ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
ما موقف الإسلام من الحضارة المعاصرة؟ وهل يمكن القول بأن للإسلام حضارة خاصة يدعو إليها؟
هناك جوانب في الحضارة الحديثة جديرة بالاحترام كله، بل أعتقد أنها امتداد أو انطلاق من الفكر المتحرر الراشد الباحث عن الحق، الحفي بالمعرفة، المستغل لأثمن مواهب الإنسان..
إن الوصول إلى اليقين في قضية حسية أو عقلية ليس شيئاً رخيصاً، إنه ثمرة غالية لأعلى مواهب البشر بل هو الاستجابة الوحيدة لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا} [الإسراء: 36].
وهو كذلك البعد المطلوب عن نهج المنحرفين والواهين والقاصرين الذين قيل فيهم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ ۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔا} [النجم: 28].
والحضارة الحديثة نجحت في ميدان البحث المادي، وتعمقت في الدراسات الكونية كلها، وهذا النجاح – في رأيي – يجعلها أقرب إلى منطق القرآن الكريم، وأدنى إلي منهجه، فإن التفكر في الكون أرضه وسمائه وما بينهما، مطلب إلهي لا ريب فيه..
والمسلمون يحملون أوزار التخلف في هذا المجال، وقد دفعوا ثمنه فادحاً، وأرى أنه من عصيان الله، والفسوق عن أمره الانشغال بالجدل العقيم، وفلسفة ما وراء المادة، وتشقيق الخلاف وتكثيره في شئون يستوي فيها العلم والجهل..
إن الحضارة الحديثة اكتشفت كثيراً من قوى الكون وأسراره ولها الأن حصيلة كبيرة في علوم الذرة والفضاء و "الإلكترونيات" و "الكمبيوتر" وقد نقلت آثار ذلك إلى تفوق مدني وعسكري في البر والبحر والجو..
ومع هذا السبق البعيد، فإن الحضارة الحديثة لا تزال واقفة عند العصر الحجري في ضبط الغرائز، وترويض الحيوان الرابض داخل الجسم البشري، وكبح الأثرة المعسورة، وجعل المرء يحب غيره ويغار على حقوقه، أو على الأقل يعدل مع غيره ويعترف له بحقوقه طوعاً ولا كرهاً!!..
وقبل ذلك فشلت هذا الحضارة في التعرف على رب العالمين، وتأسيس علاقة صحيحة معه تقوم على توقيره وتقدير نعمته والشعور بعظمته والتسبيح بحمده والتعويل عليه في الأزمات والاطمئنان إليه في المخاوف.
إن الإنسان مهما قوي بالعلم لن يكون إلهاَ، وسيبقى ما عاش فقيراً إلى سيده لا يحس طمأنينة إلا في السجود بين يديه، واستلهامه الرشد..
لكن من أين تطرق الخلل إلى هذه الحضارة حتى إنه ليهدد مستقبلها؟..
قد يكون الجواب: من غرور الماديين بما وصلوا إليه، واستهانتهم بما قصروا فيه.. والغرور بالعلم داء قديم، وقد حدثنا القرآن الكريم أن أمماً عمرت هذه الأرض قبلنا، وأقامت بها مدنيات فخمة، وأنها انتشت بما تيسر لها من لذة وسخرت مما قدم من نصح، فماذا كانت عقباها؟ {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ} [غافر: 83].
والاعتزاز بالتقدم العلمي مرض مخوف، بيد أني لا أرد إليه وحده عوج هذه الحضارة!..
السبب الأول ناشيء – فيما أرى – من خيانة أهل الأديان لرسالات الله، فالاسترخاء العقلي السيئ عند المسلمين، والغش الممجوج عند إخوانهم أهل الكتاب، ومن وراء هذا البلاء!.
أهل الكتاب قدموا من عند أنفسهم تعاليم نسبوها إلى الله، ضاق بها العقل، وتبرمت بها الفطرة نشب العراك بين العلم والدين، كانت النتائج المعروفة، ألحد العلم وساء ظنه بالوحي كله..
وأما المسلمون فقد أوغلوا في البعد عن دينهم حتى أمسوا في واد ودينهم في واد آخر!..
التفكير الذي هو فريضة عليهم حسب وصية الكتاب تحول إلى تقليد وجمود وإذا عرض له نشاط ففي ما وراء المادة لا في المادة نفسها كما شكونا مراراً.
ومفاخر الحياة الإسلامية الأولى تلاشت، فإذا قال شوقي:
فالدين يسر، والخلافة بيعة الأمر شورى، والحقوق قضاء!
وجدت التاريخ في أعصر شتى يؤكد أن الأمر استبداد، والخلافة اغتصاب ويسر الشريعة رياء وتعقيد، والحقوق دعاوي "من الناب والظفر برهانها"!..
على حين ظهرت الحضارة الحديثة بأساليب ثقافية وإدارية أدنى إلى الفطرة والشورى والاختيار الحر وإن شابها ما لابسها من هوى جامح وإسراف كثير..
وصلاح الحياة لا يتم بهدم الباطل؛ لأن الباطل جدير بالزوال! كلا، لابد أن يكون الحق تام الاستعداد ليحل محله، ويؤدي عمله بقدرة أعظم وأشرف..
وأعترف بأن المسلمين لم يستكملوا هذه الخصائص، ولا هم اليوم أهل لتلك القيادة..
الحضارة الحديثة نسيت الله كل النسيان، ولم تأخذ أي أهبة للقائه، إنها تعبد اليوم الحاضر، وتجحد ما وراءه، وتعبد الجسد وتغالي بمطالبه وحدها..
ونحن باسم الإسلام نقاوم هذا الاتجاه الزائغ، ونرفضه جملة وتفصيلاً..
أما الاقتدار العلمي، وتسخيره لتنعيم الإنسان وتكريمه فنحن معجبون به، كذلك نحن معجبون بالقدرة التنظيمية التي جعلت الإدارة فناً رفيع المستوى، وأبدعت أساليب لمنع الطغيان الفردي والهوان السياسي، وإن كان الغربيون جعلوا هذه الثمار حكراً على الرجل الأبيض..
ولا أستحي من أن أسائل نفسي وقومي: أين كنا حين استخرج الأوربيون النفط من أرضنا؟ ماذا كنا نصنع؟ وأيه ثقافة كانت تملأ أدمغتنا؟..
أؤكد، وأنا من علماء الدين، أن الصحابة تجهل تسعة أعشار الفكر الديني الذي شغلنا ونمنا فيه وصحونا عليه!..
وأوكد أن نظم الحكم في بلادنا كانت أشبه بنظم الحكم في فارس والروم على عهد سلفنا الفاتح العادل الذكي..
وأؤكد أن اللغة العربية في الجاهلية الأولى كانت أضوأ وأنصع منها في الأعصار النكدة الأخيرة..
إن مجددي الإسلام بذلوا جهوداً جبارة ليعود إلينا الوعي الغائب! ومن عجب أن البعض الأن يفتح فمه لسبهم، وينتقص أقدارهم، إننا لم نستشف – بعد – من عللنا..
وقد مضت حضارة الغرب في طريقها لا يثنيها شيء، غير أن الاستغراق في الدنيا لا يحقق الخير لا للفرد ولا للمجتمع، وقد كرع "أبو نواس" من اللذة حتى آخر قطرة، ثم استيقظ من سكرته يقول:
إذا عرف الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق!.
وكذلك يفعل الخراب الروحي، وخواء الإيمان بأوربا وأمريكا، إن الجماهير تشعر بالقلق والضيق، ولأثبت هنا كلمة للأديب الكبير الأستاذ أحمد بهجت كتبها وهو يزور "لندن" يصور أثر هذه الحضارة: قال: "عيون الناس هنا ملونة، وبشرتهم كشمع مسقى بالدم، وابتساماتهم حاضرة وجاهزة لكل نظرة وأي سؤال.. رغم ذلك، ثمة طيف غامض من الكآبة يلوح وراء ألوان العيون والبشرة، ويتبدى في هذا الصمت الذي يغرقون فيه حين يركبون المترو أو الأتوبيس..
هنا لا حد لجمال الناس، ولكنه جمال يشبه جمال الجزر المنعزلة في المحيط، إن صفحة المياه الزرقاء تمتد بصمتها الفاجع وتحيط بالجزر من جميع الجهات..
رغم العزلة المرشحة ينهض الجمال، ويكتسب الجمال شحوبه من العزلة النفسية، حتى لتعكس أغوار العيون قلقاً يبدو وسط يسر الحياة وسهولتها مثل حزن غير مفهوم في عرس من أعراس الحياة..
بالنسبة لكيثر من الشرقيين تبدو لندن عاصمة مبهجة في الصيف، هي سوق عظيمة للمرح والمتعة والجمال والثياب واللهو والحرية. كيف تفسر إذن هذا البحث الذي قامت به إحدى شركات البحوث. وقالت نتائجه: إن مليون بريطاني يعانون من اكتئاب نفسي، وإن من المحتمل أن يقدم ثلث هذا العدد على الانتحار بسبب الكآبة.. كيف تفسر أن معظم المصابين بالاكتئاب من النساء..
استبعد البحث مشكلة البطالة كسبب رئيسي للكآبة.. وأشار إلى المشاكل الزوجية والمنزلية والإنسانية..
عاودت النظر في وجوه الناس..
أهؤلاء مكتئبون..
إن النظرة السريعة تقول إن الناس تعيش وسط نعيم مقيم في لندن.. كل شيء ميسر.. لا صوت للشوارع ولا صوت للناس، وكل ما تريده موجود وحاضر، هناك مكان في الأتوبيس والمترو والتاكسي والقطار، ليست في الحياة اليومية معاناة كالحياة اليومية في مدن العالم الثالث أو الشرق..
إن المدنية الحديثة توفر للناس جهدهم الإنساني وتقوم عنهم بأداء كثير مما كان يقتضي جهداً بدنياً أو عضلياً..
والخدمات أكثر من الحاجة إليها. والعرض أكثر من الطلب، والتليفون لا يستعصي عليك, ولا يتكلم معك في الخط أحد.. لماذا يكتئب الناس إذن وحياتهم تمضي بهذه النعومة والكفاءة.
إن الحضارة الغربية تكشف هنا عن أحد أسرار الحياة.. إن للتخلف مشاكله وللتقدم مشاكله..
وليست مشاكل التقدم بأخف في الميزان من مشاكل التخلف، هنا توفر الحياة للناس وقتاً يفكرون فيه في حياتهم وهدف هذه الحياة ومصيرهم بعدها..
وهنا يحس الناس بالوحدة القاسية رغم كل مبهجات العيش..
إن الوضع الصحيح الوحيد للإنسان أن يكون تابعاً لله لا مستقلاً بنفسه، وأن يسترشد بوحيه لا أن يغتر بفلسفته الخاصة..
ما أضعف الإنسان إذا لم تسنده قوة ربه.. وما أشقاه حين يحرم بركته..
-
الخميس AM 10:58
2022-03-24 - 1771