المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417534
يتصفح الموقع حاليا : 263

البحث

البحث

عرض المادة

الرؤيــــــة اليهوديــــــة للـــكون

الرؤيــــــة اليهوديــــــة للـــكون
Jewish Cosmogony and Cosmology
تشير الكلمتان «كوزموجوني» و«كوزمولوجي» إلى التأملات الخاصة بأصل العالم وتطوره وبنيته. وكلمة «كوزموس» اليونانية تعني «الكون» أو «النظام». أما شق «جوني»، فمن الجذر اليوناني «جيجنستاي» بمعنى «ينتج»، ومن ثم فإن كلمة «كوزموجوني» تعني «ولادة» أو «أصل» أو «خلق العالم». أما شق «لوجي» فمن كلمة «ليجاين legein» بمعنى «يتحدث». والكوزموجوني نظرية أو وصف خلق العالم. أما الكوزمولوجي، فهي النظرية أو الفلسفة الخاصة بطبيعة ومبادئ الكون، وكلتا النظريتين تشملان التأملات الخاصة بأصل العالم وتطوره وبنيته. وترى اليهودية أن الإله خلق العالم، ولكن ما عدا ذلك هو أمر خلافي، إذ توجد داخل النسق الديني اليهودي عدة صور متناقضة لأصل العالم وبنيته. فالعهد القديم يقدم رؤى عديدة للإله ليست متسقةً بالضرورة. أما التلمود، فقد استوعب صوراً عديدة من الحضارات المحيطة سواء الوثنية أو الإسلامية أو المسيحية، ودوَّن كثيراً من الأساطير الشعبية وحوَّلها إلى معتقدات دينية. فهناك قصة الخلق، وإلى جانبها أسطورة ليليت، وكذا شجرة المعرفة والخير والشر. وإذا كان هناك يهوه إله العالمين،فهناك أيضاً شريكه عزازيل.والعالم له معنى في كثير من المقطوعات،ولكنه بلا معنى في مقطوعات أخرى.وهذا يعود إلى طبيعة التركيب الجيولوجي لليهودية.وقد ازدادت الرؤية اضطراباً مع ظهور القبَّالاه التي حولت كثيراً من الأساطير الفلكلورية إلى رؤية للكون،كما هو الحال في فكرة «آدم قدمون»،أو «تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم)»،أو «تبعثُّر الشرارات (نيتسوتسوت)»، أو «إصلاح الخلل الكوني (تيقون)»! وقد حولت القبَّالاه اليهود إلى قوة كونية وجودها أساسي لاسترجاع الشرارات وعملية إصلاح الخلل الكوني.


وفي العصر الحديث، لا يمكن الحديث عن رؤية يهـودية واحدة للكـون، إذ تنوعت المصادر الفلسفية للمفكرين الدينيين اليهود، وانقسمت اليهودية إلى فرق تختلف في رؤيتها، الواحدة عن الأخرى، بشكل جوهري.

اليهــودية باعتبارهـا تركيبــاً جيولوجــياً تراكمــياً: التعـريف
Judaism as a Cumulative Geological Construct: Definition
«التركيب الجيولوجي التراكمي» عبارة نستخدمها لنصف عمق عدم التجانس، بل التناقض الداخلي الحاد الذي تتسم به اليهودية كنسق ديني (كما نشير إلى ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» باعتبارها هي الأخرى تركيباً جيولوجياً تراكمياً). ومن المعروف أن الأنساق الدينية التوحيدية، مثل الإسلام والمسيحية، تتسم بقدر من التنوع في الممارسات الدينية وفي الاختلافات على مستوى النظرية، فينقسم أتباع كل نسق إلى شيع وفرق ومذاهب لكلٍّ تفسيرها، وقد تندلع بينها الحروب أحياناً. وقد شهد الإسلام في بداية العصر الإسلامي اختلافات بين الصحابة أنفسهم على بعض القضايا الدينية، ثم ظهرت بعد ذلك فرق مختلفة مثل الخوارج والشيعة، مقابل الأغلبية السُنيّة التي ظهرت بين أعضائها المذاهب الأربعة، هذا بخلاف الاجتهادات المختلفة. والمسيحية تتسم بالخاصية نفسها - ربما بشكل أكثر عمقاً - فهناك عدد من الكنائس، مثل: الكنيسة القبطية، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والكنيسة الأرمنية، ثم الكاثوليكية الرومانية. وقد شهدت المسيحية أيضاً الانقسام الأكبر مع ظهور البروتستانتية التي تتسم بالانشقاقات والانقسامات الدائمة.


ولكن، رغم هذا، يظل التنوع داخل إطار مبدئي من الوحدة إذ يوجد حد أدنى في الإسلام مثلاً يشكل معياراً يمكن عن طريقه تفرقة المسلم عن غير المسلم. فالنطق بالشهادتين، عند المسلمين، أمر أساسي لا اجتهاد فيه ولا اختلاف، والإيمان بالبعث واليوم الآخر هو أيضاً جزء من هذا الحد الأدنى. فمهما بلغت الاختلافات، ومهما تصاعدت التناقضات، فإن هذا يظل معياراً أساسياً، ولا يمكن لأحد أن يُسمِّي نفسه «مسلماً» إذا أنكر وحدانية الله، وأن محمداً رسول الله، أو إذا أنكر اليوم الآخر والبعث. ولا يمكن أن يُسمِّي أحد نفسه «مسيحياً» إن أنكر حادثة الصلب.

ولا شك في أن الأنساق الدينية التوحيدية قد تفاعلت فيما بينها كما تفاعلت مع الحضارات الأخرى. فقد مَثَّل علم الكلام عند المسلمين، والعقلانية الإسلامية، محاولة من جانب الفكر الإسلامي للاستجابة لتحدٍّ حضاري طرحه فكر الآخر (الفكر الفلسفي اليوناني). وفي عملية الاستجابة، تم تبنِّي مقولات مفاهيمية وفلسفية من النسق الآخر. ولكن مثل هذه العناصر الجديدة ظلت دائماً على مستوى الخطاب والمصطلح، وتم استيعابها وهضمها تماماً بحيث أصبحت جزءاً من الكل. أما ما يتنافى مع جوهر النسق الديني، فقد أصبح هامشياً وغير مؤثر، أو رُفض تماماً. ويمكن أن نضرب أمثلة من المسيحية، وخصوصاً الكاثوليكية، التي استوعبت الكثير من العناصر الفكرية والرمزية من الحضارات التي احتكت بها ورفضت كثيراً من العناصر الأخرى، ولكنها حاربت الهرطقات المختلفة مثل الهرطقة الغنوصية والألبنيزية التي تشكل انحرافاً عن جوهر الإيمان المسيحي في تصوُّرها.

واليهودية في تصورنا تختلف عن المسيحية والإسلام في هذا المضمار. فهي تشبه التركيب الجيولوجي المكون من طبقات مستقلة، تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُـلْغ أية طبقة جديدة ما قبلها. وهي طبقات تتجاور وتتزامن وتوجد معاً لكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تُلغي الواحدة منها الأخرى ولا يتم استيعابها في إطار مرجعي واحد. وقد سُمّيت كل هذه الطبقات بـ «الدين اليهودي».

ومع أن عبارة «التركيب الجيولوجي التراكمي» من صياغتنا نحن، إلا أن التشبيه نفسه مُتضمَّن فيما يُسمَّى «نقد العهد القديم» حيث يفترض دارسو العهد القديم أنه تَكوَّن من تراكم مصادر مختلفة (طبقات جيولوجيـة مختلفـة) لكلٍّ رؤيته ومصطلحـه، ولكلٍّ أسـلوبه ولغته، بل عقيدته، ولكلٍّ مؤلّفه أو مدوّنه، وأن هذه الطبقات أو المصادر تراكمت الواحدة فوق الأخرى وتعايشت جنباً إلى جنب. وقد حدد البعض المصادر الأساسية بأربعة مصادر، وحددها آخرون بثمانية، كما بيَّن بعض النقاد أن بعض المصادر قد فُقدت ولكن بالإمكان التعرف عليها من خلال النصوص الموجودة. كما أن ترجمات العهد القديم، ومخطوطات البحر الميت، تشكل شواهد على تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي وعلى التناقض بين المصدر اليهوي (الحلولي) والمصدر الإلوهيمي (التوحيدي أو شبه التوحيدي) الذي وضحه نقاد العهد القديم، الأمر الذي يبين إدراكهم للخاصية الجيولوجية بدون تسميتها. وفي تصورنا، فإن ما يراه نقاد العهد القديم منطبقاً عليه وحده ينطبق في الواقع، وبشكل أكثر حدة، على مختلف الكتب اليهودية المقدَّسة الأخرى وشبه المقدَّسة. فالتلمود يفوق في ضخامته العهد القديم، وهو بكل تأكيد تركيب جيولوجي تراكمي يتسم بدرجة هائلة من عدم التجانس ومن التنافر بين أجزائه. فهو كتاب دين واقتصاد وطب وسحر وتقوى دينية راقية وإيمان بالمساواة بين البشر نابعة من درجة عالية من التوحيد وعنصرية شرسة نابعة من رؤية حلولية موغلة في الحلول والكمون. أما كتب القبَّالاه ومدوناتها، فهي أكثر في تراكميتها الجيولوجية وفي عدم تجانسها. وبالتالي، يمكننا أن نقول بكثير من الاطمئنان إن توصيفنا لليهودية بأنها ليست كياناً عضوياً (وإنما تركيب جيولوجي تراكمي) هو توصيف صحيح.

وقد شبَّه أحد الحاخامات التوراة بشجرة الحياة التي تضم كل شيء، وبهذا تُكوِّن كلها وحدة عضوية. ولذا قد يُحرِّم أحد الحاخامات شيئاً فيحلله آخر، فيعلن أحدهما أن هذا الشيء نجس ويقول الآخر إنه طاهر. والواقع - حسب رؤية هذا الحاخام - أن كل هذه الفتاوى جزء من الكل العضوي. لكن هذا التشبيه، أي تشبيه اليهودية بالكائن العضوي، غير دقيق بالمرة، ولعل التشبيه بعبارة «التركيب الجيولوجي التراكمي» أكثر دقة، فهي تُفسِّر التناقض وعدم التجانس، الأمر الذي قد تقصر عنه الصورة المجازية العضوية التي لا تقبل التناقض، بل تفترض قدراً كبيراً من الوحدة الداخلية التي تتبدَّى في تشكيل موحَّد خارجي. وقد تسمح الصورة المجازية العضوية ببعض أشكال الاختلاف ولكن لابد أن تنتظمها كلها في نهاية الأمر وحدة شاملة.

ولعل أصدق مَثَل على مانقول هو الفرق بين فكر موسى بن ميمون والقبَّالاة اللوريانية. ففكر ابن ميمون فكر توحيدي راق متأثر بالتوحيد الإسلامي، وقد صاغ أصول الديانة اليهودية على أساس هذا التوحيد، هذا على عكس القبَّالاه اللوريانية التي طرحت تصوراً للإله والكون ينطوي على كثير من الحلولية الوثنية والشرك ويحتوي على أصداء كثيرة (مشوهة) لعقائد الصلب والتثليث المسيحية. ورغم التناقض الشديد والعميق والجوهري بين الرؤيتين، فإن النسق الديني اليهودي قد استوعب هذه العقائد وجعل الإيمان بها شرطاً للإيمان، بينما يتحدث ابن ميمون عن إله واحد، وتتحدث القبَّالاه اللوريانية عن إله يتكون من أب وأم يتزاوجان، وعن تجلٍّ إلهي يأخذ شكل الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الذات الإلهية) التي تجلس إلى جواره على العرش ويتخاطب معها، ولكننا نكتشف أيضاً أنها الشعب اليهودي. ولذا حينما يُنفى هذا الشعب تُنفي معه الشخيناه. وقد حل محل كل هذا الفكر الديني اليهودي الحديث الذي يعبِّر عن حلولية بدون إله (وحدة الوجود المادية)، حيث يحل الإله في المادة ويتوحد معها ثم يموت داخلها ولا يبقى سوى المقدَّسات المادية (بدون إشارة إلى إله متجاوز أو كامن).

وفكرة التركيب الجيولوجي تتبدَّى في الحقيقة التي يشير إليها إسبينوزا وهي أن الصدوقيين (الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث أو اليوم الآخر ويصفهم علماء اليهود بالزندقة) كانوا يجلسون، في القرن الأول قبل الميلاد، جنباً إلى جنب مع الفريسيين في السنهدرين. ويمكن أن نشير نحن إلى رفض دار الحاخامية الرئيسية في إسرائيل الاعتراف بالحاخامات الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين أو بصلاحيتهم في إجراء أية شعائر دينية، ومع هذا لا يزال الإصلاحيون والمحافظون يشكلون الأغلبية الساحقة بين اليهود المتدينين. وقد صرح الحاخام ملتون بولين بأنه لا توجد يهودية واحدة وإنما هناك يهوديتان: اليهودية المحافظة والإصلاحية من جهة، واليهودية الأرثوذكسية من جهة أخرى.

ومع هذا، يمكننا أن نقول إن أهم الطبقات داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي هي الطبقة الحلولية التي ترى الإله حالاًّ في الكون (الإنسان والطبيعة) كامناً فيهما، وهو ما يؤدي إلى الواحدية (المادية) الكونية التي تنكر التجاوز على الإله بحيث يصبح لا وجود له خارجها. وقد كانت هذه الطبقة كامنة في أسفار موسى الخمسة (وخصوصاً المصدر اليهوي) وحارب ضدها كُتَّاب المصدر الإلوهيمي والأنبياء، ولكنها عادت لتزداد قوةً مع التلمود ثم أصبحت النموذج الأساسي والقيمة الحاكمة مع هيمنة القبَّالاه. ومع تَصاعُد العلمانية، ظهرت الحلولية بدون إله التي نزعم أنها الطبقة الجيولوجية الأساسية في تفكير المثقفين اليهود المحدثين. وتاريخ اليهودية الذي نطرحه هو في واقع الأمر تاريخ تزايد درجات الحلولية، إلى أن نصل إلى مرحلة الحلولية بدون إله وهي وحدة الوجود المادية (في عصر الحداثة وما بعد الحداثة).

وأدَّى إخفاق كثير من المفكرين الغربيين في فهم طابع اليهودية الجيولوجي (بسب خلفيتهم المسيحية) إلى تركيزهم على التوراة بالدرجة الأولى، وخصوصاً كتب الأنبياء، وإدراكهم اليهودية من خلال هذا المنظور وحده، إذ أهملوا التلمود ولم يسمعوا عن القبَّالاه إلا اسمها، وهو منظور جزئي مقدرته التفسيرية ضعيفة إلى أقصى حد.

وقد يذهب البعض إلى أن ما نسميه «التركيب الجيولوجي التراكمي» هو في واقع الأمر تعبير عن شكل من أشكال التعددية، وهو أمر يَصعُب قبوله. فالتعددية تفترض وجود قدر من الوحدة المبدئية، ويتم التنوع والتعدد داخل هذه الوحدة، فلا تَنوُّع دون تَحدُّد، ولا تَعدُّد دون قـدر من الوحـدة. لكن اليهودية ـ كما أوضحنا ـ تفتقر إلى مثل هذه الوحدة بسبب غياب أية معايير مركزية يهودية.

  • الاربعاء PM 03:03
    2021-04-21
  • 1332
Powered by: GateGold