المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416244
يتصفح الموقع حاليا : 285

البحث

البحث

عرض المادة

نظرية التطور - آثار الداروينية

قبل أن تبصر نظرية (داروين) النور كان الإيمان المسيحي والأخلاق المسيحية قد تعرضا لضربات قاسية وهزات عنيفة:

تهافت النظرية المسيحية عن الكون، انتقادات سبينوزا وفولتير الشديدة، الثورة الفرنسية وما أصاب الكنيسة على يديها من نكبات، النظرية الآلية (الميكانيكية) المنبثقة عن نظرية نيوتن، الدين الطبيعي الذي نادى به الفلاسفة العقليون، نظرية التطور الفكري كما تخيلها كومت، النجاح الذي صادفه المذهب اللاأدري ومذهب الربوبيين، الجمعيات السرية الهدامة وأفكارها الموبوءة ... وأحداث فكرية واجتماعية لا يظهر أحدها إلا وينهش من جسد الكنيسة نهشة أو يطوح من بنيانها بلبنة أو لبنات.

لكن ذلك كله لم يكن ليسمح لأي مفترض أو متكهن بأن يتنبأ بانهيار كامل للمسيحية قبل قرون عدة، على الأقل، فقد بقيت رغم الطعنات النافذة كياناً قائماً تدعمه عواطف الكثرة الكاثرة من الناس، وتسانده موروثات عميقة الجذور من القيم والمثل والتقاليد.

نعم، لقد تغيرت نظرة الناس إلى المسيحية، لكنها -إلى ذلك الوقت- لم تتغير بالنسبة للتصور الديني في حد ذاته، فقد بقي هذا التصور سائغاً، بل متأصلاً، بدليل الجهد الذي بذله الفلاسفة لاصطناع دين طبيعي أو دين إنساني كما يدعون.

وتغيرت كذلك نظرية الإنسان إلى الكون وحجمه فيه، لكن نظرته لم تتغير أبداً بالنسبة لإنسانيته وتفرده بوصفه كائناً روحياً متفوقاً على كل الموجودات، إن لم يكن بجسمه فبعقله وروحه.

وتغيرت نظرة الناس إلى حركة التاريخ وخط سير الحياة، ولكن لم يكن في وسع أحد أن يعتقد - أو أن يجاهر - بأنه لا توجد قيم ثابتة ولا أخلاق ثابتة ولا تقاليد ثابتة.

ولقد صدق الناس الكثير مما قاله أعداء الدين، كفولتير وهيوم ودولباخ، ولكنهم إلى الآن يعدون مثل هؤلاء الناس ملاحدة ومجدفين.

وفي سنة (1859م) نشر الباحث الإنجليزي (تشارلز داروين) كتابه (أصل الأنواع) (1) فأحدث ضجة لم يحدثها أي مؤلف آخر في التاريخ الأوروبي قاطبة، وكان له من الآثار في المجالات الفكرية والعملية ما لم يكن في الحسبان.

والغرض الذي يدور حوله الكتاب هو افتراض تطور الحياة في الكائنات العضوية من السهولة وعدم التعقيد، إلى الدقة والتعقيد وتدرجها من الأحط إلى الأرقى، وأن الفروق الخلقية داخل النوع الواحد تنتج أنواعاً جديدة مع مرور الأحقاب الطويلة، ولذلك يفترض داروين أن أصل الكائنات العضوية ذات الملايين من الخلايا كائن حقير ذو خلية واحدة.

وحسب قانون (الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب) نمت الأنواع التي استطاعت التكيف مع البيئة الطبيعية ومصارعة الكوارث المفاجئة، وتدرجت في سلم الرقي في حين هلكت الأنواع التي لم يحالفها الحظ في ذلك.


(1) ترجمه إلى العربية: إسماعيل مظهر.

وعلة ذلك أن الطبيعة -حسب تعبير داروين- وهبت بعض الكائنات عوامل البقاء ومؤهلات حفظ النوع بإضافة أعضاء أو صفات جديدة تستطيع بواسطتها أن تتواءم مع الظروف الطارئة، وقد أدَّى ذلك إلى تحسن نوعي مستمر نتج عنه أنواع جديدة راقية كالقردة ونوع أرقى وهو الإنسان، أما البعض الآخر؛ فقد حرمته الطبيعة من ذلك فتعثر وسقط، والطبيعة إذ تهب هذا وتحرم ذاك لا تنتهج خطة مرسومة، بل تخبط خبط عشواء -على حد قوله- كما أن خط التطور ذاته متعرج ومضطرب، لا يسير على قاعدة منطقية مطردة.

ذلك بايجاز شديد هو لب النظرية التي طلع بها داروين في ذلك الكتاب، وهي في جوهرها فرضية بيولوجية أبعد شيء عن أن تكون نظرية فلسفية عامة، كما أنها بعيدة عن أن تكون حقيقة علمية ثابتة.

ولقد قال عنها اثنان من أساطين علم الأحياء في القرن الماضي، وهما: أوين في إنجلترا، وأغاسيز في أمريكا:

(إن الأفكار الداروينية مجرد خرافة علمية وأنها سوف تنسى بسرعة) (1).

ولن نبحث الآن في السبب الذي لأجله خاب ما توقعه هذان العالمان، لكننا نستدل على حقيقة ما كان متوقعاً لها إبان ظهورها من قبل أصحاب الفن المعترف بهم.

والواقع أن الجديد الذي جاء به داروين ليس فكرة التطور ذاتها، ولكنه القانون الذي تسير عليه عملية التطور، بغض النظر عن قيمته العلمية.


(1) سلسلة تراث الإنسانية (9/ 125).

فقد عرفت الفكرة سلفاً من قبل علماء اكتشفوا من استقرائهم للسجل الجيولوجي للحياة، أن الحياة لم توجد على الأرض دفعة واحدة -كما يتوهم الناس- بل وجدت تدريجياً في ترتيب تاريخي، ولاحظوا أن الأنواع المتأخرة في الظهور أكثر رقياً من الأنواع المتقدمة، ومن هؤلاء (راي، وباركنسون، ولينو).

أما السبب في إهمال النتائج التي توصلوا إليها فهو -على ما يبدو- التفسير الذي قدموه للتطور، فقد قال هؤلاء: (إن التطور خطة مرسومة فيها رحمة للعالمين) (1) ولذلك وصفت نظريتهم بأنها (لاهوتية) وكان ذلك كافياً لإضفاء النسيان عليها حتى داخل معامل الأحياء.

ذلك أن الصراع بين العلم والدين آنذاك، كان في حالة من الهيجان لا تسمح بانتشار نظرية تشم منها رائحة إله الكنيسة السفاح الحقود!!

وكان العلم النيوتوني قد ألقى في روع أعداء الكنيسة إمكان تفسير الظواهر الطبيعية (ميكانيكياً) أي دون الحاجة إلى مدبر، ولذلك فلم تكن ظروف الصراع تستدعي إلا إيجاد فكرة عن الحياة، تقوم على قانون ميكانيكي كقانون نيوتن في الفلك.

وفعلاً حاول الكثيرون الحصول على شرف اكتشاف هذا القانون، فبذل كل من: بوفون ولامارك وكوفييه وبترس كمبر جهوداً مضنية في هذا الشأن، أما داروين فقد استطاع العثور على ذلك القانون المزعوم من طريق بعيد عن مجال الحياة والأحياء، إذ استوحاه من علم آخر هو (علم دراسة السكان)، ومن نظرية مالتوس بالذات (2).

استنتج داروين من إفناء الطبيعة للضعفاء لمصلحة بقاء الأقوياء، كما توهم مالتوس، قانونه في التطور المسمى (الانتقاء (أو الانتخاب) الطبيعي وبقاء الأنسب) بواسطته والاستعانة بأبحاث (ليل) الجيولوجية تمكن من صياغة نظرية ميكانيكية للتطور، فعثر أعداء الدين على ضالتهم المنشودة.

وقبل أن نبحث عن الآثار التي خلفتها النظرية في مختلف الحقول والميادين، يحسن بنا أن نقف لنرى مكانها من العلم والحقائق العلمية:

وأول ما ينبغي مراعاته بهذا الشأن هو التفرقة بين جوهر النظرية نفسها وبين الايحاءات الفلسفية والتفسيرات المنبثقة عنها والتطبيقات التعسفية لها، وهى أمور ربما لم تخطر لداروين على بال، كما أنها ليست نظريات علمية، إذ كان الوضع الطبيعي للنظرية حتى في حالة ثبوتها كحقيقة علمية أن تظل محصورة داخل المعمل متجردة عن ذلك كله.

وأول من نقد هذه النظرية علمياً هم العلماء المعاصرون لداروين، وقد مرَّ قول أغاسيز، وأوين قريباً، وانتقدها كذلك العالم الفلكي الشهير (هرشل) ومعظم أساتذة الجامعات في القرن الماضي.

ولنضرب عن هؤلاء صفحاً فربما قيل أنهم هاجموها لأسباب دينية أو عاطفية، ولننظر إلى ما نال هذه النظرية على يد أكثر الداروينيين حماسة وتعصباً.

لقد اضطر أصحاب (الداروينية الحديثة) إلى إجراء سلسلة من التعديلات على النظرية تستحق أن توصف -علمياً- بأنها نظريات جديدة.

فأرغموا على الاعتراف بأن قانون (الانتقاء الطبيعي) قاصر عن تفسير عملية التطور، فأضافوا إليه واستبدلوا به -في الواقع- قانوناً

 


(1) سلسلة تراث الإنسانية (9/ 72).
(2) سيأتى الحديث عنها ضمن النظريات الاقتصادية في الفصل الثانى من الباب الثالث (ص:274).

جديداً أسموه (قانون التحولات المفاجئة) أو (الطفرات) (1) وهو قانون لا سند له إلا المصادفة البحتة.

ثم أرغموا على القول بأنه ليس هنالك أصل واحد نشأت عنه الحياة كلها كما تخيل داروين، بل إن هناك أصولاً عدة تفرع عن كل منها أنواع مستقلة.

ثم أرغموه -كذلك- على الاعتراف بتفرد الإنسان (بيولوجياً) رغم التشابه الظاهري وهو المنزلق الذي سقط منه داروين ومعاصروه.

يقول جوليان هكسلي، بعد أن سرد الكثير من خصائص الإنسان الفذة: (هكذا يضع علم الأحياء الإنسان في مركز مماثل لما أنعم عليه كسيد المخلوقات كما تقول الأديان) (2) ومن الداروينيين المتعصبين - أرثر كيث- الذي اضطر إلى كتابة النظرية من جديد (3) رغم اعترافه بأنها ما زالت حتى الآن بدون براهين كما سيأتي.

ومن أشهر التطوريين المحدثين ليكونت دي نوي، وهو في الحقيقة صاحب نظرية تطورية مستقلة، ومع ذلك فهو يقول:

(أما تطور الكائنات الحية بجملتها فإنه يناقض علم المادة الجامدة تناقضاً تاماً، وهو يتنافي مع المبدأ الثاني من مبادئ علم القوة الحرارية، وهو حجر الزاوية في علمنا المرتكز على قوانين المصادفة، فلا سبب التطور ولا حقيقته يدخلان في نطاق علمنا الحاضر، وليس من عالم يستطيع إنكار ذلك (4).


(1) انظر: الطريق الطويل إلى الإنسان (197) فصاعداً.
(2) معركة التقاليد (53).
(3) انظر: العم أسراره وخفاياه مقدمة (ج3) وتاريخ العالم: (ج1) فصل نظرية التطور.
(4) مصير الإنسان (323) والقانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية: (من المستحيل على آلة مكتفية بنفسها غير مستعينة باي عامل خارجي، أن تنقل الحرارة من جسم إلى آخر أعلى منه في درجة الحرارة الديناميكا الحرارية د. إبراهيم شريف (173).

ذلك هو موقف أنصار النظرية فماذا قال العلماء المحايدون في هذا القرن؟

يقول كريسى موريسون: (إن القائلين بنظرية التطور لم يكونوا يعلمون شيئاً عن وحدات الوارثة) (الجينات) وقد وقفوا في مكانهم حيث يبدأ التطور حقاً -أعني: عند الخلية- (1).

أما أنتوني ستاندن في كتابه العلم بقرة مقدسة، فيناقش مشكلة الحلقة المفقودة، وهى ثغرة من ثغرات كثيرة عجز الداروينيون عن سدها بقوله:-

(إنه لأقرب من الحقيقة أن نقول: إن جزءاً كبيراً من السلسلة مفقود وليس حلقة واحدة، بل إننا لنشك في وجود السلسلة ذاتها) (2).

ويقول (ستيوارت تشيس): (أيد علماء الأحياء جزئياً قصة آدم وحواء كما ترويها الأديان، وإذا كانت تواريخ سفر التكوين في التوراة خاطئة وحوى كثيراً من الحذف والتهذيب والبيان الشاعري، فإن الفكرة صحيحة في مجملها) (3).

وليت شعري ماذا سيقول هذا الرجل لو قرأ القصة كما وردت في القرآن؟! وتقول مجلة العلوم المصورة:

(إن العلم يؤيد قصة آدم وحواء إلى حد ما، إننا نعترف بحقيقة فكرة الأسرة البشرية ذات الأصل الواحد) (4).


(1) العلم يدعو للإيمان (147) والكتاب كله رد على الداروينى الملحد جوليان هكسلى.
(2) مذهب النشوء والارتقاء: (23).
(3) الإنسان والعلاقات البشرية (145).
(4) مذهب النشوء والارتقاء: (23).

ويقول أوستن كلارك: (لا توجد علامة واحدة تحمل على الاعتقاد بأن أياً من المراتب الحيوانية الكبرى ينحدر من غيره، إن كل مرحلة لها وجودها المتميز الناتج عن عملية خلق خاصة متميزة، لقد ظهر الإنسان على الأرض فجأة وفي نفس الشكل الذي نراه عليه الآن (1).

هذا من الوجهة العلمية، فما الحكم على النظرية من الوجهة المنطقية المجردة؟

إن نظرية التطور تقوم على أصلين كل منهما مستقل عن الآخر:

1 - إن المخلوقات الحية وجدت على الأرض في مراحل تاريخية متدرجة ولم توجد دفعة واحدة.

2 - إن هذه المخلوقات متسلسلة وراثياً نتج بعضها من بعض بطريق التعاقب خلال عملية التطور البطيئة الطويلة.

والذي عملته الداروينية: أنها دمجت بين الأصليين، وجمعت شواهد ودلائل الأصل الأول لتؤيد بها الثاني. وهذا اللبس غير العلمي هو الذي أغرى بعض العلماء بقبول النظرية وأضفى عليها المسحة (العلمية)، مع أن هذه المسحة يصح أن تضفى على الأصل الأول، ولكن إضفاءها على الثاني خطأ محض، إذ من المعلوم بديهياً أن الترتيب التاريخي للوجود لا يستلزم التسلسل الوراثي، بل إن العقل ليؤكد ما هو أبعد من ذلك، وهو أن الترتيب المنطقي لا يستلزم الترتيب التاريخي، فالترتيب المنطقي للكائنات الحية هو -تصاعدياً- النبات ثم الحيوان ثم الإنسان، وليس في هذا الترتيب ما يدل على أن الوجود التاريخي لهذه الأجناس وقع بهذا الترتيب، بل نحتاج في إثبات ذلك إلى دليل خارجي، وذلك يشبه تماماً الترتيب المنطقي للأعداد: (1، 2، 3، 4) وبديهي أنها ليس لها ترتيب تاريخي ولا يوجد بينها علاقة وراثية.


(1) نفس المصدر السابق: (13).

ولن نفيض في مناقشة النظرية أكثر من هذا، لكن ألا يحق لنا الآن أن نسأل: إذا كان هذا هو حكم العلم والعقل على النظرية، وإذا كانت تتعرض للطعون والاعتراضات من كل جهة؛ فلم يتشبث بها بعض علماء الغرب -بغض النظر عن غيرهم- ويصرون عليها إصراراً أعمى؟

والجواب على ذلك أقرب ما يكون إلينا: أنه الفصام النكد والعداوة الشرسة التي قامت بين العلم والدين في ظروف غير طبيعية، ولقد كفانا السير آرثر كيث مئونة الجواب بقوله:-

(إن نظرية النشوء ما زالت حتى الآن بدون براهين -وستظل كذلك- والسبب الوحيد في أننا نؤمن بها، هو أن البديل الوحيد الممكن لها هو الإيمان بالخلق المباشر وهذا غير وارد على الإطلاق) (1).

وإضافة إلى ذلك يقول واطسن: (إن علماء الحيوان يؤمنون بالنشوء لا كنتيجة للملاحظة أو الاختبار أو الاستدلال المنطقي، ولكن لأن فكرة الخلق المباشر بعيدة عن التصور) (2).

ويقول د. هسكوت: (إن نظرية النشوء جاءت لتبقى، ولا يمكن أن نتخلى عنها حتى لو أصبحت عملاً من أعمال الاعتقاد) (3).

موقف واضح صريح، أدنى ما يوصف به هو ما قاله ليكونت دي نوى حين اعترض عليه بعض المتعالمين بسبب استعماله كلمة (الله) في أحد كتبه قال: "إن عدم التسامح المنتشر في القرون الوسطى لم يمت مع أنه


(1) المصدر السابق: (6 - 7).
(2) المصدر السابق: (6 - 7).
(3) المصدر السابق: (6 - 7).

انتقل إلى المعسكر الثاني" (1)، وهذا حق؛ فإن الموقف غير العلمي الذي يتخذه هؤلاء المسمون (علماء) هو بعينه موقف الكنيسة في عقيدتها القائلة بأن الله خلق آدم خلقاً مستقلاً سنة (4004ق. م) وإذا كان هناك من فرق فهو أن الكنيسة لم تدعِ أنها (علمية) كما يفعل هؤلاء المتعصبون، وإن في هذه الاعترافات الصارخة لعبرة بالغة للببغاوات في الشرق لو كانوا يعتبرون!!

[آثار الداروينية]

أولاً: انهيار العقيدة الدينية:

وجد الإلحاد في العالم الغربي المسيحي قبل داروين، فقد أباحت الثورة الفرنسية حرية الإلحاد تحت شعار (حرية الاعتقاد) وقدمت الميكانيكية النيوتونية للملاحدة خدمة كبيرة، لكن الإلحاد ظل حتى سنة (1859م) قضية فلسفية محدودة النطاق، وظلت العقيدة المسيحية محتفظة بمركز قوي ليس في الطبقات الدنيا من الشعب فحسب، بل حتى في الجامعات الأكاديمية العلمية التي كانت في الغالب هيئات دينية أو خاضعة لنفوذ رجال الكنيسة.

وبعد سنة 1859 أصيب العالم بنقص حقيقي في الإيمان -على حد تعبير ويلز- بسبب ما أشاعه أعداء الدين من تفسيرات باطلة لنظرية التطور، والاستغلال البشع الذي قام به المغرضون، والحماس المنقطع النظير الذي استقبلت به النظرية، أما موقف الكنيسة فقد كان مهزوزاً منذ البداية -لا سيما- وأن الزمن قد أثبت خطأ المواقف التي اتخذتها من النظريات الكونية السابقة، ولذلك خشي الكثير من المتعاطفين معها أن يقعوا في الخطأ نفسه، ناهيك عن الأعداء الذين شهروا بالدين ورجاله أشنع تشهير.

ونشبت معركة من أعظم المعارك الفكرية في التاريخ، واشتط أصحاب النظرية في موقفهم، وتطرفوا إلى حد إنكار التصور الديني جملة وإعلان إلحادهم الصريح، كما تطرفت الكنيسة وأشياعها فأعلنت كفر وهرطقة كل من لم يكن في جانبها.

وانتهت المعركة إلى نتيجة مفزعة، فقد تزلزلت العقائد الدينية جملة، وانتشر الإلحاد وشاع بطريقة غريبة شاذة.

والواقع أن طبيعة الفلسفة المسيحية تجعلها أكثر الأديان تعرضاً للانهيار في حالة ثبوت النظرية، صحيح أن الأديان كلها تؤمن بعقيدة الخلق المستقل، لكن المسيحية تزيد على ذلك بأنها تجعل هذه العقيدة قطب الرحى للإيمان المسيحي برمته.

فالمسيحية البولسية تعتقد أن الله خلق آدم وحواء ونهاهما عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، فأغرتهما الحية فأكلا من الشجرة، فارتكبا بذلك خطيئة لا تغتفر، وظل الجنس البشري يرسف في أغلال الخطيئة الموروثة، حتى رحم الله العالم فأرسل ابنه الوحيد -تعالى عن ذلك- الذي هو الأقنوم الثاني من الثالوث، فقتل على الصليب ليخلص البشرية من الخطيئة.

وهذه العقيدة هي محور التعاليم الكنسية، ولا يمكن بحال أن يعد المرء مؤمناً بالمسيحية ما لم يعتقدها، لذلك فبدهي أن تقض نظرية داروين مضاجع رجال الدين، والغيورين من المسيحيين الذين رأوا - محقين- أن التصديق بأن الإنسان خلق بالطريقة التي فسرها داروين معناه بوضوح أنه لم يكن هناك آدم ولا حواء ولا عدن ولا


(1) مصير الإنسان: (277).

خطيئة (وإذا لم يكن ثمة خطيئة فإن الصرح التاريخي للمسيحية وقصة الخطيئة الأولى، والكفارة التي أسس عليها التعليم الساري للعواطف المسيحية فإن كل ذلك ينهار كبيت من ورق اللعب (1).

وما دام أن الإنسان الغربي عموماً لا يعرف عن الدين إلا أنه المسيحية، فإنه سيجد نفسه تلقائياً قد أصبح ملحداً.

يقول ويلز: "الحق أنه لم يخل عصر من العصور من متشككة في المسيحية، على أن هؤلاء كانوا أُناساً غير عاديين، أما الآن (أي: بعد نظرية داروين) فقد أصبحت كل المسيحية بوجه الإجمال متشككة إذ مست الخصومة كل إنسان قرأ كتاباً أو سمع محاورة بين أذكياء" (2).

والحق الذي لا مرية فيه أن هذه النظرية لو تركت وشأنها أو وجدت في غير الظروف والملابسات التي وجدت فيها، لما كان لها هذا الشأن كله، أو على الأقل لما استشرت ايحاءاتها وصبغت الحياة والفكر بهذه السرعة المخيفة، ولكن الذي أعطى الداروينية هذا الحجم الكبير هو تضافر عاملين خارجيين عنها، هما:

1 - الظروف التاريخية السيئة:

فقد ولدت النظرية في عصر كان فيه الصراع بين العلم والدين على أشده، وكانت الثورة الصناعية قد أخذت تطمس ملامح المجتمع الأوروبي، وتصبغه بصبغة جديدة متحللة من الدين والأخلاق، وكان الإنسان الأوروبي في كل مكان يتحفز للأخذ بثأره من رجال الكنيسة الذين أذاقوه ألوان الذل والاستعباد، فكان ظهور النظرية فتحاً جديداً بالنسبة له، صحيح أن الجماهير وقفت أول الأمر بجانب الكنيسة ضد داروين، (ولكن موقف


(1) معالم تاريخ الإنسانية (4، 1113) وما بعدها.
(2) نفس المصدر السابق.

الجماهير بعد ذلك تغير، فلئن كانت قد عز عليها أن يسلبها داروين إنسانيتها ويردها إلى أصل حيواني، فقد أخذت تشمت في الكنيسة ورجالها الذين وجدت أن الفرصة سانحة للتخلص من نيرها المرهق وسلطانها البغيض) (1).

هذا بالإضافة إلى طبيعة الإيمان المسيحي ذاته، فهو إيمان عاطفي لا يقوم على الاقتناع العقلي بل على العكس تماماً، فسواء لدى من أوتي حظاً من الثقافة والمعرفة أن إله الكنيسة قد قتل ابنه ليخلصه من الخطيئة أم لم يفعل ذلك، فهو أصلاً غير مقتنع بأنه ولد مخطئاً وأن للرب ابناً، كما أن عقيدة التثليث والأساطير المسيحية الأخرى تسبب لعقله إزعاجاً مستمراً، لذلك فلا غضاضة في أن يضحي بهذه العقيدة الهشة في سبيل نجاته من قبضة الكنيسة الجائرة.

2 - الاستغلال البشع للنظرية من قبل القوى الشيطانية الهدامة:

غني عن البيان أن نقول: إن اليهود يخططون للقضاء على البشرية و (استحمارها) من طريق القضاء على دينها وأخلاقها وتقاليدها، فهي حقيقة آمن بها كثير من العقلاء في الغرب، وإن الزمن ليكشف تدريجياً خيوط المؤامرة الشيطانية التي يدبرونها ضد الجنس البشرى بجملته، وما من شك في أن نظرية داروين سلاح فتاك لم يكن هؤلاء ليحلموا به.

تقول البروتوكولات: (لا تتصوروا أن تصريحاتنا كلمات جوفاء، ولاحظوا هنا أن نجاح داروين وماركس ونيتشة قد رتبناه من قبل، والأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي سيكون واضحاً لنا على التأكيد، (2)


(1) معركة التقاليد (12).
(2) الخطر اليهودى: 106 (البروتوكول الثانى).

ويستطيع المرء أن يتأكد من حقيقة هذه الدعوى إذا استعرض السرعة المذهلة التي طبقت بها الداروينية في مختلف مجالات الحياة وميادين العلوم والفكر والرءوس اليهودية البارزة في هذا التطبيق، ولعلنا الآن نتذكر السبب في خيبة النبوءة التي تنبأ بها أوين وأغاسيز لمستقبل الداروينية.

وليس التطبيق العاجل للنظرية والرواج المنقطع النظير هو السبب الذي يؤكد ذلك، فهناك أسباب أخرى مؤيدة.

الإهمال الكامل للنظريات التطورية اللاهوتية، حتى إن (والاس) قرين داروين وشريكه في اكتشاف النظرية لا يكاد يعرف عند غير المختصين، وليس لذلك من علة، إلا أنه قال بأن وراء عملية التطور قوة مدبرة (1).

الطريقة الغريبة التي استقبلت وأشيعت بها النظرية، والتي جعلت الناس يتلقفونها لا بوصفها نظرية علمية بل كما لو كانت ديناً جديداً بالفعل، وطرحت لا كمناقض للمسيحية فحسب بل كبديل لها.

التمجيد الأسطوري لصاحب النظرية فقد حاز داروين من الشهرة ما لم يظفر به أعظم خدام البشرية من أمثال (باستور وفلمنغ وأديسون) وجعله مؤرخو الفكر الغربيون أعظم محرر للفكر البشري، بل إن بعضهم ليشبهه بالمسيح، وقال عنه أرنست هيكل: (إنه أطلس يحمل عالم الفكر على منكبيه)، ووصفه آخرون بأنه (قاهر الطبيعة) (2).

الحملة الصحفية المكثفة للتشهير بأعداء النظرية، وتحيز الصحف شبه الكامل لداروين على الكنيسة، إذ كانت الصحافة قد


(1) انظر: نظرية دارون بين مؤيديها ومعارضيها: (44).
(2) المصدر السابق: (42).

وقعت في قبضة المرابين اليهود، بفضل المركز المالي الذي هيأته لهم الثورة الصناعية.

وهذه جميعاً دلائل واضحة على أن المعركة لم تكن طبيعية، وأن عنصراً غريباً كان ينصب شباكه في الظلام للإجهاز على القيم الدينية والأخلاقية، وهو غاية ما تهدف إليه البروتوكولات.

ولقد كانت النتيجة المنطقية لانتصار الداروينية على المسيحية وهو الانتصار الذي سببه العاملان السابقان - أن عمت موجة الإلحاد المجتمعات الغربية، وانتقلت منها إلى بقاع العالم الأخرى، وسيطرت الأفكار المادية على عقول الطبقة المثقفة، وتخلت جموع غفيرة من الناس عن إيمانها بالله تخلياً كاملاً أو شبه كامل، وطغت على الحياة الأوروبية فوضى عقائدية غريبة.

والحق أن أوروبا بعد داروين، قد عبدت الشيطان بعد أن كانت تعبد المسيح، عبدته مرة عن طريق عبادة الطبيعة تلك الكلمة غير العلمية، فقد قال داروين: (الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق) وقال (إن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل الله، هو بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت) (1).

صحيح أن الطبيعة عبدت قبل داروين، ولكن داروين كان نبياً جديداً لها، -إن صح التعبير- وعبدته مرة عن طريق عبادة الإنسان، وهى الفكرة التي دعا إليها الفيلسوف اليهودي (2) (نيتشة) قائلاً: (إن الإله قد مات وإن الإنسان الأعلى (سوبرمان) ينبغي أن يحل محله، ومن هنا قرنته البروتوكولات بداروين وماركس) كما نادى بها في القرن العشرين الدارويني الملحد دوليان هكسلي الذي ألف كتاب (الإنسان في العالم الحديث)، زاعماً أن الإنسان اختلق فكرة الله إبان عصور عجزه وجهله، أما الآن فقد تعلم وسيطر على الطبيعة بنفسه ولم يعد بحاجة إليه، فهو العابد والمعبود في آن واحد.

وعبدته مرة عن طريق عبادة المادة ولا غرابة في أن يكون نبي هذه العبادة يهودياً كذلك، وهى ديانة ماركس التي يدين بها اليوم مئات الملايين من البشر.

وعبدته مرة عن طريق عبادة (الجنس) وكان اليهودي فرويد هو بطل هذه العبادة.

وعبدته في صور شتى تتفق جميعها في الاستمداد من داروين ونظريته.

وهكذا نجد أن نظرية التطور أسهمت إسهاماً عظيماً في هدم العقيدة الدينية وتحطيمها، وليس من المبالغة أن نقول: إن دورها في ذلك لا يوازيه أي نظرية بشرية أخرى.

ثانياً: نفي فكرة الغاية والقصد:

من الحقائق التي تتطابق عليها الأديان وتتضافر على الإيمان بها العقول والفطر السليمة؛ أن للوجود الإنساني على الأرض غاية مقصودة أرادها الخالق واقتضتها حكمته النافذة، ومهما اختلفت الآراء والمذاهب في ماهية هذه الغاية وتصورها، فإن حقيقتها العامة لا تقبل الجدل.

وهذه الحقيقة درجت الأجيال البشرية المتعاقبة على الإيمان بها، ليس لأنها منبثقة عن فكرة الخلق المستقل -كما يتوهم دعاة التطور- بل لأن الفكرتين كلتيهما عميقتان في التصور الإنساني مركوزتان في الفطرة البشرية.


(1) التطور والثبات: (40).
(2) انظر: اللامتنمي: (147).

لذلك نجد أن الرسالات السماوية لم تأتِ لإثبات هذه الغاية، بل للتذكير بها وأيضاح حقيقتها، وكذلك نلاحظ أن المباحث الفلسفية كانت تركز جهدها على الخوض في العلل الغائية للأشياء لتبني عليها نظرياتها عن الكون والحياة، ولا تبالي كثيراً بالعلل الصورية، فكان الفلاسفة يجهدون أنفسهم في البحث حول الغاية من خلق الإنسان ووظيفته في الوجود، دون أن يهتموا كثيراً في كيفية الخلق وعللها المباشرة.

فلما ظهرت نظرية التطور العضوي، ونادت بأن الإنسان وليد سلسلة طويلة من التطورات المتعاقبة، بدأت من جرثومة في مستنقع آسن وانتهت في خط سيرها المتخبط إلى صورته الراهنة، لم يعد هناك ما يدعو إلى التفكير في الغاية من خلق الإنسان.

إن هذه النظرية تنسب عملية التطور إلى العوامل الطبيعية البحتة، والطبيعة كما قال داروين: (تخبط خبط عشواء) وإذن فإنه من العبث أن نبحث عن غاية مرسومة وهدف مقصود لعملية الخلق وللوجود الإنساني، فلو أن الطبيعة وهبت الضفدعة - مثلاً - القدرة على التطور ومنحتها ما منحته صدفة واعتباطاً للإنسان؛ لكانت هي سيدة المخلوقات، وقد قال دوليان هكسلي: (من المسلَّم به أن الإنسان في الوقت الحاضر سيد المخلوقات، ولكن قد تحل محله القطة أو الفأر) (1).

وكان ظهور هذه النظرية في عصر ازدهار النظرية المكانكية أحد العوامل المشجعة على قبولها فكلا النظريتين ترجع الحوادث الكونية كلها إلى قوانين الطبيعة العمياء فراراً من نسبتها إلى إله الكنيسة.


(1) عن معركة التقاليد (52).

ويشيد الفيلسوف الملحد برتراندرسل بالأثر الداروينى في هذا المجال قائلاً:

(بالرغم من أنه لا يزال في إمكان الفيلسوف أو عالم، اللاهوت أن يقول: إن لكل شئ غرضاً ظهر أن الغرض ليس فكرة نافعة، حين نبحث في القوانين العلمية، وقد قيل في الإنجيل: إن القمر قد خلق لينير بالليل، ولكن العلماء مهما كانوا متدينين لا يعتبرون ذلك أيضاحاً علمياً لأصل القمر، ولقد كان عمل داروين فاصلاً بهذه المناسبة، فالذي فعله جاليلو ونيوتن من أجل الفلك فعله داروين من أجل علم الحياة).

(إن الذي جعل من الممكن تفسير التكيف دون الكلام عن الغرض، لم يكن حقيقة التطور، بل كان الميكانيكية الداروينية كما تتضح من تنازع البقاء وبقاء الأصلح، فالاختلاف الاعتباطي واختيار الطبيعة لا يستخدمان إلا العلل الصورية) (1).

ونجم عن ذلك أن أهملت العلوم الغربية بجملتها فكرة (الغائية)، بحجة أنها لا تهم الباحث العلمي ولا تقع في دائرة عمله، وتحللت علوم الطب والفلك والجيولوجيا والأحياء وسائر العلوم من التأثيرات الدينية -كما سيأتي في فصل علمانية العلم- وأدى الإيمان بهذه الفكرة إلى اعتناق فكرة هزيلة لا قيمة لها ولا وزن في حساب العلم، تلك هي فكرة المصادفة، فبعد أن أبطل (باستور) أسطورة (التولد الذاتي) إلى الأبد، لم يجد دعاة الإلحاد والهاربون من الدين ما يسترون به عورتهم إلا هذه النظرية التافهة.


(1) أثر العلم في المجتمع (12، 13).

وإنه لمن المدهش حقاً أن يرى الإنسان الكثير ممن يسمون علماء، يعتقدون أن الكون بدقته المذهلة وعظمته الهائلة وجد صدفة واعتباطاً ((ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)) [ص:27].

هذا على المستوى النظري، أما على مستوى الحياة الواقعية فقد كانت النتائج مروعة، إذ تزعزعت قيمة الحياة لدى الناس -لا سيما- ذوى الإحساس المرهف، واستبد بهم شعور يائس بالقنوط والضياع، وظهرت في أوروبا أجيال حائرة مضطربة لا تطمح إلى غاية ولا تفكر في هدف، وخيم الخواء الروحي على المثقفين بصفة خاصة، وأصبح شغلهم الشاغل هو البحث عن الذات المفقودة واستكناه أسرار النفس، وذلك هو المناخ الخصب الذي استغله اليهود لبذر نظرياتهم الهدامة، فجاء (فرويد) بالتحليل النفسي، و (برجسون) بالروحية، و (سارتر) بالوجودية.

يقول الفيلسوف (جود) تحت عنوان تفاهة الحياة:

(إذا كان الماديون على حق فلا ينبغي أن نعتبر الحياة شيئاً مهماً في صميم الكون، نتخذه أساساً لتفسير سائر الموجودات الأخرى، بل أنها لا تعدو أن تكون حصيلة ثانوية قذف بها سير التطور مصادفة واتفاقاً، أو هي تحوير عرضي للمادة أصبحت بموجبه تملك الشعور بذاتها) (1).

ولقد تجلى الشعور بتفاهة الحياة أكثر ما تجلى في الأدب الأوروبي، حيث تلمح الإحساس بالضياع هو السمة العامة للمدارس الأدبية التي ظهرت عقب الحرب العالمية الأولى بصفة خاصة.

وهذا الشعور الناجم عن فقدان الإيمان هو العلة الحقيقية


(1) منازع الفكر الحديث (40).

للتمزق الرهيب الذي تعانيه النفسية المعاصرة في الغرب، رغم الرفاهية المادية المتناهية، ومن هنا استحق هذا العصر أن يطلق عليه (عصر القلق)!!

ولقد صدق أحد العلماء (1) في قوله (إن أشقى الناس -جميعاً- هو الذي يأتي إلى هذه الدنيا ثم يخرج منها وهو لا يدري لماذا جاء ولماذا خرج)!

ثالثاً: حيوانية الإنسان وماديته:

عندما طلع كوبرنيق بنظريته الفلكية القائلة: بأن الأرض ليست مركز الكون، أحس الضمير الأوروبي بأنه قد صدم في صميم كرامته ومركزه في الوجود، واعتقد البعض أن الإيمان بهذه النظرية إهانة مباشرة للإنسان (سيد المخلوقات)، فلما جاء داروين بنظريته، لم يزد الطين بلة فحسب بل جاء بالطامة الكبرى، فزعم أن الإنسان حيوان كسائر المخلوقات الحيوانية، فوجه بذلك إلى الكرامة الإنسانية أعنف لطمة في تاريخها، وقلب الشعور الإنساني رأساً على عقب، وهز المشاعر والمعتقدات والقيم التي كانت منذ فجر التاريخ حتى عصره راسخة لا مراء فيها، وأصبح الحال كما قال جوليان هكسلي:

(بعد نظرية داروين لم يعد الإنسان يستطيع تجنب اعتبار نفسه حيواناً) (2).

وداروين لم يكتف بأن جعل بين الإنسان وبين القردة نسباً، بل زعم أن الجد الحقيقي للإنسان هو جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين.

لقد كانت بالفعل صدمة هائلة وانتكاسة خطرة.

نعم إن داروين لم يصدر أحكاماً مستقلة على الإنسان -وليس من حقه ذلك- ولكن الذين جاءوا من بعده أصدروا أحكاماً وأي أحكام!

ذلك أنهم تلقفوا النظرية -أصلاً- بدوافع مغرضة ووجهوها لتخدم أهدافاً خفية، ولهذا فليس غريباً أن يثوب (الداروينيون المحدثون) -راضين أم راغمين- إلى رشدهم، ويعترفوا بحقيقة تفرد الإنسان عن كل المخلوقات، بينما لا يزال أولئك المغرضون ينفثون أفكارهم الهدامة التي تنظر للإنسان على أنه حيوان، وتحدد مطالبه بمطالب الحيوان وتدرسه كما تدرس الحيوان.

وليس الإيحاء بحيوانية الإنسان هو الأثر الدارويني الوحيد الذي حط من قدره وكرامته، بل اقترن به إيحاء آخر لا يقل خطورة عن الأول، وهو الإيحاء بـ (مادية الإنسان) أي: خضوعه للقوانين المادية التي تفرض عليه ما تفرضه على المادة الجامدة.

فالإنسان في نظر الداروينية لم يتطور مختاراً، بل كان تطوره مظهراً لخضوعه المطلق للبيئة الطبيعية، أي لعوامل خارجية حتمية، صحيح أن هذا التطور لمصلحته لكنه لم يكن نابعاً من إرادته، ولم يكن متوقعاً من الداروينية أن تقول في تلك الظروف السيئة إن الله هو الذي اختار للإنسان، لأن ذلك يفقدها صفة (الميكانيكية).

بل ويجرها إلى اعترافات أخرى كالإقرار بأن له روحاً، وأن لوجوده غرضاً، كما تقول الكنيسة، وإذن فلا مناص من القول بأن العوامل الطبيعية وحدها صانعة التطور وفارضته على الإنسان، والإنسان ما هو إلا مرآة تنعكس عليها تقلبات الطبيعة المفاجئة وتخبطاتها غير المنهجية.


(1) هو الشيخ عبد المجيد الزنداني من محاضرة شفوية.
(2) عن معركة التقاليد (52).

وعليه نستطيع أن نقول: إن فكرة التطور في ذاتها أوحت بحيوانية الإنسان، بينما أوحى تفسير العملية التي سار عليها التطور بماديته.

وظهر أثر هذين الإيحاءين جلياً في الدراسات الاجتماعية والنفسية التي تناولت موضوع الإنسان فرداً أو جزءاً من مجموع.

وهي دراسات تقوم على نظريات تلتقي بجملتها في نقطة واحدة (حيوانية الإنسان وماديته) ثم يسلك كل فرع منها طريقاً مستقلاً.

ومن أبرز الأمثلة على الأفكار الاجتماعية نظريتان: (النظرية الشيوعية، ونظرية العقل الجمعي) فاليهودي كارل ماركس -صاحب النظرية الأولى- استمد من حيوانية الإنسان ما ظهر جلياً في البيان الشيوعي، إذ حدد المطالب الرئيسية له بـ (الغذاء والسكن والجنس).

واستمد من ماديته التي أوحت بها (جبرية التطور) التفسير المادي للتاريخ، والجبرية الاقتصادية، فهو يرى (أن القوى المادية أو القوى الاقتصادية هي التي تكيف الحياة البشرية وتعطيها طابعها، وتنشئ أفكارها ومفاهيمها وعقائدها حسب درجتها من التطور، فإذا انتقلت البشرية من طور إلى طور بحكم قوة التطور الدائمة المفروضة على الإنسان من خارج نفسه والتي لا علاقة لها بإرادته الذاتية؛ فإن صور الحياة تتغير، ومشاعر الناس تتغير، وأفكارهم ومفاهيمهم وعقائدهم تتغير، ويتغير كل شيء في المجتمع من أخلاق وعادات وتقاليد تغيراً حتمياً (1).


(1) معركة التقاليد (18).

أما اليهودي (دور كايم) فقد جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظريته في (العقل الجمعي) التي تقول: إن الإنسان حيوان خاضع (الجبرية الاجتماعية)، أو قهر اجتماعي يفرضه عليه العقل الجمعي للقطيع البشري ويستمد شواهده المؤيدة من عالم الحيوان ومجتمع الحيوان (1).

أما المذاهب النفسية فمن واضح الأمثلة عليها (مدرسة التحليل النفسي):

فاليهودي (فرويد) استمد من حيوانية الإنسان نظريته في تفسير السلوك الإنساني من الولادة حتى الوفاة تفسيراً حيوانياً بشعاً، فهو يرى أن الدافع الجنسي هو دافعه الوحيد، فالمولود يرضع ثدي أمه بدافع جنسي، ويتبرز بدافع جنسي، ويظل يتعامل مع الآخرين بناءً على هذا الدافع وحده، والدين والأخلاق والمثل العليا كلها نابعة من هذا الدافع أيضاً، وهكذا فالإنسان عند فرويد ليس حيواناً فحسب، بل هو حيوان جنسي، وراء كل حركة منه شهوة جنسية ظاهرة أو خفية، (2) واستمد من ماديته (جبرية نفسية تجعل الإنسان خاضعاً لغريزته مسَّيراً بها بلا اختياره، فهو لا يملك إلا الانصياع لأوامرها وإلا وقع فريسة الكبت المدمر للأعصاب (3).

واليهودي (دور كايم) وعلم النفس -بصفة عامة- يدرس الإنسان كما يدرس أي حيوان ثديي، والنظريات النفسية التي استنتجها (بافلوف، وثورندايك، وواطس، وهول) وأضرابهم، إنما استنبطت من التجارب التي أجراها أولئك على الكلاب والقردة والفئران ... إلخ!! (4).

وهكذا تركت نظرية داروين فيما يتعلق بحيوانية الإنسان وماديته بصمات واضحة في كل حقل من حقول الفكر، وصادفت هوى في نفوس الباحثين الماديين في كل مجال.


(1) انظر: قواعد المنهج في علم الاجتماع (42) و (222).
(2) انظر: الموجز في التحليل النفسي لفرويد (22 - 24).
(3) انظر: الإنسان بين المادية والإسلام (51).
(4) انظر: الإنسان والعلاقات البشرية (329).

رابعاً: فكرة التطور المطلق:

كانت الحياة الأوروبية طيلة القرون الوسطى مستغرقة في سكون مطبق وجمود عام، أوحى إلى العقلية الأوروبية الخاملة -آنذاك- بفكرة الثبات المطلق في كل شيء، وأسهمت الكنيسة -بطقوسها الجامدة ووقوفها ضد كل جديد- في ترسيخ هذه الفكرة وتعميقها (1).

وأول هزة تعرضت لها هذه الفكرة كانت على يد (كوبرنيك) - من غير قصد - فدوران الأرض التي نادت به نظريته يناقض المسلَّمة البدهية في نظر عصره، وهى أنها ثابتة وما عليها ثابت كذلك، ثم إن التقدم في الكشف والبحث الذي ابتدأ منذ عصر النهضة، والذي اقتبس حيويته ونشاطه من الشرق المتحضر كان عاملاً مؤثراً في إضعاف الإيمان بهذه الفكرة.

وظهرت فكرة التطور لدى بعض الباحثين مثل: (أوجست كومت) صاحب نظرية التطور العقلي (من الخرافة إلى الدين إلى الوضعية)، وظهرت كذلك لدى (هوبز) الذي يرى أن المجتمع الإنساني تطور من الوحشية الغابيَّة إلى الحالة الاجتماعية، وكذلك (روسو) الذي قال بتطور المجتمع من الحالة الطبيعية إلى الحالة الفوضوية، مما استوجب وجود (عقد اجتماعي) بين الأفراد.

لكن هذه النظريات لم تكن من القوة والتعميم بحيث تزلزل فكرة الثبات كلية، وإن كان لها فضل في التمهيد لذلك.


(1) انظر: التطور والثبات فصل (عصر التطور).

وتمت هذه الزلزلة على يد (داروين) ونظريته في التطور العضوي، وبعد داروين انتقلت أوروبا من الإيمان بالثبات المطلق إلى الاعتقاد في التطور المطلق.

لقد حدث في القرن التاسع عشر تحول شامل في الحياة الأوروبية كلها، بسبب ما أحدثه الانقلاب الصناعي من نقل الناس من البيئة الزراعية إلى البيئة الصناعية مما كان له أثره البالغ في أخلاق الناس وتقاليدهم وأوضاعهم عامة، فكان ذلك تطوراً اجتماعيا واقتصادياً موازياً للتطور العلمي والثقافي.

في ظل هذه الظروف المتغيرة والمتطورة ولدت نظرية التطور في كتاب داروين (أصل الأنواع) الذي قال عنه وست:

(لقد كان تأثير هذا الكتاب عظيماً ولا شك، فعن طريق وضع مبدأ جديد للدراسة وهو مبدأ ديناميكي، وليس مبدأ استقرارياً أو استاتيكياً، استطاع أن يحدث ثورة في كل فروع المعرفة من علم الفلك إلى التاريخ، ومن علم الحفريات القديمة إلى علم النفس ومن علم الأجنة إلى علم الدين) (1).

والواقع أن التطور الديني الذي أوحت به النظرية ليتجاوز الأثر العلمي إلى ميادين الحياة كافة (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية) ... إلخ، ونزلت الضربة القاضية على رأس الدين والأخلاق). والحق أن داروين لم يقل صراحة: إنه لا شيء ثابت على الإطلاق وأن الحياة البشرية تمضي في حلقات متباينة تختلف كل لاحقة عن سابقتها اختلافاً كاملاً، ولكن نظريته توحي بذلك وتومئ إليه، وذلك أن التطور كما شرحه داروين يشتمل على عنصرين بارزين: (الحتمية والاضطراب) فكل مرحلة من مراحل التطور أعقبت سلفها بطريقة حتمية، بمعنى أن العوامل الخارجية - كما أسلفنا - هي التي


(1) سلسلة تراث الإنسانية (9/ 125).

تحدد نوعية هذه المرحلة، أما خط سير التطور ذاته بمراحله جميعها فهو مضطرب لا يسعى إلى غاية مرسومة أو هدف بعيد؛ لأن (الطبيعة) التي أوجدته غير عاقلة ولا واعية، بل تخبط خبط عشواء!!

عن طريق هذين العنصرين أوحت النظرية بتطور حتمي مطلق لا غاية له ولا حدود، الحتمية تجعل الإيمان بثبات أي شيء وإن كان الدين والقيم أو التقاليد جموداً ورجعية، وكل محاولة للثبات على شيء من ذلك هي معركة خاسرة مع القدر الذي لا يقهر، واضطراب خط التطور يلغي كل المعايير الثابتة المتعارف عليها للحكم على الأشياء، ويستبدل بها معياراً واحداً لا ميزة له في ذاته إلا عدم قبوله صفة التطور وهو (الزمان) فكل عقيدة أو نظام أو خلق هو أفضل وأكمل من غيره ما دام تالياً له في الوجود الزمني.

يقول لوبون: "إن الزمان (إله) لأنه (هو الذي يولد المعتقدات فينميها ثم يميتها ومنه تستمد قوتها وبفعله يتولاها الضعف والانحلال" "إن الزمان هو صاحب السيادة الحقيقية فينا، وما علينا إلا أن نتركه يعمل لنرى كل شيء يتحول ويتبدل" (1).

وهكذا آمنت أوروبا بالتطور المطلق، وحسبت كل تغير -وإن كان انتكاسة وانحطاطاً- تطوراً وتقدماً.

فالشيوعية أكبر المذاهب الأرضية وأوسعها انتشاراً تستمد تفسيرها المادي للتاريخ من هذه الفكرة (فكرة التطور الحتمي) فالمجتمع البشرى مر -كما تخيل فلاسفتها- بخمس مراحل حتمية، لكل مرحلة منها عقائدها وأخلاقها وتقاليدها النابعة من الظروف الاقتصادية والأوضاع المادية.

فمثلاً في المجتمع الزراعي كان الإنسان متديناً؛ لأن الزراعة عملية غيبية لا يستطيع أن يتحكم فيها بجهده الذاتي، فلجأ إلى الاعتقاد في (قوى غيبية) لتسيير العملية وإنجاحها.

وكان المجتمع الزراعي مجتمعاً أسرياً ذا تقاليد؛ لأن الرجل هو المنتج الرئيسي فيه وهو الذي يعول المرأة، ولذلك كان يرى أن له الحق في امتلاكها وحده، ففرض عليها قيوداً أخلاقية نشأ عنها أخلاق وتقاليد زراعية.

ثم تطور المجتمع الإنساني -حتمياً- وانتقل إلى الطور الصناعي فتبدلت الأحوال ... عملية الإنتاج لم تعد (غيبية) فهي عملية منظورة يقوم بها الإنسان وليس (الله)!! ولذلك فلا داعي للإيمان بالغيبيات، بل إن التطور ليفرض على المجتمع أن يكون بلا دين.

والمرأة قد استقلت اقتصادياً ومن ثم تحررت من سيطرة الرجل وقيوده، فأصبح من حقها -أو من واجبها- أن تنبذ تقاليد وأخلاق العصر الزراعي، وتساير موكب التطور الذي يغري، بل يدفع إلى الإباحية الجنسية.

وباختصار ترى الشيوعية أن لكل عصر دينه وأخلاقه وتقاليده، ولا ضير في ذلك، لكن العيب الشائن هو أن يعيش المرء في عصر الصناعة والتطور متحجراً على دين وتقاليد العصر الزراعي الجامد، ولم يقتصر الأمر على الشيوعية، بل إن علوم النفس والاجتماع، أو على الصحيح زعماء هذين من اليهود وأتباعهم ليؤمنون بالتطور في كل شيء، حتى الدين نفسه، بل لعل الدين هو الهدف المقصود من العملية كلها!!


(1) روح الجماعات: (103 - 104).

فعلم الاجتماع -بل يهودية دور كايم- ينفي أن يكون الدين والزواج والأسرة فطرية في الإنسان، وإنما هي من عمل (العقل الجمعي) ذي السطوة القاهرة على الأفراد، وهذا العقل دائم التغير والتطور والتشكل (وهنا نلحظ عنصر الاضطراب) فإذا قال العقل الجمعي في طور من أطواره: ليكن دين أو زواج أو أسرة فليكن ذلك، أما إذا قال حسب هواه: ليكن لا دين ولا زواج ولا أسرة، فسرعان ما يخضع الأفراد لقهره فينسلخون من دينهم وأخلاقهم وتقاليدهم، (1) ويتفق علم النفس مع علم الاجتماع في عدم فطرية الدين ولكنهما يختلفان في تفسير تطوره.

فعلم الاجتماع يرى أن أصل الدين شيء خارجي هو -الأرواح أو القوى الطبيعية أو المحرم (التابو) - وابتدأ الإنسان تدينه بالسحر والشعوذة، ثم تطور إلى عبادة آلهة متعددة، ثم تطور إلى التوحيد الذي يمثل آخر حلقة في عصر الدين أعقبها مباشرة -بفعل التطور- عصر العلم الذي ينفي الدين بجملته.

أما علم النفس أو يهودية (فرويد) فيرى حسب تفسيره الدنِس للدين أن أصل الدين هو الشعور بالندم الذي استولى على أبناء الأسرة البشرية البدائية الأولى حين قتلوا أباهم، ولماذا قتلوه؟ لأنه كان يحول بينهم وبين اللقاء الجنسي مع الأم، فابتداء الدين في صورته الأولى عبادة للأب، ثم تطور إلى عبادة (الطوطم)، ثم تطور إلى عبادة القوى الخفية في صورة الدين السماوي وهو في الأطوار كلها ينبع من العقدة نفسها عقدة (أوديب) كما يصرح بذلك في كتابه الذات والغرائز (2).

والأخلاق تطورت في المراحل نفسها باعتبارها جزءاً من الدين


(1) انظر: التطور والثبات: (77 - 80).
(2) (ص:77 - 78).

أو مستمدة منه، بل إن (برتراندرسل) ليرى أنها تطورت خلال ثلاث مراحل (أخلاق المحرم (التابو) ثم أخلاق الطاعة الإلهية، ثم أخلاق المجتمع العلمي) (1).

ويقول (وليم جيمس) عن الأثر الدارويني في الأخلاق:

(إن فلسفة النشوء والارتقاء قد ألغت المعايير الأخلاقية التي سبقتها كلها لأنها رأتها معايير ذاتية شخصية وقدمت لنا بدلها معياراً آخر، نتعرف به الخير من الشر، وبما أن المعايير السابقة معايير نسبية فهي مدعاة للقلق والاضطراب، وأما هذا المعيار الذي ارتضوه وهو أن الحسن ما قدر له أن يبقى ويظهر ويبقى فهو معيار موضوعي محدد) (2).

وإجمالاً فقد آمنت أوروبا شرقها وغربها بأن لا شيء ثابت على الإطلاق وهو الإيمان الذي عبر عنه (رسل) بقوله:

(ليس ثمة كمال ثابت ولا حكمة لا تَقدم بعدها ... وأي اعتقاد نعتقده وإن كان مما نظنه بالغ الأهمية ليس بباق مدى الدهر، ولو تخيلنا أنه يحتوى على الحق الأبدي، فإن المستقبل كفيل بأن يضحك منا (3).


(1) المجتمع البشرى: (19) فما بعدها.
(2) العقل والدين: (68).
(3) العقل والمادة: (256).

ومن الحق أن نقول: إن هناك علماء عارضوا فكرة التطور المطلق لكنهم قوبلوا بالنقد العاصف والاستنكار الشديد بحجة أنهم رجعيون متخلفون يعرقلون مسيرة التطور الحضاري، يقول كارل بوير: "إنني أشعر بشيء من الإرهاب مما يميل إليه أصحاب مذهب التطور من إلصاق تهمة الوقوف في وجه الإصلاح والتنوير بكل من لا يشاركهم موقفهم العاطفي إزاء التطور باعتباره تحدياً جريئاً ثورياً للفكر التقليدي" (1).

وقال لوبون: "الملوكي بمقتضى كونه ملوكياً يعتقد أن الإنسان ليس متولداً من القرد، والجمهوري يعتقد الضد تماماً".

وهكذا رسخت فكرة التطور المطلق في كل فرع من فروع المعرفة النظرية، وفي كل حقل من حقول التطبيق الواقعي وأصبحت السمة الظاهرة للحضارة المعاصرة.


(1) نظرية داروين: (154).

 

  • الثلاثاء AM 05:20
    2022-07-12
  • 1220
Powered by: GateGold