المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417545
يتصفح الموقع حاليا : 279

البحث

البحث

عرض المادة

مظاهر ونتائج تحــول اليهــودية إلى تركـيب جيولوجــي تراكمــي

مظاهر ونتائج تحــول اليهــودية إلى تركـيب جيولوجــي تراكمــي
Judaism as a Cumulative Geological Construct: Manifestations and Consequences
تتسم اليهودية، كتركيب جيولوجي تراكميس، بأنها تنطوي على تناقضات حادة وعلى غموض شديد في بعض المفاهيم، ولنأخذ مفهوماً محورياً كمفهوم الإله مثلاً. تُصنَّف اليهودية باعتبارها ديانة توحيدية، غير أن العهد القديم يتضمن من النصوص ما يتناقض مع هذا إذ يُفهم منها أن ثمة آلهة غير يهوه، وتُستخدَم صيغة الجمع «إلوهيم» ومفردها «إيلوَّه»، وتتبع الاسم صفة في صيغة الجمع («إلوهيم إحيريم» أي «آلهة أخرى»)، وهو ما تحاشاه مترجمو النسخة السبعينية للإشارة إلى الإله، حيث يتحول «إلوهيم» إلى اسم من أسماء الإله. والإله، في بعض المقاطع، يسمو على العالمين والبشر ويتجاوز الطبيعة والتاريخ، ولكنه في البعض الآخر يحل في الطبيعة والتاريخ ويتوحد معهما ويتسم بصفات البشر. وفي اللقاء بين الإله وموسى على جبل سيناء، لا تحدد المصادر التلمودية ما إذا كان موسى شاهده وجهاً لوجه وهل اشترك الشعب في الرؤية، أم أنه لم يشاهده أحد (أي هل ظل الإله متجاوزاً لا تدركه الأبصار أم أنه تجسد فرآه موسى؟). ويتبدَّى اختلاط رؤية العهد القديم بالإله في الإشارة إلى الترَافيم (الأصنام) فترة إشارات إيجابية وإشارات سلبية، فليس هناك موقف حاسم منها يحدد ما إذا كانت موضع قبول أو موضع رفض. والإشارة إلى عزازئيل تتضمن أيضاً وجود قوى مطلقة إلى جوار الإله.


وقد ظل هذا التناقض العميق يسم الرؤية اليهودية، ففي التلمود تُنسب إلى الإله صفات بشرية عديدة، وهو غير معصوم من الخطأ أو الندم، بل إن إرادته لا تعلو على إرادة الحاخامات. أما في تراث القبَّالاه، فينفرط عقده تماماً ليتحول إلى تجليات مختلفة، وإلى عناصر ذكورة وأنوثة بما يشبه الآلهة الوثنية اليونانية أو الرومانية في بعض النواحي. وتظهر الخاصية الجيولوجية أيضاً في الأفكار الأخروية التي لم تستقر تماماً في اليهودية ولم تكتسب شكلاً محدداً. فالعهد القديم، بكامله تقريباً، ينكر فكرة البعث حيث لا تظهر هذه الفكرة بشكل محدد إلا في كتاب دانيال (في مرحلة متأخرة)، كما أنها لم تستقر استقراراً كاملاً في الفكر الديني اليهودي. والشيء نفسه ينطبق على فكرة الثواب والعقاب. ولهذا فإننا، عند ظهور المسيح، نجد العديد من الفرق اليهودية المتنافرة، ومن بينها الصدوقيون الذين كانوا ينكرون البعث واليوم الآخر، رغم أنهـم كانوا يشـكلون فئة دينية مركزية في غاية الأهمية، فكان منهم الكهنة كما كانوا يجلسون مع الفريسيين في السنهدرين. وقد أشار إسبينوزا، فيلسوف العلمانية والحلولية، إلى هذه الحقيقة ليدلل بها على أن الإيمان بالآخرة ليـس أمراً جوهرياً في اليـهودية.

وتتبدَّى الخاصية الجيولوجية في مفاهيم محورية أخرى مثل حائط المبكى. فالفقه اليهودي لم يهتم على الإطلاق بحائط المبكى أو الحائط الغربي. ولهـذا، لم يأت له ذكر في الكتابات الدينيـة أو كتب الرحالة. ولكن، يبدو أنه بتأثير فكر يهود المارانو الحلولي الذي يتبدَّى في شكل تقديس للأشياء التي يفترض أن الإله يحل فيها، وتحت تأثير الشعائر الإسـلامية حيث تُعـد فريضـة الحج إلى الكعبة أحد أسس الإسلام الخمسة، تحول الحائط إلى مزار، ثم أصبح من أهم الأماكن قداسة في العقيدة اليهودية، وأصبح الاستيلاء عليه في رأي بعض المتمسكين بأهداب العقيدة اليهودية فرضاً دينياً. ومع هذا، فإن الحاخام الأرثوذُكسي هيرش، الذي يعيش على بعد عدة خطوات من الحائط، يرفض زيارته، وذلك لأن الشريعة اليهودية (كما يرى) تُحرِّم ذلك على اليهود، وهكذا فإن أصحاب المواقف المتناقضة يجد كل منهم سنداً لموقفه داخل الشريعة اليهودية.

وهناك تناقض من هذا النوع بشأن قضية الأرض، إذ يرى معظم الصهاينة المتدينين أنه لا يمكن التفريط في شبر واحد من الأرض التي احتلها الإسرائيليون قبل بعد عام 1967 وهم يدعمون رأيهم هذا بالعودة إلى كتب اليهود المقدَّسة. أما الحاخام عوبديا يوسف، حاخام السفارد السابق، فيطالب بغير ذلك، إذ يرى أن بالإمكان التنازل عن الأرض مقابل السلام لأن في هذا حقناً لدماء اليهود (وقد وجد هو أيضاً الاقتباسات المناسبة). بل هناك تناقض، ومن ثم اختلاف، يتصل بإحدى الوصايا العشر (: لا تقتل)، إذ أفتى الحاخام إسحق جنزبرج، وهو رئيس مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) في مدينة نابلس بأن دم العرب ودم اليهود لا يمكن اعتبارهما متساويين. ومن قبل، صرح أحد الحاخامات التابعين للحاخامية العسكرية بأن الجنود الإسرائيليين يمكنهم قَتْل حتى أفضل الأغيار. وقد وجد كل منهما الاقتباسات اللازمة لتأييد رأيه. وقد احتج الحاخام أبراهام سابيرو، حاخام الإشكناز الأكبر بقوله إن الإله (حسبما جاء في التوراة) قد خلق كل البشر على صورته، وأن الوصية الخاصة بعدم القتل هي إحدى وصايا نوح، وبالتالي فهي مُلزمة لجميع البشر، يهوداً كانوا أم أغياراً. وهو محق في قوله وفي استشهاده، تماماً مثل الحاخامات الداعين للقتل. وقد أدَّى كل هذا إلى أن اليهودية أصبحت مصدراً للشقاق بين يهود العالم داخل وخارج إسرائيل بدلاً من أن تصبح إطاراً واحـداً يجمعـهم ويُضــفي عليهم شيئاً من الوحدة، وأصبحت العقيــدة اليهودية في الــدولة الصهيونية مصــدراً أساســياً للانقســام والصراع الاجتماعي والثقافي.

وتتبدَّى الخاصية الجيولوجية التراكمية في الأعياد، فعيد الفصح بطقوسه المركبة نتاج تراكمات جيولوجية عديدة ابتداءً من عيد الخبز غير المخمر (الكنعاني) وانتهاءً بنظام المأدبة (الروماني). كما تتضح الخاصية الجيولوجية التراكمية في تزايد الأعياد (الواحد تلو الآخر) عبر السنين، وهو أمر لم يتوقف بعد، إذ تحوَّل (على سبيل المثال) يوم إعلان استقلال إسرائيل إلى عيد ديني. وثمة محاولة في إسرائيل لتحويل هذا العيد إلى عيد الفصح الحقيقي باعتبار أن إعلان استقلال إسرائيل هو خروج اليهود الحقيقي!

كما أن الصلاة اليهودية قد نالتها هي الأخرى تغييرات لا حصر لها ولا عدد، وهو أمر لا يزال يحدث حتى الآن، فبعد أن أُضيفت إليها قصائد البيوط (من قبل) تم حذفها مؤخراً، كما يتم تغيير النصوص والأدعية وكتب الصلوات من آونة إلى أخرى.

وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية كذلك في المحاولة الحديثة لإعادة صياغة العقيدة اليهودية بالشكل الذي يتفق مع ملابسات ما بعد أوشفيتس (أي ما بعد النازية) إذ يقول بعض المفكرين الدينيين اليهود: إن الإله قد تخلى عن اليهود في محنتهم، ولذلك لابد أن تُعاد صياغة كل شيء وضمن ذلك محاولة التوصل إلى يهودية بدون إله. بل ذهب بعضهم إلى المناداة بأن الإله قوة شريرة.

وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية بكل حدة في تعريف الشريعة اليهودية لليهودي بأنه من يؤمن بالشريعة ومن وُلد لأم يهودية. وهو تعريف يجمع بين فكرة الإيمان بالإله الواحد الذي يستند إلى الاختيار، الذي ينتج عنه سلوك أخلاقي محدد، وبين الفكرة الوثنية القائلة بأن الانتماء هو انتماء عرْقي للشعب (كما هي عادة شعوب الشرق الأدنى القديم وغيرها من الشعوب القديمة).

وبإمكاننا أن نقول إن الخاصية الجيولوجية التراكمية تتبدَّى في التناقض الحاد بين النزعة الحلولية الحادة التي تُوحِّد الإله والشعب والأرض، كما هي عادة الديانات القديمة من جهة، ومن جهة أخرى النزعة التوحيدية المتسامية التي ترى أن الخالق مفارق لمخلوقاته وأنه هو الذي يحكم عليهم ويوجههم ويميتهم ويحييهم، وأنه هو الذي شاء وأعطاهم حرية الاختيار بين الخير والشر، والنزعتان (على تناقضهما) موجودتان في اليهودية

وتنطلق كلٌّ من اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة من تَقبُّل الخاصية الجيولوجية التراكمية دون أن تسمياها كذلك. فاليهودية الإصلاحية تختار ما تشاء وتَرفُض ما تشاء بما يتفق مع العقل وروح العصر. أما اليهودية المحافظة، فتفعل الشيء نفسه، على أن يتم الاختيار على أساس ما يتفق مع روح الشعب اليهودي. وقد اعتبر الإصلاحيون كتاب اليهود المقدَّس أي العهد القديم وثيقة ذات شأن عظيم وليـس وحياً مقدَّسـاً. ووجـدوا في النسـق الجيولوجي ما يؤيد وجهة نظرهم. أما اليهودية المحافظة فقد حوَّلت العقيدة اليهودية إلى ما يشبه فولكلور الشعب اليهودي، ووجدت أيضاً ما يساندها. ثم ظهرت الصهيونية التي أنكر مفكروها الأوائل وجود الإله، ثم جعل مفكروها المحدثون فكرة الإله ثانوية. ومع هذا، فقد بحثوا عن شرعية لآرائهم في التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي ووجدوا ضالتهم. ومع أن اليهودية الأرثوذكسية وقفت في البداية بضراوة ضدالصهيونية من منظور ديني (على اعتبار أن اليهودية تحرِّم العودة، بينما التلمود يراها من قبيل الهرطقة والتجديف) فإنها غيَّرت موقفها وتصالحت مع الصهيونية ووجدت أن الدولة الصهيونية هي ما يُسمَّى «بداية الخلاص»، وهو مفهوم تلمودي أيضاً اكتشفه منذ البداية بعض الحاخامات الأرثوذكس القبَّاليين، مثل كاليشر والقلعي، ثم تبعهما إسحق كوك. وفي الوقت الحالي، فإن معظم اليهود الأرثوذكس يؤيدون الصهيونية بتعصب شديد من منظور ديني أيضاً. وكلا الموقفين، القابل للصهيونية والرافض لها، يجد ما يستند إليه في كتب اليهود المقدَّسة.

ومن الملاحَظ أن نصف يهود العالم لا يلتزمون الحد الأدنى من الإيمان، ومن ذلك الإيمان بالإله. ومع هذا، فإننا نجدهم مستمرين في إطلاق عبارة «يهود إثنيون» على أنفسهم، ورغم ذلك فقد قبلتهم المؤسسات الدينية اليهودية التي عرَّفت اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية. وقد ظهرت اتجاهات أخرى مختلفة مثل اليهودية التجديدية وتسميات يكتنفها التناقض مثل «اليهودية العلمانية»، وهناك تسمية إسحق دويتشر الكلاسيكية «اليهودي غير اليهودي»، وهو التعبير العبثي النهائي عن الخاصية الجيولوجية التراكمية. وتتجلى هذه المسألة نفسها في إسرائيل في إشكالية «الهوية اليهودية»، (أي إشكالية من هو اليهودي؟)،والذي عرَّفه أحدهم بأنه « من يرى نفسه كذلك » دون الاحتكام إلى أية معايير دينية خارجية،بحيث يصبح الانتماء الديني أشبه بالحالة الشعورية أو المزاجية.

  • الاربعاء PM 03:07
    2021-04-21
  • 922
Powered by: GateGold