المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417534
يتصفح الموقع حاليا : 247

البحث

البحث

عرض المادة

أوديسا

أوديسـا
Odessa
مدينة بناها القياصرة على البحر الأسود مكان مدينة تركية صغيرة كانت تُسمَّى «خاتجيبي» استولت عليها القوات الروسية عام 1789 ولم يكن بها حينذاك سوى ستة من اليهود. وفي محاولة لتطوير المدينة، شجعت الحكومة القيصرية كل العناصر البشرية على الاستيطان فيها، فأصبح الأقنان الذين استقروا فيها مستأجرين أحراراً. وأصبحت أوديسا المركز التجاري الصناعي لجنوب روسيا أو روسيا الجديدة. وكانت أهم السلع التي تصدَّر منها الحبوب. فزاد حجم الصادرات خمس مرات. وأُسِّست فيها جامعة، عام 1865، وعدد من المسارح بل ودار للأوبرا.


واجتذبت أوديسا أعداداً كبيرة من الأجانب حتى أنهم كانوا يشكلون ثلاثة أرباع السكان حتى عام 1819. وفي عام 1850، كان مجموع السكان 90 ألفاً منهم عشرة آلاف أجنبي. وقد تخصَّص كل عنصر بشري في نشاط اقتصادي ما، فكان اليونانيون والإيطاليون والألمان من تجار الجملة، وكان الفرنسيون يشتغلون بتجارة الخمور وتجارة التجزئة، كما كان اليهود القرّاءون يشتغلون في تجارة التبغ والسلع الشرقية، أما اليهود الحاخاميون فاضطلعوا بعدة وظائف تجارية ومالية تتداخل مع الوظائف الاقتصادية للأقليات الأخرى. وكان الجو الأممي (كوزموبوليتاني) في المدينة متطرفاً بمعنى الكلمة حتى أن أسعار تحويل العملات كانت تُكتَب باليونانية وكانت لغة الحديث بين الناس الفرنسية، وكانت علامات الطرق تُكتَب بالإيطالية والروسية، وكانت الفرق المسرحية تُقدِّم المسرحية الواحدة بخمس لغات مختلفة (وهي تشبه إلى حدٍّ ما في هذا الإسكندرية قبل قيام ثورة 1952). وقد ساد الفكر المركنتالي سيادة تامة في أوديسا حتى بين صفوف البيروقراطية الروسية. فالهدف الذي حددته الحكومة لهم هو تحويل المدينة إلى ميناء تُصدّر منه روسيا صادراتها الزراعية، وخصوصاً القمح. ولذا، حكَّمت البيروقراطية مفاهيم المنفعة وقيمها وهو ما أدَّى إلى تَناقُص تعصبها ضد أعضاء الجماعة اليهودية والأجانب بسبب نفعهم. لكل هذا، كانت أوديسا نقطة جذب لأعداد كبيرة من يهود روسيا من جميع الطبقات الذين كانوا يرفضون الجيتو واليهودية الحاخامية والذين كانوا يشعرون بالرغبة في الهرب من منطقة الاستيطان. بل استقر في أوديسا مهاجرون يهود من جاليشيا وألمانيا، ليتمتعوا بالحريات التي مُنحت لأعضاء الجماعة اليهودية فيها وبالجو الأممي. ولذا، تزايد عدد اليهود من 10% من كل السكان عام 1795 إلى 20% (12 ألف يهودي) عام 1840 ثم إلى 34.4% (165 ألفا) عشية الحرب العالمية الأولى.

وأصبحت أوديسا مركزاً لثاني أكبر تجمُّع يهودي في الإمبراطورية الروسية بعد وارسو عاصمة بولندا التابعة لروسيا آنذاك. وكان أعضاء الجماعة اليهودية جزءاً عضوياً من اقتصاد المدينة الجديدة، فساهموا في نموها الاقتصادي حتى بلغت نسبة أعضاء الجماعات اليهودية 56% من أصحاب الحوانيت الصغيرة و63% ممن يعملون في الحرف اليدوية وتصدير الحبوب والصيرفة والصناعة الخفيفة. وكان يوجد عدد كبير منهم في المهن الحرة. وفي عام 1910، كان 80% من تجارة تصدير الحبوب يمتلكها أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا يمتلكون 50% من تجارة الجملة بشكل عام. كما كان يوجد عدد كبير من العمال اليهود (يشكلون ثلث عدد اليهود) انتشرت بينهم الحركات الثورية. وساد الاندماج واكتساب الصبغة الروسية، وظهرت طبقة من المثقفين اليهود الذين تبنوا مُثُل الحضارة الروسية والذين كان بوسعهم تحقيق درجة كبيرة من الحراك الاجتماعي في جو ثقافي منفتح. وتَدعَّم هذا الاتجاه نحو الانفتاح حينما صدرت قوانين ألكسندر الثاني عام 1860 التي حُرِّر بمقتضاها الأقنان وسُمح لأعضاء الجماعة اليهودية بدخول الجامعات.

وتعاظم نفوذ العناصر الليبرالية الداعية إلى التنوير حتى أصبحت أوديسا أول مدينة يتولى قيادة الجماعة اليهودية فيها دعاة التنوير الذين تعاونوا مع السلطات لضرب المؤسسة الدينية اليهودية وللقيام بعمليتي الترويس والدمج. ففُتح العديد من المدارس اليهودية وكانت لغة التدريس فيها الروسية، كما كانت الموضوعات التي تُدرَس فيها موضوعات علمانية عامة، ولم تشغل الموضوعات اليهودية سوى مرتبة ثانوية. ودخل العديد من الأطفال اليهود المدارس الحكومية الروسية. وإلى جانب هذا، أُسِّست في أوديسا أول مدرسة عبرية على النمط الغربي، وهذا يعكس التناقض الأساسي الكامن في حركة التنوير في روسيا التي كانت تدعو إلى الاندماج في المجتمع ولكنها كانت تدافع في الوقت نفسه عن الأشكال اليهودية التقليدية. وقد بلغ عدد الطلبة اليهود في مدارس أوديسا ثلاثة أضعاف النسبة داخل منطقة الاستيطان. وأُسِّست فيها جمعية نشر الثقافة بين يهود روسيا التي كانت تهدف إلى ترويس أعضاء الجماعة.

واشتهرت أوديسا بتراخي أهلها عن إقامة الطقوس والشعائر وتخليهم عن القيم الدينية اليهودية (بل عدم الاكتراث بها في كثير من الأحيان) حتى كان يُضرَب بها المثل: "إن نار جهنم تشتعل حول أوديسا على مسافة عشرة فراسخ".

وكان مصير أوديسا مثل مصير حركة التنوير في روسيا، فمع تعثُّر التحديث حدث هجوم (بوجروم) على اليهود عام 1817 بسبب صراعهم مع جماعة وظيفية أخرى وهي الجماعة اليونانية. ولم يُحسَم التناقض داخل حركة التنوير في روسيا لصالح الاندماج كما حدث في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، ولذا نجد أن بعض شرائح دعاة التنوير من مثقفي الطبقة الوسطى يتبنون الحل الصهيوني، فصدرت في أوديسا نداءات ليلينبلوم وبنسكر بعد أن شهدت نشاطاتهم الاندماجية من قبل. وأصبحت المدينة مركزاً لجماعة أحباء صهيون وجمعية بني موسى التي أنشأها آحاد هعام، وارتبطت بأسماء كثير من الزعامات الصهيونية مثل أوسيشكين وديزنجوف وبياليك وجابوتنسكي. كما صدر فيها عدد كبير من المجلات الأدبية العبرية، فأصبحت المدينة مركزاً للثقافة العبرية ولنشرها. وكانت تُنشر فيها مجلة آحاد هعام هاشيلواح .

وبعد الثورة البلشفية، استمر عدد اليهود في الزيادة إذ بلغ 180 ألفاً عام 1931، ولكن نسبتهم إلى عدد السكان أخذت في الانخفاض فأصبحوا يشكلون 29.8%. ولا يزال يوجد بعض أعضاء الجماعة اليهودية في أوديسا، ولكن أعدادهم آخذة في التناقص.

وهذا يتفق، في واقع الأمر، مع النمط العام لتطور الجماعة اليهودية، فمع تَزايُد التصنيع زاد انتشار أعضاء الجماعة وانتقلت أعداد كبيرة منهم من المناطق السكنية القديمة إلى المناطق الصناعية الجديدة.

  • الثلاثاء PM 06:35
    2021-04-20
  • 960
Powered by: GateGold