المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417538
يتصفح الموقع حاليا : 277

البحث

البحث

عرض المادة

تاريـــخ الغنوصيـــة

الغنوصيـــة: تاريـــخ
Gnosticism: History
تُلقي الخلفية التاريخية والثقافية للغنوصية الكثير من الضوء على بنيتها. ويبدو أن جذورها تعود إلى القرنين الأخيرين قبل الميلاد، ولنتخيل أن مواطناً في الألف الأخير قبل الميلاد، في الشرق الأدنى القديم، كان يعيش في كنف الإمبراطورية الفارسية، وهي إمبراطورية شرقية قد تكون غريبة عليه، ولكنها مع هذا لها تقاليدها الحضارية الشرقية القريبة من تقاليده، كما أنها كانت إمبراطورية مترامية الأطراف، اعتمدت أسلوباً في الإدارة مبنياً على عدم المركزية وعلى السماح للجماعات المحلية بقدر من الإدارة الذاتية، فكانت تُحصِّل الضرائب من خلال كبار الملاك المحليين، الأمر الذي ترك الريف دون تَدخُّل عنيف من القوة الإمبراطورية الأجنبية، ومن ثم لم يتغير أسلوب الحياة فيه.


وجاءت الإمبراطورية اليونانية بثقافتها الهيلينية، وقد أسس هؤلاء الغزاة مدناً قوامها فرق من المرتزقة والمستوطنين الأجلاف الذين كانوا لا يعرفون من الثقافة الإغريقية غير القشور (مثل السيرك والألعاب)، ولحقت بهم جماعات من المثقفين. ثم بدأت حركة هجرة داخل الإمبراطورية الهيلينية نحو هذه المدن، وهو ما أدَّى إلى نموها وتضخُّم حجمها، ولذا كانت هذه المدن تختلف عن المدن/الدول اليونانية. فالعلاقات الإنسانية في المدينة/الدولة كانت متعيِّنة متجانسة، لأن المدينة/الدولة كانت وحدة صغيرة تكاد تكون عضوية في تماسكها، إذ كان يشارك الجميع في العملية السياسية والأحـداث الثقافية، وكان ينتظم كل هـذا إطار العبادة الوثنية الهيلينية. ويُقال إن تجربة الإنسان اليوناني داخل المدينة/الدولة يشكل أساس الأنطولوجيا الغربية الكلاسيكية: الكل يسبق الأجزاء، والكل أحسن من الأجزاء، والكل هو الغاية والأجزاء هي الوسيلة. وكان الفرد هو الجزء في هذه المنظومة، والمدينة/الدولة هي الكل، وكان الفرد يشعر بهذه المقولات بشكل متعيِّن ومباشر من خلال تجربته الحياتية اليومية، هذا على النقيض من المدن اليونانية في الشرق فقد كانت أكبر حجماً وكانت تضم عناصر بشرية غير متجانسة لكلٍّ دينها وشعائرها وتجربتها التاريخية. ولذا، كانت كل جماعة تنكفئ على ذاتها وتنعزل عن المدينة، ولكنها كانت في الوقت نفسه تفقد هويتها لبعدها عن مراكز الحضارة الخاصة بها، وكانت تكتسب الخطاب الحضاري اليوناني أو قشوراً أو شذرات منه عن وعي أو عن غير وعي فيمـتزج بخطابها الحضـاري ويحـل محلـه في بعض الأحيان. وكانت هذه المدن مدناً دولية تصلها التجارة من كل أنحاء الأرض (الصين وأوربا) وتُقام فيها أسواق ضخمة لها إيقاعها السريع وحجمها الضخم. ومن ثم، لم يكن بوسع الفرد أن يمارس علاقة عضوية مع الآخرين أو مع المدينة.

إلى جانب كل هذا، كان يوجد انقسام حاد بين النخبة الإغريقية الحاكمة في المدينة والنخب الأخرى (المصرية واليهودية والفارسية) التابعة لها من جهة، ومن جهة أخرى الجماهير التي كانت: إما تأغرقت بشكل سطحي أو ظلت شرقية في تراثها وهويتها. وإلى جانب هذا الصراع الثقافي، كان يوجد صراع طبقي إذ أن استقلال الطبقات الحاكمة قد تزايد (وخصوصاً في مصر) بسبب تزايد قبضة البيروقراطية تحت حكم اليونان، وكان المصريون يدفعون الضرائب للتاج وللمدن التي كانت تمارس حقوقها على الأراضي الزراعية التي تملكها، ولأصحاب الأراضي التي يعيشـون فيها، ولذا أُفقر الريف وزادت الهجـرة إلى المدينة.

ثم سقطت بعد ذلك الإمبراطورية اليونانية. ومع الحكم الروماني، زادت الأمور سوءاً، فمع تزايد الحروب زادت الضرائب واندلعت الثورات (مثل التمردين اليهوديين الأول والثاني في القرنين الأول والثاني الميلاديين)، كما ازدادت الفجوة الثقافية بين الحاكم والمحكوم. وأدَّى اتساع نطاق الإمبراطورية إلى تزايد اختلاط الديانات المختلفة وإلى عمليات تهجينها، فامتزجت الآلهة الشرقية بالآلهة اليونانية والرومانية. ووجد المواطنون أنفسهم في إمبراطورية مترامية الأطراف، لا تؤمن بأية آلهة، أو تؤمن بآلهة كثيرة. وبذا، أصبح الكل مبعثراً وأصبح الجزء لا معنى له. وقد تماسك الكل لا بسبب أية أيديولوجية وإنما من خلال العنف الذي كانت تمارسه السلطة وبفعل توازن القوى، وهي سلطة كانت لا تكترث كثيراً بالتراث الحضاري للمواطنين فتدع كل فرد يمارس ما يشاء من شعائر طالما أنه يدفع الضرائب التي كانت تضمن تدفقها الطرق الرومانية والجنود الرومان الأجلاف، سادة العالم الذين كانوا لا يؤمنون بدين أو كانوا يؤمنون بدين وثني متخلف يرتكز على عبادة الإمبراطور ومجمع الآلهة (بانثيون) الروماني.

وجد المواطن نفسه في إمبراطورية غريبة عليه، معادية له، حاكمها ظالم يفرض عليه القانون الروماني الغاشم، وجنودها أجلاف. كما وجد أنه ليس بمواطن روماني، ولذا فإنه لا حقوق له مع أن علاقته بوطنه الأصلي قد ضَعُفت، وخصوصاً إذا كان من سكان المدن. وفي هذه التربة، انتشرت الغنوصية بين أعضاء البورجوازية الصغيرة وبين كثير من أعضاء الطبقات غير المستغلة التي فقد أعضاؤها مناصبهم ومكانتهم، أو على الأقل تراجع نفوذهم رغم شعورهم بحقهم في أن يكونوا أحراراً، وكان عندهم الطموح للحراك والصعود إلى أعلى دون أن تكون عندهم الوسيلة لذلك: طبقات فقدت عالمها القديم ولم يستوعبها العالم الروماني الجديد. وأعضاء هذه الطبقات كانوا متعلمين يعرفون الفلسفة اليونانية بدرجات متفاوتة من العمق والسطحية، ولكنهم كانوا مع هذا ملمين بأسرار الديانات الشرقية، ولذا قاموا بالمزج بين العناصر اليونانية والشرقية حينما صاغوا أيديولوجيا جديدة (وهذا المزج هو الذي أعطى الغنوصية مقدرة تعبوية هائلة).

وقد انتشرت الغنوصية في المدن الكوزموبوليتانية الكبيرة، مثل الإسكندرية وأنطاكية وروما ومدن آسيا الصغرى، وهي مدن تتسم ببعض أو كل الملامح التي أشرنا إليها من قبل؛ مدن تقع على الحدود بين الشرق المتأغرق وروما، ومع هذا، ظل الشرق مركز جاذبيتها الثقافية. وحتى الزعماء الغنوصيون الذين ظهروا في الريف (مثل شمعون الساحر من السامرة) كان نشاطهم في المدن أو تربطهم علاقة وثيقة بها.

هذا الوضع الحضاري والتاريخي يفسر كثيراً من جوانب الغنوصية، فهو يفسر ازدواجية الغنوصية الشرقية/الإغريقية، كما يفسر طبيعة الحل الذي تطرحه وجذريته. فإذا كان الإنسان يشعر بالغربة والاغتراب والهجران إلى هذا الحد، فإن الحل الذي سيطرحه لمشكلته لن يقل جذرية. والغنوصية أعلنت أن هذا العالم فاسد تماماً، فسقطت المدن والإمبراطوريات والعالم الطبقي والقوانين الطبيعية والأخلاقية الغاشمة بضربة معرفية واحدة. أما عالم المدينة الوثني الذي يتطلب الانتماء إليه الانتماء للعبادة الوثنية، فإنه يسقط هو الآخر بإعلان أن طريق الخلاص هو العرفان الداخلي دونما حاجة لكهنة أو معابد (وهذا مناسب جداً في اقتصاد مبني على حركة تجارية مستمرة، فأماكن العبادة الثابتة غير صالحة). أما اغتراب الإنسان فبوسع الإنسان أن يعقلنه قليلاً بأن يدَّعي أنه يوجد في هذا المكان ولكنه ليس منه. أما وجود الإنسان في موقع متدن من السلم الطبقي، فيستطيع مثل هذا الإنسان أن يُفسِّره لنفسه بأنه في واقع الأمر من الروحانيين في عالم جسماني. أما من هم في قمة السلم فهم في واقع الأمر الجسمانيون أو النفسانيون على أحسن تقدير، وهو سلم سيُقلب رأساً على عقب حين يعود الإنسان العارف لأصله الروحاني ويشغل قمة الهرم، وبذا يحل محل النخبة اليونانية/الرومانية. أما الجسمانيون أو النفسانيون فهم كالقشرة أو المحارة سيُنبذون أو يحتلون مكانهم في أدنى درجات السلم.

وكانت الجماعات اليهودية من أكثر الجماعات تأثراً بهذه التحولات (تماماً كما حدث لها في العالم الغربي بسبب ظهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والدولة القومية والرأسمالية الرشيدة والتشكيل الاستعماري الغربي). وقد كان اليهود من أكثر الجماعات انتشاراً في المدن الإغريقية، ومن المعروف أنه في المائة الأخيرة قبل الميلاد، كان عدد اليهود في الإسكندرية أكثر منهم في القدس، كما كان عدد اليهود خارج فلسطين أكثر منهم في داخلها. وقد اندمج اليهود في الحضارة الهيلينية بشكل سريع، وفقدت أعداد كبيرة منهم هويتها، وأصبحت النخبة الاقتصادية بينهم من كبار ملاك الأراضي ومحـصلي الضـرائب والكهنة مُسـتوعَبين في النسق الحضـاري الهيليني. وقد تُرجم العهد القديم إلى اليونانية، إذ أن أعضاء الجماعة اليهودية في الإسكندرية نسوا العبرية، وقام مفكرون مثل فيلون بمحاولة المزاوجة بين الهيلينية والتفكير الديني اليهودي. وقد حقَّق اليهود حراكاً اجتماعياً هائلاً، فكان منهم الجنود والشرطة وقادة الجيش وجامعو الضرائب وكبار التجار. ثم جاءت الدولة الرومانية لتحطم الهيكل، مركز العبرانيين الثقافي والديني، وهي تجربة جاءت بعد التهجير إلى بابل بعد هزائم متكررة لحقت بالشعب المختار. وقد حقَّقت قلة من اليهود، وخصوصاً العناصر المتأغرقة، مزيداً من الحراك (مثل تايبيريوس يوليوس ألكسندر، ابن عم الفيلسوف فيلون وأحد القادة العسكريين في حملة تيتوس لتحطيم الهيكل). وتحوَّل بعضهم من جماعة وظيفية قتالية إلى جماعة وظيفية تجارية. أما غالبية أعضاء الجماعات اليهودية، فوجدوا أنفسهم في عزلة بعد أن فقدوا هويتهم وعلاقتهم بفلسطين، ووجدوا أنفسهم في حالة صراع مع الأرستقراطية اليونانية إذ آثر الرومان التعامل مع اليونانيين على التعامل مع أعضاء الجماعات اليهودية. وقد كان على كثير من يهود الإسكندرية وفلسطين وغيرهما من البلاد التي تدور في الفلك الروماني أن يتخلوا عن دينهم وأن يقطعوا علاقتهم بالجماعة اليهودية إن أرادوا الحصول على المواطنة لتحقيق الحراك (وهذا ما فعله تايبيريوس). بل إن هذا البديل أصبح في حدّ ذاته غير ممكن لكثير من اليهود إذ أن الأرستقراطية اليونانية واليهودية المتأغرقة ما كانت لتقبلهم حتى لو تخلوا عن دينهم، ولذا وجد هؤلاء أنفسهم وقد صُنِّفوا يهوداً مع أن هويتهم اليهودية ضعيفة جداً. ومع هذا، كانت هذه الهوية المزعومة الضعيفة الواهية هي التي تجذبهم نحو القاع. وقد حدثت الأزمة في وقت كانت فيه اليهودية نفسها في حالة أزمة وانقسام، وتصاعدت التوقعات المشيحانية كما هو واضح في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، الأمر الذي جعل هؤلاء اليهود يفقدون صبرهم ويودون أن تأتي لحظة الخلاص حيث تتحطم الحدود والسدود والقيود. وقد كان هناك عدد من الفرق اليهودية التي تختلف الواحدة عن الأخرى، من أهمها الجماعات المشيحانية مثل الأسينيين والغيورين وحملة الخناجر. ولكل هذا، فإننا نجد أن الغنوصية (التي تشكل اليهودية رافداً أساسياً فيها) قدمت الحلول الجذرية لأعضاء الجماعات اليهودية من المندمجين في الحضارة اليونانية الرومانية المغتربين عنها. لقد قدمت لهم نسقاً أسطورياً معادياً لليهودية، رافضاً لها، يعدهم بالتحرر منها ومن الرومان في الوقت نفسه. فالغنوصية رفض للمادة من حيث هي قيد، والمادة بالنسبة إليهم هي أولاً عالم التفاوت الاجتماعي والقهر الروماني الذي يحول بينهم وبين الحراك الذي يطمحون إليه. أما الإله الصانع وحكام السماوات والأرض (أركون)، فهم الحكام الرومان وجنودهم والنخبة اليونانية الحاكمة التي تضع العراقيل في طريقهم. ولكن الإله الصانع هو أيضاً إله يسرائيل الذي خلق المادة أو صاغها في صورتها الكريهة والذي أرسل شريعته ليثقل بها كاهل اليهود ويحول دون دخولهم إلى العالم الروماني. وحسب بعض المنظومات الغنوصية، فإن شريعة موسى هي شريعة العامة (الجسمانيين والنفسانيين). ومع هذا، فإنها تحوي داخلها الغنوص اللازم والذي ظهر في العهد الجديد. ولذا، كان هؤلاء يرفضون العهد القديم تماماً أو كانوا يفسرونه تفسيراً يجعل منه تمهيداً للعهد الجديد. وفي الواقع، فإن سقوط النور في الدنيا وتبعثره وأسره، هو تبعثر اليهود وسبيهم ووجودهم في هذه المدن اليونانية المعادية، وما العالم الشرير والزمان الردئ سوى عالم الرومان وزمانهم، ولكنه هو أيضاً عالم يهوه وتاريخه الملئ بالكوارث والتشتت والتهجير والاضطهاد.

والخلفية الثقافية للغنوصية مرتبطة تماماً بالخلفية التاريخية، وهي الأخرى تلقي الضوء الكاشف على بنيتها الأسطورية الفكرية. وكما أسلفنا، سيطرت الإمبراطورية الفارسية على المنطقة ردحاً من الزمان، ونشرت ديانتها الثنوية فيها. ثم جاء غزو الإسكندر للمنطقة، وانتشرت الثقافة الهيلينية، فمزجت الأفكار والعقائد الوثنية وديانات الأسرار المختلفة بالفلسفات والعقائد اليونانية. وبعد ذلك، ظهرت المرحلة الرومانية التي أسقطت الحدود القومية وشجعت التبادل بين الشعوب في الشرق والغرب.

نبعت الغنوصية من هذه التشكيلة الفريدة، فضمت بقايا العبادات والديانات الوثنية القديمة وأديان الأسرار، ووضعتها في إطار واحد، وفرضت عليها مقولات الفكر اليوناني الفلسفي ومصطلحه (ومن هنا نجد أن الفكر الغنوصي يتسم بأنه تفكير أسطوري بدائي مُختلط بفكر فلسفي مجرد). ومن أهم جذور الغنوصية عبادة بابل التي طرحت فكرة السماوات المختلفة التي يتحكم في كل واحدة منها كوكب، كما طرحت فكرة أن العالم مكوَّن من دوائر مركزها الأرض. ومن مصادر الغنوصية الأخرى، العبادات الفارسية بثنويتها الكاملة المتمثلة في الصراع الدائر بين أورمازد إله الخير والنور، وأهريمان إله الشر والظلام. كما دخلت بعض المفاهيم من العبادات المصرية القديمة، مثل تأليه الإنسان والعنصر الجنسي في عملية الخلق. وامتزج بكل هذا عناصر من الفكر الإغريقي الذي كان ينطـوي على الإيمـان بأن ثمـة حكمة خفية في الأساطير الشرقية. وقد تبنَّى بعض الفلاسفة اليونانيين (الرواقيون مثلاً) أفكاراً من العبادات الشرقية، كما أن عبادات الأسرار (مثل عبادة إيزيس) وجدت طريقها إلى اليونان. وقد قامت الأفلاطونية المحدَثة بالتفرقة وبحدة بين الإله الواحد المتسامي وبين الإله الصانع المادي (ديمي إيرج Demiurge)، وجعلت معرفة الإله الواحد معرفة باطنية غنوصية. ومن أهم مصادر الغنوصية التراث الديني اليهودي (انظر: «الغنوصية واليهودية»).

ويذهب بعض دارسي الغنوصية إلى أن تعددية المصادر وانعدام التجانس هو سمة أساسية فيها، فهي قادرة على استيعاب أي عنصر في الديانات الأخرى إن كان يدعم وجهة نظرها العدمية الشاملة التي تهدم كل الحدود ولا تفرق بين الأنساق التاريخية والدينية والفلسفية المختلفة. ورغم تنوع المنظومات الغنوصية، إلا أن ثمة بنية واحدة كامنة تبرر الحديث عن منظومة غنوصية معرفية وأخلاقية واحدة.

وتتسم الغنوصية، مثل كثير من الحركات الباطنية والحلولية، بأنها سريعة الانقسام وذلك بسبب مركزية الزعيم أو القائد فيها، إذ عادةً ما يتأله ويتحول إلى لوجوس أو مطلق أو تجسُّد للإله في الأرض تدور حوله الجماعة. ولأن المطلق لا يمكن أن يتعايش مع مطلق آخر، لذا يحدث الانقسام.

ومن أهم الشخصيات الغنوصية شمعون ماجوس، أي سيمون الساحر (عاش في القرن الأول الميلادي)، الذي يُشار إليه دائماً بأنه أول الغنوصيين. كان من السامريين، وعاش في زمن الحشمونيين. وقد عثر سيمون على عاهرة تسمَّى هَـيّلانه في إحدى الحانات، فأعلن أنها صوفيا التي جاءت لإنقاذ العالم وتزوجها وأعلن نفسه المخلّص وآمن بمقدرة السحر على التحكم في العالم. ويبدو أن أتباعه كانوا يقومون بطقوس ذات طابع جنسي، ترخيصي (تأليه الكون). ثم جاء بعده ساتورنيوس من أنطاكية الذي أعاد تفسير قصة المسيح بحيث أعطاها مضموناً رهبانياً ينكر الجنس تماماً (إنكار الكون).

أما أعظم الغنوصيين فكان فالنتينوس، ورغم اسمه اللاتينيّ إلا أنه كان من أصل يوناني وُلد في دلتا مصر عام 100 ميلادية وتلقى تعليمه في الإسكندرية. ولم ينفصل هو وأتباعه عن الكنيسة في الإسكندرية، بل أسسوا أكاديمية للبحث الحر. وقد تبع هذه الأكاديمية شبكة من الجماعات المحلية داخل إطار المؤسسة الدينية، وكان فالنتينوس مشهوراً ببلاغته وعبقريته. وقد رأى فالنتينوس في المنام ـ حسب ما قال ـ رؤيا مأساوية، إذ رأى الجزء الذي يصدر عن الكل، هذا الجزء هو ما يشكل أساس الوجود ويُسمَّى «الأعماق»، كما رأى زوجته التي تُسمَّى «الرحمة» أو «السكون». ومن خلال زواجهما يولد المسيح أو اللوجوس الذي تعتمد عليه كل الأيونات. ومن خلال المسيح، أدرك فالنتينوس الكل (بليروما) وذوبان الذات في الكل.

وكان هناك أيضاً مرقيون، وهو من مُلاَّك السفن الأثرياء من مقاطعة بونتوس على البحر الأسود. لم يفهم مرقيون سوى فكرة واحدة هي أن الإله، أو المسيح، لم يكن يهوه إله العبرانيين، فهذا هو الإله الصانع. وقد كان مرقيون يقتبس دائماً خطاب بطرس إلى أهل غلاطيا ويبيِّن الفرق بين قانون العهد القديم وقانون العهد الجديد. فمسألة حب الإله غير المشروط للإنسان، التي وردت في إنجيل بطرس، مسألة اكتسحت مرقيـون تماماً، فأسَّس كنيسة (مسيحية) منافسة للكنيسة القائمة حينذاك. ومن أهم المفكرين الغنوصيين باسيليديس الذي كان قائد مدرسة نشيطاً في الإسكندرية في زمن الإمبراطور هادريان (في بداية القرن الثاني الميلادي) ويبدو أنه كان يهودياً متأغرقاً رفض فكرة الإله الشخصي وتبنَّى فكرة الإله الخفي وذهب إلى أن المسيح أصبح روحانياً عند تعميده في نهر الأردن (لا عند ميلاده). (وقد ظل باسيليديس عضواً في الكنيسة ولم يُطرَد منها قط، وهذا مما يبين غموض الموقف المسيحي من الغنوصية).

وأهم دعاة الغنوصية ماني صاحب المذهب المانوي الذي وُلد في فارس (216 ـ 277) ونشأ في مدينة مسيحية يهودية، وتتسم منظومته بالثنائية الحادة، ربما بسبب أصلها الفارسي. وقد كان القديس أوغسطين (354 ـ 430)، في بداية حياته، من أتباع ماني، وكتب بعض مؤلفاته أثناء هذه المرحلة. وأهم الوثائق الغنوصية هي نصوص نجع حمادي حيث كانت مصر مركزاً للتفكير الغنوصي. وللغنوصيين كتب مقدَّسة، من بينها: أبوكريفون جون (أي كتاب جون الخفي)، وإنجيل توماس (الذي عُثر عليه في مصر)، وإنجيل فيليب، وإنجيل مريم المجدلية.

وبعد القضاء على الهرطقة الغنوصية على يد الكنيسة، وبعد موت قيادتها، استمرت الغنوصية على هيئة حركات دينية خارج الديانات التوحيدية وأحياناً داخلها. ويمكن القول بأن منظومة عبد الله بن سبأ هي منظومة غنوصية. ويرى المؤرخون أن التصوف الإسلامي الحلولي المتطرف ذو طابع غنوصي، كما يُصنَّف بعض غلاة الشيعة ضمن الغنوصيين، ويُصنَّف العلويون (النصيريون) باعتبارهم جماعة إسلامية ذات توجُّه غنوصي. ويمكن تصنيف عقيدة الدروز والبهائية ضمن أشكال الغنوص. ولا تزال هناك فرقة دينية في العراق وإيران تُسمَّى المندائيين وهي فرقة غنوصية يبلغ عدد أفرادها خمسة عشر ألفاً، («مندائي» هي الكلمة الآرامية لـ «غنوص» فالمندائي هو العارف وهي من كلمة «منداء» أو «منداع» بمعنى «معرفة») وتتضمن عقيدتهم التطهر في المياه الجارية وشعائر جنائزية مركبة. فحينما يموت المندائي، يقوم الكاهن بالشعائر اللازمة لإعادة الروح لمسكنها الإلهي حيث ستتلقى جسداً روحياً جديداً، وبهذه الطريقة يتوحد الميت مرة أخرى مع آدم السري (الإنسان الأزلي)، أو المجد، جسد الإله المقدَّس.

وقد ظهرت جماعات غنوصية داخل المسيحية، مثل جماعات الكاثاري التي ازدهرت بين القرنين الثالث والحادي عشر في أرمينيا وآسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان ومنها انتشرت إلى غرب أوربا وخصوصاً جنوب فرنسا (الهرطقة الألبيجينية وغيرها). ويُقال إن فرسان الهيكل كانوا أيضاً جماعة غنوصية، وأن المنشدين الذين يُطلَق عليهم لفظ «تروبادور»، الذين تغنوا (تأثراً بالعرب) بالحب العذري الذي تحوَّل إلى عبادة العذراء، قد تبنوا رؤية غنوصية للواقع. أما في شرق أوربا (في بلغاريا وشبه جزيرة البلقان ويوغسلافيا)، فقد ظهرت جماعة البوجوميل (أصدقاء الإله). ويُقال إن مسلمي البوسنة والهرسك كانوا من أصول غنوصية، فكأن الغنوصية هنا كانت الأرضية الفلسفية التي رفضوا على أساسها المسيحية وأصبحوا هامشيين بالنسبة لها، ولذا كان من السهل دخولهم في الإسلام مع وصول العثمانيين.

وقد تغلغلت الغنوصية في اليهودية وهيمنت عليها تماماً في القرن الرابع عشر بظهور القبَّالاه، وخصوصاً اللوريانية، وهي منظومة غنوصية متطرفة (انظر: «الغنوصية والقبَّالاه»).

ومن منظور هذه الموسوعة، فإن من أهم الجماعات الغنوصية جماعات المنشقين (بالروسية: راسكول) الذين تركوا الكنيسة الروسية الأرثوذكسية وكان معظمهم من عناصر فلاحية روسية. وكان الريف الروسي وثنياً إلى حدٍّ كبير (حيث دخلته المسيحية في وقت متأخر نوعاً). ولذا، ظهرت جماعات منشقة عديدة، كانت غنوصية متطرفة رغم استخدامها المصطلحات المسيحية. كان من بينهم جماعة الخليستي، أي من يضربون أنفسهم بالسياط (كان منهم راسبوتين)، والجريشنيكي الذين كانوا يؤمنون بالخلاص من خلال ارتكاب الرذائل والموبقات (تأليه الكون)، والبيزجلوفنسكي الذين كانوا يلزمون الصمت لمدد طويلة. ومن أهم هذه الجماعات الدوخوبور (ومنهم مدام بلافاتسكي التي كان يتردد عليها كثير من رواد حركة الحداثة في الفن والأدب) وهي مؤسسة الجماعة الثيوصوفية في لندن (ماتت 1891). وكان هناك السكوبتسي، المخصيون، الذين كانوا يعبِّرون عن إيمانهم بالخالق بخصي أنفسهم (إنكار الكون). وقد تأثرت الحسيدية بهذه الجماعات الغنوصية، وخصوصاً الخليستي.

وقد تمتعت الغنوصية بحركة بعث جديدة حين بدأ الإنسان الغربي مشروعه التحديثي، ونحن نذهب إلى أن ثمة علاقة قوية بين الغنوصية والمشروع التحديثي التنويري العلماني الغربي (انظر: «الغنوصية والتحديث»).

  • الاربعاء PM 03:35
    2021-04-21
  • 1320
Powered by: GateGold