ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
نماذج من الآيات التي يزعم بأنها موهمة للتعارض
لا أستطيع في هذا البحث - المحدود الصفحات - استقصاء الآيات الموهمة للتعارض ، بل سأذكر بعض الأمثلة للآيات القرآنية التي زعم المغرضون أن فيها تعارضا ، وبيان مجانبتهم الصواب ، وتنكبهم عن الطريق الصواب في فقه كتاب الله ، وإدراك أسرار التعبير فيه ، من ذلك :
1- قولة تعالى : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراًً)( 16 :الإسراء ) ، فإن الآية توهم عند النظرة الأولى أنها تأمر بالفسق ، وهو أمر مخالف لمحكم الكتاب ، إذ يتضح هذا المحكم في قول الله تعالى : ( إن الله لا يأمر بالفحشاء) ( 28 :الأعراف ) ، فالآية تشير إلى أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء أو الفسق ، وبيان ذلك : أن الآية الثانية أفادت أن الفحشاء والفسق لم يأمر بهما الله ، بينما أفادت الأولى أن الله أمر بالفحشاء والفسق ، وإذن : فالفسق مأمور به وغير مأمور به - تعالى الله عن ذلك – وهذا مما يوهم التعارض . والجواب عن ذلك : من ثلاثة أوجه : [ الأول : وهو أظهرها : أن معنى قوله ( أمرنا مترفيها ) أي : بطاعة الله ،وتصديق الرسل ، ففسقوا ، أي : بتكذيب الرسل ، ومعصية الله تعالى ، فلا إشكال في الآية أصلا . أي : أن الناس جاءهم أمر الله ليمتثلوه ، لكنهم تركوه وراءهم ظهريا ، وساروا في طريق الفسق والفجور ، فأخذهم الله بأعمالهم .
الثاني :أن الأمر في قوله ( أمرنا مترفيها ) أمر كوني قدري ، لا أمر شرعي ، أي : قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا ، والأمر الكوني القدري :كقوله تعالى (كونوا قردة خاسئين )( 166:الأعراف ) و ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )( 82 : يس ) والأمر في قوله ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء )( 28 : الأعراف ) ، أمر شرعي ديني فظهر أن المنفي غير المثبت .
الوجه الثالث : أن معنى ( أمرنا مترفيها ) أي : كثرناهم حتى بطروا النعمة ففسقوا ، ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعا من حديث سويد بن هبيرة - رضي الله عنه - :
( خير مال امرئ مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة ) فقوله مأمورة : أي ، كثيرة النسل وهي محل الشاهد ..][1] .
2 - قوله تعالى:( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)(33 : الأنفال ) ، مع قوله تعالى:( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام...)( 34 : الأنفال ) . . أفادت الآية الأولى: نفي العذاب, بينما أفادت الآية الثانية: إثبات العذاب, وهو موهم التناقض .ولدفع هذا التعارض أقول :- إن النضر بن الحارث قال:( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ( الأنفال 32) ، يريد: أهلكنا ومحمداً ومن معه عامة ، فأنزل الله (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.... الآية) [2] ( الأنفال : 33) ، أي لا يعذبهم وأنت مقيم فيهم بمكة، وكان كذلك، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- طيلة بقائه بمكة لم يعذبوا ، ولأن العذاب إذا أنزل عــمّ ، ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها . ثم قال: ( وما لهم ألا يعذبهم الله ) بعد خروج النبي والمؤمنين والمستغفرين. وقيل: المراد بالأول: عذاب الاستئصال، وبالثانية: غير الاستئصال .
وقيل : المراد بالأول: عذاب الدنيا، والثانية: عذاب الآخرة. وعلى ذلك فلا اختلاف ولا تناقض .[3]
3 - قوله تعالى:(فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)( 6 : الأعراف ).
وقوله تعالى:( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون)( الحجر : 92) . وقوله تعالى : (وقفوهم إنهم مسؤلون)( الصافات : 24 ) .مع قوله تعالى (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) ( القصص : 78).وقوله تعالى: (فيومئذ لا يسال عن ذنبه انس ولا جان) (الرحمن : 39).
أفادت المجموعة الأولى السؤال، والثانية:عدم السؤال، وهذا يوهم التعارض.
ولدفعه أقول : لا تعارض ولا اختلاف ، لأن في القيامة مواقف كثيرة ،ففي موضع يسألون ،وفي موضع أخر لا يسألون ، فاختلف المكان، وكذلك اختلف الزمان ،لأن الموقف يطول ، ففي وقت يسألون ، وفي آخر لا يسألون .وقيل: إن السؤال المثبت سؤال توبيخ وتبكيت . والمنفي: سؤال المعذرة ، وبيان الحجة ، أو سؤال الاستعلام، فالسؤال مختلف، وعلى ذلك فلا تعارض [4].
4- قوله تعالى : ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم انتم وشركاؤكم )( سورة يونس : آية / 28 ) مع قوله تعالى:(ولا يكلمهم الله يوم القيامة )( سورة البقرة : آية / 174) ، أثبتت الآية الأولى كلام الله للمشركين، بينما نفته الثانية .وسبق أن قلنا : إن مواقف القيامة : مواقف ومواطن ، ففي موقف يكلمهم ، أو المراد : أنه لا يكلمهم كلاما يسرهم وينفعهم ، بل كلام توبيخ وتقريع ، وعلى ذلك فلا اختلاف [5] .
5 - قوله تعالى:(يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) ( هود : 105 ) .
وقوله تعالى:(لاتختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد) ( ق :28 ).
وقوله تعالى:(هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون)( سورة المرسلات : الآيتان /35، 36) .
مع قوله تعالى:(يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها )( النحل : 111 )
و قوله تعالى:(ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون )( الزمر : 31).
و قوله تعالى:(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )( البقرة : 111).
فالجواب : إن يوم القيامة طويل ، وفيه أحوال مختلفة ، ففي بعض الأحوال لا يقدرون على الكلام لشدة الاهوال، وفي بعضها يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون ،وفي بعضها تخف عنهم تلك الأهوال ، فيحاجون ، ويجادلون ، وينكرون ، أو: المأذون فيه : الجوابات الحقة ، والممنوع عنه : الأعذار الباطلة [6]... أو: انهم يختصمون ، ويدعي المظلومون على الظالمين ، ففي تلك الحالة يختصمون ، فإذا وقع القصاص وثبت الحكم ، قيل : لا تختصموا ولا تنطقوا ، ولا تعتذروا ، فليس ذلك بمغن عنكم ، ولا نافع لكم ، فيسكتون . [7] روى عبدالرازق عن معمر عن قتادة : أن رجلاً جاء إلى عكرمة فقال : أرأيت قول الله تعالى:(هذا يوم لا ينطقون )و قوله (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) فقال :إنها مواقف .فأما موقف منها: فتكلموا واختصموا ، ثم ختم الله على أفواههم ، فتكلمت أيديهم وأرجلهم ، فحينئذ لايتكلمون ) [8].
- - قوله تعالى : (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)( 25 : النحل ) ، و قوله تعالى:( وليحملن أثقالهم وأثقالاَ مع أثقالهم) (31 : العنكبوت ) ، مع قوله تعالى:(ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ( 164 : الأنعام ) أفادت الآية الأولى : أن النفس الوازرة تحمل وزرها ووزر غيرها . بينما أفادت الآية الثانية : بأنها لا تحمل وزر غيرها .
والجواب على ذلك : إن المراد بالآية الأولى أنهم يحملون وزر ضلالهم ، ووزر ضلال الذين أضلوهم، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة ، ووزر من أضلوهم تسبباَ .
وأما قوله تعالى:( ولا ترز وازرة وزر أخرى )( 164 : الأنعام ) فمعناه : وزر لا مدخل لها فيه ، ولا تعلق لها به مباشرة ولا تسبباَ ،فالمعنى مختلف وعلى ذلك فلا تناقض . [9]
7 - قوله تعالى:( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)( 14 : الإسراء) ، مع قوله تعالى:
( وكفى بنا حاسبين )( 47 : الأنبياء ) . وجواب ذلك : إن يوم القيامة مواقف مختلفة ،ففي موقف يكل الله حسابهم إلى أنفسهم ، وعلمه محيط به ، وفي موقف يحاسبهم هو ، وقيل : معنى ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) ( 14: الإسراء ) أي : يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها ، عالم بذلك ، فهو توبيخ وتقريع ، لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه ، لأنه هو الذي يحاسبهم لا غيره . وقيل: من يريد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه ، ومن يريد مسامحته يكل حسابه إليه [10] .
8 - قوله تعالى :( ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ....) (52 : الكهف ) مع قوله تعالى: ( وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ) (86 : النحل ) . ففي الآية الأولى : نفي النطق عن الأصنام ، وفي الآية الثانية أثبته .
ويجاب عن ذلك : بأن المقصود من الآية الأولى نفي النطق عنهم بالإجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم , وفي الآية الثانية أثبت لهم النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم . فالموضوع مختلف , وعلى ذلك فلا تنافي بين المثبت والمنفي [11] .
9 - قوله تعالى:( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ) (61 : الأنعام ) .
و قوله تعالى:( تتوفاهم الملائكة )( 28 : النحل ) ، و قوله تعالى:( قل يتوفاكم ملك الموت ) (11 : السجدة ) .و قوله تعالى:(الله يتوفى الأنفس حين موتها )( 43 : الزمر ) . ظاهر هذه الآيات التعارض ....ولدفع التعارض أقول : إن الله هو المتوفي حقيقة بخلق الموت ، وأمر الوسائط بنزع الروح ، والملائكة المتوفون أعوان ملك الموت ، يقول الشيخ الشنقيطي :( إسناد التوفي لنفسه ، لأنه لايموت أحد إلا بمشيئته تعالى كما قال : (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) (145 : آل عمران ) ، وإسناده إلى ملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأسنده إلى الملائكة ، لان لملك الموت أعواناَ من الملائكة ينتزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت . )[12] وقيل : إن المراد من قوله تعالى:( توفته رسلنا ) ملك الموت وحده ، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له .[13] ، وعلى ذلك فلا تناقض ولا اختلاف.
10 - قوله تعالى :(فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ( 101 : المؤمنون ) مع قوله تعالى : (أقبل بعضهم على بعض يتساءلون) ( 27 : الصافات ) .
أفادت الآية الأولى:نفي التساؤل ، وعدم وقوعه يوم القيامة .
والثانية :نص في إثبات التساؤل ووقوعه ، فآل الأمر إلى إثبات التساؤل ونفيه ، وهذا يوهم الاختلاف ، ولدفع هذا الإبهام أقول: إن الآية الأولى : محمولة على عدم التساؤل عند النفخة الأولى في الصور ، وصعق من في السموات والأرض ، وأنه في هذا الوقت ينتفي التساؤل . وأما ثبوت التساؤل ووقوعه ، فهو بعد النفخة الثانية,وقيام من في السموات والأرض وهم ينظرون .وهذا محمل الآية الثانية ، إذن : فإثبات التساؤل في وقت ، ونفيه في وقت آخر ، لأن يوم القيامة مواطن متعددة ، ومواقف مختلفة . قال محمد بن أبي بكر الرازي : ( يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ، ففيه أحوال مختلفة ، ففي بعضها يتساءلون ، وفي بعضها لا ينطقون لشدة الفزع والهول )[14] . ومع تعدد الوقت تنفك الجهة ، ويرتفع التناقض ، ويزول الاختلاف.
11 - قوله تعالى (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين ) ( 6- 11 : فصلت ) . فدلت هذه الآيات على أنه خلق الأرض قبل السماء ، وقال في موضع آخر: ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها)( 27-30 : النازعات ) فدلت هذه الآيات على أنه خلق السماء بعد خلق الأرض ، وفي هذا ما يفيد أن السموات خلقت بعد الارض ، وأن السموات خلقت قبل الأرض وهو تناقض .
والجواب: إنه لاتناقض ولا اختلاف بين مدلول تلك الآيات ، وبيان ذلك : أن الأرض خلقت قبل السماء بمقتضى الآيات الأولى ، وأن دحو الأرض وبسطها ووضع الجبال فيها وشق الأنهار ونحو ذلك ، متأخر عن خلق السموات ، فالمقدم هو خلق الأرض ، والمتأخر هو دحوها، فالمقدم غير المتأخر ، ومع تغاير المتقدم عن خلق السماء, والمتأخر عن خلقها، لا يكون تناقض ولا اختلاف لانفكاك الجهة , وتعدد المحكوم عليه [15] .
12- قوله تعالى :(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلوا له أندادا ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ...إلى قوله....فقضاهن سبع سموات في يومين ) (9-12 : فصلت ) . يدل على أن السموات والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام., وقال في موضع آخر:(الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام...) ( 59 : الفرقان ) ، وقال سبحانه:(ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام )( 38 : ق ) فكيف التوفيق بينهما؟
أقول: معنى قوله (في أربعة أيام) أي :في تتمة أربعة أيام .لأن اليومين الذين خلق فيهما الأرض من جملة الأربعة . أو معناه : كل ذلك في أربعة أيام ، يعني خلق الأرض وما ذكر بعدها ، فصار المجموع ستة ، وهذا كقول القائل : ( حوطت داري في يومين ، وكملت مرافقها كلها في عشرة أيام ، لا يعني عشرة غير اليومين ، بل هي داخلة فيها .)[16]
وقال ابن الأنباري : ( ومثاله قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما ، أي : في تتمة خمسة عشر يوما ، فيكون المعنى : إن جميع ما تقدم من خلق الأرض وما بعدها في أربعة أيام ..) [17] ، وعلى ذلك فلا تناقض ولا اختلاف.
13 - قوله تعالى : (وجزاء سيئة سيئة مثلها)( 40 : الشورى ) ، مع قوله تعالى : ( يضاعف لهم العذاب )( 20 : هود ) ، تضعيف العذاب في الآية الثانية : راجع لتضاعيف مرتكباتهم من الكفر والمعاصي والتعامي عن آيات الله ، والبغي والصد عن سبيل الله ، فكان لكل مرتكب منها عذاب يخصه . أو يراد : عذابهم في الآخرة ، فيعذبون عن ضلالهم في أنفسهم وعلى إضلالهم غيرهم ، فتكثير العذاب بحسب كثرة المجترحات ، فموضوع الآيتين مختلف ، وعلى ذلك فلا تنافي بينهما . [18]
14 - قوله تعالى :(إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم)( 4 : النحل ) ،
مع قوله تعالى (وزين لهم الشيطان أعمالهم )( 24 : النحل ). ففي الآية الأولى أسند تزيين الأعمال إليه سبحانه ، وفي الثانية :أسندها إلى الشيطان ، وهذا موهم التناقض .
والجواب عن ذلك : إن تزيين الله تعالى لهم أعمالهم ، بخلقه الشهوة والهوى وتركيبها فيهم ، وتزيين الشيطان بالوسوسة والإغواء..وعلى ذلك فلا تناقض بينهما لاختلاف الموضوع[19]
15 - قوله تعالى :(سيجعل الله بعد عسر يسرا) (7 : الطلاق ) ، مع قوله تعالى :( إن مع العسر يسرا) (6 : الشرح ) أفادت الآية الأولى أن اليسر يأتي بعد العسر ، بينما أفادت الثانية بأن اليسر يأتي معه ، وظاهر هذا التعارض. والجواب عن ذلك :إن (مع)في الآية الثانية بمعنى (بعد) ، لأن الضدين لا يجتمعان ، وعبر بها إشعارا بغاية سرعة مجيء اليسر كأنه مقارن [20] .
16 - قوله تعالى :(ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) (102 : البقرة ) . أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم , ثم نفاه عنهم بمقتضى لو الإمتناعية ، فيوهم ذلك التناقض ... ولدفع ذلك نقول :إن المثبت لهم العلم الإجمالي ، أي :أنهم علموا علما إجماليا أن من اختار السحر ماله في الآخرة من نصيب .
والمنفي عنهم :العلم التفصيلي على التحقيق والتعيين ، أي: انهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه من تحسر في الآخرة، ولا يكون لهم نصيب منها ، فالمنفي غير المثبت ، فلا تعارض [21] .
17- قوله تعالى : [ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ..]
(114 : البقرة ) ، مع قوله تعالى : [ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ..]
(17 : يونس ) ، وقوله تعالى [ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ..]( 57 : الكهف) ، وقوله تعالى : [ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ]( 32 : الزمر ) ، من : استفهام إنكاري بمعنى النفي ، والمعنى : لا أحد أظلم من افترى على الله كذبا ، ولا أحد أظلم ممن أعرض ... ، ولا أحد أظلم ممن منع ذكر الله ...ويرتفع التعارض بتخصيص كل موضع بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا . ولا أحد من المعرضين أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها . ولا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله . وقال بعض العلماء : هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع ، من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ، ولا نفيها عن غيره . [22]
18 – قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة .. الآية ) ( 3 : النساء ) . فهذه الآية تدل على إمكانية عدل الرجل بين زوجاته . وجاءت آية أخرى في أواخر السورة السابقة يفهم منها عدم إمكانية العدل ، وذلك في قوله سبحانه : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ... الآية ) (129 : النساء ) . ...فقد يتوهم متوهم أن بينهما تعارضا .. ولكن بمعرفة الجواب يزول هذا الوهم والجواب : أن المراد بالعدل في الآية الأولى : العدل بين الأزواج ، في توفية حقوقهن الشرعية والمادية ، من نفقة وحسن معاملة ، وهذا ممكن الوقوع .
والذي نـفته الآية الثانية : هو العدل في الميل القلبي ، والإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض . وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقسم بين نسائه ، ثم يقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ..) [23] .
19 - قوله تعالى حكاية عن أهل النار : ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنزبنا فهل إلى خروج من سبيل . ) ( 11 : غافر ) هذه الآية تدل على أن الناس لهم موتتين وحياتين ، بينما جاءت آية أخرى يدل ظاهرها على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم ..) (56 : الدخان )
وعلى هذا فقد يتوهم متوهم على أن بين الآيتين تعارضا .. والجواب من وجهين :
الوجه الأول : إن قوله تعالى :( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) وصف لأهل الجنة ، والضمير في قوله ( فيها ) للجنة ، فيكون المعنى : لا يذوق أهل الجنة في الجنة الموت ، فلا ينقطع نعيمهم .. وقوله : ( إلا الموتة الأولى ) للجنس ، لا للوحدة ، نحو قوله تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) ( 1 : العصر ) وليس في الآية نفي تعدد الموت .[24] . فقوله : ( إلا الموتة الأولى ) استثناء منقطع لتأكيد نفي ذوقهم الموت الذي ذاقوه في الدنيا ، لأن من يدخل الجنة لا يموت أبدا كما ورد في الحديث [25] . فالموتة الأولى في الآية تعني الموت السابق الذي ذاقوه ، سواء أكان ذلك مرة أو مرتين ولذلك فإنه لم يرد بالأولى موتة واحدة ، ونظير ذلك قوله تعالى : ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )، (33 : الأحزاب ) أراد الجاهلية السابقة للإسلام ، وليس هناك جاهلية أولى ولا ثانية ، وعلى هذا فإن قوله : ( إلا الموتة الأولى ) لا ينافي أنهم كانوا أمواتا مرتين .
الوجه الثاني : إن المراد بالموتة الأولى التي ذاقوها عند مجيء الأجل وقبض الروح ، أما الموتة التي كانت وهم في العدم قبل أن يخلقوا ، فذلك موت لا يوصف بأن أحدا قد ذاقه ، لأنه لم يخلق ، وإنما سمي موتا من حيث إن المعدوم بحكم الميت ، كما سمى الله تعالى الكافر ميتا في قوله سبحانه : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) (122 : الأنعام ) ، وقال في حق الكفار وبيان أنهم لا ينتفعون بالحق والهداية كحال الموتى : ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) (30 : النمل ) . وعلى ذلك فإن الموت الحقيقي الذي يذوقه الناس إنما هو الموت الذي يعقب الحياة ، فينهي حياة الإنسان وينقله للآخرة ، وهذا الموت أخبر الشارع أن له سكرات ، وفطرة البشر تكره هذا الموت ، لذلك طمأن الله أهل الجنة بأنهم لن يذوقوا هذا الموت في الجنة ألبتة ، لأن حياتهم في الجنة خالدة .. وعلى هذا فإنه لا مجال لتوهم التنافي والتناقض بين قوله تعالى ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ..) وبين قوله تعالى
( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ..) لما تقدم بيانه .[26]
- – أثارت مطبوعات تبشيرية تحت عنوان ( هل القرآن معصوم ..؟ ) وكذلك منشور آخر تحت عنوان : ( الباكورة الشهية في الروايات الدينية ..؟ ) عدة شبهات قابلوا بها بين بعض الآيات ، وزعموا أن كل آية تناقض معنى الآية المقابلة لها ، وهذه الشبهات ترديد لما سبق أن أشاعه أسلافهم منذ أكثر من مائة عام تقريبا في مثل كتاب ( الهداية ... أو رسالة الكندي .. ) مما يدل على إفلاسهم .. ومن هذه الشبهات : ما زعموه من أن هنال تناقضا بين قوله تعالى :( لا تبديل لكلمات الله ) ( 64 : يونس ) وقوله تعالى : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) (101 : النحل ) ، وهذا التناقض لا وجود له إلا في أوهامهم ، ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تماما ، فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبدا في الوجود في محل واحد ، ولا يرتفعان أبدا في الوجود في محل واحد ، ولا يرتفعان أبدا عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخرمثل الموت والحياة ، فالانسان يكون إما حيا وإما ميتا ، لأن النقيضين لا يجتمعان في محل واحد ، وليس في القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلي إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون ، والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال ، لأن قوله تعالى في سورة يونس ( لا تبديل لخلق الله ) معناه : لا تبديل لقضاء الله الذي يقضيه في شئون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية ، ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية ، وما ينتج عنهما من تفاعلات بين عناصر الموجودات ، أو تغيرات تطرأ عليها ، كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة ، هذه هي كلمات الله عز وجل .
وقد عبر عنها القرآن في مواضع أخرى بـ : السنن ، وهي القوانين التي تخضع لها جميع الكائنات ، الانسان ، والحيوان ، والنبات ، والجماد . إن كل شيء في الوجود يجري ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية ، التي ليس في مقدور قوة في الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها في الكون . ذلك هو المقصود به بـ : كلمات الله ، التي لا نجد لها تبديلا ولا نجد لها تحويلا . ومن هذه الكلمات أو القوانين أو السنن الإلهية النافذة طوعا أو كرها قوله تعالى : ( كل نفس ذائقة الموت ) ( 185 : آل عمران ) فهل في مقدور أحد مهما كان أن يعطل – سيف المنايا – ويهب كل الأحياء خلودا في هذه الحياة الدنيا ..؟ فكلمات الله - إذن - : هي عبارة عن قضائه في الكائنات وقوانينه المطردة في الموجودات ، وسننه النافذة في المخلوقات . ولا تناقض في العقل ولا في النقل ، ولا في الواقع المحسوس بين مدلول آية ( لا تبديل لكلمات الله ) وآية ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) ، لأن معنى هذه الآية : إذا رفعنا آية ، أي : وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أي : وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضمون الأولى ، قال جهلة المشركين : إنما أنت مفتر [27] . فلكل من الآيتين معنى في محل غير معنى ومحل الأخرى . فالآية في سورة يونس ( لا تبديل لكلمات الله ) والآية في سورة النحل ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات ، زورا وبهتانا ، ليوهموا الناس أن في القرآن تناقضا ، وهيهات هيهات لما يتوهمون .[28]
21 - وزعموا كذلك : أن بين قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( سورة الحجر : 9) وقوله تعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ..) ( 39 : الرعد ) تعارضا ، مع أنه لا تعارض بينهما ، لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع ، وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظا من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه في الوجود الزمني ، ومن أشهرها التوراة التي أنزلت على موسى – عليه السلام - ، والإنجيل الذي أنزله على عيسى – عليه السلام - . أما الآية الثانية ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) : فهي إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف في شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد ، فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ يحيي ويميت ، يغني ويفقر ، يسعد ويشقي ، يعطي ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (23 : الأنبياء ) . فأين التناقض المزعوم بين هاتين الآيتين ..؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى ، أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير في طريق متواز غير طريق الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الهذيان المحموم ، وماذا نقول حينما يتكلم الحقد ، ويتوارى العقل وراء الجهالة الحاقدة ..؟ [29] .
22 - توهموا أن هناك تناقضا بين قوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) (5 : السجدة ) وبين قوله تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) ( 4 : المعارج ) ونرد على هذه الشبهة التي تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء ، فهو في آية السجدة ألف سنة ، وهو في آية المعارج : خمسون ألف سنة ، ومع هذا الفارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض ،.... لأنهما عروجان لا عروج واحد ، وعارجان لا عارج واحد . فالعارج في آية السجدة : الأمر ، والعروج : عروج الأمر . والعارج في آية المعارج : هم الملائكة ، والعروج هو : عروج الملائكة ، اختلف العارج والعروج في الآيتين ، فاختلف الزمن فيهما قصرا أو طولا ، وشرط التناقض – لوكانوا يعلمون – هو اتحاد المقام .[30]
23- كانت مسألة الاختلاف في القراءات القرآنية من المسائل التي اتخذها عدد من المستشرقين مسوغاً للطعن في القرآن الكريم ، وراحوا يصفون القرآن وقراءاته بالتناقض والاضطراب وعدم الثبات ، وحاولوا تشكيك المسلمين في ذلك ، وكان وراء ذلك كله نفي النبوة ، والوحي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنكار أن يكون القرآن بقراءاته من الله – عز وجل - ، من أجل هذا كله حاولت أن أبين مقاصد الاختلاف في القراءات القرآنية ، وكيف ساهم الاختلاف في القراءات القرآنية في تعدد المعاني واتساعها .
كما في قوله تعالى :(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) [ البقرة : 10] قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( يَكْذِبُونَ ) ( بفتح الياء وتسكين الكاف وتخفيف الذال ) وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ( يُكَذِّبونَ ) ( بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الذال ) [31] . فالقراءة بالتخفيف معناها أنهم استحقوا العذاب الأليم بسبب كَذِبَهم في إظهار الإسلام والإيمان ، وهم في باطنهم كافرون . فهم كاذبون في قولهم : ( آمنا بالله وباليوم الآخر ) . والقراءة بالتشديد معناها : أنهم استحقوا العذاب الأليم بسبب تكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فحاصل القراءتين أن المنافقين سيعذبون العذاب الأليم بسبب كذبهم وتكذيبهم ، ففي القراءتين تنوع في المعاني ، إذ بينت إحدى القراءتين أنهم كاذبون في أخبارهم ، وبينت القراءة الأخرى بأنهم يُكَذِّبون النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من عند الله تعالى ، وبهذا اتسعت المعاني بتعدد القراءات من غير تناقض أو تباين في المعاني .
24 - وكذلك في قوله تعالى : ( يسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) ( البقرة : 219 ( فقرأ حمزة والكسائي ( فيهما إثم كثير ) بالثاء ، وقرأ الباقون (إثم كبير ) بالباء[32] . فمعنى قراءة حمزة والكسائي ( إثم كثير ) من الكثرة ، وذلك لأن شرب الخمر يحدث معه آثام كثيرة ، من لغط ، وتخليط ، وسب ، وأيمان ، وعداوة ، وتفريط في الفرائض ، وفي غير ذلك ، فوصف بالكثرة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : ( إنما يريد الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم منتهون ) [ المائدة :91]، فذكر أشياء من الإثم [33] .
يقول أبو حيان : ( ووصف الإثم بالكثرة إما باعتبار الآثمين فكأنه قيل فيه : للناس آثام ، أي كل واحد من متعاطيها آثم ، أو باعتبار ما يترتب على شربها مما يصدر من شاربها من الأفعال والأقوال المحرفة ، أو باعتبار من زاولها من لدن كانت إلى أن بيعت وشريت الخمر ولعن معها عشرة ، فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بائعها ،ومبتاعها ،والمشتراة له ، وعاصرها ،ومعتصرها والمعصورة له ،وساقيها ،وشاربها ،وحاملها ،والمحمولة له ، وآكل ثمنها ، فناسب وصف الإثم بالكثرة بهذا الاعتبار. ) [34] . أما معنى قراءة ( إثم كبير ) فهو من الكبر والعظم ، أي: فيها إثم عظيم ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ) : والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يغفرون ) ( الشورى : 37) ، وفي هذا يقول الزجاج : ( فأما الإثم الكبير الذي في الخمر فبين ، لأنها توقع العداوة والبغضاء ، وتحول بين المرءٍ وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه .) [35] . فحاصل القراءتين هو التأكيد على تحريم الخمر وذمها لعظيم إثمها وعقوبتها ، وكذلك لكثرة آثامها ، فلا تناقض بين القراءتين ، لأنهما في ذم الخمر ، وتقبيح شاربها فكل قراءة بينت أمراً هو فيها ، وهو من باب الاتساع في المعاني الذي لا يقتضي التضاد والتباين وكلتا القراءتين مراد الله عز وجل ، وفي ذلك يقول أبو حيان : ( ذكر بعض الناس ترجيحاً لكل قراءة من هاتين القراءتين على الأخرى وهذا خطأ ، لأنَّ كلاً من القراءتين كلام الله تعالى ، فلا يجوز تفضيل شيء منه على شيء من قبل أنفسنا إذ كله كلام الله تعالى . ) [36] وكذلك كل القراءات القرآنية المتواترة ..
وختاما أقول :
إن ما يأتي في القرآن موهما الاختلاف أو التضارب ، هو من قبيل التشابة الذي يرد وكأنه أخفى معنى ، أو ستر مفهوما قد يوهم بوجود إشكال ، إلا أن هذا ضرب من أروع ضروب البلاغة العربية ، ولا يظهر جمال اللغة العربية وروعتها وفصاحتها إلا مع هذا التشابة ، إذ يتمثل فيه الكثير من أنواع البلاغة العربية من مجازات ، وكنايات ، وإشارات ، وتلويحات , وهو أسلوب مستملح عند العرب حتى يكون القرآن متحديا بطبيعته في أي من نوعيه : الواضح منه ، أو المشكل فيه ، الموهم للاختلاف والتعارض .
وعندما يأتي الكلام على خلاف ما يقتضي الظاهر ، فان ذلك لون من ألوان البلاغة يقتضي إعمال الفكر وتنشيطه ويدعو إلى التدبر ، وسبر أغوار النص لاستخلاص المعنى المقصود ، والوصول إلى مايهدف إليه ، ومن هذا المنطلق, يظل القران مجالا رحبا للبحث والتقصي ، والنظر الثاقب في تدبره وفهمه . [ غير أن الذي لا ينبغي أن يغرب عن خواطر المؤمنين ، وأن يكون أبدا لزاماً لأفكارهم ، هو أن يفرقوا بين الرأي المغرض ، والرأي الأحمق , والرأي الجاهل ، وبين الرأي المتروي الذي يلتزم حدود اللغة ، ويستصحب مقاصد الشريعة .] [37]
=============================
[1] - انظر : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب : ص : 132-133. و تيجان البيان في مشكلات القرآن : ص 224-225 بتصرف يسير . وانظر : غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام : ج1: ص349 - 351. وانظر : صحيح البخاري بيوع : 90. ومسند الإمام أحمد : 2/ 6، 9 ، 63 .
[2] - رواه ابن جرير في تفسيره ، 9/ 152. وانظر أسباب النزول : ص 156.
[3] - ابن قتيبة : تأويل مشكل القرآن : ص50. و الكشاف : ج2: 155-156. و الجامع لأحكام القرآن : ج7: 399.
[4] - انظر : الإتقان : ج2: 29. و تنزيه القرآن عن المطاعن : ص 328.
[5] - التفسير الكبير : ج5: ص19.
[6] - إرشاد العقل السليم .. : ج1: ص241.
[7] - تأويل مشكل القرآن : ص 47.
[8] - انظر : تأويل مشكل القرآن : ص 46-47. والجامع لأحكام القرآن : ج13: 315. والتفسير الكبير : ج 19: 218 .
[9] - انظر : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب : ص 172.
[10] - انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ص 194.
[11] - انظر : مسائل الرازي وأجوبتها : ص 204.
[12] - انظر : أضواء البيان : ج3/ ص267.
[13] - انظر :حاشية الجمل على الجلالين : ج2/ ص40 .
[14] - انظر : مسائل الرازي وأجوبتها ، ص 238 .
[15] - انظر : دفاع عن القرآن الكريم ، ص 162-165.
[16] - انظر : المغني في أبواب التوحيد والعدل : ج16/ ص 314.
[17] - انظر : فتح القدير ، ج4/ ص 507.
[18] - انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ص 204.
[19] - انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ص 205.
[20] - انظر: حاشية الجمل على الجلالين : ج4/ ص 556.
[21] - انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ، ص 176.
[22] - انظر : معترك الأقران في إعجاز القرآن : ج1/ ص 105. واللآلئ الحسان في علوم القرآن : ص : 197-198.
[23] - المسند : ج2: 347.
[24] - انظر : موهم الاختلاف والتناقض في القرآن الكريم :: ص 696 .
[25] - انظر :صحيح البخاري : كتاب التفسير ، سورة مريم ، باب قوله : ( وانذرهم يوم الحسرة ) ج5/ ص 236. وانظر صحيح مسلم شرح النووي : في صفة القيامة والجنة والنار ، باب جهنم ، ج17/ ص 184.
[26] - انظر : موهم الاختلاف والتناقض : ص 696-697 بتصرف يسير .
[27] - انظر: تفسير فتح القدير : ج2/ ص 232 .
[28] - انظر : حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين : ص 68 ، بتصرف يسير
[29] - حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين : ص 70 . بتصرف يسير .
[30] - المرجع السابق : ص 71 ، بتصرف يسير .
[31] - انظر السبعة في القراءات : ص 143 . و النشر في القراءات العشر : ج2/ ص 207 .
[32] - تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن: ج9/ ص 23 . . والنشر : ج2/ ج2/ ص 227.
[33] - الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها : ج1/ ص 261. والموضح في تعليل وجوه القراءات السبع : ص 302 .
[34] - البحر المحيط : ج2/ ص 157-158. ( تخرج الحديث)
[35] - معاني القرآن وإعرابه : ج1/ ص 292.
[36] - البحر المحيط : ج2/ ص 185 .
[37] - مع القرآن : ص 80 . وانظر : قضايا في علوم القرآن تعين على فهمه : ص 252 .
-
الاربعاء PM 04:48
2022-01-12 - 8994