ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ

شٌبهات وردود

المكتبة المرئية

خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ

المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين

البحث
عرض المادة
قتال الصادين رحمة بالمستضعفين
د\احمد نصير
لماذا سميت سورة محمد بسورة القتال ؟
"قتال الصادين رحمة بالمستضعفين"
هذه السورة هي أول سور المفصل في القرآن الكريم ، وقد ذكر النبي r أن المفصل هو ما فضلت به أمة محمد r عن سائر الأمم ، ولما كانت هذه الأمة هي القائدة لكافة الأمم ، كان لابد أن تتربى على العفو والصفح زمنا طويلا قبل أن تتربى على الجهاد في سبيل الله ، وذلك لأجل أن يكون غضبهم لا لشيء إلا لله ولا يكون انتقامهم لأنفسهم ، بل لله وحده ، تقول السيدة العائشة رضي الله عنها (وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ r لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا)[1].
فالمحور الرئيسي لسورة محمد يدور حول التأكيد على التحول من مرحلة كف اليد عن الكافرين وتحمل أذاهم ، بل العفو والصفح عنهم كما في قوله (قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(الجاثية/14)، إلى مرحلة رد العدوان ، وفرض الجهاد في سبيل الله على المسلمين لإزالة قوى الظلم والطغيان ، والقتال بضراوة كما في قوله (فضرب الرقاب) ، بعدما طالت مرحلة كف اليد لسنوات وقد تربى الصحابة على كظم الغيظ والعفو والصفح والصبر قبل التربية علي الجهاد في سبيل الله ، وذلك بعد أن جردوا نيتهم من أي حظ للنفس ، وتأكد لديهم أن الجهاد لأجل الثأر لإخوانهم أو حتى لأنفسهم غرض ثانوي ، وليس شفاء الصدر هو الغرض الرئيسي للجهاد ، لاسيما وقد مضى زمن طويل ما يقارب ثلاث عشرة سنة ، وهم يعذبون ويقتلون في مكة ، ولا ينصرهم أحد ، ليخلص جهادهم لله ، فتكون غايتهم أن تكون كلمة الله هي العليا.
وأول الأمر في فرض الجهاد بدأ بأن ألمحت سورة النحل إلى جواز القصاص ، مع الندب إلى الصبر باعتباره هو أولى في هذه المرحلة ، وذلك في قوله (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل126) ، كما شرعت سورة الشورى إلى جواز القصاص كذلك ، مع إمكان العفو عن السيئة ، كما في قوله (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى41)
فلم يفرض الجهاد في العهد المكي وإنما نزل الأمر به في العهد المدني بعد تهيئة طويلة للمسلمين ، وذلك في قوله (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..) ، وتأكد الأمر به في سورة النساء في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)(النساء 77) ، وكذلك في سورة البقرة حيث نزل الأمر صريحا بقوله (قاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ) .
أما الحديث عن القتال في هذه السورة فقد جاء ببيان أحكامه عند حصول اللقاء فعلا ، وقد حصل أكثر من مرة قبل نزولها ، ولذلك تناولت السورة أحكام القتال في قوله (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) للتأكيد على أن قسوته وشدته ، وأن الأمر به لابد وأن يُحمل محمل الجد ، فكلما اشتد القتال ضراوة كلما وضعت الحرب أوزارها في وقت أقل .
ولذلك سميت السورة أي سورة محمد بسورة القتال[2] للتصريح فيها بقتال الكافرين ، فسبب هذه التسمية قوله تعالى (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) ، فحضت المؤمنين على قتال الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله لكونهم جمعوا وصفين : الأول أنهم كفروا ، والثاني أنهم صدوا عن سبيل الله .
فاللافت للانتباه أنها لم تحض على قتالهم لمجرد كفرهم ، فليس ذلك هو حكم الإسلام في الذين كفروا ، إذ لا إكراه في الدين كما هو معلوم ، والواجب دعوتهم للإسلام بالحسنى ، وإنما شرع قتالهم حين يقترن كفرهم بالصد عن سبيل الله ، أي بصفتهم ظالمين مانعين الخير أن يصل للناس ، فكونهم غير معاهدين يعني أنهم ظالمون صادون عن سبيل الله .
ولذلك شنت السورة هجوما عنيفا من أولها إلى أخرها علي الصادين عن سبيل الله سواء أكانوا كفارا أو منافقين ، وأكدت في أكثر من موضع أنها تصب هجومها على هؤلاء النفر من الكافرين وليس كل الكافرين ، فعنيت بالصادين منهم عن سبيل الله تعالى ، أي الكافرون المحاربون ، كما عنيت بالمنافقين وخصت منهم الطائفة الرافضة لقتال الكافرين الصادين عن سبيل الله ، باعتبارهم الذين يخذلون المؤمنين عن رفع الظلم عن المظلومين ونصرتهم لهم ، وفي مقابل ذلك كله عنيت بالمؤمنين الذين يجاهدون في سبيل طاعة الله ورسوله، وأمرتهم بأن يتابعوا القتال فلا يهنوا ولا يستسلموا للكفار أبدا .
واللافت للانتباه أن العلاقة بين اسمي السورة "محمد" و"القتال" ، علاقة تضاد في الظاهر ، فمحمد رسول جاء بالرحمة ، بدليل قوله سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ، فالله أرسله ليكون رحمة للعالمين ، فكيف يتسنى أن تسمى السورة باسم نبي الرحمة ، وهي من أولها لآخرها تدعو لقتال الصادين عن سبيل الله ؟
كما أن لها اسما ثالثا وهو سورة "الذين كفروا" أخذا بما ورد في مقدمة السورة ، وهو الاسم الذي يربط الاسمين الأولين ببعضهما البعض ، أي أن النبي محمد r بعث ليقاتل الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله رحمة بالضعفاء والمظلومين ، كما ورد في الحديث (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ)[3] .
فالسورة قبل أن تأمر المسلمين بقتال الكافرين أوضحت العلل التي سردتها سردا لتبرر استحقاقهم للقتل ، أي لأنهم قد صدوا عن سبيل الله تعالى ، واتبعوا الباطل ، وكرهوا ما أنزل الله تعالى من قرآن ، ولأن غايتهم في الحياة الإسراف في الشهوات بلا ضابط ، حتى شبهتهم بالبهائم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام ، فلا يتحرون الحلال من الحرام ، ولا يراعون حقوق الله التي أحالها لعباده ، ولأجل تحقيق أهدافهم من ترف العيش يستقطعون ذلك من حقوق المستضعفين ، لاسيما وقد استطال عدوانهم بأن أخرجوا عباد الله من ديارهم ، وأخرجوا النبي r من قريته ،
فجمعوا إلى كفرهم أن صدوا عن سبيل الله تعالى ، وشاقوا الرسول وخاصموه وكادوا لقتله والتخلص منه أكثر من مرة ، أفبعد هذا ندعوهم للسلم ؟ ولذلك قال الله (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) ، وحتى تتحقق هذه الرحمة للعالمين لابد وأن يُقاَتل من يصد هذه الرحمة أن تصل للناس ، ويصد عن سبيل الله ، ولذلك قال شوقي : إن الحرب في الحق لديك شريعة ... ومن السموم الناقعات دواء .
والأمر الصادر للنبي r بالقتال لا يعني إكراه الناس على الإيمان بالله ، بل هو يكشف أمر واقع لا محالة ، وهو رفض الذين كفروا لدين الإسلام رفضا قاطعا حملهم على الصد عن سبيله ، فليس من المتصور أن يرفضوا الإسلام ولا يدينون به ، ثم هم يقفون موقف المحايد المسالم للذين آمنوا ، فلا يحاربون أهل الإسلام ولا يقاتلونهم ، بل قد أثبت الواقع أنهم يصدون عن سبيل الله إما باضطهاد المستضعفين من المسلمين في بلادهم وردهم عن دينهم أو بالمكر والحيلة والخديعة للمسلمين إن كانوا أقوياء ولهم شوكة ، حيث يقلبون الأوضاع ويُمكنون للمنافقين ليكونوا عونا لهم في إحداث فتن داخلية في ديار المسلمين ، قال تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(البقرة 217) ، فالحديث المتقدم ذكره يتفق مع معه هذه الآية ، ودلالة كلاهما أن الناس لا يزالون يصدون عن سبيل الله ما لم يقروا بلا إله إلا الله .
يعزى هذا الاستنباط إلى أن من لا يقر بألوهية رب العالمين ، فإنه يؤله نفسه وهواه (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) ، وبالتالي ينتزع لنفسه صفة الكبر والعظمة وهما ليستا له ، بل هما لله وحده ، من هنا يحدث الظلم والاستقواء بالباطل ، فأهل الباطل يؤلهون أنفسهم ، ثم يؤلهوا فرعون باعتباره رب الأرباب ، كما أله فرعون نفسه ، ولهذا يعثون في الأرض فسادا ليقصي كل متأله منافسه ، ويحظى بمحبة متبوعه الذي هو أعلى منه درجة ، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران 64) ، وهكذا يؤله البشر بعضهم بعضها حتى يصيروا جميعا عباد للشيطان ، الذي يسمونه بالمهندس الأعظم شركا بالله ، فيطلب كل تابع من متبوعه المال ويسأله الجاه ويلتمس عنده العزة والسلطان ، والكون لا يتسع لإلهين اثنين ، قال تعالى (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (النحل 51) ، فكيف وهم يتنازعون جميعا ويتنافسون على ذلك ، وقال تعالى (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون 91) ، وهكذا يفعلون فيعلوا بعضهم على بعض ظلما وعدوانا .
أي أنه - وبالفرض الجدل - أن للكون أكثر من إله ، وذلك عند التسليم بأنه كل إنسان عبد لهواه ، فعندئذ لابد –وفقا للتفكير العقلي - أن يعلو كل متأله على الآخر ، فلا يقبل العقل أن لا يتنازعا ، ما يستتبع أن يعلو أتباع هذا الإله على أتباع الإله الآخر ، وينتصر أحدهما على الآخر ، وهذا بالفعل هو الذي يحصل ، ولذلك قال الله تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء 76) .
أي لابد من يحصل تضارب في المصالح بين أتباع كل آله وآخر حال التعدد ، الأمر الذي يعني نشوء صراعات دموية بين أصحاب المصالح المتعارضة ، من هنا ينشأ الفساد في الأرض ، قال تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء22)
مما سبق نفهم حتمية أن يدين الكون لله الواحد الأحد ، الأمر الذي يعني بالضرورة أن يجاهد أصحاب الحق لكسر الأصنام التي تُعبد من دون الله ، حتى يدين الكون كله لإله الواحد الأحد ، فإن أبى الناس عبادة الله ، وظلوا يعكفون على أصنامهم ، فالإسلام لا يكرههم على أن يؤمنوا به ، ولكنه يضع من الضمانات ما يكفل لقومهم أن يدخلوا في الإسلام دون أن يكرههم أحد على الكفر ، فيزيل بالجهاد كل عقبة أمام حرية الناس في الإيمان بإله واحد ، فالإسلام ولا شك الدين الحق ، الذي لو خلا الطريق بينه وبين الناس لانشرحت صدورهم له ، متى تخلصوا من الكبر .
ومن ضمن العقبات التي يزيلها الجهاد الصادين عن سبيل الله ، وهم الأسياد الذي يحولون دون وصول الدعاة لأراضيهم ، الذين يسميهم القرآن أئمة الكفر ، كما في قوله (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) (التوبة 12) ، وهنا كان لابد من عهد يضمن ذلك ، أي عهد بين المسلمين وبين دار الكفر يضمن للمسلمين ممارسة حق الدعوة ونشر الدين في أرضهم ، ولكن هيهات أن يحصل ذلك ، فلا ضمان لأن تمارس حرية الاعتقاد وأن يمارس الناس شعائر دينهم إلا في كنف الإسلام ، أي بعهد الله وذمته ، من هنا شرع عهد الذمة وعهد الاستئمان ، قال تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة 29) ، فإذا دخلوا في عهد الإسلام وذمة الله ورسوله ، فلهم عهد الله ورسوله ، ولهم حقوقهم التي أقرها الإسلام ، ومنها حمايتهم من أي عدوان .
إذن الغاية من قتالهم ليست إكراههم على الإسلام ، ولكن الغاية هي تحرير الناس من كل طوق أو قيد يحول بينهم وبين وصول دعوة الإسلام لهم ، ولذلك فرض الإسلام الجزية على من لا يريد الدخول في الإسلام لأجل أن تكون هي الضامن لاستمرار تبعيهم لعهد الله ، وذمته فلا يتحدوا أو يميلوا لفئة تحارب المسلمين ، وذلك هو معنى الصغار الوارد بالآية ، لأنهم لو تكبروا لنكثوا أيمانهم ، وخانوا العهد بينهم وبين المسلمين .
فضلا عن أنه بأداء الجزية يعفي المعاهد نفسه من أن يحارب مع المسلمين ضد أهل ملته ، أي أنها الضامن لأن يظل على الحياد ، وفي مقابل ذلك يستفيد من حماية المسلمين له ، فإن عجز المسلمون عن حمايتهم وهم في كنفهم ، فإن سقوط الجزية في هذه الحالة واجب حتما على التفصيل الذي يمكن الرجوع إليه في سورة التوبة .
إذن مناط دفع الجزية أمرين ضمان عدم الانحياز ، في مقابل أن يمن عليه المسلمين بالحماية العسكرية ، ومن يرفض أن يدخل في حماية المسلمين ، ويتعهد بعدم الانحياز لأعداء المسلمين ، ويظن أنه يستطيع أن يحمي نفسه - رغم إعلانه بعدم الإنحياز لأهل ملته الذين يحاربون المسلمين - يتبقى عليه أداء واجب حتى يقبل منه ما يقول ، وهو أن يخلي الطريق بين المسلمين وإيصال الدعوة للإسلام في داره أي دار الكفر ، وهذا فرض نظري غير متصور عملا ، فإن أبى هذا أو ذاك ، فلابد أنه سوف يميل إلى أهل ملته لينقلب على المسلمين في اللحظة المناسبة ، وهؤلاء الذي يصدق في حقهم قول الحق سبحانه (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) ، فالقرآن يكشف واقعا يحدث ، وليس يفرض نظرية بعيدة عن واقع الناس وحياتهم .
وقد عقدت السورة عدة مقارنات بين هؤلاء الصادين عن سبيل الله ، ومن يقابلهم من المؤمنين الصادقين الذين ينصرون هذا الدين بأنفسهم وأموالهم ، كما في قوله (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله..) ، وقوله (مثل الجنة التي وعد المتقون ..كمن هو خالد في النار...) ، وبينت عاقبة الفريقين ، فبينما لم تختلف عاقبة المحاربون لله ورسوله عن عاقبة من سبقوهم من الأمم ، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) (10) فإن عاقبة المؤمنين بالآخرة الجنة وراحة البال ، وفي الدنيا ولاية الله لهم ، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) (11) وهكذا.
وقد عنيت السورة بطائفة المنافقين ، حيث لا يعدم المنافقون وللمسلمون شوكة ، يقاتلون بها أعداء الله تعالى ، فالمنافق ليس له هم في الدنيا غير أن يرتع ويلعب ويمرح ، شأنه شأن الأنعام تأكل وتمرح بلا ضابط ولا حساب ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) ، يعيشون الحياة بصورتها المادية وحسب ، ولا ينشغلون بأن يقدموا لدينهم ما عليهم من واجب وحق لله رب العالمين ، ولا يفقهون شيئا عن حقوق الغير .
وقد بينت السورة أحوال المنافقين مع النبي r وأصحابه ، وهم يعيشون في كنف المسلمين ، ويختلطون بهم ، بل ويسمعون النبي r وهو يحدثهم وأصحابه لعلهم يفقهون شيئا ويتعظون بشيء مما يقول ، لكنهم لا يفقهون شيئا ما يقوله النبي r ، فهم كالصم لا يسمعون ، طُبع على قلوبهم ، صرفهم الهوى عن الهدى إذ اتبعوه ، ولذلك أكثروا الجدال بشأن آيات القتال ، وكأنهم يريدون أن تحذف هذه من القرآن ، تلك هي حقيقتهم ، وإن كانوا يزعمون أنهم أبطال حرب ورجال يقفون في المعارك ولا يخافون ، ويظهرون أنهم يتمنون اليوم الذي يلاقون فيه أعداء الله تعالى ، فإذا حدث من يتحدثون عنه ، وأضحى القتال أمرا واقعا مفروضا ترى فيهم الخور والجزع ، وترى الخوف في أعينهم والفزع ، وتجدهم أول الفارين من أعداء الله تعالى ، فأين ما كانوا يقولون من قبل ؟ (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ)
فوبختهم وكشفت خيانتهم ، وأظهرت خسة أنفسهم ، وكيف أنهم لا يرغبون في الذود عن أوطانهم وبذل دمائهم في سبيل الله والمستضعفين ، يريدون إسلاما مستأنسا ليس فيه قتال لأعداء الله تعالى .
فحياة المنافق ليست إلا إفسادا في الأرض وتقطيعا للأرحام ، (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) ، من هنا كانت دعوة القرآن للتدبر في كتاب الله تعالى الذي أنزله وشرعه لنتعبد لله به ، لكن أنى لهم أن يفهموا الحكمة من قتال الكافرين الظالمين الصادين عن سبيل الله تعالى ، وأنى لهم أن يدركوا الرحمة من ذلك .
فهم حين ينكرون فريضة الجهاد فقد أنكروا معلوما من الدين بالضرورة ، ومن ينكر ذلك فقد كفر بإجماع علماء المسلمين ، قال الشيخ أبو اسحق الحويني ذلك أن (المعلوم من الدين بالضرورة لا نحتاج إلى إظهار الحجة عليه، لأن معنى (معلوم من الدين بالضرورة) أنه ليس هناك جهلٌ به)[4]، ولذلك سماهم الله تعالى بالمرتدين ، فقال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) ، لماذا ؟ لأنهم إن لم يكونوا مؤمنين بالجهاد فإنهم ليسوا فريقا آخر عن الكافرين ، بل هم مثلهم لأنهم والوا الكفار ، فكرهوا معا شرع الله ، واتبعوهم فيما أسخط الله ، وكرهوا رضوانه فأحبط الله أعمالهم ، تماما مثلما أحبط أعمال الكافرين ، ولذلك عرَّفهم الله لنا بسيماهم حتى يتسنى لنا الحذر منهم واتقاء شرهم وغدرهم فيعرفهم المسلمون من لحن قولهم .
وكما بدأت السورة بإعلان ضلال أعمال الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، وإحباط سعيهم ومؤامراتهم ، فقد أكدت – للمرة الثانية - على ضلالهم وأن خططهم ومخططاتهم سوف يحبطها الله تعالى (الآية30) ، وأكدت – في المقابل- على ضرورة ثبات المؤمنين على الجهاد والإخلاص لله تعالى ، كما أكدت - للمرة الثالثة – علي ضلال الكافرين مبينة مصيرهم في الآخرة (الآية34) ثم ربطت على قلوب المؤمنين وقد أعيتهم مجاهدة الكافرين ، ناصحة لهم بعدم الضعف والاسترخاء والركون إلى الدنيا وترك الجهاد ، وعدم الالتفات إلى مصائب الدنيا التي خلفها الجهاد في سبيل الله ، وضرورة التجرد من الدنيا أثناء الجهاد ، وإنما عليهم الانشغال بالفداء وبذل كل غال ورخيص في سبيل الله تعالى ، واليقين بأن دين الله تعالى منتصر سواء بهم أو بغيرهم إن هم تولوا ولم ينصروه (35-38) .
في الأخير يمكن القول بأن السورة من أولها لآخرها عنيت بالمؤمنين باعتبارهم أنهم هم المعنيون بالقتال في سبيل الله ، وهم الذين آمنوا بالله سبحانه واتبعوا نبي الرحمة ، وعملوا بمنهجه فاتبعوا الحق دون جدال ، ونصروا دينه دون تلكؤ ، الذين ابتلاهم الله بالجهاد في سبيله (الآية 31) ، قد ثبتهم الله على الحق وزادهم هدى على هدى ونصرهم وبين أن عاقبتهم الجنة لا محالة ، الآيات من (4-7)، وشوقهم إليها بذكر ألوان الشراب وكل الثمار (الآية 15) .
وقد خاطب القرآن الكريم الطائفة المؤمنة التي التزمت شرع الله وأطاعت رسوله وقاتلت معه ، آمرا لهم بالاستمرار في طاعتهم لله ولرسوله دون تردد أو جدال وهددهم بإحباط أعمالهم لو ترددوا فيما أمرهم الله من وجوب قتال الكافرين أو الركون للظالمين ، ونهتهم عن محاولة عقد سلم أو صلح معهم خوفا من بطشهم أو استضعافا لموقف المسلمين (الآيات 31-35) ، فذلك لا يستقيم مع تأكيد المولى سبحانه لهذه الطائفة المؤمنة أنها الأعلى وبحق ، وأن الباطل هو الزاهق فالباطل ليس إلا خيالات (35) ، فالصلح لا يجوز اللجوء له خوفا من عدو أو استصعابا لطريق الجهاد في سبيل الله ، وإنما له مآلاته في ضوء السياسة الشرعية لولي الأمر بما يتفق مع مقاصد الدين.
من هنا كان لابد وأن يصير أهل الحق أهله حقا حتى تتحقق لهم العزة على الكافرين ، فأهل الحق هم الذين يضحون بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله دون تردد ، أولئك الذين يستعملهم الله تعالى ولا يستبدل غيرهم بهم (الآية 38 خاتمة السورة) .
[1] ) رواه البخاري ج11 ص 395 رقم 3296
[2] ) وردت هذه التسمية في تفسير ابن كثير ج7 ص 306
[3] ) رواه البخاري ج10 ص 97 رقم 2727
[4] ) الشيخ أبو اسحاق الحويني - http://www.alheweny.org/aws/play.php?catsmktba=11468
-
الاحد AM 11:16
2025-11-30 - 41



