لا أُفارِقُكُم) [21]، قال ابن قتيبة (وما هدمت من الدماء هدمت أي ما عفوت عنه وهدرته عفوت عنه وهدرته)[22].

 

ومن التطبيقات النبوية على هذا الأمر ما روي عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ r (أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ) وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، قَالُوا (فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا) فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ r فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ) فَقَالَ النَّاسُ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ r لَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ) فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا)[23].

 

وقد صرحت السنة القولية بوجوب أن يختار الناس من يمثلهم ويأتمرون بأمره عند الحاجة لتنتظم شئونهم وتستقر أحوالهم ، من ذلكأ قول النبي r (إذا خرج ثلاثة في سفر؛ فليؤمِّروا عليهم أحدهم) [24] ، ويكون ذلك إما باتفاقهم عليه أو اختيار وقبول أكثرهم لإمرته عليهم، وهو ما يعني "الانتخاب الحر" ، قال ابن تيمية (أوجب r تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع ، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا تتم ذلك إلا بقوة وإمارة ، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة) [25]، قال الشوكاني: "وفيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدًا أن يؤمِّروا عليهم أحدهم؛ لأنَّ في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلف، فمع عدم التأمير يستبدُّ كل واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه؛ فيهلكون، ومع التأمير يقل الاختلاف وتجتمع الكلمة، وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون - فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار، ويحتاجون لدفع التظالم، وفصل التخاصم أولى وأحرى؛ وفي ذلك دليل لقول من قال: إنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام[26]" .

 

 وهذا يعني أن تمثيل الأمة لا يصح إلا إذا كان كل فرد منها ممثلا بنقيب عنه ، فيكون الأصل الانتخاب من القاعدة ، أي عامة المسلمين ، فينتخب كل أهل جيرة من يمثلهم في جيرتهم ، وهذا أصغر مجلس تمثيل لأفراد الأمة ، ثم يجتمع النقباء على جيرانهم فينتخبون منهم من يمثلهم في مجلس القرية أو المدينة ، ولا يشترط أن يكون واحدا ، فيمكن أن تكون مجموعة شريطة أن يرأسها واحد منهم ، ثم ينتخب من نقباء القرى نقيبا عنهم يمثلهم في مجلس شورى المنطقة الجامع لتلك القرى أو المدن ، ثم الولاية ثم على مستوى الدولة ثم على مستوى الأمصار ،وهكذا حتى يتم الأمر لخليفة واحد ينوب عن المسلمين ، وبغير ذلك لا تعتبر خلافة شرعية مطابقة لحديث رسول الله r آنف الذكر (فليؤمِّروا عليهم أحدهم) أي من بينهم ، فكل مستوى تمثيلي ينتخب المستوى الأعلى منه ليمثله ..وهكذا ، شريطة أن يكونون على معرفة ببعض ، فكل أهل مستوى تمثيلي لابد وأن يعملوا معا بأن يجتمعوا بصفة دورية ، ويتناقشون في أهوال رعيتهم وأهلهم ، ويتداولون الآراء ، وينتخبون أفضلها ، ويوكلون من يقوم بتنفيذها ، ويحاسبونه عليها ، وهكذا تحصل المعرفة التي تؤهلهم بعد ذلك لانتخاب أعضاء مجلس الشورى الأعلى في المستوى من بينهم ، فهم أدرى من غيرهم بمن هو أهل لذلك ، لحصول التجربة والاختبار بالعمل فيما بينهم .

 

 لكن يمكن التجاوز عن هذا الأمر  في أحوال معينة ، وذلك كما فعل الصحابة ليكون اختيار مجلس الخلافة من بين من يرشحهم الخليفة الشرعي السابق ، حيث تعذر ذلك في زمن الفتنة ، على أن تسعى الأمة جاهدة لتوسيع دائرة الشورى والتمثيل النقابي قدر الإمكان والوسع ، وذلك أن إصابة جزء من الصواب خير من أن لا يدرك الصواب كله ، فالاستطاعة مناط التكليف ، وفي أحوال الفتن مثل (حروب الردة) قد يتعذر التنفيذ بصورة مثالية ،  ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله.

 

والسياسة الشرعية تقتضي أن تتم البيعة للأصلح ممثلا عن قومه بالانتخاب القائم على حرية الاختيار بعد أن يجتاز مرحلة التبيين والتوضيح للحقائق والأمور واستشارة ذوي الرأي والخبرة ممن تتوافر فيهم شروط العدالة والصلاح ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً - أي فجأة -وَتَمَّتْ أَلَا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ ، تَغِرَّةً[27] أَنْ يُقْتَلَا)[28] ، والمقصود بذلك أن بيعة أبي بكر ـ رضي الله عنه كانت فلتة أي فجأة لم يرجع فيها إلى عوام المسلمين ، وإنما بادر إليها كبراء الصحابة لعلمهم بأحقية أبي بكر بالخلافة، وأنه لا عدل له ولا كفء من أصحاب رسول الله r  ، قيل (أراد بالفَلْتة الفَجْأة)[29]، (ومِثْلُ هذه البَيْعة جَدِيرة بأن تكون مُهَيِّجة للشَّر والفِتْنَة فَعَصم اللّه من ذلك ووَقَى)[30]، (وقيل : أراد بالفَلْتة الخَلسة ، أي إن الإمامة يوم السَّقيفة مالَت إلى تَوَلِّيها الأنفُس ولذلك كَثر فيها التَّشاجُر فما قُلِّدَها أبو بكر إلا انْتزاعاً من الأيْدِي واخْتلاسا) [31]، قال ابن الأثير معْنى الحديث (أنّ البَيْعة حقُّها أنْ تقع صادِرة عن الْمُشورة والاتِّفاق ، فإذا اسْتَبَدَّ رجُلان دُون الجماعة فبايع أحدهُما الآخَر فذلك تَظَاهُر منهما بِشَقّ العصَا واطِّراح الجماعة ، فإن عُقِد لِأحَدٍ بَيْعة فلا يكون المعقودُ لَه واحِداً منهما ، ولِيَكُونا مَعزولَين من الطائفة التي تَتَّفق على تَمْييز الإمام منها لأنه إن عُقِد لواحدٍ منْهما ، وقد ارْتَكَبَا تِلك الفَعْلة الشَّنيعة التي أحْفَظَت الجَماعة من التَّهاوُن بهم والاسْتغناء عن رأيهم لم يؤَمن أن يُقْتَلا) [32].

 

أي  أن  الصحابة رضوان الله عليهم قد ساروا على هذا النهج قدر الوسع والاختيار ، فساروا على دربه r في هذا النهج ، مع مراعاة أن عليا رضي الله عنه كان لديه تحفظ في هذا الأمر ، ولعله أراد تطبيق السنة وفقا للشكل الذي ذكرنا ، لكنه تنازل عنه لأن الإجراءات الشكلية قد يتجاوز عنها إزاء تحقيق مضمون الشورى وغايتها ، وذلك في أحوال الضرورة أو الفتنة ، لاسيما إذا ما اختلط المنافقون بالمسلمين ، وكانوا أصحاب نفوذ وقدرة على قلب الموازين في القاعدة .

 فعَنْ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ –ليختاروا خليفة المسلمين بعد وفاته -اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ – أي بن عوف - لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ – أي لا أطلب الخلافة لنفسي - وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمْ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ ، - طلب منهم أن يفوضوه في هذا الأمر - فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ – أي فوضوه في اختيار خليفة المسلمين- ، فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي حَتَّى إِذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا ، فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ – أي ابن عفان – رشحوه للخلافة -، قَالَ الْمِسْوَرُ طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنْ اللَّيْلِ فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ ، فَقَالَ أَرَاكَ نَائِمًا فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ ادْعُ لِي "عَلِيًّا" فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ ثُمَّ قَامَ "عَلِيٌّ" مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ "عَلِيٍّ" شَيْئًا – أي يراه غير موافق بالكلية على ترشيح عثمان - ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي "عُثْمَانَ" فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ ، فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ – مجلس الشورى - عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ ، وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ – وفي ذلك دليل على أن الجيش ضامن للشورى وتنفيذها - فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا "عَلِيُّ" إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلَا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا ، فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ)[33]

 

 وهكذا تنازل علي رضي الله عنه عن رأيه امتثالا لجماعة المسلمين (أهل الحل والعقد) ، وإنما تنازل انتصارا لرأي أصحاب الشورى والمسلمين ، وبايع عثمان للخلافة ، ولعله كان يمتثل في ذلك بقول عمر بن الخطاب قال: (من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من غير مشورة من المسلمين فلا يحل لكم أن لا تقتلوه)[34] ، فكتم اعتراضه على مباعية "عثمان" لعلمه أن الخير فيما اختاره المسلمون ، وقد ظن أن في المسلمين من هو أحق منه لما يعرفه من عثمان من شدة الحياء الذي قد لا يناسب هذا المنصب ، وبالفعل منعه الحياء أن ينتقم ممن حاصروا بيته حتى قتلوه ، ومنع "علي" وأولاده من أن يهجموا على الجناة ويدافعوا عنه ، فامتثل لأمره على مضض ، ووقع ما وقع من الفتنة التي كان يخشى أن تقع ، ثم ازداد شرارها فتطاير حتى حصلت واقعة الجمل بين علي والسيدة عائشة ، وواقعة تحكيم المصحف بين علي ومعاوية ، من ذلك نفهم أن التشدد في التمسك بالإجراءات المتبعة إذا ما خال للمسلمين أنه سوف يؤول إلى فتنة ، فإن تحقيق المقاصد الشرع بأي وسيلة شرعية أولى متى تأكد وجه الحق بها ، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، والله من وراء كل ذلك محيط ، فله التدبير والأمر .

 

وفي قوله (وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) (12) تأكيد على الغاية من تأسيس الدولة ، وأن التنظيمات السياسية إذا لم تكن غايتها الآخرة ، فلا فلاح لها لا في الدنيا ولا في الآخرة ، كما تضمنت الآية تلخيص وجيز لوظيفة النقيب وتحديد لبنود الميثاق الإلهي الذي بموجبه تكفل الله برعاية المسلمين في أحوالهم وأمور رعيتهم ، تلك البنود يتقدمها شرط تمهيدي لازم لصحة انعقاد العقد ، يتمثل في معية الله تعالى للعبد ، (وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) ولابد أن يستشعر العبد هذه المعية ، قال الشعراوي (وقوله "إِنِّي مَعَكُمْ" يعطيهم خصلة إيمانية ، فلا يظنن أحد أنه يواجه أعداء منهج الله بذاته الخاصة بل بمعونة الله فلا يضعف أحد أو يهن مادام مؤمناً) [35]

 ثم تأتي تفاصيل بنود العقد والتي تحض على إقامة أركان هذا الدين ، ونصرته بالجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ، ليعلم الناس أن الله تعالى وضع أحكاما لإقامة الدين قبل أن يضع مثلها لإقامة الدولة وإصلاح شأن الدنيا ، ذلك أن غاية نظام التمثيل النيابي سالف الذكر– في المقام الأول - إقامة شعائر الله ، ليتحدد دور النقيب في الحفاظ على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ثم الجهاد في سبيل الله ، تلك هي حقيقة دولة الإسلام التي لا ينفك دينها عن دولتها ، ولا تفصل دولتها عن أحكام دينها .

 

 وقد لاحظ البعض عندما عقد مقارنة بين وظيفة "النقيب" في الإسلام بوظيفة "النائب البرلماني" في النظم التي يُطلق على اسمها بالديمقراطية المعاصرة ، فوجد أن (النائب في تلك النظم "النائب" هو من يمثل مصالح الأمة أمام السلطة التنفيذية على وجه الخصوص وأمام بقية السلطات على وجه العموم ، ولا يكلف بأي متابعة لأحوال منتخبيه في مدى تجاوبهم والتزامهم بمسؤلياته تجاه القانون أو القرارات التي تفرضها السلطات الأخرى ، فالنائب في أدبيات الناس لا ينتظر منه أن يقف ليرد الناس إلى جهة الصواب فيما لو انحرفوا، كما أنه ليس مسؤلا قانونا عن عدم التزام من يمثلهم بما ينبغي لهم الإلتزام به مما قررته الدولة ديموقراطيا ، بل هو في الغالب ينساق مع الرأي العام طمعاً في إعادة انتخابه ، ولكن الإسلام أشار إلى مهمات "النقيب" باعتباره وسيطاً للإصلاح بين الجهتين : فيطالب السلطات بحقوق الناس ، ويطالب الناس بحقوق السلطات ، ولعل هذه الناحية غير معمول بها في النظام الدستوري في العالم كله وإلى اليوم)[36] .

 

 ويؤكد هذا الرأي أن القرآن الكريم ألمح إلى هذه الوظيفة تفصيليًا عندما حكى لنا قصة موسى عليه السلام لما ترك بني إسرائيل في أمانة أخيه هارون عليهما السلام ، لكن بني إسرائيل خالفوا أمره وعبدوا العجل ، فلما رجع موسى سأل أخاه عن ذلك وحاسبه حسابا شديدا ، قال تعالى (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طه/92-94)

 

 هذا بالإضافة إلى أن "النقيب" لا ينتظر أجرًا على هذه الوظيفة من أجور الدنيا ، ذلك أنه يسعى لإقامة الدين أولا في قومهم ، فكان جزاؤهم عند الله متخطيا لأقطار السماوات والأرض وحدود الدنيا الفانية ومساحة الزمان والمكان ، فيكون ما أعده الله تعالى لهم هو ما وعد به أهل الجنة من نعيم ، كما في قوله (لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) ، وإن جاز منحه أجرا لأجل التفرغ لهذه الوظيفة ، فذلك بقدر التفرغ حتى لا ينشغل بالكسب ليقتات هو وأهله ، فيكون الأجر بقدر ذلك لا بمقدار العمل ، فلا يتحصل على غنى ووسع من هذا الأجر .

 

وفي قوله (فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) تقرير لجزاء المخالفين ، ووجه تقرير العاقبة هنا ظهور الكفر بعد إصلاح شأن الرعية ، وتنظيمهم سياسيا وإعطاء لكل ذي حق حقه ، قال صاحب اللباب (الضَّلال بعد إظهار نعمة الإسلام أظْهر وأعْظَم؛ لأنَّ الكُفْرَ إنما عَظُم قُبْحُه لعظم النِّعْمَة المَكْفُورة ، فإذا زادت النِّعْمة زاد قُبْحُ الكُفْرِ) [37]

 قال ابن عاشور (ناسب ذكر ميثاق بني إسرائيل عقب ذكر ميثاق المسلمين من قوله: (وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ) [المائدة:7] ، تحذيرا من أن يكون ميثاقنا كميثاقهم ، ومحل الموعظة هو قوله: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) وهكذا شأن القرآن في التفنن ومجيء الإرشاد في قالب القصص، والتنقل من أسلوب إلى أسلوب ، وتأكيد الخبر الفعلي بقد وباللام للاهتمام به)[38] .

 

ذلك أن أهل الكفر عندما كانوا يحاربون الإسلام والمسلمين كانت غايتهم أن يوقعوا دولته ، فعملوا على أن يضحى المسلمون بغير قائد ولا جيش يحميهم ، وعندئذ يسهل عليهم تمزيقهم وتشتيتهم وإشغالهم بأنفسهم ، وكل ذلك من الصد منهم عن سبيل الله لإغلاق أبواب الدعوة في سبيل الله ، فإذا حصل ذلك سهل عليهم تشويه صورة الإسلام أمام الناس ، فيزيدون من الصد عن سبيل الله ، والأمر بخلاف ذلك عندما يضحى للمسلمين كلمة واحدة ، فيكونون على قلب رجل واح بعدما يختاروا نقباء من بينهم ثم يرضون عن القيادة التي تقودهم ، قال رسول الله r (ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ)[39]، فإذا ما تم الاختيار عن تراضي فعندئذ يكون المسلمون أقدر على الوفاء بعهودهم ، وتتحسن صورة المسلمين أمام الناس ، فيكونون حجة على الناس بإحسان إسلامهم ، فإذا حصل ذلك فلا عذر للكفار بعدما اتضحت لهم حقيقة الإسلام وبدت معالمه واحترمت شعائره .

 

المطلب الثاني

موقف السلطة السياسية من خيانة الأقليات المعارضة

 

قال تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (13) فهذه الآية – في تقديري- تكاد تكون محور هذه السورة ، ذلك أنها تبين كيف يكون موقف السلطة السياسية في الإسلام إزاء خيانة أهل الكتاب للمسلمين ، ونقضهم الميثاق الاجتماعي واستمرار محاولاتهم لقلب النظام العام وإهدار قيم المجتمع والمبادئ العليا الحاكمة له ، ومقابلة كل ذلك بالصفح والعفو متى كانت الدولة قوية ولم تسفك الدماء حفظا على قوة الدولة وتماسك وحدتها مع أبناء رعاياها ولو كانوا من غير المسلمين .

 

 كما أن هذه الآية لتجلي بوضوح طبيعة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب ، وتؤكد استحالة بناء هذه العلاقة على أساس من الثقة والائتمان ، ولكن العفو والصفح مع الاطلاع على خيانتهم هي أساس التعامل معهم ، أي عفو وصفح مع اطلاع وحذر ، وهو ما يتطلب أجهزة مخابرات عالية في جودة الأداء ودقة التفاصيل وسرعة النقل ، ذلك أن الخيانة ديدن أغلبهم إلا القليل منهم ، فلا يحتج بموقف القلة ، واستقامتها على العهد إزاء استمرار الكثرة في الانحياز نحو الخيانة ونقض العهود ، قال تعالى ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (الأنفال: ٧١) ، ولا يقصد بالكثرة هنا كثرة العدد ، بل المراد من هم أصحاب القوة والنفوذ فيهم ، القادرون على تحريض قومهم على النقض والخيانة ، وذلك لتعذر تنظيمهم سياسية على نحو يضمن تمثيل مصالحهم بصورة فاعلة لا تعتمد على النفوذ والرشاوى .

 

وإزاء تردي أخلاق الكثرة من أهل الكتاب –خصوصا من اليهود – متى شكلت في المجتمع المسلم أقليات معارضة كان لابد من موقف سياسي واضح للسلطة الحاكمة لمواجهة هذا الخلل الاجتماعي الشديد ، وذلك باتخاذ عدة اجراءات تتمثل في يلي :-

 أولها في طرح الثقة منهم وإعلامهم بذلك ، قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ )الأنفال: ٥٨(

 الأمر الثاني تجديد الأمان لهم ، فبالرغم من أن الإجراء الأول قاسي وشديد ، إلا أن الإجراء الثاني يضمن حقوقهم ، وذلك بإخبارهم أن الإسلام يواجه الخيانة التي قد تحصلت من بعضهم على أساس العدل الموضوعي والمتجرد عن أي انتقام شخصي ، قال النبي r "أدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائتمنك ولا تَخُن مَن خَانَكَ"[40]

 وأخيرا يأتي الأمر بالصفح والعفو عن الخائنين الذين شرعوا في الخيانة ولم يفلحوا ، ذلك أن طبع الخيانة متجذر ومتأصل فيهم فلا أمل في أن يفلحوا ، وإنما كان الصفح لأجل قومهم أو بمعنى أدق لأجل تلك القلة منهم الذين استثناهم الله تعالى بقوله (إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ) ولأجل ضعفائهم وأطفالهم وشيوخهم ، لعل الله تعالى يصلح هؤلاء فيهتدوا للإسلام ، وفي ذلك تفصيل .

 

فالعفو عنهم مشروط بأن تكون الدولة قوية وأن لا يترتب على محاولتهم في الشروع في الخيانة أثر مادي ملموس يهدد السلم والأمن العام ، كسفك الدماء أو سلب الأموال أو إتلافها ، فقد بوب البخاري بابا بعنوان (إِذَا غَدَرَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ) وأورد تحته حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ r شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ النَّبِيُّ r اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ فَجُمِعُوا لَهُ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ فَقَالُوا نَعَمْ قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ r مَنْ أَبُوكُمْ ؟ قَالُوا فُلَانٌ فَقَالَ كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ قَالُوا صَدَقْتَ قَالَ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا فَقَالَ لَهُمْ مَنْ أَهْلُ النَّارِ ؟ قَالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا فَقَالَ النَّبِيُّ r اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا ثُمَّ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ فَقَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ)[41]، قال المهلب : (ويعفى عن المشركين إذا غدروا بشيء يستدرك إصلاحه وجبره ويعصم الله تعالى منه إذا رأى الإمام ذلك ، وإن رأى عقوبتهم عاقبهم بما يؤدى إليه اجتهاده ، وأما إذا غدروا بالقتل أو بما لا يستدرك جبره وما لا يعتصم من شره ؛ فلا سبيل إلى العفو ، كما فعل النبى r فى العرنيين عاقبهم بالقتل)[42] ، أي أن المسألة تقديرها للإمام ، فهو يوازن قوة دولته وقدرتها على التحكم فيهم خلال فترة زمنية معينة بمقدار خيانتهم ومدى تأثيرها على الدولة والمجتمع ، فإن رأي جبر ضررهم بإجراء يسير اتخذه دون أن يتخذ الأشد ، ولا يلجأ للأشد إلا مخافة حدوث فتنة ، وذلك حتى تظل دولة الإسلام تحتضن أبناءها وغيرهم ممن أراد العهد مع المسلمين ممن هم من غير دينهم ، فدولة المسلمين لا يقيم فيها المسلمون وحدهم ، بل تتسع لأن يقيمون فيها مع غيرهم من غير المسلمين .

 

 وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ r بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ أَلَا نَقْتُلُهَا قَالَ لَا فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ r )[43] ، بذلك يكون النبي r قد ميّز بين محاولة القتل (أو التحريض عليه والدعوة إليه) وبين القتل الفعليّ [44].

 

 وقيل أنه قتلها لما تبين له بعد ذلك أن لفعلها أثر مادي ملموس ترتب عليه قتل أحد الصحابة،  فعن أبي هريرة رضي الله عنه : (أن إمرأة يهودية دعت النبي r وأصحابا له على شاة مصلية فلما قعدوا يأكلون أخذ رسول الله r لقمة فوضعها ثم قال لهم : امسكوا إن هذه الشاة مسمومة , فقال لليهودية : ويلك لأي شيء سممتني قالت : أردت أن أعلم إن كنت نبيا فإنه لا يضرك وإن كان غير ذلك أن أريح الناس منك وأكل منها بشر بن البراء فمات فقتلها رسول الله r)[45] ، نقل النووي عن بن سحنون قال (أجمع أهل الحديث أن رسول الله r قتلها)

 

 قال القاضي (وجه الجمع بين هذه الروايات والأقاويل أنه لم يقتلها أولا حين اطلع على سمها ، وقيل له اقتلها فقال لا ، فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصا ، فيصح قولهم لم يقتلها أى فى الحال ، ويصح قولهم قتلها أى بعد ذلك) [46] .


المطلب الثالث

 انشغال المعارضة بنزاعاتهم الخاصة أوهن أدائهم السياسي

 

قال تعالى (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (14) كشفت الآية عن وهن المعارضة السياسية من أهل الكتاب ، وهذا الوهن يؤثر بالسلب على مصالح من يمثلونهم من بني شعبهم وملتهم ، ذلك أنهم لا يبتغون الصالح العام ، وإنما يبتغون من مباشرة العمل العام تحقيق مصالحهم الشخصية والذاتية ، فوهن "المعارضة" هنا في أداءهم في الحياة السياسية ومشاركتهم الفاعلة ، نتيجة لعدم اهتمامهم  بالشأن العام بقدر اهتمامهم بشأنهم الخاص ، حيث يستهدفون إعلاء مصلحتهم الخاصة ومنحها الأولوية على استهداف الصالح العام ، وإن شئنا لقلنا أنهم أكثر الناس عداءً لفكرة الصالح العام ، لاسيما عندما يكونون هم الأقلية والمسلمون الأكثرين ، فيظنون أن فكرة الصالح العام تخدم الأكثرية من المسلمين ، ويغيب عن فكرهم أن فكرة الصالح العام مجردة عن التعيين والتشخيص ، وتستطيل لتخدم مصالح الأقلية كلذلك باعتبارهم جزء من الصالح العام ، ذلك أنهم أن فكرة الصالح العام تصب في صالح المسلمين وغير المسلمين ، بل قد ترتب التزامات على المسلمين وعلى غيرهم كذلك ، بيد أنهم لو تجردوا للفكرة ذاتها لوجدوا أنهم أكثر الناس استفادة من ابتغاء الصالح العام ، لكنهم لما هم فيه من الضلال في العقيدة فقد ضلوا كذلك في تحقيق مصلحتهم المادية التي يرجون ، حيث اقتصرت نظرتهم للمصلحة على تلك التي تمثل مصلحتهم الفئوية أو الملية ثم لم تلبث أن ضاقت عندهم فكرة المصلحة لتصير إلى مصلحة شخصية وذاتية ، من هنا وقعت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كما أخبر الله عنهم ، لأن المصالح الشخصية تتعارض وتتضارب ، ومن ثم يحدث -ولابد - التنازع والشجار المولدان للعداوة والبغضاء ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (تَفَرَّقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)[47]، (في الأصول الدينية لا الفروع الفقهية إذ الأولى هي المخصوصة بالذم)[48] .

 

ومؤدى ما تقدم عدم الاعتداد بما يمثله هؤلاء عن وكلائهم ، وإنما يجب على ولاة الأمور أن ينقبوا بأنفسهم عن مصالح المستضعفين من أهل الكتاب ، لما بينهم من عداوة وبغضاء قد تحجب رفع مطالب المظلومين وشكواهم ، إذ أنهم أضحوا بتلك النظرة الشخصية الضيقة عبيدا لرغباتهم باعدين كل البعد عن حاجات قومهم ومن يمثلونهم ، الأمر الذي يلقي بتبعة هذه المسئولية على المسئولين من المسلمين ليكونوا هم أحرص على مصلحة هؤلاء المستضعفين ولو كانوا من غير المسلمين ، فيكونون أكثر من حرص من يمثلونهم من بني جلدتهم ودينهم ، أي أنه ينبغي على المسلمين ألا يركنوا إلى نقباء أهل الكتاب وما يلقونه إليهم من تقارير قد يشوبها الكذب والخداع ، فقد يخفي النقباء حاجة شعبهم الملحة للأمور الأساسية لتحقيق مصالحهم الخاصة والشخصية ، بيد أن الأمر ليس كذلك على طول المنوال ، وإنما يجب أن تؤخذ مطالب النقباء بشكل جدي ، فالقصد هو التقصي والتحقق من صدقها وإجلاء الحق فيها ، لا التسليم بظاهرها وحسب .

 

لكن لا يخفى أن الآية تتحدث عن بعض أهل الكتاب فقال سبحانه ( ومن الذين قالوا إنا نصارى ) أي أن البعض الآخر ليس على هذه الشاكلة ، بل قد يهتم بالشأن العام ، ويقف صفا واحدا في مثل تلك القضايا ، ولذلك يقول العلماء (فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب فى جبهة واحدة ، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة ، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من نقاء الإنسانية إلى درك الحيوانية ، وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامى والفاتيكان يقفون فى (مؤتمر السكان) فى القاهرة سنة 1994م، وفى مؤتمر المرأة فى بكين سنة 1995م فى صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحية) [49]، مع التحفظ على ما ورد في بيان المؤتمر ذاته من بعض الأمور التي قد تخالف شرع الله .

 

المطلب الرابع

المبادئ فوق الدستورية سابقة على  صياغة الدستور ، ولا تقر بالاتفاق ولا بالمغالبة

 

قال تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (15-16) ، من المعلوم أن أهل الكتاب لم يتمكنوا من حفظ أمانة الدين ، فلم يستطيعوا منع الذين بدلوا وحرفوا وأخفوا منه بعض ما علموه ، لكن الله تعالى أظهر شريعته ودينه على الدين كله ، فجدد الدين بإرسال الرسل ، وختمهم بالنبي محمد r ، إظهارا للحق على أيدي المجاهدين والدعاة الفاتحين ، وقد اصطدم رسول الله r باليهود عندما دخل المدينة المنورة ، ففوجئ أنهم يخفون كثيرا من أحكام الله تعالى التي كانت معروفة وحاكمة لكثير من نزاعاتهم ، ولذلك فإنه عندما وضع دستور حاكم للمدينة المنورة ومن فيها من المسلمين أو اليهود أو غيرهما كان لابد من أن تكون أحكامه كاشفة عن حكم الله تعالى الذي لا يتبدل ولا يتغير ، ومن ثم كانت الحاجة ملحة لأن يتفق المسلمون مع أهل الكتاب على الأسس التي ينبغي الاتفاق عليها إذا ما أرادوا جميعا أن يعيشوا على وطن واحد تكون فيه الغلبة والسيادة للمسلمين ، باعتبار أن الرسول هو الحاكم لتلك الدولة ، فكان لابد وأن يتفقوا معا على المبادئ الدستورية الواجب إقرارها لنظام المجتمع تلك التي تحدد قِيَمَه ومرتكزاته الأساسية ليقوم التنظيم السياسي حفظ أمن المجتمع وسلمه الداخلي والخارجي ، ودون هذه المرتكزات قد ينهار السلم المجتمعي في الدولة .

 

 ومبادئ الإسلام الدستورية المتعلقة بنظام الحكم معروفة ومحفوظة ولسنا بصدد مناقشتها أو سردها ، لكن الذي نود التركيز عليه هنا هو أن إعلائها مرهون بإعلان شعائر الله ، فإذا ما أقام المسلمون شعائرهم بصورة علنية كان في الإمكان كذلك تعريف أهل الكتاب وسائر طوائف المجتمع ما كان مخفيا عنهم من أمور تحفظ لهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، أي باختصار تلك التي تحفظ للإنسان حقوقه وكرامته بصفته كإنسان بصرف النظر عن عقيدته وأصله ولونه وجنسه وسنه وثقافته ، كما قرر علماء الأصول الإنسان علة فاعلة لتطبيق شرع الله ، وقد راعت الشريعة الإنسان بصفته هذه لهذا الاعتبار .

 

 ومن جهة أخرى فإن المبادئ الدستورية لنظام الحكم في الإسلام شأنها شأن المبادئ الأخرى التي لم ترق إلى هذه المرتبة ، فقد تتغير بحسب الزمان والمكان والأشخاص والأحوال وفقا للقاعدة الفقهية المعروفة "تبدل الأحكام بتبدل الزمان والمكان"، ذلك أن لكل مجتمع طابعه السياسي والثقافي والتربوي الذي يصطبغ به ، وكل مرحلة يمر بها المجتمع يواجه تحديات مختلفة ،وظروف سياسية مغايرة ، فحيث تسعي بعض الدولة إلى تقوية سلطات المجلس التشريعي أو الشورى على حساب السلطة التنفيذية ، نجد أن دولا أخرى تقوي سلطات رئيس الجمهورية أو الإدارة التنفيذية ، على حساب المجالس النيابية ، وحيث تتبنى دولة نظام الإدارة غير المركزية ،وتوسع منه ،فإن دولة أخرى قد تضيق من هذا النظام فتتبنى إدارة شبه مركزية أو تتخلى عنه بالكلية لتتبنى نظام الإدارة المركزية ، بل وشديدة المركزية ، لاسيما في ظروف الحرب أو الاضطرابات الداخلية .

 وكما قد نرى رعايا الدولة معينة يتحدثون لغة واحدة كالصين واليابان وكوريا ، بل ويتشابهون في الشكل واللون والسلوك والعادات ، فقد نرى – في المقابل - رعايا دولة أخرى يتحدثون عدة لغات ، ويتباينون في اللون والثقافات والعادات نظرا لتعدد الأجناس فيها كالولايات المتحدة الأمريكية أو جنوب أفريقيا ، وحيث تعتمد دولة ما على الزراعة لطبيعتها البيئية تعتمد أخرى على الصناعة ، ووهكذا يكون لكل دولة طابعها السياسي والاجتماعي والتاريخي ومواردها الاقتصادية التي قد تختلف عن دولة أخرى ، الأمر الذي ينعكس بلا شك على المقومات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية لتلك الدولة، فلا يمكن قولبة المبادئ الدستورية وتعميمها على مستوى العالم ، فلكل دولة مبادئها الدستورية التي تحكم نظامها السياسي، ولذلك سكتت الشريعة الإسلامية عن الحديث عن تفاصيل ذلك ، والمسكوت عنه يدخل في دائرة الإباحة .

 

لكن ثمة مسائل دستورية تخرج بطبعها عن أن تكون محلا للخلافات بين المشرعين أو الدستوريين ، ذلك أنها لا تتعلق بنظام الحكم السياسي فحسب ، وإنما بأمنه وأمانه ، وهو ما يسمى بالمبادئ (فوق الدستورية) فمهما تبدلت الأزمان وتعددت الأماكن وتغير الأشخاص تظل هذه المبادئ حاكمة لكل جيل ، ومرتكز لأي ثقافة ، داعمة لكل حرية ، عرفتها البشرية منذ تعاقب الرسل والأنبياء والتزمها المؤمنون وإن أخفاها المنافقون ، وأعرض عنها الكافرون ، شرعها الله تعالى بما يضمن مصلحة الأمة بل والأمم المعاهدة ، فلا يجوز مناقشتها ولا يجوز التوافق عليها ، ذلك أنها تحفظ للأمة وحدتها وللمجتمع سلمه وأمانه ، وبدونها يعيش الناس في هرج بلا نظام ولا احترام ، فلولا الإسلام لعاش الناس يبغي بعضهم على بعض ، يؤكد هذا المعنى حديث رسول الله r (فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ)[50] ، أي أن المؤمنون هم الذين يمنعون الناس من أن يتهارجون تهارج الحمر ، قال السيوطي (يتهارجون) أي يجامع الرجال والنساء علانية بحضرة الناس [51]، (كما يفعل الحمير لا يكترثون لذلك) [52]، كناية عن (كَثْرَةُ النكاح) [53]بلا ضابط ولا عقود نكاح ولا حياء .

 

لذلك فإنه إزاء اختلاف الناس فيما شرعه الله تعالى من أحكام ومبادئ كان لابد وأن يظهر الإسلام ليجدد للبشرية بنود الميثاق التي طمست من قبل ، قال تعالى (إِنَّ هذا القرأن يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [ النمل : 76  ]  ، فكان من أهم هذه البنود التي يعني بها دين الله تعالى الظاهر على الدين كله ، تلك التي تحفظ على المجتمع دينه وأخلاقه ونظامه العام وكذلك أمنه وأمانه .

 

 ولعل المثال المشهور في هذا الأمر – وإن فزع منه المرجفون – والذين فيهم نزلت آي السورة – هو حد الرجم ، فعن بن عباس قال (من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، وذلك قول الله تعالى (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا بين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير)  فكان مما أخفوا الرجم عز وجل) [54] ، ذلك أن حكم الرجم للزاني المحصن من الأحكام تمثل مبادئ أساسية لنظام المجتمع ، فبه يتم حفظ المجتمع والأسرة من الانحلال بسبب نزوات شخصية ورغبات جامحة لأحد أركان الأسرة وأهم أعمدتها ، قاطعا السبيل على  كل من تسول له نفسه خيانة الأسرة التي تكونت بكلمة من الله تعالى ، مغلقا كل سبيل للانحلال الأخلاقي في المجتمع ، بيد أنه لما كانت العقوبة قاسية والذمم خربة فقد تحايل أهل الكتاب على شرع الله فبدلوا وحرفوا وأخفوا ما كان منه ثابتا ومستقرا شرعا وعرفا ، فلما أقر الإسلام هذه المبادئ من جديد ، فجدد أصولا استقرت من قبل في مجتمعاتهم لكن أعرافهم نسخت تطبيقها ، فكانت معارضتهم لها ليس من منطلق أن هذه المبادئ من عند المسلمين ، أو أنهم لا يؤمنون بها لأنها تتنافي مع معتقداتهم وعباداتهم ، أو لأنهم يدينون بدين آخر ، وإنما حقيقة معارضتهم لها – وإن أعلنوا هم غير ذلك – هو عدم رغبتهم في الالتزام بها لما فيها من التشديد في عقاب المجرمين ، نظرا لضعف وازعهم الأخلاقي والديني في التمسك بكل ما يحفظ للأسرة دورها في قيام مجتمع متماسك ، فحد الرجم ينهى عن الرذائل والفواحش ويسد طريق اختلاط الأنساب وضياع الأولاد وتخلي الأباء عن تحمل مسئولية جيل ينشأ من هذه العلاقات المؤثمة   . 

 

وهذا يعني أن الإسلام حينما يشرع قواعد حاكمة للمجتمع لا يأبه باعتراض المنافقين من أهل الكتاب ولا من المسلمين ، ولا يأبه بتلك الدعوات التي تحض على الحرية بلا ضابط أو اتزان ، وإنما يعصف بها جميعا ليعلي كلمة الحق ، ويربط المجتمع أيا كانت دياناته ومعتقداته بهذه القواعد الحاكمة لأنها تسمو على غيرها ، ولا يسمح بالمناقشة أو المساومة حولها ، لأنها من عند الله ، والله سبحانه جعلها حصنا حصينا للمجتمع من التحلل والتفسخ والانقسام ، فهذه القواعد تظل قائمة طالما كان للمسلمين دولة .

 

 المطلب الخامس

الوثيقة الدستورية لا تمس حرية الاعتقاد إلا بما يكفل حرية الدعوة ووسائل التعبير

 

قوله تعالى (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (17) التصريح بكفر عباد المسيح يزيل ما قد يتوهمه البعض من أنه في ظل مجاورة المسلمين لأهل الكتاب والعيش معا على أرض واحدة ، والاتفاق معا على مبادئ دستورية حاكمة لدولتهم أن أمور العقيدة قد تختلط بمرور الأزمان ، فتتميع عقيدة المسلمين أو تصبح الأمة بلا عقيدة تماشيا مع دعوات تسامح الأديان التي تضمر في طياتها التحلل من كل دين ، لكن الإسلام يرد على هذا التوهم المغلوط بهجوم واضح وظاهر على عقائدهم الباطلة معلنا أن مسائل الاعتقاد وإن كانت تفوق كل المسائل الدستورية أهمية فإن المنهج الإسلامي في شأنها واضح وجلي ، فقد استثناها من أن تكون محلا للاتفاقات السياسية ، فالعقائد لا تتغير بكثرة الاتفاقات ، وإنما قد تتغير العقيدة الباطلة إذا ما انقشع الظلم عن أهل الحق لينجلى الحق ويتميز عن الباطل ، ولذلك كان منهج الإسلام في مجال الاعتقاد هو إقرار حرية النقاش والاعتراض والإتيان بالحجة قبل أن يقر حرية العقيدة ذاتها ، إذ لا يمكن أن نتحدث عن حرية الاعتقاد في ظل طمس الحقائق وتلبيس الحق بالباطل ، ولذلك يفتح الإسلام باب المناقشات والمناظرات والإتيان بالحجج والبراهين ، ويحفظ للمسلمين حقهم في أداء واجبهم الدعوي في نشر الدعوة الإسلامية بإحسان دون إكراه للناس أو أدنى تعنيف ، ثم هو يقر بعد ذلك للناس كافة حريتهم في الاعتقاد كما يشاؤون ، مخرجا هذه المسألة من مجال المساومات السياسية أو العقود المدنية .

 

 قال ابن عاشور (سرى لهم القول باتحاد اللاهوت بناسوت عيسى إلى حد أن اعتقدوا أن الله سبحانه قد اتحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى)[55] ، والمعنى الإجمالي (قل -أيها الرسول- لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح إلهًا كما يدَّعون لقَدرَ أن يدفع قضاء الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أُمِّه ومَن في الأرض جميعًا)[56]، ولذلك فلا غرو في أن يعتقد المسلمون في كفر النصارى ، كما لا غرو في أن يعتقد النصارى كفر المسلمين ، وقد صرح أهل الكتاب بأن المسلمين محرومون من الجنة ، وكذلك كانت تلك أمنيتهم ، قال تعالى (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/111) .

 في حين أن المسلمين لما اعتقدوا كفر النصارى لم يتمنوا  أن يظلوا على الكفر ، وإنما ظلت وستظل أمنيات المسلمين أن يشارك أهل الكتاب أخوانهم المسلمين في فضل الله تعالى الواسع ، وأن يشاركوهم خيري الدنيا والآخرة ويعيشوا معا جنات النعيم ، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (65) .

 

 إذن لا إشكال في اعتقاد كفر أهل الكتاب ، مع وجوب إحسان المعاملة للمسالمين منهم لا المحاربين ، وإنما تكمن الإشكالية في مخاطبة أهل الكتاب بصفتهم أنهم "كفار" ، مع صحة سلامة الإعتقاد بكفرهم ، إذ لا يجوز مخاطبتهم بأنهم "كفار" ، فليس ذلك من أدب وأخلاق المسلمين ، ذلك أن القرآن الكريم وهو كلام الله تعالى لم يخاطب الكفار بتلك الصفة – على وجه العموم - إلا في سورة الكافرون ، وذلك بمناسبة مساوتهم النبي r في أن يتنازل عن دينه مقابل أن يتنازلوا هم عن دينهم شيئا ما ، فأبان لهم منهج الإسلام من تلك المساومة وأنه لا حلول وسط في أمور الاعتقاد ، فإما الإسلام بالكلية أو الكفر به ، وفي غير هذا الموقف لم يكن القرآن ليخاطبهم (أهل كتاب) إلا بصفتهم تلك تكريما لهم أنهم أمنوا بالكتاب بمجمله وإن كانوا يكفرون بما أخفوه منه ، فهم بتلك الصفة أقرب من غيرهم لمسالمة المسلمين ، بل إن منهم من هم أقرب لمودة المسلمين من غيرهم ، ولعلهم بذلك يذرفون الدمع عندما يعرفون الحق ، مثل النجاشي وغيره الذين ماتوا على الإسلام .

 

قوله تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ترديد لأقوال أهل الكتاب الباطلة في إدعائهم أنهم المصطفون من الله اصطفاء بنوة ومحبة ، وأنهم هم المخصوصون بذلك استعلاءً منهم على غيرهم ، والأسلوب القرآن في الرد على هذا الإدعاء لم تكن بطمس أقوالهم أو تجاهلها أو تعميتها عن المسلمين ، بل سمح بعرض أقوالهم وإن كانت باطلة ، وفي ذات الوقت رد عليها بالحجة والبرهان ، فسمح للعقل بأن يعمل ، وساعد القلب على أن يبصر ، ما يعني أن الإسلام يحض المسلمين على أداء واجب الدعوة وإنكار المنكر ، بعد سماع الشبهة وبيان تفصيلها قبل الرد عليها ، وفي ذلك دليل على أن الإسلام كفل حرية الرأي والاعتقاد ، وجعلها مضمونة دستوريا ..

 

 وفي ذلك تجريد للدعوة عن الشأن السياسي واستعلاء بها عن أن تدخل معتركا سياسيا ، وليس معنى ذلك تقويض الدعوة الإسلامية وإخراج الأمور السياسية من مجالها ، ولكن المقصود هو تقديسها واعتبارها من شعائر الدين ، فلا تتعطل ولا تتوقف انتظارا لإبرام عقد مدني أو اتفاق سياسي أو ميثاق دستوري ، فالآية أشارت – بطريق التضمن - إلى تكليف المسلمين بواجب الدعوة إلى الله ، وتبليغ رسالة الإسلام ، وتعريف الناس بطلان عقيدة اليهود والنصارى ، وقد جاء هذا التكليف في مرحلة ودولة النبي r فيها بحاجة إلى توافق سياسي لتأسيس نظام دستوري يحكم الجميع ، وهي حديثة النشأة ، والحروب فيها متوالية ، والنزاعات الداخلية فيها متوترة ، ورغم هذه الظروف مجتمعة إلا أن الإسلام يجابه اليهود والنصارى بعقائدهم الباطلة طارحا كل محاولة لمهادنتهم عقائديا ، فالدعوة مع أهل الكتاب تبدأ بعد أن يكشف المسلمون للناس شبهة إبليس التي ألقاها عليهم ، وهي زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، افتراءً على الله [57]، وهو زعم نابع من كبر واستكبار ما هم ببالغيه ، ولا تنتظر حتى يحصل التوافق المدني أو السياسي على أمر ما .

 

 واليهود والنصارى يودون بهذا الزعم تمثيل دور الابن المدلل من أبيه ، ولذلك يقرنون البنوة بالمحبة ، ولا يعلمون بذلك أنهم يمثلون –تماشيا مع ظنهم جدلا وبحسب تصورهم المغلوط- دور الابن الفاسد لكثرة دلاله وترفه ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن اقتران المحبة بالبنوة دليل ضعف الأب نحو ابنه فلا يعاتبه على ذنب لكثرة محبته به وفتنته به ، وقد تعالى الله عن ذلك ، فالكل عباد لله .

 

ومن جهة ثالثة فإن إدعاءهم المحبة يناقض أفعالهم ، فإن جاز القول بأنهم أحباء الله دون القول بأنهم أبناءه ، فأين دليل المحبة ؟ وحقيقة إيمانهم لا يبرهن على دعواهم ، حيث خالفت أفعالهم ما شرعه الله ويرضاه الله ، فطريق الحق يعني أن يبيع المسلم روحه وكل ما يملك لله تعالى ، وهؤلاء يبخلون على الله بتلك البيعة ، قال تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (الجمعة/6-7) ، يقول العلماء (شرط المحبة موافقة المحبوب فتحب ما يحب وتكره ما يكره وتبغض ما يبغض ، وذلك كمن يدعي أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه فيصر عليها أو يدعي أنه يصل إلى حد في محبة الله تسقط عنه التكاليف) [58] ، وهو الأمر الذي يستتبع – إن صدقت المحبة - أن تزداد التكاليف لا أن تسقط بتلك الدعوى الباطلة ، حيث تزداد متابعتهم لمحبوبهم ، فيكون هواهم تبعا لما يحبه الله ويرضاه ، دون حاجة لإلزامهم بذلك .

 

قوله تعالى (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) رد ودحض للشبهة التي خالت عليهم ، ليشرع المسلمون بعد عرض شبهات أهل الكتاب في الرد عليها ، وتلك هي المرحلة الثانية من الدعوة إلى الله ، وهو أمر أيسر من اليسير متى التزم المسلم منهج الله تعالى ، ذلك أنه متى كانت شبهتهم وقد تمثلت في تأليه أنفسهم وترقيتها إلى مصاف النسب مع الله والولاية والاصطفاء حتى ظنوا في أنفسهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، فإن الرد على هذه الشبهة يتمثل في تذكيرهم بالموت ، أي فلما يميتكم الله تعالى في الدنيا ولم يجعلكم خالدين فيها ، ولما يبتليكم فيها بالأوجاع والأسقام والأمراض ؟

 

 فإن قالوا أن ذلك من باب الابتلاء والاختبار ، فهو حق ، وهو ما يعني أنهم يؤمنون بأن الله أعد لهم مقام أفضل من مقامهم في الدنيا إذا تجاوزوا مرحلة الابتلاء والاختبار ، يعني أنهم يؤمنون بالآخرة ، لكنهم يكذبون أنفسهم حين يبخلون عن بيع أنفسهم لله عندما يأمرهم بذلك ، قال تعالى (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/94)، أي أنهم لا يفعلون ذلك ، فإن تعذر عليهم ذلك ، فإنه يكفي تذكيرهم بالموت ، الذي هو هادم اللذات والأماني والأحلام ، وتذكيرهم بالمصائب التي تلحقهم من مرض وفقر وكدر في العيش ....الخ ، فكل ذلك من باب الكبد الذي يتكبده الإنسان ، ذلك ليعلموا أنهم مثل سائر البشر ولا ميزة لهم على أحد .

 

 قال ابن تيمية (فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ وَلَا مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْبُنُوَّةِ , بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ مَخْلُوقُونَ ، فَمَنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ مَحْبُوبُهُ , لَا يَفْعَلُ مَا يَبْغُضُهُ الْحَقُّ , وَيَسْخَطُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ , وَمَنْ فَعَلَ الْكَبَائِرَ , وَأَصَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا , فَإِنَّ اللَّهَ يَبْغُضُ مِنْهُ ذَلِكَ ; كَمَا يُحِبُّ مِنْهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْخَيْرِ ; إذْ حُبُّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ , وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّهُ لِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَنَاوُلَ السُّمِّ لَا يَضُرُّهُ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ , وَعَدَمِ تَدَاوِيهِ مِنْهُ بِصِحَّةِ مِزَاجِهِ) [59].

 

قوله تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (19) نداء لهم لتنبيههم إلى ما يكشف عنهم خفاء ما جهلوهه ، ويحقق في الأمور التي اختلفوا فيها ، فيظهر لهم حقائق الأشياء التي طمست عنهم ، لاسيما وقد طال الزمان بعد عيسى ابن مريم ، وهو الأمر الذي يستبين منه أهمية  استمرار الدعوة مع أهل الكتاب حتى بعد وفاة رسول الله r ، حتى تظل الحجة بينة ، والبيان ظاهر ، فالعلماء هم ورثة الأنبياء ، فالشرع نفى عذرهم بإرسال خاتم الأنبياء لهم ، وكذلك ينفي عنهم عذرهم بجهود الدعاة في إيصال الإسلام واضحا شافيا بينا لهم في كل زمان  .

 

 قال رَسُولَ اللَّهِ r (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ[60] لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ )[61] ، والمقصود أن عدم الفصل بين الشريعتين واتصال ما بين الدعوتين وتقارب ما بين الزمنين صيرهما كالنسب الذي هو أقرب الأنساب)[62]، قال أبو حفص النعماني (لأنَّ التَّحْريف والتَّغْيِير قد تَطَرَّق إلى الشَّرَائِع المُتقدِّمة ، لتقَادُم عَهْدِهَا وطول أزْمَانِها ، ولهذا السَّبَب اخْتَلط الحقُّ بالبَاطِل ، والصِّدق بالكَذِبِ ، فصار عذْراً للخَلْقِ في إعْرَاضِهِم عن العِبَادَات ، وسُمِّيت فَتْرة؛ لأنَّ الرُّسل كانت تَتْرَى بعد مُوسى - عليه السلام - من غير انْقِطَاع إلى عيسى ، ولم يَكُنْ بعد عيسى سِوى رسُول الله r) [63]

 

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ [64] أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ)[65] ، ومعنى قوله في الأنبياء عليهم السلام "أمهاتهم شتى" (كناية عن أزمانهم واختلافهم كالأخوة إذا كانت أمهاتهم متفرقة)[66] ، والمعنى المراد سوقه هو أن عقيدة الأنبياء واحدة ، ولذلك شبهها بالأبوة ، أما الشرائع فمختلفة ، ولذلك شبهها بالأم ، قال المناوي (أي أصل دينهم واحد وهو التوحيد وفروع شرائعهم مختلفة شبه ما هو المقصود من بعثة جملة الأنبياء وهو إرشاد الخلق بالأب وشبه شرائعهم المتفاوتة في الصورة بأمهات)[67]

 

قال القاضي : (والحاصل أن الغاية القصوى من البعثة التي بعثوا جميعا لأجلها دعوة الخلق إلى معرفة الحق وإرشادهم إلى ما به ينتظم معاشهم ويحسن معادهم فهم متفقون في هذا الأصل ، وإن اختلفوا في تفاريع الشرائع فعبر عما هو الأصل المشترك بين الكل بالأب ونسبهم إليه وعبر عما يختلفون فيه من الأحكام والشرائع المتفاوتة بالصور المتقاربة في الغرض بالأمهات ، وأنهم وإن تباينت أعصارهم وتباعدت أعوامهم ، فالأصل الذي هو السبب في إخراجهم وإبرازهم كل في عصره واحد ، وهو الدين الحق الذي فطر الناس مستعدين لقبوله متمكنين من الوقوف عليه والتمسك به فعلى هذا المراد بالأمهات الأزمنة التي اشتملت عليهم)[68].

 

 

[1] ) د : أحمد نصير

[2] ) الرازي ج6 ص11

[3] ) وَكَانَتْ الْعَرَبُ مِمَّا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ أَوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا

[4] ) رواه أحمد ج31 ص 432 رقم 15237 وانظر إلى حكم الألباني عليه في فقه السيرة للغزالي ص 146 ضعيف ، لكن في موقع الدرر السنية ص 149 صحيح ، ولا أدري أيهما أصح .

قال الشيخ الدكتور/ توفيق بن عبد العزيز السديري في كتابه الإسلام والدستور : الحديث عن كعب بن مالك رضي الله عنه : رواه أحمد (3 / 460 - 462) ، وابن إسحاق في المغازي (1 / 273 - 276) وصححه الألباني ، فقه السيرة ، محمد الغزالي تحقيق الألباني ، ص 159 .

[5] )  رواه البخاري ج12 ص 331 رقم 3647

[6] ) التيسير بشرح الجامع الصغير ج2 ص 594

[7] ) رواه مسلم ج 13 ص 382 رقم 5001

[8] ) جلال الدين السيوطي : الديباج على مسلم ج6 ص 150

[9] ) ابن حجر : فتح الباري ج7 ص 275

[10] ) محمد الفضيل بن محمد الفاطمي الشبيهي : الفجر الساطع على الصحيح الجامع ج2 ص 112

[11] ) تفسير ابن كثير ج3 ص 64

[12] ) شهاب الدين المصري : التبيان تفسير غريب القرآن ج1 ص 180

[13] ) النكت والعيون ج1 ص 351

[14] ) تفسير الألوسي ج4 ص 412

[15] ) تفسير الشعراوي ج1 ص 2075

[16] ) مصنف ابن ابي شيبة ج14 ص 597

[17] ) رواه البخاري ج1 ص 29 رقم 17

[18] ) رواه أحمد في مسنده ج31 ص 432 رقم 15237

[19] ) رواه أحمد في مسنده ج31 ص 432 رقم 15237 وصححه الألباني في تعليقه على فقه السيرة للغزالي ج1 ص 146

[20] ) النهاية في غريب الأثر ج2 ص 332

[21] ) النهاية في غريب الأثر ج5 ص 573

[22] ) غريب الحديث لابن قتيبة ج1 ص 303

[23] ) رواه البخاري ج8 ص 97 رقم 2142

[24] ) رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث محتجٌّ به، وصحَّحه جمع من أهل العلم.

[25] ) السياسة الشرعية ج1 ص 217

[26] ( نيل الأوطار ج 9 ص 128 

[27] ) أي مخافة أن يقتلا (الذي بايع والذي بويع دون مشورة المسلمين) ، "التَّغِرَّة" : مصْدر غَرَّرْتُه إذا ألْقَيْتَه في الغَرَر وهي من التَّغْرير كالتَّعِلَّة من التَّعْليل . وفي الكلام مضاف محذوف تقديره : خَوْفَ تَغِرَّة أنْ يُقْتَلا : أي خَوْفَ وقُوعِها في القتل فحذف المُضاف الذي هو الخوْف وأقام المُضاف إليه الذي هو تَغِرَّة مُقامَه وانْتَصب على أنه مفعول له . ويجوز أن يكون قوله [ أن يُقْتَلا ] بدلا من [ تغرة ] ويكون المُضاف مَحْذوفاَ كالأوّل . ومَن أضاف [ تَغِرّة ] إلى [ يُقْتَلا ] فمعناه خَوْفَ تَغِرَّته قَتْلَهما .

النهاية في غريب الأثر ج3 ص 661

[28] ) رواه البخاري ج21 ص 106 رقم 6328

[29] ) النهاية في غريب الأثر ج3 ص 911

[30] ) النهاية في غريب الأثر ج3 ص 911

[31] ) النهاية في غريب الأثر ج3 ص 911

[32] ) النهاية في غريب الأثر ج3 ص 661

[33] ) رواه البخاري ج22 ص 147 رقم 6667

[34] ) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ج5 ص 778 رقم 14358

محمد محمد الشلش , الدولة المدنية في التشريع اإلسالمي( إشكالية العالقة وجدلية الألفاظ  (جامعة القدس المفتوحة 

الحكومة الإسلامية رؤية تطبيقية معاصرة - بواسطة عبد المجيد يوسف الشاذلي

لدلالات والرمزية السياسية والحضارية عند دول المشرق الإسلامي -بواسطة إبراهيم محمد علي مرجونة

[35] ) تفسير الشعراوي ج1 ص 2075

[36] ) النقباء أول نواب في الإسلام : بقلم عيسى الشارقي : جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية            https://tajdeed.org/

[37] ) اللباب في علوم الكتاب ج6 ص 17

[38] ) التحرير والتنوير ج5 ص 59

[39] ) رواه الترمذي ج2 ص 99 رقم 328 وصححه الألباني : صحيح الترغيب والترهيب ج1 ص 117 رقم 487

[40] ) رواه أبو داود ج9 ص 414 رقم 3067 وصححه الألباني : صحيح وضعيف سنن أبي داود ج 8 ص 34 رقم 3534

[41] ) رواه البخاري ج10 ص 428 رقم 2933

[42] ) ابن البطال : شرح صحيح البخاري ج5 ص 347

[43] ) رواه البخاري ج9 ص 81 رقم 2424

[44] ) عمار العبار : الجمهورية : ألا نقتلها يا رسول الله https://www.aljumhuriya.net/ar/8020

[45] ) رواه الحاكم في المستدرك ج3 ص 242 رقم 4967 وقال صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه - تعليق الذهبي في التلخيص : سكت عنه الذهبي في التلخيص

[46] ) شرح النووي على مسلم ج14 ص 179

[47] ) رواه ابن ماجة ج11 ص 492 رقم 3981 وصححه الألباني : ج2 ص 364 رقم 3225/ 3981

[48] ) التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي ج1 ص 360

[49] ) حمدى شفيق : رئيس تحرير جريدة النور الإسلامية المصرية -  الإسلام والآخر الحوار هو الحل ج1 ص 55

[50] ) رواه مسلم ج14 ص 167 رقم 5228

[51] ) الديباج على مسلم ج6 ص 254 تحفة الأحوذي ج6 ص 420

[52] ) شرح النووي على مسلم ج18 ص 70

[53] ) النهاية في غريب الأثر ج5 ص 587

[54] ) رواه النسائي في سننه الكبرى ج6 ص 333 ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ج4 ص 400 رقم 8069 وقال الذهبي في التلخيص صحيح وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه ج10 ص 277

قال صاحب الترتيب لصحيح بن حبان (علي بن بلبان بن عبد الله، علاء الدين الفارسي، المنعوت بالأمير) حديث صحيح، الحسين بن سعد لم أر من ترجمه، لكن ذكره المزي في "تهذيب الكمال" في ترجمة جده علي بن الحسين بن واقد في عِداد من روى عنه، وعلي بن الحسين بن واقد، قال النسائي: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وذكره العقيلي في "الضعفاء"، ووثقه المؤلف، وباقي رجال السند ثقات.

[55] ) التحرير والتنوير ج5 ص 70

[56] ) التفسير الميسر ج2 ص 191 - عدد من أساتذة التفسير تحت إشراف الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي

[57] ) وقد وقع في التوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله؛ ففي سفر التثنية أول الفصل الرابع عشر قول موسى: "أنتم أولاد للرب أبيكم".وأما الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي المسيح، وبأبي المؤمنين به، وتسمية المؤمنين أبناء الله في متى في الإصحاح الثالث: "وصوت من السماء قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"وفي الإصحاح الخامس: "طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون".وفي الإصحاح السادس: "وأبوكم السماوي يقوتها".وفي الإصحاح العاشر: "لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم".

التحرير والتنوير ج5 ص 72

[58] ) الشيخ محمد بن عبد الوهاب : تيسير العزيز الحميد ج1 ص 415

[59] ) ابن تيمية : الفتاوى الكبرى ج5 ص 200

[60] ) يقصد بذلك نبي الله إبراهيم ، قال البغوي (يقال لأخوةٍ بني أب وأم : بنو الأعيان ، فإن كانوا لأمهات شتى ، فهم بنو العلات ، فإن كانوا لآباءٍ شتى ، فهم أخيافٌ) شرح السنة للبغوي ج13 ص 200

[61] ) رواه البخاري ج11 ص 259 رقم 3186

[62] ) فيض القدير ج3 ص 61

[63] ) اللباب في علوم الكتاب ج6 ص 28

[64] )( والأنبياء أولاد علات ) بفتح المهملة أخوة لأب (وأمهاتهم شتى) أي متفرقة فأولو العلات أولاد الرجل من نسوة متفرقة

التيسير بشرح الجامع الصغير ج1 ص 766

أولاد العلات الإخوة من أب واحد : كشف المشكل من حديث الصحيحين ج1 ص 911

[65] ) رواه البخاري ج11 ص 260 رقم 3187

[66] ) القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي المالكي - مشارق الأنوار على صحاح الآثار ج2 ص 244

[67] ) فيض القدير ج3 ص 62

[68] ) فيض القدير ج3 ص 62

  • الاحد AM 11:36
    2025-11-30
  • 41
Powered by: GateGold