المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417534
يتصفح الموقع حاليا : 244

البحث

البحث

عرض المادة

جاليشيا

جاليشيا
Galicia
«جاليشيا» كلمة منسوبة إلى «جاليش»، وهي عاصمة منطقة تاريخية في جنوب شرقي بولندا وشمال غربي أوكرانيا. ويُطلَق مُصطلَح «جاليشيا الغربية» على منطقة كراكوف ولوبلين، أما «جاليشيا الشرقية» فتشير إلى باقي المنطقة التي تقع بين المجر وبولندا من جهة وإمارتي كييف وفولينيا الغربيتين من جهة، وقد ظلت مطمع جيرانها نظراً لخصوبة أراضيها وعلاقاتها التجارية المهمة. وقد ضمتها إمارة كييف عام 981 ولكنها أصبحت إمارة مستقلة عام 1087. وقد حققت جاليشيا خلال القرن اللاحق قدراً كبيراً من القوة والثراء، وقامت بضم فولينيا (أو لودوميريا) فأصبحتا إمارة واحدة هزمت كلاًّ من البولنديين والمجريين الذين حاولوا الاستيلاء عليها. لكن الخلافات والصراعات الداخلية، بين الأمراء من جهة والنبلاء الذين كانوا يمتلكون السلطة الحقيقية من جهة أخرى، أضعفت الإمارة. وفي الفترة بين عامي 1327 و1241، استولى المغول على المنطقة. ورغم أن ملك جاليشيا تم تتويجه عام 1253 على يد ممثل بابويّ، إلا أنه اضطر إلى الاعتراف بسلطة الخان المغولي. ورغم ذلك، لم يجر إخضاع جاليشيا بشكل كامل للإمبراطورية المغولية مثل سائر الأراضي الروسية. وقد انتخب نبلاء جاليشيا أميراً بولندياً لجاليشيا. وبعد وفاته، قام ملك بولندا كاسيمير الثالث (الأعظم) بضم جاليشيا إلى أراضيه عام 1349. وفي ظل حكم بولندا، استوطن النبلاء البولنديون (شلاختا) في جاليشيا وأصبحوا الطبقة الحاكمة في المنطقة، فاضطر نبلاء جاليشيا إلى تَقبُّل اللغة البولندية والمؤسسات التشريعية والاجتماعية البولندية والمسيحية الكاثوليكية.


وعند تقسيم بولندا للمرة الأولى عام 1772، ضمت النمسا جاليشيا الشرقية والمنطقة الواقعة في الغرب بين نهري السان والفيستولا. وفي عام 1795، تم ضم مناطق أخرى واقعة غرب وشرق نهر الفيستولا إلى النمسا. وفي الفترة التي بين عامي 1786 و1849، قامت النمسا بإدارة منطقة بوكوفينا (التي ضمتها من الدولة العثمانية) باعتبارها جزءاً من جاليشيا.

وبعد التعديلات التي أقرَّها مؤتمر فيينا عام 1815، أصبحت ممتلكات النمسا في بولندا تُعرَف باسم «مملكة جاليشيا ولودوميريا». وفي عام 1846، تم ضم جمهورية كراكوف إلى المملكة.

ثم ألغت النمسا، خلال العامين 1848 ـ 1849 نظام الأقنان في جاليشيا، ثم أعطت لهذه المنطقة (بعد عام 1867) قدراً أكبر من الإدارة الذاتية فأصبحت وحدة إدارية مستقلة. ومع أواخر القرن التاسع عشر، بدأت تنمو حركة قومية بين السكان الأوكرانيين الذين كانوا يشكلون أغلبية سكان جاليشيا الشرقية حيث تزايد رفضهم لسيطرة الأقلية البولندية عليهم.

وتبلغ مساحة جاليشيا 77 ألف كيلو متر مربع، وتعدادها نحو 3.500.000 نسمة. وحينما احتلت القوات النمساوية جاليشيا عام 1772، كانت المنطقة تضم بين 150 ألفاً و220 ألف يهودي يعيش ثُلثهم في القرى. وكان اليهود والألمان يكوِّنون العنصر التجاري والحرفي الأساسي في المدن.

وقد بدأت النمسا بتطبيق قوانين تهدف إلى محاولة انقاص عدد أعضاء الجماعات اليهودية من خلال الطرد، والحد من الزيجات، وتقليص نشاطهم الاقتصادي. كما حُدِّدت حرية اليهود في السكنى والإقامة والانتقال، وزيدت الضرائب الخاصة على اليهود (مثل ضريبة الطعام الشرعي وشموع السبت).

لكن هذا الاتجاه تغيَّر حينما بدأ جوزيف الثاني حكمه بمحاولة تحديث أعضاء الجماعات اليهودية وإصلاحهم وجعلهم نافعين، فصدرت قوانين تحظر عليهم الاشتغال ببيع الخمور أو الالتزام بجمع الضرائب أو إدارة الفنادق، كما حرم عليهم القيام بدور الأرندا. وأصبح بإمكانهم الالتحاق بالخدمة العسكرية، وأن يشغلوا الوظائف المدنية، وأن يستثمروا أموالهم في أي قطاع اقتصادي يجدونه مناسباً، وأن يكون لكل يهودي اسم عائلة أو أن يتسمَّى بأسماء ألمانية. وفُتحت المدارس العلمانية الحكومية للأطفال اليهـود، كما فُتحت أمامهم المدارس الابتدائيـة والثانويـة والمعاهد الجامعية. وكان يتم تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة، فكان كل من يقبل منهم يُمنح قطعة أرض وقروضاً. وجرى توسيع نطاق براءة التسامح التي صدرت عام 1782 بحيث شملت جاليشيا عام 1789. وتؤكد براءة التسامح تساوي اليهود مع المواطنين جميعاً، كما تؤكد أن لهم حقوق وواجبات المواطنين، وضمنها حق التنقل والسكنى بحرية في أي مكان واختيار الوظائف التي يريدونها. وقد نُزعت جميع صلاحيات الحاخامات والقهال، فتقلص نطاق نفوذهم بحيث انحصر في الأمور الدينية وحسب، ومن ثم أُلغيت المحاكم الحاخامية. وحُظر على أعضاء الجماعة اليهودية إرسال أي نقود إلى فقراء اليهود في فلسطين أو أن يستخدموا العبرية أو اليديشية بالذات في الوثائق التجارية التي يكتبونها (منعاً للغش التجاري). كما مُنعوا من ارتداء أزياء مميَّزة، ومن دراسة التلمود قبل الانتهاء من الدراسة في المدارس الحكومية. كما فُرض عليهم إنشاء نظام تعليمي علماني تديره الجماعة اليهودية بنفسها، ومُنحوا حق إنشاء أية مدارس يشاءون ما دامت لا تختلف عن النظام التعليمي العام.

وكان الحصول على شهادة مدرسية شرطاً أساسياً للحصول على رخصة زواج، بل كان على كل من العريس والعروس أن يقرآ كتاباً معيناً هو كتاب بني صهيون الذي كتبه داعية التنوير هرتز هومبرج عام 1812، ويجتاز اختباراً بالألمانية حتى تضمن الدولة أن الزوجين قد استوعبا كل الأفكار اللازمة لتحديثهم وتحويلهم إلى مواطنين في الدولة القومية. كما صدر مرسوم بأن تكون الصلوات بالألمانية بدلاً من العبرية. وفي عام 1836، قررت الحكومة أنه سيمُنع (بعد عشر سنوات) تعيين حاخام إلا بعد تلقيه دراسة أكاديمية خاصة. كما مُنعت طباعة الكتب الدينية التلمودية وكتب القبَّالاه.

وبعد ثورة 1848، بدأت أحوال عضاء الجماعات اليهودية تتحسن بشكل أكبر، فقد مُنحوا الحقوق السياسية والمدنية كافة عام 1849 وشاركوا في الحياة السياسية. وانتُخب خمسة نواب يهود عام 1874 (بين 155 نائباً في برلمان جاليشيا)، وانتُخب الكثيرون منهم في مجالس الأقاليم، وانتُخب عشرة عُمَد يهود في عشرة مدن مختلفة.

وتحسنت أحوال أعضاء الجماعات اليهودية الاقتصادية، فاستثمر أثرياؤهم أموالهم في البنوك وأعمال الاستيراد والتصدير وتجارة الزيت. وزاد عدد اليهود من ملاك الضياع، كما دخل اليهود الخدمة المدنية والقضائية فكانوا يشكلون نحو 58% من مجموع الموظفين والقضاة. وبلغ عدد مدارس البنين 107 مدارس علمانية ينتظم فيها أربعة آلاف طالب. وساعد كل ذلك على أن يسود فكر حركة التنوير اليهودية بعض الوقت في هذه المنطقة، وأصبحت جاليشيا مركزاً للأدب المكتوب بالعبرية وساد الفكر الاندماجي بين القيادات اليهودية (وإن انقسموا إلى قسمين: أحدهما اندماجي ألماني والآخر اندماجي بولندي).

غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، فجاليشيا تتميَّز بأنها لم تضم أغلبية إثنية واحدة، فكان هناك عناصر ألمانية وأوكرانية وبولندية ويديشية، كما لم تكن هناك حكومة مركزية أو رأسمالية قوية. ولذا، لم تظهر حركة قومية موحدة وإنما ظهرت حركات قومية صغيرة متنوعة. وتسبَّب هذا في ظهور جيوب اقتصادية منغلقة، فنظمت العناصر البولندية (46% من السكان) نفسها كجيب مستقل له طبيعته المستقلة ومصالحه الخاصة، كما قام الأوكرانيون (الذين كانوا يشكلون 43% من السكان) بتنظيم أنفسهم أيضاً على الأسس نفسها. وقد أدَّى كل هذا إلى خلق موقف صراعي، وإلى استبعاد أعضاء الجماعة اليهودية من الأعمال التجارية رغم أنهم عنصر تجاري بالأساس. وقد ظهر حزب اجتماعي مسيحي في النمسا قاد عملية مقاطعة اليهود، كما كان لكلٍّ من البولنديين والأوكرانيين أحزابهم القومية المعارضة لليهود والمعادية لهم. وقد زادت حدة حركة المقاطعة مع نهاية القرن، ولكن البولنديين كانوا يتحالفون دائماً مع أعضاء الجماعة اليهودية ليحتفظوا بتفوقهم العددي الضئيل على الأوكرانيين.

ومما زاد الأمـور تعقيـداً أن أعضـاء الجماعة اليهودية تزايـد عددهم، فعندما ضُمت جاليشيا إلى النمسا كان عدد اليهود 224.980 ألفاً (عام 1772) أي 9.6% من السكان، ثم زاد العدد إلى 768.845 ألفاً في عام 1890 أي إلى حوالي 11.7%. ورغم أن نسبة أعضاء الجماعة اليهودية إلى عدد السكان لم تزد كثيراً، فإن العدد الإجمالي زاد زيادة هائلة واستمر في الزيادة ليصل إلى 871.895 عام 1910. وقد تركَّز اليهود في المدن، ففي عام 1910 كان 38.8% منهم يقطنون المدن الكبرى و29.3% في المدن الصغيرة و 36.06% في المناطق القروية.

ولم تكن عملية التحديث تتم برضا الجماهير بل رغماً عنها، إذ كانت تُفرض من أعلى. وانضم دعاة التنوير إلى الحكومة في محاولة فرض التحديث ومن أهمهم هرتز هومبرج (وهو من تلاميذ موسى مندلسون) الذي عُيِّن مفتشاً للنظام التعليمي الجديد الذي أنشأته الدولة. وقد حاول هومبرج أن يغلق المدارس اليهودية التقليدية والمدارس التلمودية العليا (يشيفا) دون أن ينجح في ذلك. ولم ينجح التحديث في المجال الوظيفي، لأن أكثر من نصف أعضاء الجماعة اليهودية (53.5%) كانوا يعملون في التجارة والخمور والنقل، ولم يكن يعمل منهم في الزراعة والغابات سوى10.7%. وبحلول عام 1822، لم يكن يوجد سوى 836 فلاحاً يهودياً في جاليشيا بأسرها، لكن هذا العدد زاد قليلاً بعد ذلك. غير أن الصورة العامة لم تتغيَّر كثيراً. وانعكس فشل عملية التحديث والدمج في انصراف أعضاء الجماعة اليهودية عن مدارس الحكومة العلمانية. فقد قوبلت محاولة استجلاب المدرسين اليهود الألمان بمعارضة شديدة. ورغم أن المدارس والجامعات كانت مستعدة لقبول التلاميذ والطلبة اليهود بين صفوفها، فإن عدد الذين التحقوا بالمدارس كان ضئيلاً إلى أقصى درجة.

وانتشـرت الحسـيدية في جاليشـيا مع منتصف القرن التاسـع عشر. وكانت أغلبية يهود جاليشيا حسيدية، وهو ما أدَّى إلى تسلُّمهم قيادة العناصر الدينية، ومنها الأرثوذكس. وانضم الفريقان إلى الحرب ضد دعاة التنوير الذين لجأوا إلى الدولة لحمايتهم وللهجوم على العناصر اليهودية التي وقفت ضدهم. ولجأ الحسيديون إلى عقوبة الطرد من حظيرة الدين، ورفضوا تسجيل الزيجات اليهودية في سجلات الحكومة، ولم يلجأوا إلى المحاكم المدنية. وتملصت المعابد من دفع الضرائب المقررة عليها عن طريق إقامة العبادة سراً في منازل خاصة. وفي بعض الأحيان، كانت المعركة تأخذ شكلاً أكثر حدة. فعلى سبيل المثال، دس الحسيديون السم للحاخام الإصلاحي أبراهام آكون ولأعضاء أسرته في مدينة لفوف عام 1848، فقضوا نحبهم، وذلك لأنه أقام احتفالاً بالبرمتسفاه (بلوغ سن التكليف الديني) في المعبد (ومن المفارقات أن البارمتسـفاه أصـبح فيما بعد أهم المناسبات بين يهود الولايات المتحدة). وقد كانت جاليشيا مصدراً أساسياً للبغايا اليهوديات في العالم، وربما يعود هذا إلى عدة أسباب من بينها قلقلة الأوضاع في جاليشيا وافتقارها إلى شخصية قومية محددة. كما أن جاليشيا تقف على الحدود بين شرق أوربا ووسطها، وهي محطة أخيرة لمعظم المهاجرين ومعبر لهم. كما كانت هي نفسها من أكبر مصادر المهاجرين اليهود. ولا شك في أن معدلات العلمنة السريعة والمفاجئة أدَّت إلى خلخلة الوضع الاجتماعي، وإلى ضعضعة الأسرة اليهودية. كما أن الضائقة الاقتصادية كانت تلعب دوراً مهماً هي الأخرى، لكن الانفجار السكاني زاد حدتها. وقد أدَّت كل هذه الأسباب مجتمعة إلى ضعف القيم وتيسير تجنيد الفتيات للعمل بالدعارة. ومن الطريف أن يهود النمسا كانوا يُطلقون على جاليشيا مصطلح «فاجينا جودايوروم vagina judaiourum» وهي عبارة لاتينية تعني «فرج اليهود» (ولا ندري هل كان هذا يُطلَق عليها باعتبار أنها كانت مكاناً يتوالد فيه اليهود بأعداد ضخمة، أم لأنها كانت مصدراً مهماً للبغايا، أم لكلا السببين معاً؟).

وقد أسست جماعة أحباء صهيون فرعاً لها في جاليشيا، وبدأت تظهر التشكيلات الصهيونية الأخرى حيث انتخب يهود جاليشيا عام 1907 تسعة نواب (منهم ثلاثة صهاينة) انضموا إلى المندوبين عن منطقة بكوفينا ليكوِّنوا هيئة برلمانية يهودية (لوبي يهودي) وهذه أول مرة يحدث فيها مثل هذا في تاريخ الجماعات اليهودية في أوربا. ومع هذا، ظل الاندماجيون بين اليهود يقومون بمحاولاتهم لدمج اليهود مع بقية أعضاء المجتمع.

وقد ضُمت جاليشيا إلى بولندا مرة أخرى عام 1919. ولكن، في عام 1939، بعد تقسيم بولندا بين السوفييت والنازي، تم ضم غرب جاليشيا إلى ما كان يُسمَّى «الحكومة العامة البولندية» التابعة للنازي وضُم الجزء الشرقي منها لأوكرانيا السوفيتية، وهو ما كان يعني ضم نحو 550.000 يهودي للحكم السوفيتي.

  • الاربعاء PM 02:07
    2021-04-21
  • 941
Powered by: GateGold