المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413684
يتصفح الموقع حاليا : 205

البحث

البحث

عرض المادة

ما المعالم الأولى للدولة الإسلامية؟

الناس ترهب الحكم الديني لأمرين: الأول أنه قد يحرج مخالفيه في العقيدة، ويضيق عليهم الخناق، ويعدهم – بلغة العصر – مواطنين من الدرجة الثانية!

 

وهذا التصرف منفي نفياً تاماً في الدولة الإسلامية، إذ أن الإسلام يجعل المواطنين المخالفين في المعتقد في ذمته وعهده وشرفه! يوفر لهم الحماية المادية والأدبية على نحو لم تعرفه ولن تعرفه دولة أخرى.

 

وهذا سر بقاء الطوائف الدينية المخالفة بين ظهراني المسلمين دون حرج أو عنت، على حين فنت القلة الإسلامية أو اعتلت تحت سلطان العقائد الأخرى..

 

والمحذور الثاني من الحكم الديني أن الخليفة، أو الرئيس يمنح ميزات روحية وغيبية غامضة، وكأنه ممثل لله على ظهر الأرض، فله ما يشبه القداسة أو العصمة!

 

وهذا المعنى منكور ومرفوض في الدولة الإسلامية، فالحاكم واحد من الناس، غير أنه أثقلهم حملاً، وأشدهم مسئولية، وهو يخطيء وينتظر التصويب من غيره، ويضعف وحده إلا أن يقوى بمظاهريه من أولي الألباب وذوي الغيرة..

 

وقد رأينا في الخلافة الراشدة كيف يقترب الخليفة من الناس ويلتمس النصح والعون، وكيف ينفر من مظاهر العظمة الفارغة، ويرى الخيلاء جريمة، والتواضع تقوى..

 

وأول معالم الدولة الإسلامية الشورى وطلب الصواب عند أهله، والانصياع للحق إذا ظهر وتوفير الجو الذي يحق الحق ويبطل الباطل..

 

والشورى خلق إنساني رفيع، محمود في المجتمعات قديمها وحديثها، ومعروف في نظم الحكم من قديم، وإن خرج عليه كثيرون، وتمرد عليه مستبدون.

 

يقول الحسن: الناس ثلاثة: رجل رجل، ورجل نصف رجل، ورجل لا رجل! فالرجل الرجل من له رأي ومشورة، والرجل نصف الرجل من له رأي ولا مشورة له، والثالث من لا رأي له ولا مشورة!

 

روى البغوي عن عائشة قال: ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم! وهو بداهة إنما يستشيرهم في شئون الدنيا، والمصالح العامة، مما لم ينزل فيه وحي..

 

وقد استشار المسلمين في معارك بدر، وأحد، والخندق، ونزل على رأيهم.

 

وروى أحمد بن حنبل في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "لَوْ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا".

 

وروى ابن بردويه عن علي بن أبي طالب: سئل رسول الله عن العزم – يعني قوله تعالى :{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ} [آل عمران: 159]. فقال: "مشاوة أهل الرأي ثم اتباعهم"!! والغريب أن أحد المفسرين شرح الآية فقال: تستشير ثم تمضي على الأرشد لا على الشورى، أي تخالف الشورى وتتبع رأيك أنت ويخيل إلى أن عصا حاكم مستبد كانت فوق رأس هذا المفسر المضطرب، فقال لإرضاء الحاكم ما قال!!..

 

إن الله تبارك وتعالى وصف المسلمين بهذه الكلمة {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وهو قول فصل، ليس بالهزل! فكيف يجيء أحد بعد ذلك ليقول: يمضي الحاكم على رأيه متجاهلاً ثمرة الشورى، فلم كان طلبها من قبل؟

 

ثم إن تنفيذ المباديء المقررة يتخذ على امتداد الزمان شتى الصور، فالعلم فريضة، وتطوع الناس بطلبه في بعض المساجد أو المدراس كان الصورة المألوفة في مجتمع ساذج، أما اليوم فقد جندت الأجيال له، ونسقت مراحله ومعاهده، ويستحيل ترك التعليم للتطوع الفردي!

 

والجهاد فريضة، وكانت صيحة شجاعة تجمع الشبان والشيب للانطلاق إلى ميادينه وخوض معاركه، فهل تفعل الأمم ذلك الآن؟ أم تجعل للجيش كياناً دائماً، وتجعل للالتحاق به سناً معينة، وترصد لتدريبه وتموينه وتسليحه الألوف المؤلفة؟..

 

كذلك الشورى إنها مبدأ مقرر، وفريضة محكمة، ولابد من إنشاء أجهزتها، وإمدادها بأنواع الخبرة، وتنظيم إشرافها على شئون الدولة، وتمكينها من تقليم أظافر الاستبداد الفردي، وضمان مصالح الجماهير!

 

ومحاولة استبقاء الشورى فكرة ساذجة، أو جعلها نافلة عارضة، كذب على الدين وخيانة له، ورغبة في إرضاء حاكم متسلط على حساب الإسلام وأمته، ولم يخل جيل من أناس يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، وقديماً قال الشاعر دجال، لحاكم مستبد:

    ما شئت لا ما شاءت الأقدار                فاحكم فأنت الواحد القهار!!

 

كيف يقال هذا، مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا لَا يَفُكُّهُ إِلَّا الْعَدْلُ أَوْ يُوبِقُهُ الْجَوْرُ، وإن كان مسيئاً زيد غلا إلى غله".

 

إن واحداً من الخلفاء الراشدين لا يمدح بهذه الكلمات الحمقاء، فكيف بغيرهم من حكام الجور؟..

 

ومن الذي أعطى الحاكم مهما علا شأنه حق الاعتراض على رأي الجماعة أو رأي الكثرة، فإذا رفع يده رافضاً سكت الناطق، وحم القضاء؟ وما قيمة {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} مع هذا الحق؟

 

إن أجهزة الشورى المنظمة، المحترمة الملزمة هي التي تحفظ حدود الله، وهي التي تأخذ على أيدي الظلمة وتقي الأمة شرهم، وتنفذ قول الرسول الكريم: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ".

 

وقد حكم التاريخ الإسلامي قريب من مائة خليفة من بضع أسر تعد على أصابع اليد! أكدت سيرتهم حاجة المسلمين الماسة إلى أدق أجهزة الشورى، وأشدها محاسبة لولاة الأمور..

 

ومن معالم الدولة في الإسلام حفاظها الشديد على حقوق الإنسان المادية والأدبية، وتوفير الأمن للأفراد والجماعات، والترهيب من إيذاء أحد أو ترويعه! وجعل الدماء والأموال والأعراض في مثل حرمة البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام أو أشد!. وإقرار العدل مع المؤيد والمعارض والقريب والغريب والغني والفقير، وتهديد الأمة جمعاء بالهلاك إن هي تبعت الهوى، واستمرأت الفساد {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍۢ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].

 

ولما كانت للسلطة ضراوة كضراوة الخمر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام حذر الحكام من الميل مع الهوى فقال: "صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق" والغلول الاختلاس من المال العام.

 

والغريب أن الفساد السياسي والاستغلال الشخصي لا يفترقان، فقلما تجد مستبداً إلا سارقاً لمال الأمة، متخوضاً فيه بغير حق، هو وأقاربه وأتباعه!!

 

ومن هنا نفهم ما رواه ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ له: "اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ".

 

ويستوي أن يكون المظلوم مسلماً أو غير مسلم كما جاء ذلك مصرحاً به في روايات أخرى..

 

ولممالأة الحاكم إغراء! وكما يتساقط الذباب على الحلوى، يتهاون الطامعون عند أصحاب السلطة، ولا يحتاج ذلك إلى دليل! وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عواقب هذم المسالك، فقال: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ".. ولم يذكر النبي جزاءه؛ لأنه معروف، ثم رأى أن يذكر جزاء مؤيدي الباطل وأذناب المفسدين فقال: "تَكُونُ أُمَرَاءُ تَغْشَاهُمْ غَوَاشٍ أَوْ حَوَاشٍ مِنْ النَّاسِ يَظْلِمُونَ وَيَكْذِبُونَ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلم يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلم يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ". وفي رواية أخرى: "فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكِذْبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ  فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وهو مني بريء"! والروايات كثيرة في هذا الموضوع الحساس في حياتنا وتاريخنا.

 

ولعل ذلك سر الخصومة الممتدة بين أئمة الفقه الإسلامي وبين جمهرة الحكام الذين تسموا خلفاء، وهم ملوك من شرار الملوك!!

 

وقد كانت جماهير الأمة تعرف عدالة الفقيه بقدر قربه أو بعده من باب السلطان وما ذلك إلا لشعورها العميق بأن هؤلاء السلاطين قطاع طريق، لا خلفاء راشدون!..

 

أما رئيس الدولة – أو الخليفة الصالح – الوفي للأمة ورسالتها فإن محبته عبادة، وتوقيره دين، وتأييده واجب على جمهور المؤمنين! أليس الساهر على مصالحهم الناهض بأعبائهم؟ أليس الحامل للراية القائد للجهاد؟

 

لقد جاء في السنن أنه أول السبعة الذين يظلمهم الله يوم لا ظل إلا ظله!!.. كما جاء عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الناس عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ عَادِلٌ رقيق، وشر عباد اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ جَائِرٌ خرق" – أحمق!

 

  • الخميس AM 09:30
    2022-03-24
  • 868
Powered by: GateGold