المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417545
يتصفح الموقع حاليا : 272

البحث

البحث

عرض المادة

عناصــر في اليهــودية مـن الـديانات والحضـارات الأخـرى

عناصــر في اليهــودية مـن الـديانات والحضـارات الأخـرى
Elements in Judaism from other Religions and Cultures
لابد أن نبيّن ابتداءً أن هناك رقعة عريضة مشتركة بين كل الأديان باعتبارها تعبيراً عن شيء أساسي في النفس البشرية: وهو رغبة الإنسان في تأكيد إنسانيته وتعريفها باعتبارها كياناً متميِّزاً يتجاوز عالم الطبيعة/المادة وعالم الحيوانات والحشرات التي تحيا وتموت دون وعي ودون هـدف أو غايـة ودون أية منظـومات معرفية أو أخلاقيـة أو جمالية، فهي تعيش مبرمجة حسب برنامج الطبيعة/المادة. هذه الرغبة الإنسانية هي ما نسميه «النزعة الربانية». وهي رغبة كامنة في الجنس البشري تولِّد من داخل عقل الإنسان، المستقل عن عالم الطبيعة/المادة، أفكاراً وأحلاماً ورؤى. ولذا فمن المتوقع أن تكون هناك عناصر مشتركة بين هذه الأفكار والرؤى تتجلى على هيئة رقعة مشتركة بين كل الديانات في العقائد والرؤى والطقوس والشعائر. ومع هذا لا يمكن إنكار أن عقيدة ما يمكن أن تتأثر بأخرى، وأن درجات التأثر هذه تختلف من عقيدة لأخرى. ونحن نذهب إلى أن درجة تأثر اليهودية بما حولها من عقائد أدَّى إلى ظهور خاصيتها الجيولوجية التراكمية التي تتبدَّى في الاقتباسات العديدة غير المتجانسة من الحضارات الأخرى، وخصوصاً إبَّان المواجهات الأساسية الخمس للعقيدة اليهودية مع الحضارات: الكنعانية والبابلية والهيلينية والمسيحية والإسلامية، وأخيراً مواجهتها مع الحضارة العلمانية الحديثة في الغرب.


ولنبـدأ بالمصريين القـدماء. يبدو أن قصة يوسف ذات أصل مصري، ويُلاحَظ فيها وجود لمسات مصرية هنا وهناك. ففي سفر التكوين (41/14) يحلق يوسف رأسه قبل المثول أمام فرعون، وقد كانت هذه عادة معروفة في مصر، ولم تكن معروفة عند الساميين. وقد أثَّر نظام الكهنوت المصري في نظام الكهنوت اليهودي، وكذلك في هندسة الهيكل التي تشبه هندسة المعابد المصرية، كما أثَّر التراث المصري في بعض مظاهر العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية مثل تابوت العهد وقدس الأقداس وغيرها. ولكن الأهم من كل هذا هو الأثر الذي تركه المصريون في اليهود في مجال العقيدة. فقد ترك الفكر التوحيدي المصري القديم، وعبادة إخناتون التوحيدية، أثراً واضحاً وعميقاً في العبرانيين، وفي رؤيتهم للإله بشكل عام. كما يتضح هذا الأثر بشكلٍ محدَّد في المزامير التي وجد الباحثون أمثال هنري برستيد فيها أصداء لأناشيد إخناتون الدينية، فالمزمور 94 مستوحى بصورة جلية من «نشيد آتون»، والمزمور 104 مأخوذ عن «نشيد الشمس» في عهد إخناتون. بل يمكن القول بأن بعض الأوجه الإيجابية للرؤية الأخلاقية العبرانية تعود إلى الحضارة المصرية التي أكدت فكرة الثواب والعقاب. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن كتاب الأمثال في العهد القديم يكاد يكون ترجمةً لأحد كُتب الحكمة المصرية. كما أخذ العبرانيون شعيرة الختان، وفكرة تحريم الخنازير، ومبدأ النجاسة، من المصريين القدامى. ولا يعني هذا أن العبرانيين تبنوا هذه العقائد والمفاهيم بقضها وقضيضها، فالتوحيد بين العبرانيين قد انتكس في مرحلة لاحقة، وكذا القيم الأخلاقية، وإنما يعني ذلك أن التراث المصري الديني والأخلاقي ترك أصداءً عميقةً في وجدان العبرانيين.

وقد تأثر العبرانيون بحضارة الكنعانيين في كثير من المجالات، فبعض صفات يهوه هي من صفات بعل إله الكنعانيين. وبعض التحريمات (مثل طبخ الجدي في لبن أمه) هي عادات كنعانية قديمة. وكـثير من الأعيـاد اليهـودية، مثل عيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال، ذات أصل كنعاني. وقد كشفت الكتابات الأوجاريتية مدى عمق تأثير الفكر الديني الكنعاني في العبادة اليسرائيلية، ويُقال إن المزمور 29 مأخوذ من نشيد كنعاني وُضع أصلاً لبعل العاصفة، وعُثر عليه في أوجاريت. ويبدو أن القصص الدينية للأقوام السامية الأخرى، مثل الأدوميين، قد وجدت طريقها إلى الفكر الديني اليسرائيلي كما يتضح من سفر أيوب. ويذكر العهد القديم بعض الشعائر والعقائد التي تم تبنيها، ثم استُبعدت في مرحلة لاحقة، مثل التضحية على المذابح، والثعبان النحاسي، ومركبات الشمس في الهيكل، والعجول الذهبية. ولكن هناك شعائر أخرى لم تُنبَذ مثل التضحية بكبش للمعبود عزازئيل.

ويُلاحَظ على أسفار موسى الخمسة أن كثيراً من نصوصها يتشـابه مع أسـاطير سـومرية وبابلية، وتشـريعات بابلية قديمة، ومثال ذلك:

ـ تشابه سفر التكوين (1 ـ 11) وملحمة الخلق البابلية.

ـ التشابه بين الأعمار المديدة لآباء البشرية منذ آدم حتى نوح (عشرة منهم مجموع أعمارهم 8575 سنة) في سفر التكوين (5)، وفي قائمة سومرية جاء أن ثمانية ملوك قبل الطوفان حكموا 241.200 سنة، وهناك قائمة بابلية جاء فيها أن عشرة حكام حكموا 432 ألف سنة.

ـ تشابه قصة الطوفان في سفر التكوين مع ملحمة جلجاميش التي ورثها البابليون عن الحضارة السومرية.

ـ تشابه قصة مولد موسى مع قصة مولد سرجون ملك أكاد.

ـ وضوح تأثير قانون حمورابي (1900ق. م تقريباً) في التشريع الوارد في سفر الخروج (21 ـ 23) والوصايا العشر.

كما تأثر اليهود بكثير من الشعائر والعقائد البابلية، مثل السبت، وتغطية الرأس أثناء الصلاة،وفكرة يوم الحساب،والتقويم.

ولم يتوقف تأثر اليهودية بالديانات والحضارات الأخرى مع العودة من بابل، فقد ظل هذا النمط سائداً إذ تأثر اليهود بفكرة الماشيَّح من التراث الفارسي. كما دخل على اليهودية كثير من الأفكار الثنوية، وهو ما أثر في أدب الرؤى والأفكار الأخروية. وأثَّر الفكر الهيليني في الفكر الديني اليهودي، فسفر الجامعة يتضمن رؤية عدمية تشبه من بعض الوجوه الفكرة الإغريقية الخاصة بأن التاريخ مثل الدورات الهندسية المحضة التي تبدأ وتنتهي بلا معنى. بل إن فكرة الشريعة الشفوية نفسها من أصل هيليني، إذ كان اليونان يرون أن القانون الشفوي أهم وأكثر شرعية من القانون المكتوب. كما أن فكرة «الآدم قدمون» (الإنسان الأزلي) هي خليط من فكر بابلي وفارسي (وقد وردت في كتابات المندائيين) أما فكرة «تهشُّم الأوعية» فهي فكرة أسطورية يونانية وردت في تراتيل أورفيوس وتشير إلى «تلوث الأشعة» أو الومضات الإلهية في روح الإنسان أثناء هبوطه بفعل «التيتان العشرة المعلقة بين السماوات والأرض».

واستمرت اليهودية بعد ذلك في تبنِّيها عناصر من الإسلام، فصاغ سعيد بن يوسف الفيومي، ومن بعده موسى بن ميمون، أصول الدين اليهودي متأثرين في ذلك بمحاولات الفقهاء المسلمين تحديد أصول الدين الإسلامي. كما تأثرت اليهودية بالفكر الديني المسيحي في تراث القبَّالاه، خصوصاً بفكرة التجليات النورانية العشرة (سفيروت). بل إن احتفالاً يهودياً مثل الاحتفال ببلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه)، وهو من أهم الاحتفالات اليهودية في الولايات المتحدة، لم يكن معروفاً في اليهودية الحاخامية وإنما أُخذ عن المسيحية الكاثوليكية فيما يُسمَّى «التناول الأول».

لكن تأثر اليهودية بالعقائد والديانات الأخرى، ليس ميزة أو عيباً في حد ذاته، فثمة رقعة مشتركة واسعة بين كل الديانات والعقائد (كما أسلفنا). والكتب المقدَّسة والعقائد الدينية، رغم استنادها إلى مطلق غير مادي متجاوز للطبيعة والتاريخ، إلا أنها تستمد مادتها من التاريخ فهي تتعامل مع أحداث تاريخية. وهي موجهة للبشر الذين يعيشون داخل الزمان. ولذا فرغم أن أساسها مطلق ومرجعيتها مطلقة إلا أنها تتعامل مع النسبي وتطوِّعه لتستوعبه داخل المرجعية الحاكمة النهائية. ولكن المؤثرات التي تراكمت داخل اليهودية ظلت متعايشة كطبقات جيولوجية غير مندمجة وغير مُستوعَبة في إطار مرجعي واحد، الأمر الذي وسم اليهودية بميسمه وجعل منها تشكيلاً جيولوجياً تراكمياً.

ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الخاصية الجيولوجية التراكمية للنسق الديني اليهودي قد جعلت مقدرته الاستيعابية لعناصر من العقائد والأيديولوجيات الأخرى عالية إلى أقصى حد، وأدَّى هذا إلى أزمة حادة في اليهودية مع تصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي إذ بدأ المفكرون الدينيون اليهود يتبنون أفكاراً لا علاقة لها بأي دين مثل تَقبُّل الشذوذ الجنسي، بل إنشاء معابد للشواذ من الجنسين، بل ترسيم حاخامات منهم وإنشاء مدارس دينية خاصة بهم، وأخيراً قبول فكرة لاهوت موت الإله. وهذه بدعة غربية جديدة تشكل جوهر العلمانية، ولكنها مع هذا تُسمِّي نفسها فكراً دينياً!

  • الاربعاء PM 03:09
    2021-04-21
  • 1186
Powered by: GateGold