المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417534
يتصفح الموقع حاليا : 267

البحث

البحث

عرض المادة

تـعـــثر التحديــــث في روســـيا القيصـريــة

تـعـــثر التحديــــث في روســـيا القيصـريــة
Setbacks of Modernization in Tsarist Russia
لم يُقدَّر لمحاولات دمج أعضاء الجماعات اليهودية في روسيا النجاح لأسباب عدة، من أهمها ما يلي:


1 ـ خلق الانفجار السكاني بين أعضاء الجماعات اليهودية فائضاً بشرياً ضخماً لم يكن من الممكن توفير الفرص الكافية للعمل والتعليم له. كما أن الانفجار السكاني كان يخلق تجمعات يهودية مركزة يتعامل من خلالها أعضاء الجماعة مع بعضهم البعض دون حاجة إلى العالم الخارجي، الأمر الذي كان يُبطئ عملية الاندماج ويعوقها.

2 ـ كما يُلاحَظ أن عملية التحديث نفسها كانت لها جوانب سلبية عديدة. فحظر الاتجار في الخمور على أعضاء الجماعة اليهودية كان يهدف إلى تقليل الاحتكاك بين اليهود والفلاحين، ولكن مع هذا حُرم آلاف اليهود من مصادر الدخل الوحيدة المتاحة لهم، فكان منهم مقطرو الخمور وموزعوها وتجارها. كما أن إنشاء السكك الحديدية التي مولها كبار الرأسماليين اليهود كما تَقدَّم، قضى على مصادر الدخل الأساسية لآلاف اليهود الذين كانوا يعملون في صناعة وتجارة العربات التي تجرها الخيول.

3 ـ ومما عقَّد الأمور أن عملية إعتاق أعضاء الجماعة اليهودية تزامنت مع إعتاق الأقنان، الأمر الذي جعل رقعة الأرض المتاحة للزراعة ضيقة جداً، وخصوصاً أن التاجر أو المرابي اليهودي لم يكن من السهل تحويله إلى مزارع. وأدَّى إعتاق الأقنان أيضاً إلى وجود عمالة رخيصة في السوق، الأمر الذي أدَّى بالتالي إلى طرد اليهود من كثير من وظائفهم التقليدية وإلى انحدارهم إلى مستوى الطبقة العاملة وتحوُّلهم إلى عمال، هذا مع ملاحظة أن المستوى المعيشي لغالبية أعضاء الجماعة اليهودية، حتى في أكثر أيامهم فاقة وفقراً، كان أعلى بكثير من مستوى القن الروسي أو القن البولندي.

4 ـ وكلما ازدادت معدلات التحديث، ازدادت صعوبة التكيف مع الاقتصاد الجديد، الأمر الذي كان يزيد عدد ضحايا التقدم، ففي مرحلة ما قبل 1880 خفَّف آلام الانتقال إلى النمط الرأسمالي في الإنتاج أن هذا النمط احتفظ في مراحله الأولى بأشكال إنتاج بسيطة وهو ما أتاح لعدد من أعضاء الجمـاعة اليهـودية أن يجدوا مجالاً رحباً للعمل (في المدن الصناعية) في التجارة الجديدة وللعمل في الحرف.

غير أن النمو الرأسمالي لم يتوقف عند هذه المرحلة، فقد اتسعت رقعة الصناعة لتشمل الصناعة الخفيفة أيضاً، فكان ذلك بمنزلة ضربات قاضية دمرت الاقتصاد الإقطاعي ودمرت معه الفروع الرأسمالية الحرفية حيث كان اليهود يتركزون بنسبة مرتفعة. وهكذا تشابكت عملية تحويل التاجر اليهودي لمرحلة ما قبل الرأسمالية إلى عامل حرفي أو تاجر رأسمالي مع عملية أخرى هي القضاء على عمـل اليهــودي الحرفي نفسـه. وحينما كان اليهودي يتحول إلى عامل، فإنه كان يواجه منافسة الفلاحين الروس المُقتلَعين الذين كانوا يقنعون بأجور منخفضة بسبب أسلوب حياتهم البسيط.

ومما زاد الأمور تشابكاً وتعقداً أن الحرفي اليهودي (كما يبيِّن أبراهام ليون) كان يعمل فيما يمكن تسميته «الحرف اليهودية» التي وُلدت بالشتتل. فالحرفي اليهودي لم يكن يعمل من أجل الفلاحين المنتجين بل كان يعمل من أجل التجار والصيارفة والوسطاء. ولذلك، نجد أن إنتاج السلع الاستهلاكية هو الشاغل الرئيسي للحرفي اليهودي لكون زبائنه يتألفون من رجال متخصصين في تجارة الأموال والبضائع، أي غير المنتجين أساساً. أما الحرفي غير اليهودي، فإن ارتباطه بالاقتصاد الزراعي جعله لا ينتج سلعاً استهلاكية لأن الفلاح كان يكفي نفسه بنفسه. وهكذا، إلى جانب الفلاح، كان هناك الحرفي غير اليهودي (الحداد مثلاً)، وإلى جانب رجل المال اليهودي كان هناك الحرفي اليهودي (الترزي مثلاً). وقد ساعد على تطوُّر الحرفي غير اليهودي ارتباطه بالتاجر المسيحي الذي كان يوظف أمواله في حرف متخصصة غير مرتبطة بالنظام الإقطاعي مثل نسج الأصواف، وهي حرف كان الغرض منها الإنتاج للتصدير لا الاستهلاك المباشر، أي أنها حرف تقع خارج نطاق النظام الإقطاعي وتمثل نواة الاقتصاد الجديد، وبالتالي فإنها لم تسقط مع الاقتصاد القديم. وانعكس هذا الوضع على أعضاء الطبقة العاملة من اليهود، فالحرف الأقل قابلية للتطور إلى صناعة كانت محصورة في أيدي الحرفيين اليهود، بينما انحصرت المهن الأكثر قابلية لهذا التطور في أيدي الحرفيين غير اليهود.

5 ـ وقويت شوكة الطبقة الوسطى الروسية، وخصوصاً بعد تَدفُّق رؤوس الأموال الأوربية الغربية على روسيا، بحيث فُتحت آفاق جديدة أمامها وأصبحت قوة اقتصادية لها وزنها يمكنها التفاهم مع البيروقراطية الحكومية (الروسية الأرثوذكسية) التي كانت تحابيها وتعطيها الأولوية والأفضلية. وتسبب كل هذا في إضعاف المموّلين اليهود وأعاق عملية تحوُّل كثير من أعضاء الجماعة اليهودية إلى أعضاء في الطبقة الوسطى الروسية.

6 ـ أدَّى القضاء على ثورة بولندا عام 1863 إلى حرمان آلاف اليهود ممن كانوا يعملون في نظام الأرندا وكلاء للنبلاء البولندين (شلاختا) من وظائفهم.

7 ـ وفي الحالات القليلة التي كان بعض أعضاء الجماعة يحققون فيها مكانة مرموقة أو حراكاً اجتماعياً، كانوا يصبحون محط الحقد الطبقي في وقت كانت الضائقة الاجتماعية آخذة في التزايد. ومن هنا، كان اتهام اليهود بالسيطرة الاقتصادية واستغلال غير اليهود، ومن هنا أيضاً ارتسمت صورة اليهودي كرأسمالي جشع.

8 ـ ومن قبيل المفارقات أن عدداً كبيراً من أعضاء الجماعة اليهودية سقط ضحية التقدم وتحولوا إلى أعضاء في الطبقة العاملة الحضرية التي فقدت جذورها الثقافية ونمط حياتها وانتماءها الديني ومصدر حياتها. وقد وصل الفقر إلى درجة أن ثلث يهود روسيا عاشوا على معونات المنظمات اليهودية الغربية. وكل هذا يعني أن الجماهير الفقيرة لم تكن مستفيدة تماماً من عمليات التحديث ولم تكن ترى فيه حلاًّ لمشاكلها الحضارية. ولذا، التفت قطاعات كبيرة منهم، وخصوصاً صغار التجار، حول القيادات الحسيدية التي منحتها شيئاً من الطمأنينة في عالم لم تكن تفهمه البتة.

9 ـ ولكن، بالنسبة للعمال اليهود الروس والمثقفين العلمانيين، أدَّى تردِّي وضعهم إلى انخراطهم بمعدلات كبيرة في صفوف الحركات الثورية، وخصوصاً أن مستواهم الثقافي كان، كما تَقدَّم، أعلى من مستوى الأقنان. ففي عام 1899، كانت نسبة اليهود في الحركات الثورية تبلغ 24.8% في وقت كانت نسبتهم إلى عدد السكان 4.1%.

10 ـ ويمكن أن نضيف بعض العناصر الثقافية التي أدَّت إلى فشل عملية التحديث، من بينها أنها كانت تتم رغم أنف اليهود. وقد بدأت هذه العملية بقضها وقضيضها من داخل المجتمع الروسي لا من داخل الجماعة اليهودية التي ظلت رافضة إياها. ولاقت هذه العملية مقاومة شديدة من جانب الجماهير اليهودية المتخلفة التي رفضت إرسال أطفالها إلى المدارس الروسية العلمانية، وخصوصاً أن عملية التحديث كانت كما تَقدَّم تضيرها اقتصادياً في كثير من الأحوال وتحولها إلى طبقة عاملة حضرية مفتقدة للمعنى الذي كانت تجده في وجودها التقليدي.

11 ـ قامت الدولة الروسية الاستبدادية الملتصقة بالكنيسة الأرثوذكسية المتعصبة بالإشراف على عملية التحديث. وقام بتنفيذ هذه العملية بيروقراطية روسية ضيقة الأفق مرتشية تفتقر إلى خبرة كبيرة باليهود وبأمورهم، ذلك أن إمبراطورية القياصرة كانت تحظر على اليهود دخولها. وكانت عملية التحديث تتم داخل إطار فكرة القومية السلافية الروسية التي كانت تَصدُر عن منطلقات عضوية ضيقة تفترض أن ثمة تفاوتاً بين الناس وأن السلافية (أو الروسية) خاصية لا يكتسبها المرء وإنما يولد بها على نقيض فكرة القومية الليبرالية في بلاد غرب أوربا. وكانت عملية التحديث تتم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي شهد انتكاسة الفكر الليبرالي في أوربا بشكل عام وظهور الفكر السياسي الرجعي بشكله الرومانسي. ونجم عن ذلك تَصاعُد ظاهرة معاداة اليهود الذين أصبحوا بؤرةً تصب فيها أحقاد ضحايا التحديث: الرأسماليين الروس الذين كانوا يخافون منافسة الرأسماليين اليهود، والطبقة العاملة الروسية التي كان يرى أعضاؤها الرأسمالية اليهودية واقفة ضدهم. أما اليهود من أعضاء الطبقة العاملة، فوجدوا أنفسهم في عزلة. وكان أعضاء النخبة الروسية ينقسمون إلى ثوريين روس يرون الانعزالية اليهودية شكلاً من أشكال الرجعية المعادية للثورة، ومثقفين روس (من بينهم دوستويفسكي) يرون اليهودي رمزاً لاقتحام الغرب والأفكار الغربية لأمهم روسيا السلافية. ووجد يهود روسيا أنفسهم في مواجهة كنيسة أرثوذكسية تخشى العلمانية التي كان اليهود أهم دعاتها كما تخشاهم باعتبارهم أعداء المسيح، وفي مواجهة حكومة روسية رجعية وجدت أن الثوريين الروس يضمون، في كل مكان، أعداداً متزايدة من اليهود. وظهرت كتابات معادية لليهود، من أهمها كتاب جيكوب برفمان (وهو يهودي متنصر) اسمه كتاب القهال عام 1869، كما ظهرت فكرة الحكومة اليهودية العالمية التي تتآمر على الجنس البشري ومنشورات أخرى عن التلمود وتهمة الدم،وهي أفكار ظلت على السطح دون تأثير قوي. ومع هذا،بدأت هذه الأفكار تؤثر في تفكير البيروقراطيين ثم أخذت شكل مذبحة ضد اليهود في أوديسا عام 1871.ووُجهت تهمة دم عام 1878 ولكن المتهم بُرِّئ بعد محاكمته.

ويجب أن نبين أن الجماعة اليهودية لم تكن وحدها المُستهدَفة وإنما كانت عنصراً واحداً في بانوراما اجتماعية اقتصادية، فقد بدأ المناخ العام في روسيا يتغيَّر. ومع تَصاعُد وتيرة التحديث وتعثُّره، زاد ضحايا التقدم وزادت كذلك الهجمات على الغرباء كافة من أعضاء الأقليات سواء من الأرمن أو المسلمين أو اليهود أو حتى من المسيحيين من غير الأرثوذكس أو الأوكرانيين. لكن التحولات الاقتصادية كانت ذات طابع بنيوي عمـيق ولم يواكبهـا أي تحديث في الأشكال السياسية للمجتمع. ومن الواضح أن المجتمع الروسي كان قد وصل، مع نهاية السبعينيات، إلى طريق مسدود لم يكن من الممكن تجاوزه، كما لم يكن من الممكن استئناف التحديث إلا عن طريق ثورة اجتماعية.

ألكسندر الثاني (1855-1881)
Alexander II
قيصر روسيا بدأ حكمه بمحاولة التوصل إلى طرق ليبرالية لدمج اليهود. وبالفعل، شهد عهده ظهور حركة التنوير بين يهود روسيا وتَزايُد معدلات العلمنة والاندماج بينهم. ولكن، بدأت تتضح في نهاية عصره أزمة النظام القيصري، كما ظهرت الاستجابات اليهودية المختلفة لأزمة اليهودية واليهود، وبدأت أعداد متزايدة من الشباب اليهودي تنخرط في الحركات الثورية. وقامت جماعة إرهابية شعبوية، بينها فتاة يهودية ملحدة، باغتياله.

  • الاربعاء PM 01:58
    2021-04-21
  • 957
Powered by: GateGold