نماذج من الآيات التي يزعم بأنها موهمة للتعارض - مشروع الحصن ll للدفاع عن الإسلام والحوار مع الأديان والرد على الشبهات المثارة ll lightnews-vII

المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 441991
يتصفح الموقع حاليا : 93

البحث

البحث

عرض المادة

نماذج من الآيات التي يزعم بأنها موهمة للتعارض

لا أستطيع في هذا البحث - المحدود الصفحات - استقصاء الآيات الموهمة للتعارض ، بل سأذكر بعض الأمثلة للآيات القرآنية التي زعم  المغرضون أن فيها تعارضا ، وبيان  مجانبتهم الصواب  ، وتنكبهم عن الطريق الصواب  في فقه كتاب الله ، وإدراك أسرار التعبير فيه ، من ذلك  :

1-      قولة تعالى : (  وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراًً)( 16 :الإسراء ) ، فإن الآية  توهم عند النظرة الأولى أنها تأمر بالفسق ، وهو أمر مخالف لمحكم الكتاب ، إذ يتضح هذا المحكم في قول الله تعالى : ( إن الله لا يأمر بالفحشاء)  ( 28 :الأعراف ) ، فالآية تشير إلى أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء أو الفسق ،  وبيان ذلك  : أن الآية الثانية أفادت أن الفحشاء والفسق لم يأمر بهما الله ،  بينما أفادت الأولى  أن الله أمر بالفحشاء والفسق ، وإذن  : فالفسق مأمور به وغير مأمور به   - تعالى الله عن ذلك – وهذا مما يوهم التعارض .  والجواب عن ذلك  : من ثلاثة أوجه : [ الأول : وهو أظهرها : أن معنى قوله ( أمرنا مترفيها ) أي : بطاعة الله ،وتصديق الرسل ،  ففسقوا ، أي : بتكذيب الرسل ، ومعصية الله تعالى ،  فلا إشكال في الآية أصلا . أي : أن الناس جاءهم أمر الله ليمتثلوه ، لكنهم تركوه وراءهم ظهريا ، وساروا في طريق الفسق والفجور ، فأخذهم الله بأعمالهم .

الثاني :أن الأمر في قوله ( أمرنا مترفيها ) أمر كوني قدري ، لا أمر شرعي ، أي : قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا ، والأمر الكوني  القدري :كقوله تعالى (كونوا قردة خاسئين )( 166:الأعراف )  و ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )( 82 : يس )  والأمر في قوله ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء )( 28 : الأعراف )  ، أمر شرعي ديني  فظهر أن المنفي غير المثبت . 

الوجه الثالث : أن معنى ( أمرنا مترفيها ) أي : كثرناهم حتى بطروا النعمة ففسقوا ، ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعا من حديث سويد بن هبيرة - رضي الله عنه - :

 ( خير مال امرئ مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة ) فقوله مأمورة : أي ، كثيرة النسل وهي محل الشاهد ..][1]  .

2 -  قوله تعالى:( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم  يستغفرون)(33 :  الأنفال ) ، مع قوله تعالى:( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام...)( 34 : الأنفال ) . . أفادت الآية الأولى: نفي العذاب, بينما أفادت الآية الثانية: إثبات العذاب, وهو موهم التناقض  .ولدفع هذا التعارض أقول :-   إن النضر بن الحارث قال:( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ( الأنفال  32) ، يريد: أهلكنا ومحمداً ومن معه عامة ،  فأنزل الله    (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.... الآية) [2]         ( الأنفال : 33)  ، أي لا يعذبهم وأنت مقيم فيهم بمكة، وكان كذلك، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- طيلة بقائه بمكة لم يعذبوا ،  ولأن العذاب إذا أنزل عــمّ  ، ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها .  ثم قال: (  وما لهم ألا يعذبهم الله  ) بعد خروج النبي والمؤمنين والمستغفرين.  وقيل: المراد بالأول: عذاب الاستئصال، وبالثانية: غير الاستئصال  .

وقيل :  المراد بالأول: عذاب الدنيا، والثانية: عذاب الآخرة.    وعلى ذلك فلا اختلاف ولا تناقض .[3]  

3 -  قوله تعالى:(فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)( 6 : الأعراف ).

وقوله تعالى:( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون)( الحجر : 92)  . وقوله تعالى : (وقفوهم إنهم مسؤلون)(  الصافات : 24 )  .مع قوله تعالى (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) ( القصص : 78).وقوله تعالى: (فيومئذ لا يسال عن ذنبه انس ولا جان) (الرحمن : 39).

أفادت المجموعة الأولى السؤال، والثانية:عدم السؤال، وهذا يوهم التعارض.

ولدفعه أقول  : لا تعارض ولا اختلاف ، لأن في القيامة مواقف كثيرة ،ففي موضع  يسألون ،وفي موضع أخر لا يسألون ، فاختلف المكان، وكذلك اختلف الزمان ،لأن الموقف يطول ،  ففي وقت يسألون ،  وفي آخر لا يسألون .وقيل:  إن السؤال المثبت سؤال توبيخ وتبكيت . والمنفي: سؤال المعذرة  ، وبيان الحجة ، أو سؤال الاستعلام، فالسؤال مختلف، وعلى ذلك فلا تعارض  [4].

4-     قوله تعالى : (  ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم انتم وشركاؤكم  )( سورة يونس : آية / 28 )  مع قوله تعالى:(ولا يكلمهم الله يوم القيامة )( سورة البقرة : آية / 174) ،  أثبتت الآية الأولى كلام الله للمشركين، بينما نفته الثانية .وسبق أن قلنا :  إن مواقف القيامة : مواقف ومواطن ، ففي موقف يكلمهم ، أو المراد : أنه لا يكلمهم كلاما يسرهم وينفعهم  ، بل كلام توبيخ  وتقريع ، وعلى ذلك فلا اختلاف [5] .

5 -   قوله تعالى:(يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) ( هود : 105 )   .  

وقوله تعالى:(لاتختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد) (  ق :28  ).    

وقوله تعالى:(هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون)( سورة المرسلات : الآيتان /35، 36) . 

مع قوله تعالى:(يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها )(  النحل : 111 )  

و قوله تعالى:(ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون )( الزمر : 31).

و قوله تعالى:(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )(  البقرة : 111).

فالجواب : إن يوم القيامة طويل ، وفيه أحوال مختلفة ، ففي بعض الأحوال لا يقدرون على الكلام لشدة الاهوال، وفي بعضها يؤذن لهم  في الكلام فيتكلمون ،وفي بعضها تخف عنهم تلك الأهوال ، فيحاجون ،  ويجادلون ، وينكرون ،  أو: المأذون فيه :  الجوابات الحقة ، والممنوع عنه  : الأعذار الباطلة [6]... أو: انهم يختصمون  ، ويدعي المظلومون على الظالمين ، ففي تلك الحالة يختصمون ، فإذا وقع القصاص وثبت الحكم  ، قيل :  لا تختصموا ولا تنطقوا ، ولا تعتذروا ، فليس ذلك بمغن عنكم ،  ولا نافع لكم ،  فيسكتون . [7]   روى عبدالرازق عن معمر عن قتادة : أن رجلاً جاء إلى عكرمة فقال : أرأيت قول الله تعالى:(هذا يوم لا ينطقون )و قوله (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) فقال :إنها مواقف .فأما موقف منها:  فتكلموا واختصموا ، ثم ختم الله على أفواههم  ، فتكلمت أيديهم وأرجلهم  ،  فحينئذ لايتكلمون ) [8].

  • - قوله تعالى : (ليحملوا أوزارهم  كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)( 25 : النحل ) ، و قوله تعالى:( وليحملن أثقالهم وأثقالاَ مع أثقالهم)  (31 : العنكبوت ) ، مع قوله تعالى:(ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ( 164 : الأنعام )  أفادت الآية الأولى :  أن النفس الوازرة تحمل وزرها ووزر غيرها .  بينما أفادت الآية الثانية : بأنها لا تحمل وزر غيرها .

والجواب على ذلك : إن المراد بالآية الأولى أنهم يحملون وزر ضلالهم ،  ووزر ضلال الذين أضلوهم، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة ،  ووزر من أضلوهم  تسبباَ .

وأما قوله تعالى:( ولا ترز وازرة وزر أخرى )( 164 : الأنعام )  فمعناه : وزر لا مدخل لها فيه ، ولا تعلق لها به مباشرة ولا تسبباَ ،فالمعنى مختلف وعلى ذلك فلا تناقض . [9]

 7 -     قوله تعالى:( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)( 14 : الإسراء) ،  مع قوله تعالى:

( وكفى بنا حاسبين )( 47 : الأنبياء ) . وجواب ذلك  : إن يوم القيامة مواقف مختلفة ،ففي موقف يكل الله حسابهم إلى أنفسهم ، وعلمه محيط به  ، وفي موقف يحاسبهم هو  ،  وقيل : معنى ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا  ) ( 14: الإسراء ) أي : يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها ، عالم بذلك  ،  فهو توبيخ وتقريع  ، لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه ، لأنه هو الذي يحاسبهم لا غيره .  وقيل: من يريد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه  ، ومن يريد مسامحته يكل حسابه إليه [10] .

8 -  قوله تعالى :( ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ....) (52 : الكهف ) مع قوله تعالى: ( وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ) (86 : النحل ) . ففي الآية الأولى : نفي النطق عن الأصنام ،   وفي الآية الثانية أثبته .

ويجاب عن ذلك  :  بأن المقصود من الآية الأولى نفي النطق عنهم بالإجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم , وفي الآية الثانية أثبت لهم النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم .  فالموضوع مختلف , وعلى ذلك فلا تنافي بين المثبت والمنفي  [11] .

 9  -  قوله تعالى:( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ) (61 : الأنعام )  .

و قوله تعالى:( تتوفاهم الملائكة )( 28 : النحل )  ،  و قوله تعالى:( قل يتوفاكم ملك الموت ) (11 : السجدة ) .و قوله تعالى:(الله يتوفى الأنفس حين موتها )(  43 : الزمر ) .                  ظاهر هذه الآيات التعارض ....ولدفع التعارض أقول :   إن الله هو المتوفي حقيقة بخلق الموت ، وأمر الوسائط  بنزع الروح  ، والملائكة المتوفون أعوان ملك الموت ،  يقول  الشيخ  الشنقيطي :( إسناد التوفي لنفسه ، لأنه لايموت أحد إلا بمشيئته تعالى كما قال : (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) (145 : آل عمران )  ، وإسناده إلى ملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأسنده إلى الملائكة ، لان لملك الموت أعواناَ من الملائكة ينتزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت . )[12]  وقيل : إن المراد من قوله تعالى:( توفته رسلنا ) ملك الموت وحده ، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له .[13]  ، وعلى ذلك فلا تناقض ولا اختلاف.

  10 -  قوله تعالى :(فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ( 101 :  المؤمنون )   مع قوله تعالى : (أقبل بعضهم على بعض يتساءلون) ( 27 :  الصافات  ) .

 أفادت الآية الأولى:نفي التساؤل ، وعدم وقوعه يوم القيامة .  

والثانية  :نص في إثبات التساؤل ووقوعه ، فآل الأمر إلى  إثبات التساؤل ونفيه  ، وهذا يوهم الاختلاف ،  ولدفع هذا الإبهام أقول:  إن الآية الأولى : محمولة على عدم التساؤل عند النفخة الأولى في الصور ، وصعق من في السموات والأرض ، وأنه في هذا الوقت ينتفي التساؤل  . وأما ثبوت التساؤل ووقوعه ، فهو بعد النفخة الثانية,وقيام من في السموات والأرض وهم ينظرون .وهذا محمل الآية الثانية  ،   إذن  : فإثبات التساؤل في وقت ،  ونفيه في وقت آخر ، لأن يوم القيامة  مواطن متعددة ، ومواقف مختلفة . قال محمد بن أبي بكر الرازي : ( يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ، ففيه أحوال مختلفة ، ففي بعضها يتساءلون ، وفي بعضها لا ينطقون لشدة الفزع والهول )[14] . ومع تعدد الوقت تنفك الجهة ، ويرتفع التناقض ، ويزول الاختلاف.

 11 - قوله تعالى (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين   ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين )         ( 6- 11 : فصلت )  .  فدلت هذه الآيات على أنه خلق الأرض قبل السماء ،  وقال في موضع آخر: ( أأنتم  أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها)( 27-30 : النازعات  )     فدلت هذه الآيات على أنه خلق السماء بعد خلق الأرض  ، وفي هذا  ما يفيد أن السموات خلقت بعد الارض ، وأن السموات خلقت قبل الأرض وهو تناقض .

والجواب: إنه لاتناقض ولا اختلاف بين مدلول تلك الآيات  ، وبيان ذلك : أن الأرض خلقت قبل السماء بمقتضى الآيات الأولى  ، وأن دحو الأرض وبسطها  ووضع الجبال فيها وشق الأنهار  ونحو ذلك ،  متأخر عن خلق السموات ، فالمقدم هو خلق الأرض  ، والمتأخر هو دحوها،  فالمقدم غير المتأخر ،  ومع تغاير المتقدم عن خلق السماء, والمتأخر عن خلقها، لا يكون تناقض   ولا اختلاف لانفكاك الجهة , وتعدد المحكوم عليه [15] .

 12- قوله تعالى :(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلوا له أندادا ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ...إلى قوله....فقضاهن سبع سموات في يومين ) (9-12 : فصلت ) . يدل على أن  السموات  والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام., وقال في  موضع آخر:(الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام...) ( 59 : الفرقان )  ، وقال سبحانه:(ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام )( 38 : ق )     فكيف التوفيق بينهما؟

أقول: معنى قوله (في أربعة  أيام) أي :في تتمة  أربعة أيام .لأن اليومين الذين خلق فيهما الأرض من جملة الأربعة . أو معناه : كل ذلك في أربعة أيام ، يعني خلق الأرض وما ذكر بعدها ، فصار المجموع ستة ،     وهذا كقول القائل : ( حوطت داري في يومين ، وكملت مرافقها كلها في عشرة أيام ، لا يعني عشرة غير اليومين ، بل هي داخلة فيها .)[16]

وقال ابن الأنباري : ( ومثاله قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام  وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما ، أي : في تتمة خمسة عشر يوما ، فيكون المعنى : إن جميع  ما تقدم من خلق الأرض وما بعدها في أربعة أيام ..) [17]   ، وعلى ذلك فلا تناقض ولا اختلاف.

 13 - قوله تعالى :  (وجزاء سيئة سيئة مثلها)( 40 :  الشورى ) ، مع قوله تعالى : ( يضاعف لهم العذاب )( 20 :  هود ) ،   تضعيف العذاب في الآية الثانية : راجع لتضاعيف مرتكباتهم من الكفر   والمعاصي   والتعامي عن آيات الله ، والبغي والصد عن سبيل الله ، فكان لكل مرتكب منها عذاب  يخصه .  أو يراد : عذابهم في الآخرة ، فيعذبون عن ضلالهم في أنفسهم وعلى  إضلالهم غيرهم ، فتكثير العذاب بحسب كثرة  المجترحات  ، فموضوع الآيتين مختلف ، وعلى ذلك فلا تنافي بينهما . [18] 

 14 -  قوله تعالى :(إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم)(  4 : النحل ) ،

مع قوله تعالى (وزين لهم الشيطان أعمالهم )( 24 : النحل ). ففي الآية الأولى أسند تزيين  الأعمال إليه سبحانه ، وفي الثانية :أسندها إلى الشيطان  ،   وهذا موهم  التناقض .

والجواب عن ذلك :   إن تزيين الله تعالى لهم أعمالهم ، بخلقه الشهوة والهوى وتركيبها فيهم ،  وتزيين الشيطان بالوسوسة والإغواء..وعلى ذلك فلا تناقض  بينهما لاختلاف الموضوع[19] 

 15 -  قوله تعالى :(سيجعل الله بعد عسر يسرا) (7 : الطلاق )  ، مع قوله تعالى :( إن مع العسر يسرا) (6 : الشرح )   أفادت الآية الأولى  أن اليسر يأتي بعد العسر ،  بينما أفادت الثانية بأن اليسر يأتي معه ،   وظاهر هذا التعارض.  والجواب عن ذلك :إن (مع)في الآية الثانية بمعنى (بعد)  ، لأن الضدين لا يجتمعان  ، وعبر بها إشعارا بغاية سرعة مجيء اليسر كأنه مقارن [20]  .

16 -  قوله تعالى :(ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون )  (102 : البقرة ) . أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم , ثم نفاه عنهم بمقتضى لو الإمتناعية ،  فيوهم ذلك التناقض   ... ولدفع ذلك نقول :إن المثبت لهم  العلم الإجمالي  ، أي :أنهم علموا علما إجماليا أن من اختار السحر ماله   في الآخرة من نصيب . 

والمنفي عنهم :العلم التفصيلي على التحقيق والتعيين ،  أي:  انهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه  من تحسر في الآخرة، ولا يكون لهم نصيب منها ، فالمنفي غير المثبت  ، فلا تعارض [21]  .

17- قوله تعالى : [ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ..]

(114 : البقرة )  ،  مع قوله تعالى : [ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ..]

(17 : يونس )  ، وقوله تعالى [ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ..]( 57 : الكهف)  ،  وقوله تعالى : [ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ]( 32 : الزمر )  ، من : استفهام إنكاري بمعنى النفي ، والمعنى  : لا أحد أظلم من افترى على الله كذبا ، ولا أحد أظلم ممن أعرض ... ، ولا أحد أظلم ممن منع ذكر الله ...ويرتفع التعارض بتخصيص كل موضع بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا . ولا أحد من المعرضين أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها . ولا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله . وقال بعض العلماء : هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع ، من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ، ولا نفيها عن غيره . [22]

18 –         قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة .. الآية ) ( 3 : النساء ) . فهذه الآية تدل على إمكانية عدل الرجل بين زوجاته  . وجاءت آية أخرى  في أواخر السورة السابقة يفهم منها عدم إمكانية العدل ، وذلك في قوله سبحانه : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ... الآية ) (129 : النساء  ) . ...فقد يتوهم متوهم أن بينهما تعارضا .. ولكن بمعرفة الجواب يزول هذا الوهم والجواب :  أن المراد بالعدل في الآية الأولى : العدل بين الأزواج ، في توفية حقوقهن  الشرعية والمادية ،  من نفقة وحسن معاملة  ، وهذا ممكن الوقوع  .

 والذي نـفته الآية الثانية : هو العدل في الميل  القلبي  ، والإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض . وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقسم بين نسائه ، ثم يقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ..) [23] .                           

19 -      قوله تعالى حكاية عن أهل النار : ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنزبنا فهل إلى خروج  من سبيل . ) ( 11 : غافر )    هذه الآية تدل على أن الناس لهم موتتين وحياتين ، بينما جاءت آية أخرى يدل ظاهرها على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : (  لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم ..) (56 : الدخان )

وعلى هذا فقد يتوهم متوهم على أن بين الآيتين تعارضا .. والجواب من وجهين :

الوجه الأول  : إن قوله تعالى :( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) وصف لأهل الجنة ، والضمير في قوله ( فيها ) للجنة ، فيكون المعنى  : لا يذوق أهل الجنة في الجنة الموت ، فلا ينقطع نعيمهم ..   وقوله : ( إلا الموتة الأولى ) للجنس ، لا للوحدة ، نحو قوله تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) ( 1 : العصر   ) وليس في الآية نفي تعدد الموت .[24] .                    فقوله : ( إلا الموتة الأولى ) استثناء منقطع لتأكيد نفي ذوقهم الموت الذي ذاقوه في الدنيا ، لأن من يدخل الجنة لا يموت أبدا كما ورد في الحديث [25] .  فالموتة الأولى في الآية تعني الموت السابق الذي ذاقوه ، سواء أكان ذلك مرة أو مرتين  ولذلك فإنه لم يرد بالأولى موتة واحدة ، ونظير ذلك قوله تعالى : ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )، (33 : الأحزاب )  أراد الجاهلية السابقة للإسلام ، وليس هناك جاهلية أولى ولا ثانية ، وعلى هذا فإن قوله : ( إلا الموتة الأولى ) لا ينافي أنهم كانوا أمواتا مرتين .

الوجه الثاني : إن المراد بالموتة الأولى التي ذاقوها عند مجيء الأجل وقبض الروح ، أما الموتة التي كانت وهم في العدم قبل أن يخلقوا ، فذلك موت لا يوصف بأن أحدا قد ذاقه ، لأنه لم يخلق ، وإنما سمي موتا من حيث إن المعدوم بحكم الميت ، كما سمى الله تعالى الكافر ميتا في قوله سبحانه  : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) (122 : الأنعام  ) ، وقال في حق الكفار وبيان أنهم لا ينتفعون بالحق والهداية كحال الموتى : ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) (30 : النمل ) . وعلى ذلك فإن الموت الحقيقي الذي يذوقه الناس إنما هو الموت الذي يعقب الحياة ، فينهي حياة الإنسان وينقله للآخرة ، وهذا الموت أخبر الشارع أن له سكرات ، وفطرة البشر تكره هذا الموت ، لذلك طمأن الله أهل الجنة بأنهم لن يذوقوا هذا الموت في الجنة ألبتة ، لأن حياتهم في الجنة خالدة .. وعلى هذا فإنه لا مجال لتوهم التنافي والتناقض بين قوله تعالى ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ..) وبين قوله تعالى

( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ..) لما تقدم بيانه .[26] 

  • – أثارت مطبوعات تبشيرية تحت عنوان ( هل القرآن معصوم ..؟ ) وكذلك منشور آخر تحت عنوان : ( الباكورة الشهية في الروايات الدينية ..؟ ) عدة شبهات قابلوا بها بين بعض الآيات ، وزعموا أن كل آية تناقض معنى الآية المقابلة لها ، وهذه الشبهات ترديد لما سبق أن أشاعه أسلافهم  منذ أكثر من مائة عام تقريبا في مثل كتاب ( الهداية ... أو رسالة الكندي .. )  مما يدل على إفلاسهم .. ومن هذه الشبهات : ما زعموه من   أن هنال تناقضا  بين قوله تعالى :( لا تبديل لكلمات الله ) ( 64 :  يونس  )  وقوله تعالى : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) (101 : النحل ) ، وهذا التناقض لا وجود له إلا في أوهامهم ، ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تماما ، فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبدا في الوجود في محل واحد ، ولا يرتفعان أبدا في الوجود في محل واحد ، ولا يرتفعان أبدا عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخرمثل الموت والحياة ، فالانسان يكون إما حيا وإما ميتا ، لأن النقيضين لا يجتمعان في محل واحد ، وليس في القرآن كله صورة ما من صور  التناقض العقلي إلا ما يدعيه الجهلاء  أو المعاندون ، والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال ، لأن قوله تعالى في سورة يونس  ( لا تبديل لخلق  الله ) معناه : لا تبديل لقضاء الله الذي يقضيه في شئون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية ، ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية ، وما ينتج عنهما من تفاعلات بين عناصر الموجودات ، أو تغيرات تطرأ عليها  ، كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة ، هذه هي كلمات الله عز  وجل .

وقد عبر عنها القرآن في مواضع أخرى بـ : السنن ، وهي القوانين التي تخضع لها جميع الكائنات ، الانسان ، والحيوان ، والنبات ، والجماد . إن كل شيء في الوجود يجري ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية ، التي ليس في مقدور قوة في الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها في الكون . ذلك هو المقصود به  بـ : كلمات الله ،  التي لا نجد لها تبديلا ولا نجد لها تحويلا .  ومن هذه الكلمات أو القوانين أو السنن الإلهية النافذة طوعا أو كرها قوله تعالى :    ( كل نفس ذائقة الموت ) ( 185 :  آل عمران  ) فهل في مقدور أحد مهما كان أن يعطل – سيف المنايا – ويهب كل الأحياء خلودا في هذه الحياة الدنيا ..؟          فكلمات الله  - إذن - : هي عبارة عن قضائه في الكائنات وقوانينه المطردة في الموجودات ، وسننه النافذة في المخلوقات .   ولا تناقض في العقل ولا في النقل ، ولا في الواقع المحسوس بين مدلول آية ( لا تبديل لكلمات الله ) وآية ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) ، لأن معنى هذه الآية : إذا رفعنا آية ، أي : وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أي : وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضمون الأولى ، قال جهلة المشركين : إنما أنت مفتر [27] .  فلكل من الآيتين معنى في محل غير معنى ومحل الأخرى . فالآية في سورة يونس ( لا تبديل لكلمات الله ) والآية في سورة النحل   ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات ، زورا وبهتانا ، ليوهموا الناس أن في القرآن تناقضا ، وهيهات هيهات لما يتوهمون .[28] 

21 - وزعموا  كذلك : أن بين قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( سورة الحجر : 9) وقوله تعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ..) ( 39 : الرعد ) تعارضا ،  مع أنه لا تعارض بينهما ، لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع ، وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظا من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه في الوجود الزمني ، ومن أشهرها التوراة  التي أنزلت على موسى – عليه السلام - ،    والإنجيل الذي أنزله على عيسى – عليه السلام - .   أما الآية الثانية ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) :  فهي إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف في شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد ، فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ   يحيي ويميت ، يغني ويفقر ،  يسعد ويشقي ، يعطي ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه  ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (23 : الأنبياء ) . فأين التناقض المزعوم بين  هاتين الآيتين ..؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى ، أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير في طريق متواز غير طريق  الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الهذيان المحموم ، وماذا نقول حينما يتكلم الحقد ، ويتوارى العقل وراء الجهالة الحاقدة ..؟  [29] .

22   - توهموا أن هناك تناقضا بين قوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) (5 : السجدة  ) وبين قوله تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) ( 4 : المعارج  ) ونرد على هذه الشبهة التي تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء ، فهو في آية السجدة ألف سنة ، وهو في آية المعارج : خمسون ألف سنة ، ومع هذا الفارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض ،....  لأنهما عروجان لا عروج واحد ، وعارجان لا عارج واحد . فالعارج في آية السجدة : الأمر ، والعروج : عروج الأمر . والعارج في آية المعارج : هم الملائكة ، والعروج هو : عروج الملائكة ، اختلف العارج والعروج في الآيتين ، فاختلف الزمن فيهما قصرا أو طولا ، وشرط التناقض – لوكانوا يعلمون – هو اتحاد المقام .[30]

23-         كانت مسألة الاختلاف في القراءات القرآنية من المسائل التي اتخذها عدد من المستشرقين مسوغاً للطعن في القرآن الكريم ، وراحوا يصفون القرآن وقراءاته بالتناقض والاضطراب وعدم الثبات ، وحاولوا تشكيك المسلمين في ذلك ، وكان وراء ذلك كله نفي النبوة ، والوحي  ، عن النبي   - صلى الله عليه وسلم   - ، وإنكار أن يكون القرآن بقراءاته من الله – عز وجل - ،  من أجل هذا كله حاولت أن أبين مقاصد الاختلاف في القراءات القرآنية ، وكيف ساهم الاختلاف في القراءات القرآنية في تعدد المعاني واتساعها .

     كما في قوله  تعالى :(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )       [ البقرة : 10]   قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( يَكْذِبُونَ ) ( بفتح الياء وتسكين الكاف وتخفيف الذال )  وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر  (  يُكَذِّبونَ ) ( بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الذال ) [31]  . فالقراءة بالتخفيف معناها أنهم استحقوا العذاب الأليم بسبب كَذِبَهم في إظهار الإسلام والإيمان ، وهم في باطنهم كافرون . فهم كاذبون في قولهم :     ( آمنا بالله وباليوم الآخر  ) . والقراءة بالتشديد معناها  : أنهم استحقوا العذاب الأليم بسبب تكذيبهم النبي  -  صلى الله عليه وسلم -.  فحاصل القراءتين أن المنافقين سيعذبون العذاب الأليم بسبب كذبهم وتكذيبهم ، ففي القراءتين تنوع في المعاني ، إذ بينت إحدى القراءتين أنهم كاذبون في أخبارهم ، وبينت القراءة الأخرى بأنهم يُكَذِّبون النبي  - صلى الله عليه وسلم -  وما جاء به من عند الله تعالى  ، وبهذا اتسعت المعاني بتعدد القراءات من غير تناقض أو تباين في المعاني . 
24 -    وكذلك في قوله  تعالى :   ( يسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ  )  (  البقرة : 219 (    فقرأ حمزة والكسائي ( فيهما إثم كثير ) بالثاء ، وقرأ الباقون (إثم كبير ) بالباء[32]  . فمعنى قراءة حمزة والكسائي ( إثم كثير ) من الكثرة ، وذلك لأن شرب الخمر يحدث معه آثام كثيرة  ، من لغط ، وتخليط ، وسب ، وأيمان  ، وعداوة ، وتفريط في الفرائض ، وفي غير ذلك ، فوصف بالكثرة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى :  ( إنما يريد  الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم   منتهون  ) [ المائدة :91]، فذكر أشياء من الإثم  [33] .   

 يقول أبو حيان : ( ووصف الإثم بالكثرة إما باعتبار الآثمين فكأنه قيل فيه : للناس آثام ، أي كل واحد من متعاطيها آثم ، أو باعتبار ما يترتب على شربها مما يصدر من شاربها من الأفعال والأقوال المحرفة ، أو باعتبار من زاولها من لدن كانت إلى أن بيعت وشريت  الخمر ولعن معها عشرة ، فقد لعن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - بائعها ،ومبتاعها ،والمشتراة له ، وعاصرها ،ومعتصرها والمعصورة له ،وساقيها ،وشاربها ،وحاملها ،والمحمولة له ، وآكل ثمنها ، فناسب وصف الإثم بالكثرة بهذا الاعتبار. ) [34]  .  أما معنى قراءة ( إثم كبير ) فهو من الكبر والعظم ،  أي: فيها إثم عظيم ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى )  :   والذين   يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ   يغفرون )    ( الشورى : 37)   ،  وفي هذا يقول الزجاج : ( فأما الإثم الكبير الذي في الخمر فبين ، لأنها توقع العداوة والبغضاء ، وتحول بين المرءٍ وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه .) [35] . فحاصل القراءتين هو التأكيد على تحريم الخمر وذمها لعظيم إثمها وعقوبتها ، وكذلك لكثرة آثامها ، فلا تناقض بين القراءتين ، لأنهما في ذم الخمر ، وتقبيح شاربها  فكل قراءة بينت أمراً هو فيها ، وهو من باب الاتساع في المعاني الذي لا يقتضي التضاد والتباين  وكلتا القراءتين مراد الله عز  وجل ، وفي ذلك يقول أبو حيان : ( ذكر بعض الناس ترجيحاً لكل قراءة من هاتين القراءتين على الأخرى وهذا خطأ ، لأنَّ كلاً من القراءتين كلام الله تعالى ، فلا يجوز تفضيل شيء منه على شيء من قبل أنفسنا إذ  كله كلام الله تعالى . ) [36] وكذلك كل القراءات القرآنية المتواترة ..

وختاما أقول :

 إن ما يأتي في القرآن موهما الاختلاف أو التضارب ،  هو من قبيل التشابة الذي يرد وكأنه أخفى معنى ،  أو ستر مفهوما  قد يوهم بوجود إشكال ،  إلا أن هذا ضرب من أروع ضروب البلاغة العربية  ، ولا يظهر جمال اللغة العربية وروعتها  وفصاحتها إلا مع هذا التشابة  ، إذ يتمثل فيه الكثير من أنواع البلاغة العربية من مجازات  ، وكنايات ، وإشارات ، وتلويحات , وهو أسلوب مستملح عند العرب حتى يكون القرآن متحديا بطبيعته في أي من نوعيه  : الواضح منه ، أو المشكل فيه  ، الموهم للاختلاف والتعارض .

وعندما يأتي الكلام على خلاف ما يقتضي الظاهر ،  فان ذلك لون من ألوان  البلاغة يقتضي إعمال الفكر وتنشيطه ويدعو إلى التدبر ،  وسبر أغوار النص  لاستخلاص المعنى المقصود ، والوصول إلى مايهدف إليه  ، ومن هذا المنطلق, يظل القران مجالا رحبا للبحث والتقصي ،  والنظر الثاقب في تدبره وفهمه  . [  غير أن الذي لا ينبغي أن يغرب عن خواطر المؤمنين ، وأن يكون أبدا لزاماً لأفكارهم ، هو أن يفرقوا بين الرأي المغرض  ، والرأي الأحمق , والرأي الجاهل ،  وبين الرأي المتروي الذي يلتزم حدود اللغة  ، ويستصحب مقاصد الشريعة .] [37]

 =============================

[1] - انظر : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب : ص : 132-133. و تيجان البيان في مشكلات القرآن : ص 224-225 بتصرف يسير . وانظر : غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام : ج1: ص349  - 351. وانظر : صحيح البخاري بيوع : 90. ومسند الإمام أحمد : 2/ 6، 9 ، 63  .

[2] - رواه ابن جرير في تفسيره ، 9/ 152. وانظر أسباب النزول : ص 156.

[3] - ابن قتيبة : تأويل مشكل القرآن : ص50. و الكشاف : ج2: 155-156. و الجامع لأحكام القرآن : ج7: 399.

[4] - انظر : الإتقان : ج2: 29. و تنزيه القرآن عن المطاعن : ص 328.

[5] -  التفسير الكبير : ج5: ص19.

[6] - إرشاد العقل السليم ..  : ج1: ص241.

[7] -  تأويل مشكل القرآن : ص 47.

[8] - انظر :  تأويل مشكل القرآن : ص 46-47. والجامع لأحكام القرآن : ج13: 315. والتفسير الكبير : ج 19: 218 .

[9] - انظر :  دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب : ص 172.

[10] - انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ص 194.

[11] - انظر :  مسائل الرازي وأجوبتها : ص 204.

[12] - انظر  : أضواء البيان  : ج3/ ص267.

[13] - انظر :حاشية الجمل على الجلالين  : ج2/ ص40 .

[14] -  انظر  : مسائل الرازي وأجوبتها ، ص 238 .

[15] - انظر :  دفاع عن القرآن الكريم ، ص 162-165.

[16] - انظر   : المغني في أبواب التوحيد والعدل : ج16/ ص 314.

[17] - انظر  : فتح القدير ، ج4/ ص 507.

[18] - انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ص 204.

[19] - انظر :   مواهب الرحمن في علوم القرآن  : ص 205.

[20] - انظر: حاشية الجمل على الجلالين : ج4/ ص 556.

[21] - انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ، ص 176.

[22] -   انظر :  معترك الأقران في إعجاز القرآن  : ج1/ ص 105.  واللآلئ الحسان في علوم القرآن : ص : 197-198.

[23] -  المسند : ج2: 347.

[24] - انظر :  موهم الاختلاف والتناقض في القرآن الكريم ::   ص 696 . 

[25] - انظر  :صحيح البخاري : كتاب التفسير ، سورة مريم ،  باب قوله : ( وانذرهم يوم الحسرة ) ج5/ ص 236. وانظر صحيح مسلم شرح النووي : في صفة القيامة والجنة والنار ، باب جهنم ، ج17/ ص 184.

[26] - انظر :  موهم الاختلاف والتناقض  : ص 696-697 بتصرف يسير .

[27] - انظر:  تفسير فتح القدير : ج2/ ص 232 .

[28] -  انظر : حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين   : ص 68 ، بتصرف يسير

[29] - حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين : ص 70 . بتصرف يسير .

[30] - المرجع السابق : ص 71 ، بتصرف يسير .

[31] - انظر السبعة في القراءات  : ص 143 . و النشر  في القراءات العشر  : ج2/ ص 207 .

[32] - تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن: ج9/ ص 23 . . والنشر : ج2/ ج2/ ص 227.

[33] - الكشف  عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها : ج1/ ص 261. والموضح في تعليل وجوه القراءات السبع :   ص 302 .

[34] -    البحر المحيط : ج2/ ص 157-158. ( تخرج الحديث)

[35] -  معاني القرآن وإعرابه  : ج1/ ص 292.

[36] -  البحر المحيط  : ج2/ ص 185 .

[37] -  مع القرآن :  ص 80 .  وانظر  : قضايا في علوم القرآن تعين على فهمه : ص 252 .

 

  • الاربعاء PM 04:48
    2022-01-12
  • 8994
Powered by: GateGold