المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417528
يتصفح الموقع حاليا : 260

البحث

البحث

عرض المادة

أسـباب تحــول اليهـودية إلى تركيــب جيولوجـي تراكـمي

أسـباب تحــول اليهـودية إلى تركيــب جيولوجـي تراكـمي
Judaism as a Cumulative Geological Construct: Causes
تتسم اليهودية كنسق ديني بأنها تركيب جيولوجي تراكمي وليست وحدة عضوية متجانسة، وهذا يعود إلى عدة أسباب نجملها فيما يلي:


1- لعل أهم الأسباب التي أدَّت إلى ظهور هذه الخاصية الجيولوجية التراكمية أن العهد القديم بكل أجزائه لم يُدوَّن إلا بعد نزوله (أو وضعه) بفترة طويلة. وإذا كان التاريخ الافتراضي للخروج هو عام 1200 ق.م، فإن هذا يعني أنه لم يُدوَّن إلا بعد ذلك التاريخ بمئات السنين، كما يعني أنه دُوِّن على عدة مراحل ومن خلال مصادر مختلفة. ولم تُعتمد النسخة التي تُسمَّى «القانونية»، أو «المعتمدة»، إلا بعد المسيح. ومن أهم الأدلة على ذلك مخطوطات البحر الميت التي تتضمن أكثر من نسخة مختلفة للسفر الواحد بصياغات متعددة. وحينما تم تدوين الكتاب المقدَّس، كانت قد دخلت اليهودية مفاهيم وشعائر مختلفة وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها.

2 ـ انتقل العبرانيون القدامى (كبدو رحل) من مكان إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى، من مصر إلى كنعان عبر سيناء، ومن كنعان إلى بابل، وعبر هذه الرحلة تعرفوا على الفكر التوحيدي في الحضارة المصرية في عهد إخناتون، وفي سيناء (بين المدينيين)، ثم استوعبوا الحضارة الكنعانية ومن بعدها العبادة البابلية. وبعد ذلك، هيمنت فارس على الشرق الأدنى القديم وتبعتها اليونان. ودخلت اليهودية عناصر من كل هذه الحضارات بعباداتها المختلفة.

3 ـ لم تتمتع العقيدة اليهودية بوجود سلطة تنفيذية مركزية تساندها وتتخذ منها عقيدةً وأساساً للشرعية. ونتج عن ذلك انعدام وجود سلطة دينية مركزية تحافظ على جوهر الدين وتبلور مفاهيمه ومعاييره. وفي الفترة القصيرة التي أُسِّست فيها المملكة العبرانية المتحدة وقامت فيها سلطة دينية مركزية حول الهيكل، لم تكن العبادة اليسرائيلية قد تبلورت بعد، كما يتضح في سلوك سليمان الذي سمح لزوجاته باستقدام آلهتهن وكهنة عباداتهن. ولم تُعمِّر السلطة المركزية طويلاً إذ تأسَّس مركز آخر في بيت إيل بعد انقسام المملكة إلى مملكتين. وقد ازداد بعد ذلك تعدُّد المراكز والتبعثر مع انتشار الجماعات اليهودية في العالم، حين ظهر مركز ديني قوي في بابل (يتحدث الآرامية) وآخر في مصر لا يعرف العبرية ويتحدث اليونانية. وقد تم كل هذا قبل تبلور اليهودية بل قبل الانتهاء من تدوين وتقنين العهد القديم. ومن هنا، فحتى إذا كان في الإسلام أو المسيحية انقسامات وتنوعات، فإنه يظل هناك موقف أصولي أو مركز أرثوذكسي يحدِّد المؤمن والمهرطق أو الكافر. أما في اليهودية، فمع غياب هذا المركز، كان المهرطقون يستمرون في تجديفهم ويسمونه «يهودية»، حتى إذا ما وصلنا إلى العصر الحديث وجدنا أن عدد الأرثوذكس لا يزيد على 4% من مجموع يهود العالم، ويوجد ملايين من اليهود الملاحدة أو اللا أدريين أو غير المكترثين بالدين الذين يسمون أنفسهم مع هذا «يهوداً».

4 ـ مع سقوط المملكة الجنوبية والتهجير البابلي، انتهت العبادة القربانية المتمركزة حول الهيكل. ولكنها مع هذا تركت طبقات جيولوجية مهمة في اليهودية التلمودية على شكل عدد هائل من الطقوس والمدونات، مثل: القوانين الخاصة بالكهنة، وبعض الشعائر كالسنة السبتية، وكثير من الصلوات.

5 ـ ولكن العنصر الأساسي والحاسم الذي أدَّى إلى ظهور الخاصية الجيولوجية التراكمية هو مفهوم الشريعة الشفوية الذي أضفى قداسة على فتاوى فقهاء اليهودية وتفسيراتهم ووضعها في مرتبة أعلى من كتاب اليهود المقدَّس نفسه. وقد ظهرت مدارس ونظريات في التفسير لا حصر لها ولا عدد، بعضها ينكر أية علاقة بين الدال والمدلول، أي بين كلمات العهد القديم ودلالاتها المباشرة، بحيث أصبح في وسع المُفسِّر (من خلال التفسير الرمزي أو التفسير القبَّالي أو التفسير الرقمي) أن يفرض أي معنى يشاء.

6 ـ وكانت اليهودية عبر تاريخها، حتى ظهور اليهودية الحاخامية، تكتسب هويتها من أنها ديانة تنزع إلى التوحيد في محيط وثني مشرك. ولكنها حينما وجدت نفسها في تربة توحيدية، إسلامية أو مسيحية، حاولت أن تشكِّل هوية جديدة تستند إلى تصوُّر أسطوري حلولي للواقع، كما يتضح بشكل جنيني في التلمود، وبشكل واضح جليّ في القبَّالاه. ورغم ظهور الفكر الأسطوري، فإن هذا الفكر الأسطوري لم ينبذ الفكر التوحيدي وإنما حاول أن يتعايش معه.

7 ـ ظلت اليهودية، لفترة طويلة من تاريخها، مجرد ممارسات طقوسية تحكمها إما سلطة مركزية أو فتاوى الحاخامات دون أن يتم تحديد العقائد الأساسية. وحينما قام موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر بتحديد أصول الدين اليهودي، فإن كثيراً من العقائد أو المعتقدات الفلكلورية الحلولية الوثنيـة كانت قد وجـدت طريقها بالفعـل إلى العـهد القديم والتلمود. وعلى كلٍّ، لم يُكتَب لمحاولة موسى بن ميمون أن تهيمن على اليهودية وتكتسب المركزية التي تستحقها، حتى يتم استبعاد العقائد المنافية للتوحيد. ولكن ما حدث هو أن الاجتهاد الميموني كان مجرد طبقة جيولوجية جديدة تضاف إلى الطبقات الأخرى السابقة واللاحقة. ثم زادت هيمنة القبَّالاه بعد هذه المحاولة بفترة قصيرة.

8 ـ لكن انتقال مركز اليهودية إلى تربة مسيحية تؤمن بالتثليث (واحد في ثلاثة أو ثلاثة في واحد) لم يساعدها كثيراً على التطور، إذ أن الفكر الديني بدأ يتصور الإله وكأنه يتجلى تجليات مختلفة (التجليات النورانية العشرة أو السفيروت). وقد وُلدت هذه التصورات في أحضان التفكير القبَّالي الشعبي الذي كان يتأثر بالأفكار الدينية المسيحية دون أن يستوعبها ثم ينقلها إلى تربة يهودية فيتم تشويهها.

9 ـ كان اليهود في العالم الغربي الذي انتقل إليه مركز اليهودية، مع نهاية العصور الوسطى، جماعة وظيفية وسيطة منعزلة لا تتمتع بمستوى ثقافي رفيع، في مجال التنظير الديني على الأقل. كما أن هذه الجماعة لم تكن تشعر بالطمأنينة، وهذا ما جعلها تنغلق على نفسها، وقد انعكس هذا على النسق الديني اليهودي إذ بدأت الطبقات تزداد تنوعاً وتبتعد عن التجانس.

10- ظلت اليهودية ـ بكل طبقاتها الجيولوجية المتراكمة ـ متمركزة داخل الجيتو. وقد تصالح التراث التلمودي والتراث القبَّالي داخل مؤسسة اليهودية الحاخامية، وإن كانت علامات التوتر قد ظهرت بينهما في الصراع بين الحسيديين والمتنجديم. وجاء الإصلاح الديني البروتستانتي، لكنه لم يؤثر كثيراً في اليهودية التي كانت مراكزها موجودة في شرق أوربا (أساساً) في تربة أرثوذكسية بمنأى عن التغيرات الفكرية والبنيوية التي كانت تحدث في القارة الأوربية. وحينما اندلعت الثورة الفرنسية وبدأت عملية تحديث اليهودية، لم يكن النسق الديني اليهودي مهيأً لذلك، وخصوصاً أن أوربا ذاتها كانت قد طرحت الإصلاح الديني وراءها وبدأت تتخلى عن الرؤية الدينية وتدخل عالم العلمانية الحديث الذي لا يكترث كثيراً بالدين بل يحوله إلى اقتناع شخصي يُمارَس في المنزل ولا ينظم السلوك الاجتماعي بأية حال. وفي مواجهة ذلك التحدي الأكبر، تآكل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي تماماً إذ أن الإصلاح الديني اليهودي، الذي أخذ شكل اليهودية الإصلاحية، كان في واقع الأمر محاولة لعلمنة اليهودية لا لإصلاحها. ولذا، فقد أسقط كثيراً من الشعائر والعقائد التي تتنافى مع العقل والمنطق، وحاول أن يعيد صياغة اليهودية حسب مقاييس بروتستانتية شـبه علمانية. كما انتشـر الإلحاد بين كثير من اليهود واستمروا، مع هذا، في تسمية أنفسهم «يهوداً»، ذلك أن الشريعة اليهودية تعترف بهم كيهود، فاليهودي هو من وُلد لأم يهودية.

11 ـ لاحَظ أحد الباحثين أن المجتمعات الصغيرة (والهامشية) هي عادةً مجتمعات تحتفظ بكل شيء، فهي مجتمعات لا شخصية. ففي واحة سيوه لا تزال توجد بعض العادات والمفاهيم التي تعود إلى أيام الفراعنة واليونانيين. وإذا قبلنا هذا الرأي، فيمكن القول بأن اليهودية كانت دائماً تتحرك في تربة المجتمعات الصغيرة (المجتمع العبراني قبل التهجير ـ الجيتوات اليهودية في أنحاء العالم)، ولهذا السبب تعمقت الخاصية الجيولوجية. كما يُلاحَظ أن أعضاء الجماعات الوظيفية حينما ينتقلون من مجتمع إلى آخر يحملون معهم بعض الأشكال الحضارية من المجتمع السابق، والتي تتكلس تماماً بمرور الوقت وتتحول إلى طبقة جيولوجية جديدة.

  • الاربعاء PM 03:06
    2021-04-21
  • 911
Powered by: GateGold