المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412391
يتصفح الموقع حاليا : 342

البحث

البحث

عرض المادة

ما أهمية القصص في القرآن، وهل لها أصل تاريخي، وما الحكمة في تكرارها؟؟

لابد من دراسة الماضي والتفرس في أحداثه، فإن هذه الأحداث ليست ملكاً لأصحابها، وإنما هي ملك الإنسانية جميعاً، يدرسها الخلف ليستفيدوا منها العبر، ويستخلصوا منها النتائج، ويضعوها نصب أعينهم وهم يحططون للحاضر والمستقبل على سواء...

 

وظاهر أن سير الأفراد والأمم يخضع لسنن دقيقة، وإن أزدهار الحضارات وانطفاءها، وبقاء الدول أو فناءها لا يتم خبط عشواء! وإنما يقع وفق قوانين صارمة! بل إن القوانين الاجتماعية لا تقل عن القوانين العلمية دقة واطراداً، ومن ثم كان تجاهل هذه القوانين وخيم الأثار.

 

وقصص القرآن الكريم جزء من التاريخ المهم، ومعرفتها حصانة للباحثين لا يستغنى عنها ذو لب، قال تعالى: {كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنۢبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ ۚ وَقَدْ ءَاتَيْنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا} [طه:99]. وقد لام  سبحانه الغافلين عن هذا التاريخ وما وعى من مصارع الظلمة وهلاك المفسدين {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَٰكِنِهِمْ ۗ  إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّأُولِى ٱلنُّهَىٰ } [طه: 128] وقال: {تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنۢبَآئِهَا ۚ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ} [الأعراف: 101].

 

وتتشابه القوانين الاجتماعية والقوانين الكونية في عمومها وانطباقها على شتى الأمكنة والأزمنة، فقانون الأجسام الطافية مثلاً يشمل جميع الأنهار والبحار، وانهيار الأمم لشيوع الفوضى والفساد يتناول شتى الأجناس والعصور، وقد هدد الله العرب بالمصير الكالح إذا بقوا على عنادهم ومكرهم {.. وَلَا يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِۦ ۚ  فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلْأَوَّلِينَ ۚ  فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].

وسنن الله الكونية لا تحابي أحداً، وكذلك سننه التاريخية والحضارية، وهي منطبقة على المؤمنين والكافرين دون استثناء، وقد وقعت محنة أحد لأن المسلمين لم يلتزموا النصر، بيد أن الهزيمة الطارئة لن تغير مستقبل الضلال، وإن واتته مؤقتاً ظروف مساعدة. قال تعالى {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ} [آل عمران: 137-140].

 

وقد تضمن القرآن الكريم عدة قوانين اجتماعية وعمرانية حاسمة ساقها في تضاعيف القصص التي ذكرها أو في خواتيمها مثل قوله سبحانه: {تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وقوله: {إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] وقوله: {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَٰطِلَ ۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلْأَرْضِ} [الرعد: 17]... إلخ.

 

إن القصص القرآني سرد واع موجه للتاريخ الإنساني ليس الغرض منه الإلهاء والتشويق! بل الغرض منه التربية والتوعية، وتجديد المعاني بعد انتهاء أهلها لتكون عظة دائمة!!

 

وقد شاع أدب القصة في عصرنا شيوعاً يستحق الدهشة، وامتلأت الأيدي بروايات يقرؤها حاملوها ليقطعوا الوقت أو يلتذوا بحسن العرض! وجملة هذه الروايات من نسج الخيال، وقد تكون ذات مغزى جيد، وقد تكون إثارة وضيعة.

 

والبون شاسع بين هذه الأقاصيص، وبين التاريخ الذي يجسده القرآن الكريم ويغزو به الألباب والبصائر ليمحو الغفلة ويرفع المستوى ويضيء السبل، البون بعيد بعيد.

 

 

عندما يقول الله لنيه: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَ ۚ وَجَآءَكَ فِى هَٰذِهِ ٱلْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. فهو يقول ذلك في أعقاب سرد لواقع لا ريب فيه، فقد ذكر في هذه السورة قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى مع أممهم التي ظهرت في عصور متعاقبة، وانتظمتها أدواء التكذيب والمكابرة حتى أهلكتهم أمة بعد أخرى.

 

وهو يحكي ذلك إرهاباً للعرب المستكبرين وتسلية للنبي وتسرية له!، وفي موضع أخر يقول له: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰٓ أَتَٰهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ} [الأنعام: 34]. فأين موضع الخيال في هذه الوقائع؟؟

 

وبعد أن قص الله سبحانه قصة يوسف، وشرح أطوار حياته منذ اختطف إلى أن صار ملك مصر، قال عنه وعن غيره من المرسلين: {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِى ٱلْأَلْبَٰبِ ۗ  مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍۢ...} [يوسف:111] فأين موضع الخيال هنا؟

 

إن اتهام القرآن بأنه يعرض خيالات فنية أو يمزج في سياقه بين الواقع والخيال أتهام لا مساغ له، وهو في نظرنا بلاهة نشأت عن أتباع المستشرقين!

 

والمستشرقون يحسون ما في كتبهم من غثاثة وعوج وبعد عن الحق، ويريدون الإيهام بأن القرآن لا يزيد على غيره! وهذا كذب لا يروج عند عاقل..!!

 

ومعلوم أن القصة واحدة قد تتكرر في عدة سور، غير أن هذا التكرار صوري، فإن كل قصة تختلف عن الأخرى، إما في العناصر الجوهرية التي تتألف منها، أو في طريقة العرض الذي تناسب مقتضيات الأحوال..!

 

فقصة موسى وبني إسرائيل في سورة "غافر" انفردت بالحوار الطويل للرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه، بل هو العنصر البارز فيها.

 

والقصة نفسها في سورة "القصص" انفردت بتفصيل السبب في خروج موسى إلى أرض مدين وزواجه هناك..!

 

والقصة في سورة الكهف انفردت بلقاء موسى مع الخضر هذا اللقاء المثير المستغرب!..

 

والقة في سورة طه انفردت بالحديث عن العصا التي كان موسى يهش بها على غنمه ثم تحولت إلى قوة هائلة في يده كما انفردت بأدعية موسى وإجابة الله له... إلخ.

 

وقد استطال الحديث في سورتي البقرة والأعراف عن قصة بني إسرائيل، ومع ذلك فإن المنهج غير المنهج، والنتائج غير النتائج، وما اتفقت فيه السورتان جاءت صياغته على نحو يلائم البيئة المتغايرة، فالسورة الأولى مدنية والأخرى مكية..

 

وشرح النواحي الفنية والموضوعية في هذه القصة وحدها يحتاج إلى كتاب عن "اليهود في القرآن الكريم" مع ملاحظة أن القرآن ليس كتاباً فنياً في الجغرافيا أو التاريخ، إنه يهتم بالجانب الإنساني والاجتماعي وحسب!

 

والحوار المبثوث في أرجاء كل قصة يساق بحكمة إلى غاية محدودة! خذ مثلاً قصة شعيب مع مدين في سورة الأعراف، لقد جاء فيها هذا الخطاب يناشد فيه شعيب قومه ألا يستبد بهم اللدد في الخصومة، وألا يحملهم النزق على ارتكاب ما لا يليق {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُوا بِٱلَّذِىٓ أُرْسِلْتُ بِهِۦ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَٱصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا ۚ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ} [الأعراف: 87]. أي دعوا الأمر للزمن ولا تتعجلوا العواقب!

 

فماذا كان الجواب؟ {قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِۦ لَنُخْرِجَنَّكَ يَٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا}!! [الأعراف: 88].

 

 

وظاهر أن هذا السياق من قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة، وكأن النبي يقول للعرب المنأوئين له: احذروا مثل هذا المسلك في مصادرة الإيمان ومخاصمة أهله، فعقباه صيحة من السماء تذركم في دياركم هلكى كما حدث لقوم شعيب!! {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۚ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ ٱلْخَٰسِرِينَ} [الأعراف:91-92].

 

ويلفت نظرنا في تكرار أي قصة أن القرآن الكريم يقلب النفس الإنسانية على شتى جوانبها، ويعالجها طوراً بالهدوء وطوراً بالصرامة، طوراً بالشد وطوراً بالرخاء، والغرض أن تترك باطلها وتقبل على هدايات الله..

 

انظر مثلاً إلى قصة هود مع عاد، إنك ترى هوداً في سورة الأعراف بدأ هادئاً طويل الأناة مع ناس أشبه بالثيران الهائجة {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِۦٓ إِنَّا لَنَرَٰكَ فِى سَفَاهَةٍۢ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ}!! [الأعراف: 65-66].

 

فإذا تأملت في القصة نفسها عندما تعرضها سورة هود وجدت النبي الحليم يبدأ مندداً بوثنية قومه وحاسماً في كشف كذبهم على الله ومنذراً بسوء المال إن هم بقوا على جبروتهم {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۚ  قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓ ۖ  إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَٰقَوْمِ لَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ  إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى ٱلَّذِى فَطَرَنِىٓ ۚ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَيَٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}!! [هود: 50-52].

 

وتفسير هذا أن لقاء أي نبي مع قومه لا يقع مرة واحدة، إنه لقاء يبقى عشرات السنين، وما يدور بينهم وبينه من حديث لا يأخذ صورة واحدة، بل يأخذ صوراً كثيرة!

 

 

وحتى لو وقع لقاء واحد – كما حدث لموسى مع السحرة – فإن كل ما دار من حوار لا يثبت في عرض واحد، بل توزيع أجزاء الحوار على ما تقتضيه المناسبات المتفاوتة...

 

ومن ثم كان القصص القرآني مجالاً رحباً لمعالجة النفوس والجماعات من عللها المنوعة بما يلائمها من الدواء الناجع، فسبك القصة ملحوظ فيه نقل ما يفيد الناس من بدء الوحي حتى قيام الساعة!

 

ليس المهم تحديد مولد أو وفاة، ليس المهم تحديد موقع، أو حتى تحديد الشخص! فما يعنينا أن نعرف "هوية" ذي القرنين، أو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى!! المهم تقديم الشفاء النفساني والاجتماعي من خلال تاريخ صادق وقصص حق.

 

  • الخميس AM 09:00
    2022-03-24
  • 1036
Powered by: GateGold