ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
قصة حقيقية معاصرة: سمعتُ شيطانًا
(دروس دعوية من رسالة علمانية)
الكاتبة: فاطمة محب
خاص الحصن
شاب مسلم اسمه "رام"، يحب الموسيقى ويعمل بها، حاد عن صراط الله -سبحانه وتعالى- لمدة أعوام وانقطع عن الصلاة، لكنه لم يكن يومًا ملحدًا ولا لا دينيًّا ولا لا أدريًّا، ولم يتبنَّ أفكارًا علمانية كما حدّث عن نفسه. منذ بضعة أشهر قبل كتابة مقالي هذا، هدى الله –تعالى- عبده "رام" إلى الصلاة لأول مرة بعد 12 عاما من الانقطاع. كتب منشورًا عبر موقع Facebook عبّر فيه عن سعادته وشعوره بهذه اللحظة المميزة، وانتهت ليلته بهدوء لم يكن ليتصوّر أن عاصفةً علمانية خبيثة ستعكّر صفو صبيحتها.
صباح اليوم التالي، أرسلت طبيبة علمانية رسالة صوتية إلى "رام" تصف فيها فعله –الصلاة- بأنه انقلاب على العلمانية وتصف صدمتها من (انتكاسته) بحسب تعبيرها، ثم تتجرأ وتجزم بأن الصلاة من غير الممكن أن تكون فرضًا من الإله لأنها تسبب أمراضًا. نشر "رام" التسجيل الصوتي للطبيبة ووصفها بأنها من شياطين الإنس، وذكر في منشوره حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلّم-: " يأتي علَى النَّاسِ زمانٌ الصَّابرُ فيهِم على دينِهِ كالقابِضِ على الجمرِ" (1)
انتهت القصة، وابتدأت في عقلي الفِكَر. أعدت الاستماع إلى صوت تلك الطبيبة مرة واثنتين وثلاثة، وفي كل مرة أعجب كيف أضمّ إلى خبراتي اليوم أنّي سمعتُ شيطانًا! سمعته بأذني يتحدّث وينكر المعروف ويقبّحه ويأمر بالمنكر ويزيّنه، ويسخر من الاستقامة، ويبغض ما يحبّ الله ويحبّ
---
(1) صحيح الترمذي 2260
(2) رابط الرسالة الصوتية
ما يسخطه –تبارك وتعالى-، ثم امتدّ عجبي ليشمل جرأتها التي لم يسبق
لي رؤيتها وسط الخطاب العلماني المتسم بدسّ السم في العسل، هذه المرة
رأيت سمّا خالصًا في عبوة سوداء قبيحة المنظر كريهة الرائحة كُتِبَ عليها بلون جهنّم: "سمّ".
هل نواجه طفرةً في الخطاب العلماني؟ هل هي حالة فردية استثنائية؟ هل بيننا الكثير من "رام" يقف لاستقامتهم بالمرصاد الكثير من "الطبيبة"؟ هل نؤدي دورنا الداعم للنموذج الأول الرادع للنموذج الثاني؟
فيما يلي مشاركة لبعض خواطري حول تلك القصة، التي أرجو من ورائها النفع لكل مسلم بشكل عام، ولكل مهتم بالدعوة إلى الله بشكل خاص، ولكل محاور بشكل أكثر خصوصية.
١-التجرؤ على الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وشيوعه
في الوقت الذي تتحرج فيه إحدانا من نصح صديقتها التي خلعت الحجاب، ويهمل الأخ ترك أخيه للصلاة، ويتغافل المرؤوس عن كلام كذب منشور على صفحة رئيسه على لسان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حفظًا للعلاقات والمصلحة،
في الوقت ذاته نجد مِن أهل الباطل مَن لا يفوّت فرصة إلا وعبث من خلالها بالثوابت وحاول هدم أصول الإسلام في عقول ونفوس ليس فقط المتشككين بل والموقنين العاصين. قلّما نجد منهم من يخشى الحرج أو الصدّ أو حتى الفضح، بل يفتخرون بذلك إذا حدث ويعتبرونه انتصارًا لأفكارهم ويحيكون منه عباءات بطولاتهم المهلهلة التي يثرثرون حولها هنا وهناك.
وليت الأمر فرديًّا، فالطبيبة ليست إلا أحد بروزات ترس العلمانية الدائر الذي يطلّ علينا بروز مختلف له كل يوم، فهذا طبيب آخر ينكر السنّة على صفحته ذات مئات الآلاف من المتابعين، وهذا إعلامي يشكك في صحة القرآن الكريم ويدّعي أن لا تحريف طال كتاب سماوي في آن واحد، وهذا جاهل يقدّم نفسه باحثًا في التراث ويتفرغ لهدم الثوابت المتفق عليها بإجماع الأمة، وغيرهم الكثير.
فما لأصحاب الحق لا يتعلمون من إصرار أصحاب الباطل واستمراريتهم رغم المعوقات المحتملة؟!
**أهل الحق أولَى بجرأة أهل الباطل وهمّتهم**
٢- التصنيف صناعة علمانية
كم مرة سمعتَ علمانيًّا يغضب عند سؤاله عن دينه ويشهر في وجهك البطاقة المخطوط عليها " لا للتصنيف!" ؟ كم مرة لاحظت إصرار اللا ديننين على إثارة دعاوى حذف خانة "الدين" من بطاقة تحقق الهوية الشخصية لأن فيها تصنيف يضاد المواطنة على حد تعبيرهم؟
في هذه السياقات، نجد التصنيف قبيحًا مذمومًا، ليس لأن القبح صفة له، بل لأن هذا النوع من التصنيف صناعة دينية كما يدّعي هؤلاء، أما في سياق آخر نجد التصنيف ذا صكّ الصناعة اللادينية جميلًا محمودًا. كيف؟
اتهمت الطبيبة "رام" في رسالتها الصوتية بأنه بصلاته انقلب على العلمانية، ولم تكتفِ بتصنيفه "علمانيًّا" سابقًا، بل استطردت بأنه الآن توجّه إلى طريق الإخوان والسلفيين. تصنيفان في عبارة واحدة، بغير دليل واحد، مع نفي الشاب نفسه كليهما وتأكيده أنه لم يكن يومًا علمانيّا، وأنه الآن لا ينتمي لأي فكر أو توجّه أو جماعة، إلا أنه ببساطة كان بعيدًا عن ربه ويرغب في الاتزان بين الصواب والخطأ على حد تعبيره.
هكذا نرى تعريفًا واضحًا للبراجماتية متجسدًا في منهج تلك الطبيبة المدّعية ومَن على شاكلتها، فإذا كان التصنيف خادمًا لفكرتي معضّدا لقضيتي، ما المانع في استخدامه؟
**التصنيف صناعة لادينية وتجارة علمانية بامتياز**
٣-الصلح بين العلمانية والتنمّر
إذا كنت مصريًّا أو عربيًّا من مواليد الثمانينات أو التسعينات، من المؤكّد أنك تعرف ولو شيئًا يسيرًا عن المسلسل التليفزيوني التربويّ الذي قدّمه أحد أهم مشاهير المسرح والذي قدّم من خلاله يوميات أسرة متوسطة وتناول في كل حلقة على مدار 11 جزءًا قيمة أو خُلُقًا أو نصيحة تربوية في إطار اجتماعي كوميدي. إن كنت تعرفه أو لا تعرفه دعنا نتفق فقط على أنّه عمل (تربويّ) .. حسنا، في هذا العمل وتحديدًا في الأجزاء الأربع الأولى، قامت ممثلة بدور (القبيحة) وقام ممثل بدور (الغبيّ) وكان دوراهما من أهم الخطوط الكوميدية الرئيسة للعمل من هذا المنطلق: منطلق صنع المفارقات الكوميدية من السخرية من قُبح إنسانة وغباء إنسان.
لا عجب في هذا، فالشاشات والمسارح مكتظة بسوء الخلق والتناقضات والانحلال، إنما العجب في أن تجد صانع العمل ذاته أحد رموز حملة (لا للتنمر)! فهل هي مفارقة كوميدية جديدة يقصدها الفنان الكبير ساخرًا من ذاكرتنا السمكيّة؟ لا أظن، هو فقط –في تقديري- استكمال لسلسلة الكيل بمكيالين وربما ثلاثة أو أربعة، التي لم تقف عند استخدام (التصنيف) سلاحًا حين يلزم الأمر، إنما امتدت لتشمل استخدام التنمّر والسخرية أيضًا، ولِمَ لا؟
من نفس المنطلق يمكنك فهم سرّ تلك الضحكة الساخرة المستنكِرة التي تسمعها في رسالة الطبيبة الصوتية عند حديثها عن قراره الذي يبدو جنونًا في رأيها بعودته إلى صلاته، بينما إذا اطلعتَ على آراء الطبيبة ذاتها في حق أصحاب أي معتقد آخر في ممارسة طقوسهم بحريّة ستدهشك سماحتها ومنشوراتها الداعمة لهم حتى لو سجدوا لفأر أو نار المذيّلة بوسوم من نوعية: #ضد_التنمر و #كلنا_إنسان .
**إذا كان أهل الحق هم الخصم، فأهلًا بالصلح بين أهل الباطل والتنمّر الجميل**
٤- حلِّق بحريتك فقط داخل قفص العلمانية
في لقاء سابق لنوال السعداوي –الطبيبة النسوية الراحلة- مع الإعلامي الأرمني الأرثوذوكسي "نيشان" سمعتها تدافع بقوة عن الحريات، ولما سألها الإعلامي عن رأيها في حجاب المرأة، قالت إنها تتمنى اختفاءه لأنها تراه اختيارًا غير أخلاقي.
سألها الإعلامي عن حق المرأة المحجبة في ممارسة حريتها واختيار ما ترتدي، لم تجبه، فذَكَر الإعلامي عبارة أذكرها جيدا إلى الآن. قال: من احترامي للمرأة وللحريات أني إذا تحدثت إلى امرأة أنشغل بأفكارها التي في رأسها، لا بشعرها الذي يزين رأسها إن كان مكشوفًا أو مُغَطَّى!
كان طرحًا بسيطًا متسقًا بلا شك مع الإيمان بالحرية التي تدّعي ضيفته الدفاع عنها، وعلى الرغم من هذا أخرس لسانها معلنًا أنها تنتمي إلى مدرسة "الحرية داخل قفص العلمانية".
هذا تماما ما انتهجته الطبيبة في تسجيلها الصوتي، وكأن لسان حالها: أنت حر حين تغني وترقص وتسافر وتجرّب ما شئت من ملذات الحياة، لكني حين أراك تصلي وتمارس الشعيرة التي ترجو من ورائها أن تنهاك يومًا عن الفحشاء والمنكَر، وتنتبه لمخلوقيتك وخالقية إلهك وتلتفت لكونك عبد لإله واحد عليك طاعته، حينها سأكون أجهل الجاهلين بالحرية، وسأعمل على قمعك بكل طاقتي.
**تعريف الحرية يتلخص في قول ربعي بن عامر: ""نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"، وما دون هذا عينُ العبودية**
٥- حمية بعض الشباب من فئة (غير الملتزمين) وغيرتهم على دينهم
بعد ساعات من نشر التسجيل الشيطاني، توالت على "رام" رسائل دعم وتثبيت وعون على المواصلة في طريق الحق، وكذلك رأينا هجومًا شرسًا من قطاع عريض من الشباب على تلك الطبيبة واستنكارًا شديدا لموقفها. هذا مفهوم منطقي في أمة لن ينضب فيها الخير إلى يوم الدين بوعد الصادق الأمين، لكن ما لفت انتباهي فئة الشباب التي رأيتها تدعم الحق وتردّ الباطل. هم شبّان وبنات (عاديّون).
أعني بهذا أنهم ليسوا طلبة علم ولا دعاة، وربما كثير منهم مقصّرون في عبادة الله، وبعضهم غارقون في معاص وشهوات لم يتفلّتوا من براثنها بَعد. هذه الفئة تسمَّى عادةً (غير الملتزمين)،
لكنّي أشهد الله أني رأيتُ مِن الكثير منهم –في قضية رام وفي غيرها- ما لَم أره ممن سواهم من الغيرة على الدين والفورة إذا مسّه ماسّ والغضبة إذا حاول أحدهم الإساءة إلى كتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
بملء فيّ أقول: هؤلاء هم ثروتنا. تربة خصبة جدا على الآباء الالتفات لها وغرس الصلاح فيها وريّها بصحبة صالحة محيطة داعمة، وعلى المنشغلين بالإصلاح في المجتمع أن يجعلوا منهم مشروعًا إصلاحيًا لا خيار سوى نجاحه.
هؤلاء ليسوا منافقين، هؤلاء منّا ونحن منهم، المشترَك الإنساني والعقدي بيننا أكبر وأهمّ مما يدعو إلى الفرقة، هم فقط خلطوا عملًا صالحًا بآخر سيئًا، يحبون الله ورسوله ويعتزون بإسلامهم ويجهرون بهذا، لكن جولةً تغلبهم الشهوة، وثانيةً يغلبهم الضعف، وثالثةً تلهيهم الدنيا، وهم ينتظرون عون المصلحين حتى ينتصروا في الجولة الرابعة والخامسة وتتغير موازين معاركهم مع الشيطان، فهل كنّا لهم ظهيرًا؟
**نقدّر غيرة كل مسلم على دينه ونصدّقه ونرى فيه خيرًا، وسنُسأل عنه!**
٦-بعض أصحاب السمت (الملتزم) لم يغادروا برجهم العاجي بعد!
كدتُ ألحِق ما أذكر هنا بالعنوان السابق، لكنّي رأيت إفراد عنوان له لخطورته. كما ذكرت سلفًا، بعد إرسال التسجيل الصوتي إلى رام، كتب حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " يأتي علَى النَّاسِ زمانٌ الصَّابرُ فيهِم على دينِهِ كالقابِضِ على الجمرِ".
عندما قرأته أعجبت بأن شابًا ابتعد سنين عن الصلاة يسهل عليه استحضار معنى حديث لرسول الله حتى لو استعان بمحرك البحث ليأتي بمتنه.
لكن للأسف باغتتني تعليقات سخيفة حمقاء من البعض –وهم قليل بالمقارنة بغيرهم والحمد لله- من نوعية: أول صلاة له ويتحدث عن القبض على الدين!
سبحانك ربِّ! يا صاحب مثل هذا الفهم، هل هذا حقّا ما استوقفك؟ هل هذا ما حتّم عليك ضميرك كتابته في موضع ينتظر منك أخوك فيه نصرته وتقوية ظهره في مواجهة شياطين الإنس؟
ثم إن الشاب لم يدّعِ قبضه على الجمرولا الاستقامة. فقط رأى أنه بمجرد البدء في تصحيح مساره، واجه من الفِتَن ما فاق توقعاته، وعرف معنى شياطين الإنس، فمن شدة عجبه كأنه يقول:
صحيح أن وسط كل هذه الفتن القبض على الدين شاقّ جدا، و ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هل في هذا المعنى ما يعيب؟ هل فيه ما يدفع مسلمًا إلى الهجوم عليه أو السخرية منه؟
أعزائي في البرج العاجي: رجاءً، غادروا برجكم واحتكوا قليلًا بعالمِنا. حينها ستحسنون الفهم والظن، وتقدّرون المعارك بقدرها، وتنجحون في اختيار الخصم، وإلى ذلك الحين فلتقولوا خيرًا أو لتصمتوا.
**التفاعل مع واقع المسلمين وتفهّم دوافع نفوسهم من مفاتح الإصلاح، والتعالي على عالم العصاة وتصيد أخطائهم من مفاتح الإفساد**
٧-خطورة مصادر المعرفة
-"أنا كطبيبة، أقول لك..."
هكذا أشهرت الطبيبة بطاقة الإرهاب العلمي في وجه (رام) لتضطره إلى التسليم بأي معلومة أو حكم أو أمر يأتي بعد هذه العبارة، ولسان حالها: أنا مصدر المعرفة لك في هذا الأمر، فأنصت وأطِع!
ذكّرني هذا بيوم سألتُ إحدى العاملات بالمعالجة النفسية - ليست طبيبة-عن مصدر معلومة بَنَت عليها منشورًا طويلًا، فقالت أن الدكتور الذي درّس لها في الدورة التدريبية هو المصدر. حاولت أن أستوضح منها عن المصدر الذي نقل عنه الدكتور معلومته، لكن المعالِجَة افتعلت مشكلة وادّعت أني أحاول التشكيك فيها وأني لست باحثة عن الحق، وحذفت تعليقاتي كاملةً، بالرغم من عدم وجود أي ساحة منافسة تجمعنا في مجال واحد مثلًا!
كلتا الواقعتان من إفراز صيحة (أنا المصدر) التي تطغى على حياتنا اليوم، فالطبيبة تريد أن يعدّها الشاب مصدرًا للمعرفة، والمعالِجَة قَبِلَت بالدكتور مصدرًا للمعرفة ومنتظرة من متابعيها الأمر ذاته ومن غير اللائق عندها أن يسأل أحدهم عن مصدر نقلها ونقل معلّمها وإلا كيّلت له الاتهامات.
يمكنني سماع تعليق مَن يفترض بأن الطبيبة لم يكن مقصدها: "أنا المصدر" وإنما "أنا طبيبة عندي علم بأثر الصلاة على الجسد، فاستمع لما لديّ من عِلم"
ولصاحب هذا التعليق أقول: أحسنت، ربما كان هذا مقصدها، وبذلك لا تعدّ نفسها مصدرًا للمعرفة، لكن هل تتبع بذلك منهجًا علميًّا؟
لهذا السؤال جوابان: أحدهما مختصَر، والآخر فيه شيء من التفصيل.
أما الجواب المختَصَر، فهو: لا، لا تتبع منهجًا علميًّا، إذ اختزلت مصادر المعرفة في المصدر الحسّي –ما يدرَك بالحواس- واختزلت العلم في العلم التجريبي.
وأما بَسط هذا الجواب، فيتطلب الوقوف على مصادر المعرفة عند المسلمين.
مصادر المعرفة:
1-الخبر (النقل)
2-العقل
3-الحسّ
وقد تزيد عليهم (الفطرة) أو لا تزيد.
ولا تعارض بين القطعي من المصادر كلها، بل يستحيل هذا التعارض.
لنتصور معًا أني أخبرتكَ بأن كتلة الشمس 1.98892 × 10^30 كيلو جرام، وحين سألتني عن مصدر المعلومة قلت لك: أنا باعتباري عالِمَة – فيزيائية – فلكية المصدر<< أكون بهذا ادّعيت كوني مصدرًا للمعرفة.
وإن أجبتكَ بذِكر المصدرالصحيح، ثم بنيت على هذه المعلومة موقفًا من زمن أو كيفية آداء شعيرة متعلّقة بالشمس وحركتها << أكون بهذا آمنت بالعلم التجريبي مصدرًا معرفيًّا وحيدًا وكفرت بما سواه من الخبر والعلم غير التجريبي. ليس هذا فحسب، بل أكون وقعت في مغالطة جليّة، وهي تصديقي للخبر فيما يتعلق بالعلم التجريبي، وتكذيبي له فيما يتعلق بأمر الشارع، فإن ادعيت إيماني بالعلم التجريبي، مِن أين وصلتني النظريات ونتائج الأبحاث والتجارب العلمية التي أجريت منذ عشرات ومئات السنين إلا بالنقل والخبر؟!
فنقول بأن الطبيبة هنا ألغت كل ما ورد بالتواتر من القرآن والسنّة وإجماع الأمة على وجوب الصلاة واعتبرت الخبر الثابت الصحيح صفرًا على اليسار، لتنتصر لما تدّعي صحته من التجربة العلمية الحسّية التي حتى لم تذكر مصدرًا لها، فأطلقت حكمًا قطعيًّا في شعيرة بتجريدها من أي نسق أقدم من نسق التجربة الحسية وأكبر وأحكم وأوثق منها، غافلة أو متغافلة عن حقيقة أن بغير النقل والخبر ما درست الطبّ وما كانت طبيبة من الأساس!
ترشيحات:
لتحصين أنفسنا من خداع مدّعي العلمانية، وللاستزادة حول (نظرية المعرفة) التي تضم (مصادر المعرفة) باعتباره أحد مباحثها، أرشّح الاطلاع على الآتي:
1-مقطع فيه ترشيحات كتب قيّمة حول نظرية المعرفة لأستاذ أحمد يوسف السيد
https://youtu.be/FXPoVxO9IXA
2- محاضرتان لأستاذ أحمد السيد تجدهما على موقع (يوتيوب) بعنوانيّ: " تسهيل نظرية المعرفة" و "مقدمة منهجية لنظرية المعرفة في الإسلام"
3- محاضرة لدكتور عبد الله العجيري تجدها على موقع (يوتيوب) بعنوان: "مدخل لفهم نظرية المعرفة"
**مصادر المعرفة لا تنحصر في الحسّ، ونتائج العلم التجريبي ليست معصومة من المراجعة والنقد، والخبر مصدر معتَبَر لولاه ما صار عالِم عالِمًا**
٨- يمكن أن تكون مهذبًا مستقيمًا، لكن لماذا تصلّي؟
تساؤل طرحته الطبيبة، وجدلية قديمة حول إمكان وجود شبكة أخلاقية متماسكة غير نابعة من الدين.
تبنت الطبيبة رأي (ديكارت) القائل بإمكان وجود أخلاق صالحة خارج منظومة الدين، لكن منهجها الانتقائي حال بينها وبين التعرض لآراء فلاسفة وكتّاب كثر دينيين ولا دينيين ولا أدريين نقضوا نظرية ديكارت.. نكتفي بذِكر القليل من أقوالهم:
⬅ "إذا كان الله غير موجود فإن كل شيء مباح" عبارة ذكرها الكاتب الروسي "ديستويفسكي" على لسان أحد أبطال روايته" الأخوة الأعداء"، ثم اقتبسها الفيلسوف الأمريكي "فيليب كوين" في دفاعه عن النظرية القائلة بأن الأخلاق لا تأتي إلا بأمر إلهي.
⬅ يقول "برلنسكي" وهو باحث أمريكي لا أدري: "إذا لم تكن الواجبات الأخلاقية مأمورة بإرادة الله، ولم تكن في الوقت ذاته مطلقة، فإن ما ينبغي أن يكون هو ببساطة ما يقرره الرجال والنساء، ولا يوجد مصدر آخر للحكم" (3)
فإذا اتبعنا نهج الطبيبة في تبني أخلاق منزوعة الدين، لانتفت المعيارية
---
(3) David Berlinski: The Devile's Delusion: Atheism and it's scientific pretensions, Basic Books, 2009. P19,40
المحكمة، ولوجدنا في نهاية الطريق من يساوي الإنسان بالخنزيرأو يدّعي
بأنه أقل شأنًا منه والدافع عنده أخلاقي كما رآه يوما "تشارلز دكنز" مدافعًا عن الإجهاض واصفًا إياه بأنه (فعل أخلاقي) حين قال في تغريدته : "لأن الجنين في بطن أمه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ".
نجد أن الإجابة على تساؤل الطبيبة العلمانية يستلزم إجابة عدة تساؤلات أخرى، مثل: بتحييد الدين، أي أخلاق حسنة وأيها سيئة؟ ومن الذي يحدد هذا؟ ما معنى الاستقامة؟ وعلى أيّ صراط تكون؟ وما معنى الميل؟ ما الذي يلزم (رام) باتباع هذا الصراط؟ ما ثواب اتباعه؟ وما جزاء الحيد عنه؟ إن كانت الاستقامة اليوم نافعة له ثم ضرّته غدًا في دنياه فما يكون موقفه الصحيح تجاهها؟ وإن نفعته في مصر ثم سافر إلى سويسرا ولحق به أذى بسببها هل يستمر عليها أم يتركها في حقيبة أمتعته حتى إذا عاد إلى مصر مرة ثانية أزال من عليها التراب وعاود استخدامها؟
الحقيقة أن البحث في سؤال الأخلاق مع إقصاء الدين أمر عبثي، لأنه من العبث محاولة تحكيم المادة فيما يتجاوزها، ومن هذا المنطلق أقرّ الفيلسوف الأمريكي اللا أدري (توماس نيجل) في كتابه (العقل والكون: لماذا يكاد يكون التصور المادي الدارويني خطأ قطعًا؟) بقوله: "إن هناك ثلاثة عناصر تعجز الرؤية المادية الكونية أن تقدّم تفسيرًا لها، وهي: الوعي، والإدراك، والقيم الأخلاقية".
ولمن أراد الاطلاع على ما كُتِب في هذا المبحث، أرشّح كتاب "ميليشيا الإلحاد" لدكتور عبد الله العجيري - مبحث "الإلحاد والسؤال الأخلاقي" وفيه ترشيحات لكتب أخرى قيّمة في المبحث ذاته.
**يوجد ملحدون على خُلُق، لكن لا يوجد إلحاد أخلاقي ** (4)
---
(4) علي عزت بيجوفيتش – الإسلام بين الشرق والغرب – ص 175
٩- *درس دعوي من الرسالة الشيطانية*
منذ فترة، رأيت منشورًا على موقع تواصل اجتماعي لفتاة مقبلة على
الزواج تسأل في مجموعة نسائية مغلَقَة عن شيء يخص حفل زفافها، واتضح من كلامها أنه سيكون حفلًا مختلطًا. ردّت فتاة أخرى عليها بأسلوب فظّ، صحيح كان فيه نهي عن محرّمات، لكن غالبًا لا يقبله المرء.
وجاء في ذهني أنّي لو بإمكاني التواصل مع هذه الفتاة صاحبة الرد، لأرسلت لها تسجيلات الطبيبة العلمانية لتتعلم منها فن الدعوة!
لنستعرض معًا تشريحًا لكلام الطبيبة، وترتيب العبارات، ودلالاتها والدروس المستفادة:
*صباح الخير، كيف حالك يا رام؟
درس1: البدء بإلقاء التحية ومخاطبة المدعوّ باسمه للودّ - طالما العلاقة تسمح-.
*متابعة أخبارك على فيس بوك وأعتقد إنك في (دهب) الآن.
درس2: إبداء الاهتمام لحال المدعوّ، وبالتالي ضمنًا سيصله حرصك عليه فيستمع لك.
*لمّا سمعتك تقول "أول مرة أصلي من 12 سنة" حزنت جدا جدا
درس 3 في فن التواصل بتراحم، وتحديدًا أول خطوتين منه:
١- الملاحظة: وهي ذكر الحال كما هو بدون نعته بأي وصف وبدون تقييم
فمثلا هنا قالت الطبيبة ما ذكره (رام) في منشوره كما هو: لمّا سمعتك تقول "أول مرة أصلي من 12 سنة"
لم تقل مثلًا: "لما فجأة أحببتَ الصلاة" أو "لما وجدتكَ تُبت"
٢- وصف شعورك كما هو: وهذا ما فعلته: "حزنت جدا جدا" . فقط وصفت شعورها بالحزن، لم تقسُ عليه، ولم تعنّفه، وإنما أكملت بسط الودّ بينهما بتراحم ولُطف.
*ليس هذا رام الذي كنت أقابله في مكتبة الإسكندرية ونغني ونرقص معًا!
درس 4: أ-تذكرة المدعوّ بالحال الأفضل اللي كان عليها يومًا، تمهيدًا لتحريك ضميره تجاه انتكاسه ولإثارة مشاعره تجاه تلك الذكريات الجميلة.
ب-تتضمن بشكل غير مباشر خطوة رقم (3) في نموذج التواصل بتراحم وهي:
3-تحديد احتياجك: وهنا هي تصف احتياجها لرؤية النسخة الجميلة التي اعتادتها منه مرة أخرى بأن يعود إلى صوابه.
*أنا أشعر بأنك انتكست
هنا أفلت من قبضتها نموذج التواصل التراحمي، إذ لجأت للوصف (وصف صلاته بالانتكاسة) ، لكن مازالت لهجتها عاطفية، وبعد إثارة مشاعره تجاه الممارسات التي تعرّفه من خلالها واجهته بانتكاسه مباشرةً.
*بعدما كنت علمانيًّا ليبراليًّا دخلت في دور الشيوخ والسلفيين والإخوان.. هذا انقلاب على العلم والعلمانية.
استمر التراحم في الإفلات منها ونجح هنا، إذ استخدمت القولبة غير الحقيقية لتشعره بالحزن على حاله ولتستحث منه ردّ فعل نفسيًّا دفاعيًا لنفي ما تلصقه به من تُهَم.
*سأرسل لك رقم هاتفي ونتحدث معًا في أمر الصلاة هذا
عادت الشيطانة تلهمنا مزيدًا من الدروس الدعوية من جديد، وهنا درسان مهمّان:
درس 5: المبادرة منك كداعية في عرض الحوار على المدعوّ
درس 6: حرصك على شق قناة تواصل بينك وبين المدعوّ بعد محادثتكما الأولى
*يمكنك أن تكون صادقًا أو مهذبًا أو مستقيمًا، لكن أرجوك دَع الصلاة
وهنا أيضًا درسان:
درس 7: محاولة إقناع المدعوّ بأنه بإمكانه أن يحيا حياة طيبة كما يحبها إذا ترك المحرّمات التي تحاورَه لتنهاه عنها، وكسر العلاقة الحتمية المتوهَّمة عنده بين ما يتمسك به من محرمات والحياة الطيبة المستقيمة.
درس8: استكمال نموذج التواصل بتراحم بخطوة رقم (4) وهي:
4- طلب واضح معيّن بناء على ما سبق من رصد الملاحظة ووصف الشعور وتحديد الاحتياج: أرجوك دَع الصلاة.
* لأني طبيبة طبعًا، أكلّمك من ناحية الطب
درس9: من المهم تعريف المدعوّ بما يؤهلك لدعوته من علم وخبرات، وكثير من الناس إن اقتنعوا بك اقتنعوا بفكرتك.
*الصلاة تسبب أمراضًا جلدية، ومن المستحيل أن يأمر الله الناس بعبادة تسبب تشوه في الجلد
درس 10: سوق الأدلة العقلية والحسية والخبرية لإقناع المدعوّ بما تعرض عليه أو بما تنهاه عنه. لكن تنبّه لأن تختار أدلة حقيقية وبراهين ساطعة، لا كما فعلت هنا الطبيبة المدلّسة!
تلك عشرة كاملة.. عشرة دروس في صميم التواصل الدعوي يمكننا استخلاصها من دعوة تلك العلمانية للباطل لننتفع بها في دعوتنا إلى الحق، وكذا سنّة الله في كونه، في قلب المنحة محنة، وفي قلب سعي شياطين الإنس علامات هادية ودروس نافعة لأصحاب دعوة الحق، شاء من شاء وأبى من أبى، والله غالب على أمره.
أختم مقالي بنموذج التواصل التراحمي المذكور سلفًا، أذكره مرتّبًا كما جاء في كتاب "Nonviolent Communication" لكاتبه عالِم النَّفس (مارشال روزنبرج). أفرد له مساحةً خاصةً لأهميته في عملية التواصل التي نقوم بها يوميًّا عشرات المرات مع أنفسنا ومع من حولنا بشكل عام، ويقوم بها الداعية والمحاور مع كل مدعوّ بشكل خاص.
**نموذج التواصل بتراحم:
OFNR
1- Observation الملاحظة
رصد الملاحظة كما هي بدون وصف أو حكم.
2- Feeling الشعور
تحديد شعورك أو تسمية مشاعرك.
3-Need الاحتياج
تحديد احتياجك المبنى على شعورك، أو الذي تحتاجه لتكون مشاعرك أكثر إيجابية.
4-Request الطلب
طلب واضح لفعل محدد تحتاجه من المخاطَب- المدعوّ (من المُحتَمَل أن يقبله أو يرفضه لأنه ليس أمرًا)
ولمزيد من التفصيل يمكنكم الاطلاع على الكتاب المذكور اسمه.
خاتمة
ليس الأمر رسالة وجّهتها علمانيةٌ لمسلم تائب، إنما هو نموذج مصغَّر من صراع الحق والباطل الدائر منذ بدء الخلق إلى يوم الدين، نموذج من ماراثون أهل فسطاطيّ: الإيمان والكُفر. نستخلص منها من العِبَر والدروس ما يعيننا على المسير في الدعوة إلى رسالة الله الوحيدة الباقية على نقائها الأول بغير تحريف، ونوضّح ما فيها من مغالطات وأخطاء منهجية لمن يبحث عن الحق، ثم نمضي موقنين بما عند الله، غير عابئين بأئمة الكفر والمنافقين.
" وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)" سورة النجم
-
الخميس PM 04:53
2022-11-10 - 1536