المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417528
يتصفح الموقع حاليا : 255

البحث

البحث

عرض المادة

الاتحـاد السـوفيتي من عام 1917 حتى الحرب العالمية الثانية

الاتحـاد السـوفيتي من عام 1917 حتى الحرب العالمية الثانية
The Soviet Union, from 1917 to the Second World War
أخذت حدود الاتحاد السوفيتي شكلها النهائي عام 1920. وكان هذا يعني أن عدداً كبيراً من اليهود الذين كانوا يعيشون داخل مناطق تابعة لدول حصلت على استقلالها (بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وبيساربيا التي ضُمت إلى رومانيا) أصبحوا تابعين لهذه الدول. ولم يبق سوى 2.680.000 يهودي داخل الاتحاد السوفيتي (مقابل ما يزيد على خمسة ملايين قبل الحرب)، 80% منهم كانوا يعيشون في أوكرانيا وروسيا البيضاء. كانت أوكرانيا تضم 1.574.428 (5.4% من مجموع سكانها)، وكانت روسيا البيضاء تضم 407.428 (8.2% من مجموع سكانها). كما كانت الجمهوريات الآسيوية تضم 109.851 (0.40% من مجموع سكانها). وزاد عدد اليهود إلى ما يزيد على ثلاثة ملايين عشية الحرب العالمية الثانية. وتركَّز 87% من جملة اليهود في المدن، وتركَّز 40% منهم في ست مدن على وجه التحديد، وكان أعضاء الجماعة يعملون أساساً بالتجارة.


وكانت أولى الخطوات التي اتخذتها الحكومة البلشفية هي إعتاق اليهود وإعطاؤهم حقوقهم السياسية كافة. فأصبحت معاداة اليهود جريمة تصل عقوبتها إلى الإعدام، وحُدِّد الانتماء العرْقي على أساس اختيار المواطن ووفق ما يدلي به كل فرد باختياره المحض، كما تم الاستناد في تحديد الانتماء القومي إلى اللغة التي يحدد العضو أنها لغته القومية. ولكن الحكومة البلشفية أهملت، مع هذا، الجوانب الخاصة للمسألة اليهودية في روسيا، وقللت من شأن سماتها المحددة ربما بسبب رؤيتها الثورية الأممية. فلينين ومن بعده ستالين، تأثرا بتجربة ماركس الألمانية وبطرحه العالمي أو الأممي للمسألة اليهودية الذي يرى أن ثمة ظاهرة يهودية عالمية واحدة وأن ثمة حلاًّ واحداً هو الثورة الاجتماعية ودمج اليهود. ففي ألمانيا التي كان يعرفها ماركس، لم تكن هناك كتلة بشرية يهودية ضخمة ذات سمات ثقافية محددة تضم الطبقات كافة، وإنما كانت هناك أقلية صغيرة معظم أعضائها من البورجوازية موزعون داخل دولة تسودها أغلبية متجانسة عرْقياً. ولذا، كان الاندماج هو الحل الأمثل بالنسبة إليها، على أن تَعقُب ذلك أو تتزامن معه ثورة اجتماعية. هذا هو الحل الذي طرحه ماركس وكاوتسكي وباور. وكان الحل الذي تبناه لينين والبلاشفة، مع بعض التعديلات، ليطبقوه على وضع مختلف تماماً. فنادى بأن لا أساس لوجود أمة يهودية مستقلة وأن شعار الثقافة اليهودية « هو شعار الحاخامات والبورجوازية، شعار أعدائنا». وأن القضية هي ببساطة قضية انعزال واندماج وثورة اجتماعية. وطرح ستالين تعريفه الشهير للأمة وقال « إن اليهود أمة على ورق ». ويُلاحَظ أن لينين وستالين يستخدمان مصطلح «أمة» بالمعنى العام للكلمة تماماً مثلما فعل ماركس. ولكن حيث إن التشكيل السياسي الروسي مختلف تماماً عن التشكيل السياسي الألماني، وحيث إن وضع الجماعات اليهودية داخله كان متميِّزاً، فإن تاريخ السياسة السوفيتية تجاه المسألة اليهودية في روسيا هو تاريخ التناقض بين الرؤية الماركسية الأممية (الألمانية) والواقع الروسي الخاص. ولعل أولى القضايا التي أفلتت من يد البلاشفة أن لفظ «يهودي»، في الاتحاد السوفيتي، كان يشير إلى عدة مجموعات حضارية ودينية واجتماعية علاقتها بعضها بالبعض واهية، فكانت لفظ «يهودي» يشير إلى:

1 ـ يهود روسيا الذين يتحدثون اليديشية في المقام الأول، أي يهود اليديشية، وهؤلاء كانوا ينقسمون إلى عمال وتجار صغار ورأسماليين كبار وفلاحين. ويُلاحَظ أن عمر الثقافة اليديشية كان قصيراً جداً، فلم يظهر الأدب اليديشي إلا في أواخر القرن التاسع عشر. ولذا، لم تثبت اليديشية كثيراً أمام تيارات التحديث وبدأت تظهر عليها أعراض الشيخوخة.

2 ـ قطاعات من يهود روسيا تتحدث اليديشية ولكنها تكتب مؤلفاتها بالعبرية باعتبارها لغة العبادة في الماضي واللغة القومية في المستقبل، وهؤلاء كانوا أساساً من الصهاينة الذين بدأوا يؤسسون أدباً مكتوباً بالعبرية.

3 ـ اليهود الذين تم علمنتهم ودمجهم في المجتمع الروسي ولا يتحدثون سوى الروسية.

4 ـ اليهود ذوي الأصل الألماني ويتحدثون الألمانية.

5 ـ اليهود القرّائين الذين لا يؤمنون بالتلمود وكانت أعداد كبيرة منهم تتحدث التركية والتترية.

6 ـ يهود جورجيا الذين يتحدثون الجورجية.

7 ـ يهود الجبال الذين يتحدثون لغة التات، ويتبعون تشكيلات اجتماعية قبلية.

8 ـ يهود بخارى ويتحدثون الطاجيكية وهي لهجة فارسية.

9 ـ مجموعات قبلية يهودية صغيرة أخرى ذات تراث ثقافي متميِّز مثل الكرمشاكي.

10 ـ كما كانت لفظ «يهودي» يشير، بطبيعة الحال، إلى كل يهود العالم، وخصوصاً يهود ألمانيا وفرنسا وإنجلترا.

وكان من الصعب، بطبيعة الحال، إطلاق لفظ «قومية» على كل هذه الجماعات اليهودية التي تتحدث بعدة لغات وتعيش داخل مناطق مختلفة وليست لها أرض مقصورة عليها (ربما باستثناء يهود الجبال والمجموعات القَبَلية الصغيرة الأخرى). ومن الناحية المنطقية المجردة، فإنهم ليسوا أمة على الإطلاق لأنهم لا يشكلون جميعاً قومية واحدة. ومع هذا، فمن الممكن اعتبارهم جماعات يهودية مختلفة، بعضها دون هوية إثنية خاصة مثل يهود إنجلترا وألمانيا، والبعض الآخر يتمتع بمثل هذه الهوية بدرجات متفاوتة من الاستقلال. وبدلاً من التفكير في إطار القومية العالمية، أو الجماعة الواحدة، كان من الممكن التفكير في إطار الجماعات القومية وغير القومية داخل التشكيل السياسي الروسي، وكان من الممكن طرح سياسات متعددة تختلف باختلاف الأوضاع الثقافية للجماعات اليهودية المختلفة. وهو ما لم يفعله السوفييت في بادئ الأمر، وإن كان الواقع فرض عليهم تعددية الحلول بعد أن ظلوا يتحركون داخل أطر « علمية » أحادية بسيطة.

شهدت الشهور الأولى للثورة اندلاع الحرب الأهلية في عدة مناطق من أهمها منطقة أوكرانيا الحدودية التي كانت تحارب فيها عدة جيوش من بينها الجيش الأوكراني القومي تحت قيادة بتليورا وعصابات الفلاحين التابعين له، والجيش الأحمر الذي كان يضم وحدات أوكرانية وجيوش صغيرة وقوات أخرى. ولجأت القوات السوفيتية إلى استخدام العنف ضد الفلاحين، وخصوصاً أن سياسة مصادرة الحبوب أدَّت إلى تمرُّد العناصر الفلاحية الأوكرانية التي رأت في أعضاء الجماعة اليهودية عناصر مقترنة بالنظام السوفيتي الجديد وبالسلطة الحاكمة، فهاجمتهم كما هاجمتهم قوات بتليورا. وأدَّى كل هذا إلى التفاف اليهود حول الثورة (وقد حلت كثير من التنظيمات اليهودية الاشتراكية نفسها وانضمت إلى الثورة، في حين تعاون الزعيم الصهيوني جابوتنسكي مع بتليورا وقواته). وانضم الشباب اليهودي في أوكرانيا وغيرها من المناطق إلى الجيش الأحمر الذي أسسه ليون تروتسكي وكان من قادته البارزين زينوفييف وسفردلوف. وفي عام 1926، كان عدد الضباط اليهود 4.4% من مجموع ضباط الجيش الأحمر. ولعب أعضاء الجماعة اليهودية دوراً مهماً في إعادة بناء الهيكل الإداري للدولة الجديدة بعد أن هاجرت أعداد كبيرة من المثقفين والموظفين الروس البيض إلى الخارج.

ولكن، ورغم انعتاق أعضاء الجماعة اليهودية سياسياً، فإن السياسة الاقتصادية للنظـام السـوفيتي تسـبَّبت موضوعياً في اقتلاعهم وتغيير نمط حياتهم. فالثورة البلشفية (كما كانت تُطلق على نفسها) ثورة عمال وفلاحين، ولم تكن غالبية يهود روسيا عمالاً ولا فلاحين. وحتى أعضاء الطبقة العاملة من اليهود، كانت نسبتهم صغيرة. ولم يكونوا مرتبطين بالطبقة العاملة الروسية ارتباطاً حضارياً أو حتى اقتصادياً، إذ تركزوا في المصانع الصغيرة والحرف اليدوية وقطاعات معيَّنة من الصناعات الاستهلاكية. كما أن الظروف فرضت عليهم الارتباط إلى حدٍّ كبير بالرأسماليين اليهود الصغار. أما بقية اليهود من أعضاء البورجوازية الصغيرة والكبيرة، فكانوا إما يمتلكون صناعات استهلاكية، وإما يضطلعون بدور الوسيط التجاري في المدن الصغيرة.

وأدَّت الممارسات الاقتصادية البلشفية إلى اكتساح الأساس الاقتصادي لوجود الكتلة البشرية اليهودية وتركزها في مناطق معينة. فانفرط عقدها، وبدأت عملية ذوبانها التدريجي، وهي عملية استمرت حتى قُضي على معظم التجمعات السكانية اليهودية داخل منطقة الاستيطان.

وشهدت مرحلة شيوعية الحرب (1918 ـ 1921) عديداً من القرارات الاقتصادية ذات الطابع الثوري، مثل تحويل أجور المستخدمين إلى أجور عينية، وإجبار المزارعين على تسليم منتجاتهم من المواد الغذائية. كما اتُخذت قرارات أخرى كان لها تأثير مباشر على اليهود، مثل تأميم الصناعة والتجارة وفرض العمل الإجباري على البورجوازية.

ثم عدلت الحكومة الروسية مؤقتاً عن سياسة شيوعية الحرب وتبنت «السياسة الاقتصادية الجديدة» التي عُرفت باسم «النيب» N.E.P (1921 ـ 1927)، وهو اختصار للعبارة الإنجليزية «نيو إيكونوميك بوليسي New Economic Policy»، والتي سمحت بأشكال من الاستثمار الخاص والنشاط التجاري والمصانع الصغيرة. واستفاد أعضاء الجماعة اليهودية أكبر استفادة من هذه السياسة الجديدة. وكان التوزيع الوظيفي ليهود روسيا عام 1926 كما يلي: 19.1% في التجارة (كان ثُلث محلات موسكو عام 1924 يملكها يهود)، وكان 34.3% في الصناعة والحرف، و9.2% في الزراعة، و10.2% في وظائف إدارية ومهنية. ورغم أن عدد العاملين بالزراعة قد وصل إلى 9.2% مقارنة بنحو 2.6% حسب إحصاء عام 1897، فإن نسبة المشتغلين بالتجارة كانت مرتفعة، كما يُلاحَظ أن نحو 27% من العاملين اليهود كانوا غير مصنفين وظيفياً، ويُرجَّح أن أغلبيتهم كانوا يمارسون التجارة والمضاربات سراً وتحت ستار أعمال أخرى (وكان هذا جزءاً من موروثهم الاقتصادي).

أدَّى كل ذلك إلى ظهور طبقة رجال النيب في المدينة والكولاك في القرية، الأمر الذي كان يهدد الأساس الاقتصادي للنظام الجديد. ورغم أن التجارة كانت مهنة مشروعة، فإن الدولة البلشفية الجديدة لم تكن سعيدة بهذا التطور إذ كانت تنظر بعين الشك إلى القطاعات الاقتصادية المستفيدة.

ثم تم التراجع عن هذه السياسة، وبدأت الخطة الخمسية الأولى (1927 ـ 1932) التي تشكل بداية عملية التذويب الحقيقية لأعضاء الجماعة. فحسب إحصاءات العشرينيات، كان ثُلث اليهود ينتمون إلى طبقات اقتصادية، مثل طبقة صغار التجار، محكوم عليها بالاختفاء نتيجة إعادة صياغة الاقتصاد السوفيتي. ويُقال إن نحو 1.120.000 يهودي اضطروا إلى إغلاق تجاراتهم الصغيرة فزاد عدد العاطلين عن العمل على مليـون، واتجـهت أعداد منهـم إلى التعامل في السـوق السوداء.

وقرر الاتحاد السوفيتي حل مسألته اليهودية عن طريق عمليتين مختلفـتين متناقـضتين وإن كانتا قـد أدَّتا، كل واحـدة منهما على طريقتها، إلى دمج أعضاء الجماعة اليهودية. أما الأولى، فهي سياسة توجيه اليهود نحو الزراعة والاستيطان الزراعي، وهي استمرار لمحاولات الحكومة القيصرية التي استهدفت تحويل اليهود إلى عنصر منتج. فأُسِّست لجنة الاستيطان الزراعي اليهودي (كوزمت). وطُبِّقت التجربة في أوكرانيا بقدر معقول من النجاح، ولكن كان التركيز على بعض مراكز الاستيطان الزراعي السابقة مثل جنوب روسيا أو روسيا الجديدة التي كانت تضم أربعين ألف فلاح يهودي. ووقع الاختيار أيضاً على شبه جزيرة القرم حيث كانت توجد مناطق صالحة للاستيطان الزراعي. وساهمت منظمات التوطين الغربية، مثل جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) التي أسسها المليونير الألماني اليهودي هيرش، ولجنة التوزيع المشتركة في هذه العملية. وزاد عدد المزارعين اليهود زيادة هائلة، وزادت الرقعة الزراعية التي يشغلونها أربعة أضعاف. وبلغ عدد المزارع التعاونية اليهودية خمسمائة مزرعة حتى أواسط الثلاثينيات، وهي الفترة التي وصلت فيها التجربة إلى قمة ازدهارها. وبلغ عدد اليهود العاملين بالزراعة 155 ألف مزارع يهودي عام 1926، أي 6% من العاملين اليهود، ثم زاد إلى 220 ألفاً عام 1928، أي 8.5%، ثم إلى نحو 300 ألف في أوائل الثلاثينيات، أي 10.1%. ويُلاحَظ أن اضطلاع اليهود بالعمل في الزراعة لا يعني بالضرورة العمل اليدوي، وإنما يعني في الواقع قطاع الزراعة ككل بما في ذلك الأعمال الكتابية والإدارية التي كان يتركز فيها أعضاء الجماعة اليهودية. ولكن، بعد فترة، توصل المسئولون السوفييت إلى أن شبه جزيرة القرم لا توجد فيها أرض زراعية كافية، كما أن التوطين الزراعي يؤدى إلى زيادة التماسك العائلي وهو ما يدعم عملية الانفصال اليهودي. وإلى جانب هذا، عارض بعض السكان المحليين عملية توطين اليهود بينهم. ويُقال أيضاً إن القيادة السوفيتية وجدت أن شبه جزيرة القرم منطقة مهمة من الناحية الإستراتيجية تقع على مقربة من غرب أوربا، وقد يؤدي تركيز عنصر يهودي فيها إلى خلق مشاكل ذات طابع أمني في المستقبل. وشهدت الثلاثينيات بداية عملية الزراعة الجماعية والتي كانت أيضاً عملية تذويب إذ تم ضم عناصر غير يهودية في الكولخوزات اليهودية. وأدَّت العناصر السابقة جميعاً إلى القضاء على تجربة الزراعة اليهودية.

وفي عام 1928، تقرَّر أن تكون بيروبيجان هي منطقة الاستيطان الزراعي اليهودية وإحدى وسائل دمج اليهود في المجتمع السوفيتي على المستويين الاقتصادي والثقافي. ولكن لم يُقدَّر لهذه التجربة أي نجاح، وأدَّى الغزو النازي إلى تدمير جميع المستوطنات الزراعية في أوكرانيا والقرم ولكن لم يجر تشييدها بعد الحرب.

فشلت تجربة بيروبيجان، كما فشلت محاولة توجيه اليهود من المدن والتجارة إلى قطاع الزراعة، لا بسبب طبيعة اليهود التجارية وانعزاليتهم (كما ادعى خروتشوف) وإنما بسبب التحول العميق في الاقتصاد السوفيتي من الزراعة إلى الصناعة. وهذه إحدى ثمرات مشروع السنوات الخمس الأولى (1929 ـ 1934)، وهي عملية متناقضة مع عملية التوطين الزراعي، ولكنها مع هذا أدَّت إلى دمج اليهـود وتذويبهم ربما بمعـدلات أكثر من تلك التي خطَّط لها السوفييت. وقد أكد مشروع السنوات الخمس أهمية التنمية الصناعية وخُصِّصت لها الاعتمادات الضخمة، الأمر الذي زاد الطلب على الأيدي العاملة وأتاح الفرص أمام أعضاء الجماعات اليهودية لأن يتحولوا إلى عنصر منتج من خلال الصناعة. وقامت المنظمات اليهودية التوطينية، مثل جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) ومنظمة إعادة التأهيل والتدريب (أورت) ولجنة التوزيع المشتركة، بفتح مدارس لتدريب اليهود على الحرف. كما قامت حكومات أوكرانيا وروسيا البيضاء بوضع خطط لتدريب الشباب اليهودي على الصناعة. ونجحت هذه الخطط في توفير أعمال في القطاع الصناعي والحكومي لآلاف اليهود خارج منطقة الاستيطان. ولم تكن هناك أية بطالة بين أعضاء الجماعات اليهودية بحلول عام 1930، بل نشأت من صفوفهم فئات جديدة من موظفي الحكومة والعاملين في المشاريع الصناعية. ونتيجة هذه التحولات، تزايدت هجرة أعضاء الجماعات اليهودية إلى داخل روسيا وإلى المدن. وكانت هذه أكبر هجرة يهودية منذ التدفق اليهودي اليديشي إلى أمريكا في نهاية القرن السابق. وأدَّت هذه الهجرة، مثل الهجرة إلى الولايات المتحدة، إلى دمج أعضاء الجماعات اليهودية واستيعابهم وحل المسألة اليهودية. وتظهر مدى راديكالية هذه العملية في الزيادة الملحوظة في عدد اليهود في أكبر مدينتين روسيتين، موسكو وليننجراد، حيث كانتا تضمان 26.024 يهودي فقط عام 1897. وأصبح عدد أعضاء الجماعات اليهودية فيهما، بعد ما يقرب من أربعـين عاماً، نحو 575 ألفاً. وكل هذا يعني، في واقع الأمر، زيادة تَحلُّل المراكز السكانية اليهودية الضخمة، وتَوزُّع سكانها. وقد كانت أوكرانيا وحدها تضم عام 1926 نحو 76% من يهود روسيا، وانخفضت النسبة إلى 62% عام 1939، وهو اتجاه استمر حتى العصر الحديث. وتغيَّر وضع يهود روسيا الوظيفي إذ أصبح عدد العمال اليهود عام 1939 نحو 30.6% (من كل العاملين اليهود) وعدد الحرفيين 10.1% وعدد الفلاحين في الكولوخوز 5.8% (أي أن أكثر من نصف اليهود أصبحوا من العمال والفلاحين) و40.6% في أعمال كتابية، و2.9% في وظائف أخرى. ويُلاحَظ أن الوظائف الكتابية حلت محل التجارة باعتبارها أهم وظيفة يضطلع بها أعضاء الجماعات اليهودية. وتضم الوظائف الكتابية في الاتحاد السوفيتي المؤلفين والعلماء والمثقفين والموظفين الحكوميين. وكان عدد اليهود العاملين في تلك الوظائف 364.000 منهم 125 ألف محاسب.

أما من الناحية الثقافية، فقد كان الاتجاه العام يسير نحو الدمج الثقافي أو تأكيد الثقافة اليديشية العلمانية اللادينية التي لا علاقة لها بالثقافة الدينية التقليدية. وقد أنشأت الحكومة السوفيتية عام 1918 قسماً خاصاً للشئون اليهودية يُسمَّى «يفيسكتسيا» أي «القسم اليهودي» (تم حله عام 1930). ولما كان أعضاء الحزب اليهود من دعاة الاندماج، فإن هدف القسم اليهودي كان « نشر ديكتاتورية البروليتاريا بين الجماهير اليهودية ». وقد انضمت إليهم قطاعات من البوند وعمال صهيون وحزب العمال اليهودي، حيث طالبوا بتشجيع اليديشية وسيلة للتعبير عن ثقافة يهودية علمانية معادية للدين اليهودي وللعبرية والتوراة. وقد قام القسم اليهودي بتصفية الأطر التعليمية التقليدية المتبقية بين اليهود، كالمدارس وما شابهها، ومنع تدريس العبرية، كما قام بتجريم النشاط الصهيوني، واعترف باليديشية لغةً رسمية حتى أصبحت إحدى اللغات المعترف بها في المحاكم وأصبحت تدار بها الجلسات. وكذلك شجع الأدب اليديشي، وخصوصاً المسرح اليديشي، فشهدت الفترة ككل ازدهاراً حقيقياً لهذا الأدب. وأُسِّست كلية لدراسة الثقافة اليهودية، كما أُسِّست شـبكة من المدارس الابتدائية والثانوية لغة التدريـس فيهـا اليديشية، بالإضافة إلى كليات تربوية لإعداد مدرسين لليديشية. ووصل عدد اليهود الذين التحقوا بهذه المدارس إلى 51% من مجموع الطلاب اليهود عام 1926. ولكن العدد بدأ في الانخفاض التدريجي، وهو ما يبين أن الانصراف عن اليديشية وتَقبُّل الترويس (وهي العملية التي بدأت في حكم القياصرة) أصبحت عملية تلقائية تنبع من الحركيات الداخلية لأعضاء الجماعة الذين كانوا يفضلون إرسال أطفالهم إلى المدارس الحكومية الروسـية لأن ذلك كان يـعني زيادة فرص الحراك أمامهم. ولذا، نجد أن أعداد الطلبة اليهود في مدارس أوكرانيا وروسيا البيضاء أخذت في التزايد، وأخذت الثقافة اليديشية في الاختفاء التدريجي، وخصوصاً مع تغيير الوضع الوظيفي ليهود روسيا وهجرتهم من مراكز التجمع التقليدية إلى المدن وابتعادهم عن مراكز الثقافة اليديشية التقليدية.

وهكذا انصرف كـثير من يهود اليديشية عن التحدث باليديشية أو دراستها، وانصرف كثير من الكُتَّاب اليهود الروس عن الكتابة باليديشية وبدأوا يكتبون بالروسية. وتناقص عدد الطلبة اليهود الذين يدرسون في المدارس اليديشية إلى 33% عام 1931 ثم إلى 20% عام 1939، وأُغلقت عدة مدارس يديشية أبوابها لعدم وجود طلبة. كما أن الاندماج تبدَّى بكل وضوح في زيادة نسبة الزواج المُختلَط في الثلاثينيات إلى 25% من مجموع الزيجات اليهودية. ويُلاحَظ أن معدلات الاندماج بين الشباب كانت أعلى بكثير من مثيلتها بين المتقدمين في السن. ويمكن القول بأن العقيدة اليهودية لم تَعُد أحد أشكال التضامن بـين أعضــاء الجماعــة الذين بـدأت عملــية علمنتهم في منتصف القرن الماضي، ثم تصاعدت هذه العملية مع نهاية القرن، ثم أخذت شكلاً عقائدياً واعياً وحاداً مع ظهور الدولة السوفيتية.

وقد بلغ عدد أعضاء الجماعات اليهودية عام 1932 نحو 2.870.000 بزيادة قليلة نسبياً عنه عام 1926، وذلك نتيجة تسارع تدفُّق اليهود نحو المدن وعدم توافر الزمن الكافي للاستقرار والزواج، إضافة إلى ما تحمله الحياة في المدينة من تعقيدات في الحياة اليومية تقلِّل الرغبة في الإنجاب. وقد بلغت الزيادة الطبيعية بين اليهود 1% في مدن روسيا، بينما وصلت 2.5% في الجمهوريات الآسيوية. وحسب إحصاء عام 1939، بلغ عدد اليهود نحو 3.040.000، أي بزيادة مقدارها ثلاثمائة ألف. وقد لاحظ المؤرخ الروسي سيمون دبنوف عام 1935، عشية الحرب العالمية الثانية، أن أعضاء الجماعة اليهودية انفصلوا إلى حدٍّ كبير عن تاريخهم. وتنبأ بأن المليون ونصف المليون يهودياً سيصبحون مواطنين سوفييت لا يهوداً، أي أن السمات اليهودية المقصورة على اليهود والتي تميزهم كيهود ستأخذ في الضمور والتحلل إلى أن تختفي تماماً ويصبح اليهود السوفييت مجرد مواطنين سوفييت لا يختلفون عن بقية المواطنين في شيء، وقد أثبتت التطورات التاريخية اللاحقة صدق نبوءته اللاحقة. أما حملة التطهير التي شنها ستالين بين عامي 1936 و1939 ضد كوادر الحزب الشيوعي وقياداته، والتي شملت العديد من أعضاء الجماعة اليهودية، مثل زينوفييف وكامينيف وراديك وغيرهم، فلم تترك أثراً ملحوظاً في أغلبية اليهود الذين كانوا ينظرون إلى ما يجري باعتباره صراعاً بين ستالين ومعارضيه أو بين الستالينية والتروتسكية.

  • الاربعاء PM 02:02
    2021-04-21
  • 870
Powered by: GateGold