المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 417490
يتصفح الموقع حاليا : 234

البحث

البحث

عرض المادة

بنيــــــة الجـيـتــــــو

بنيــــــة الجـيـتــــــو
Structure of the Ghetto
«الجيتو» مكان داخل المدينة أو خارجها محاط بسور عال له بوابة (أو أكثر) تُغلَق عادةً في المساء. وكان من غير المصرح به لأعضاء الجماعات اليهودية، في بعض المراحل التاريخية ببعض الدول، أن يظهروا خارج الجيتو في يوم الأحد أو في أيام أعياد المسيحيين. وكان الجيتو بأسواره العالية يهدف إلى عدة أشياء متناقضة، منها: حماية اليهود كجماعة وظيفية وسيطة، وسهولة تحصيل الضرائب منهم، ومراقبتهم وعزلهم وفصلهم عن الأغلبية المسيحية. كما كان يضمن ألا يهرب أعضاء الجماعة إلى بلد آخر، فقد كانوا مادة استعمالية وأداة إنتاج وإدارة يستفيد الإمبراطور أو الحاكم من وجودها.


ومن المعروف أن ازدواج المعايير الأخلاقية من سمات الجماعات الوظيفية الوسيطة. فعضو هذه الجماعة يدخل في علاقة نفعية مادية رشيدة تعاقدية باردة مع أعضاء مجتمع الأغلبية، ويدخل في علاقة حميمة دافئة مع أعضاء جماعته. وهو يرى مجتمع الأغلبية على أنه مجتمعاً مباحاً لا حرمة له. ولكن رؤيته هذه تُناقض تماماً رؤيته لأعضاء جماعته، إذ يراها جماعة لها قداستها وحرمتها. ولذا، فهو يراعي حرمتها ويؤثرها على نفسه. ولكن هذا الازدواج في المعايير ينصرف فقط إلى الموقف الأخلاقي والعاطفي العام لأعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة إذ يظل قانون الدولة والأعراف السائدة هي الإطار المرجعي القانوني الذي يحتكم إليه الجميع، سواء أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة أم الأغلبية. والجيتو لا يشكل استثناء القاعدة إذ كانت هناك مجموعتان من القوانين تنظم علاقته مع العالم الخارجي أولاهما: المواثيق التي كان يمنحها الأباطرة والأمراء لليهود وتنظم علاقتهم بمجتمع الأغلبية، وثانيتهما: مجموعة القوانين التي تنظم علاقة اليهود بعضهم ببعض كأعضاء داخل الجيتو وكجماعات يهودية داخل التشكيل الحضاري نفسه. وكان القانون الداخلي الذي ينظم علاقات اليهود فيما بينهم (في الأمور الدينية والشخصية) هو التلمود. أما علاقات الجماعات اليهودية بعضها بالبعض الآخر، فكان ينظمها قانون تحريم الاستيطان. وكان الجيتو يتمتع بقسط وفير من الإدارة الذاتية، شأنه في هذا شأن كثير من المؤسسات في مجتمعات العصور الوسطى. فكانت تديره هيئة إدارية تصل أحياناً إلى اثني عشر شخصاً، منتخبة في بعض الأحيان ومعينة في البعض الآخر، وإن كانت القيادات المنتخبة تنتمي إلى مجموعة من الأسر المحدودة. وكانت لهذه المؤسسة (القهال بين الإشكناز، والماهاماد بين السفارد) قوة تنفيذية ضخمة، فكانت تقوم بإتمام عمليات الزواج والطلاق وتنفيذ العقوبات مثل الجلد والسجن (بل الإعدام في حالات نادرة). وكان من حق هذه المجالس أن تصدر قراراً بالطرد من حظيرة الدين (حيريم)، كما حدث مع إسبينوزا، وكان من حقها النظر في المنازعات بين اليهود والحكم في القضايا حسب الشريعة اليهودية. وكان أعضاء المجلس يعرفون كل صغيرة وكبيرة عن سكان الجيتو بسـبب صغر حجمه وقلـة عددهم، ولذا كان من السـهل التحكم فيهم.

وكان يتبع المجلس مجموعة من الموظفين بعضهم لا يتقاضى أي مرتب، وبعضهم الآخر يعمل نظير أجر. وأهم وظائف القسم الأول البرناس وهو رئيس الجماعة الذي كان يترأسها في كل المناسبات كما كان يرأس اجتماعات الهيئة الإدارية التي كان يُشار إليها أيضاً بـ «البرناسيم»، وكان البرناس يراقب الموازين ويقرر المرتبات التي تُدفَع للموظفين التابعين للمجلس، وكان يُعَدُّ قائد الجماعة اليهودية على المستويين الديني والدنيوي، ولذا كان يُختار أكثر الناس تفقهاً في الدين لهذا المنصب. ولكن، مع بدايات الثورة العلمانية في الغرب، بدأ المنصب يتحول إلى منصب دنيوي، وأصبحت مسئولية الحاخامات مقصورة على الأمور الدينية وحدها حيث تم فصلها عن الأمور الدنيوية، وهو شكل من أشكال علمنة الجيتو. وكان يلي البرناس الجابي أو المحصل، ووظيفته أهم الوظائف بسبب طبيعة الجماعة اليهودية في العصورالوسطى في الغرب كعنصر نافع مالي. وكان الجابي هو الذي يحدد الضرائب ويقوم بجمعها لصالح السلطات الحاكمة. وفي معظم أنحاء أوربا، كان يتبع مؤسسة القهال حاخام لم يكن يُدفَع له راتب حتى القرن الثالث عشر الميلادي. وبعد أن زاد عدد أعضاء الجماعة، تَفرَّغ هذا الحاخام لمهمته وأصبح موظفاً بأجر. وكان الحاخام يقوم أحياناً بدور القاضي الشرعي (ديان)، ولكن كان يوجد في أحيان أخرى قاض متفرغ. وكان للقهال أحياناً شرطته الخاصة التي كانت تتبعه.

ومن الوظائف التي كان يتقاضى صاحبها راتباً وظيفة الشوحيط وهو الذابح الشرعي، والموهيل وهو الذي يقوم بعمليات الختان، والمرتل (حزان) الذي يقوم بالقراءة والإشراف على أداء الصلاة والشعائر المرتبطة بها مثل إخراج لفائف الشريعة من سفينة العهد وإرجاعها. وكان يوجد أحياناً مرتل ثان أو بديل. ومن أهم الشخصيات الأخرى داخل الجيتو الشماس أو حارس المعبد اليهودي الذي كان يقوم بوظائف متعددة إذ كان يشرف على المعبد وينفذ أحكام دار القضاء (بيت دين) أو المحكمة اليهودية، وكانت واجباته هذه تجعله مسئولاً عن جمع معلومات تفصيلية عن اليهود فأصبح سيداً للجماعة التي كانت تخاف إرهابه وسيفه المصلت. وكانت الحلقات التلمودية (يشيفا) ترسل المشولاه (الوكيل) ليجمع التبرعات لها من الجماعات اليهودية المختلفة.

ومن الوظائف الأخرى داخل الجيتو، الواعظ المتجول (مجيد) الذي كان يعيش على هبات المستمعين وينتقل من جيتو إلى آخر، والشادخان وهي الخاطبة التي ترتب الزيجات. وظهرت نماذج إنسانية أصبحت مألوفة لدى يهود الجيتو مثل الشنورر أو الشحات الوقح المتسول والتساديك أو الرجل التقي والبتلانيم أو العاطل الذي يعيش من لا شيء، ويتسكع بجوار المعبد ليبتز المصلين حين لا يكتمل النصاب اللازم للصلاة.

وقد يكون من المفيد أن ننظر إلى البناء الوظيفي للجيتو من الداخل ثم إلى علاقته بالعالم الخارجي. أما الأعمال التي كان يقوم بها يهود الجيتو فتنقسـم إلى قسـمين: الأعمال التي تفيـد الجماعة اليهودية وحدها، وتلك التي كانت تلبي حاجات خاصة بالجماعة اليهودية ولكنها يمكن أن تفيد الأغيار في الوقت نفسه. وتضم المجموعة الأولى الحاخامات والمدرسين ومن يقومون بأعمال الذبح والشعائر وكتبة لفائف الشريعة وموظفي الحمام الطقوسي وحراس المعابد والمدافن. أما المجموعة الثانية فتضم الجزارين وصانعي الشموع وتجار الكتب وناسجي شال الصلاة (طاليت). وقد بلغت العمالة المخصصة للخدمات الداخلية لمجتمع الجيتو نحو 10% من مجموع العمالة اليهودية.

وكانت تُوجَد مؤسسات أخرى في الجيتو تتبع القهال، مثل: المقبرة لدفن موتى أعضاء الجماعة، وحمام عام، وحمام طقوسي، وأحياناً منزل للفقراء والعجزة ونظام تعليمي يضم المدارس الأولية الخيرية (تلمود تورا) والمدارس التلمودية العليا (يشيفاه). وكانت تُوجَد أحياناً فرق مسرحية للترفيه عن سكان الجيتو. ولكن أهم المؤسسات على الإطلاق كان المعبد، فهو بيت العبادة والدراسة والاجتماع.

وكانت علاقة اليهودي بعالم الأغيار علاقة موضوعية مجردة، فهذا العالم كان يمثل بالنسبة إليه قيمة استعمالية وحسب، ومن ثم فهو عالم خال من الحب والعواطف والطمأنينة والأمن. أما في داخل الجيتو، فهو يجد كل ما كان يفتقده. كما أنه كان يمارس في الجيتو شعائر اليهودية بكل حرفيتها دون حرج، ويمتنع عن العمل يوم السبت، ويعيش داخل شبكة من العلاقات الإنسانية الدافئة القوية التي ازدادت قوة مع ازدياد حدة الصراع مع الأغيار. ويرى بعض دارسي الجيتو أن الأشكال الثقافية التي كانت سائدة فيه، سواء كانت الثقافة شعبية متمثلة في الرقص والغناء أو كلاسيكية متمثلة في الدراسات الدينية والفقهية، كانت تتسم بكثير من الثراء، وأنها بطبيعة الحال كانت مستمدة من ثقافة عالم الأغيار. ولكن ما يهمنا تأكيده هنا هو أن اليهودي داخل الجيتو كان يتصور أن هذه الأشكال الثقافية يهودية خالصة وتتسم بخصوصية يهودية. ولذا، فقد كانت ثقته بنفسه تزداد ويزداد إحساسه بهويته الوهمية، وفي نهاية الأمر عزلته عن العالم.

وكان اليهودي يتلقى داخل الجيتو التأكيدات بأنه ينتمي إلى الشعب المقدَّس والشعب المختار وأن الجيتو ليس إلا وجوداً مؤقتاً يحفظ فيه الإله الأمة وروحها إلى أن يحين الحين ويشاء إعادة شعبه إلى أرضه المقدَّسة وحريته الكاملة. وفكرة الوجود المؤقت فكرة أساسية في تفكير الجماعات الوظيفية الوسيطة، فهي دائماً تنتمي إلى «بلد أصلي» جاءت منه وستعود إليه في نهاية الأمر. ومما عمَّق هذه الأفكار أن التراث القبَّالي الحلولي، ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، وضع اليهود في موضع مركز العالم. فكان اليهودي يعلم أنه حينما يمتنع عن العمل يوم السبت فإنه يُعجِّل في واقع الأمر بمقدم الماشيَّح ليخلص العالم ويسود الشعب اليهودي. بل تصبح كل المعاناة والآلام التي يتحملها اليهودي خارج الجيتو من علامات الاختيار والتميز، وكلما زاد الاضطهاد زادت الساعة اقتراباً.

والواقع أن الجيتو مؤسسة تهدف، كما أسلفنا، إلى خلق مسـافة بين أعضـاء الجماعة والأغلبية للتقليل من الاحتكاك والصراع بينهم، لكن قدراً من الصراع والاحتكاك يسم الوجود الإنساني بالطبع، وإن كان هذا القدر يتفاوت في حدته وكميته بتفاوت الزمان والمكان. وكانت الصراعات التي يواجهها الجيتو تدور على ثلاثة مستويات:

1 ـ الصراع داخل الجيتو بين الطبقات والفئات المختلفة:

كانت تُوجَد داخل الجيتو طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة، فكان هناك الغني والفقير والمستغل والمستغَل. غير أن الطبيعة المغلقة لهذا البناء الاقتصادي ووظيفية الجماعة اليهودية فرضت تَداخُل الطبقات والفئات كافة. كما زاد نظام الضرائب في المجتمعات الأوربية هذا التداخل إذ كانت الضريبة تُفرَض في كثير من الأحيان على الجماعة ككل سواء كانت جماعة دينية اقتصادية مثل اليهود أو جماعة اقتصادية ذات طابع ديني مثل نقابات الحرفيين. وحيث إن فقراء الجيتو كانوا غير قادرين على دفع الضرائب، فإن الأثرياء كانوا يقومون بدفعها كلها نيابة عن الجماعة، فتحولوا بذلك إلى أرستقراطية ذات ثقل كبير فرضت هيمنتها على اليهود. وقد انعكس هذا الوضع على التنظيم الاجتماعي للجيتو، فكانت الجماعة اليهودية تقوم برعاية مصالح سائر أعضائها بصرف النظر عن انتمائهم الطبقي أو الفئوي.

2 ـ الصراع بين الجيتو الواحد والجيتوات الأخرى:

كان كل جيتو حريصاً على الاحتفاظ باستقلاله والدفاع عن مصالحه تجاه الجيتوات الأخرى، إذ كانوا يتنافسون فيما بينهم في المجالات نفسها ومن أجل المزايا نفسها التي يحصلون عليها من خلال المواثيق. ومن هنا كان لكل جيتو حق حظر الاستيطان (حيريم ها يشوف)، وهو حق منع أي يهودي آخر من القدوم إلى الجيتو والإقامة فيه إلا بإذن خاص ولمدة محددة ونظير أجر معيَّن.

3 ـ علاقة الجيتو بمجتمع الأغلبية:

أما من ناحية علاقة الجيتو بالمجتمع الخارجي، فإن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكن في صفوفهم بعض الطبقات الاجتماعية مثل: الملوك والأمراء والنبلاء والأشراف والفلاحين. ولهذا، لم تكن هناك مشكلة منافسة اقتصادية حادة بينهم وبين اليهود. أما علاقة اليهود بالتجار والحرفيين وصغار النبلاء فكانت علاقة منافسة قوية، ولذلك نجد أن المحرِّضين على الثورات ضد أعضاء الجماعات اليهودية كانوا بالدرجة الأولى من بين صفوف هذه الجماعات، كما كان طرد اليهود ككل يتم تحت ضغط هذه الطبقات والفئات الاجتماعية. ولكن هذا لم يمنع وجود احتكاكات شديدة في بعض الأحيان بين أعضاء الجماعات اليهودية وصغار النبلاء والفلاحين.

هذه هي البنية الأساسية للجيتو، وهي دون شك ذات قدر كبير من التجريد ولكنه تجريد يبسط الواقع بعض الشيء حتى يتسنى فهمه. وقد ظل الجيتو قائماً كمؤسسة تقوم بدور حيوي من حيث هو بنيان اقتصادي اجتماعي يوفر لأعضاء الجماعات اليهودية الاستقلال كجماعة وظيفية وسيطة لها مصالحها ومشاكلها الاقتصادية ولها هويتها الدينية والإثنية المستقلة.

ولكن، بالتحول التدريجي للمجتمع الإقطاعي ابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي، وبظهور أنماط الرأسمالية التجارية المحلية التي اضطلعت بالتجارة الدولية، بدأ اليهود يفقدون دورهم الاقتصادي، وانهار مركزهم عبر القرون من تجار دوليين إلى مرابين ثم أخيراً إلى مرابين صغار يقومون بإقراض كميات صغيرة من النقود للمواطنين العاديين الذين كانوا يرهنون ممتلكاتهم الخاصة ويدفعون فوائد باهظة. وحينما كان المدين يعجز عن الدفع، تصبح السلعة المرهونة ملكاً للمرابي الذي كان يسلمها للشخصية الأساسية الثانية في الجيتو (أي التاجر المتجول). وإلى جانب هذا، ظل أعضاء الجماعات اليهودية يقومون بأعمال خفيفة، مثل: التطريز وحياكة الملابس والحلاقة.

وتَسبَّب الانهيار التدريجي للأساس الاقتصادي للجيتو في انهيار تدريجي معنوي وأخلاقي. ولكن ينبغي هنا أن نميِّز بين جيتوات أوربا والعالم الجديد من جهة، وجيتوات يهود اليديشية في شرق أوربا ووسطها وفي الألزاس واللورين من جهة أخرى. ففي هولندا، أخذت أحوال اليهود في التحسن ولم تُفرَض عليهم قيود شديدة عند استقرار يهود المارانو بها.والوضع نفسه في بوردو وبايون في فرنسا حيث كانتا تضمان جمـاعتين سـفارديتين. وحينما اسـتوطن اليهـود في العالم الجديد، فإنهم لم يُوطَنوا في أحياء خاصة بهم،ومما سهل هذا أن هذه بلاد لم تكن ذات كثافة سكانية يهودية كبيرة.

ولكن الوضع كان على عكس ذلك تماماً في شرق أوربا ووسطها حيث تضاعف عدد اليهود في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، الأمر الذي أدَّى إلى ازدحام الجيتوات. ومما زاد الطين بلة أن الأرض المصرح ببناء منازلهم عليها كانت محدودة حتى اضطروا في غالب الأمر إلى الاتساع الرأسي. ومن هنا كانت عمائر الجيتو متلاصقة، كما كانت تتميَّز بارتفاعاتها التي تفوق عمائر المدينة. وتَسبَّب ارتفاع العمائر وتَلاصُقها إلى حجب الشمس عن حارات الجيتوات، فأصبحت لذلك رطبة وغير صحية كما أصبحت أماكن شديدة القذارة تنتعش فيها الأمراض وتتراكم القاذورات (ومع هذا لنا أن نلاحظ أن كثيراً من الأحياء في مدن أوربا في القرن التاسع عشر لم تكن تختلف كثيراً عن جيتوات أعضاء الجماعات اليهودية).

وقد ترك الانحطاط الاقتصادي والمعماري للجيتو أثراً عميقاً في وجدان يهود شرق أوربا ووسطها القاطنين فيه، وعمق انفصالهم عن العالم الخارجي. وقَدم عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني، ثم عصر الاستنارة في أوربا، واليهود داخل أسوار الجيتو الاقتصادية والوجدانية، فكان معظم أعضاء الجماعات اليهودية من يهود شرق أوربا معزولين عن الثقافة العامة لا يدرسون إلا التوراة والتلمود والمدراش، ولا يقتربون البتة من تاريخ الأغيار، إذ كان كل ما يعنيهم هو تاريخ اليهود كما جاء في كتب اليهود المقدَّسة.

وكانت الجيتوات التي أفرزت الصهيونية، والتي تهمنا أكثر من غيرها، موجودة أساساً في شرق ووسط أوربا. وقد لخص ديفيد فرايدلندر المقدَّرات الفكرية لطالب المدرسة التلمودية العليا أو مثقف الجيتو في القرن التاسع عشر الميلادي على النحو التالي: كان في إمكان مثل هذا الطالب أن يفتي إن كان من الواجب رجم أو حرق ابنة الحاخام الزانية، ولكنه في الوقت نفسه كان لا يعلم شيئاً عن تاريخ البلد الذي يعيش فيه.

وكان جهل الحاخامات، وهم القيادة الثقافية للجماعة، مزرياً جداً، إذ كانوا لا يعرفون أكثر من أن اتجاه القدس هو نحو الشرق وحسب، كما ورد في بعض الكتب الدينية. ولذا، كان حاخامات بولندا يخطئون في تحديد اتجاه القدس فيتجهون شرقاً. وكانت القدس، في الواقع، تقع نحو الجنوب (بالنسبة إلى موقعهم). وحينما نُشر أول كتاب في الجغرافيا بالعبرية عام 1803، اشتكى المؤلف من أن كثيراً من الحاخامات لا يزالون ينكـرون وجود أمريكا.

وسـاهم الوضع اللغوي ليـهود شـرق أوربا في زيادة عزلتهم وتخلفهم. فلم تكن قيادتهم الثقافية تعرف أياً من اللغات الأوربية الحية، مثل الألمانية أو الروسية، معرفة كافية. وإن تصادف وعرفوا إحدى هذه اللغات، بحكم وجودهم الفعلي في البلد، فإنهم كانوا يجهلون التراث الثقافي لهذا البلد. وكانت اللغات المعروفة في الجيتو هي العبرية لغة العبادة، والآرامية لغة التلمود والقانون، وهما لغتا النخبة الثقافية. أما لغة الشارع فكانت اليديشية، وهي لغة الحديث اليومي بين اليهود.

الجيتويــة
Ghettoism
«الجيتوية» هي طريقة التفكير التي أفرزها وضع أعضاء الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية وسيطة في الحضارة الغربية على مدى مئات السنين. وبإمكان القارئ أن يعود إلى المجلد الخامس (الصهيونية) لدراسة الجانب الجيتوي في الفكر الصهيوني الغربي اليهودي وغير اليهودي.

  • الثلاثاء PM 05:26
    2021-04-20
  • 1083
Powered by: GateGold