المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416304
يتصفح الموقع حاليا : 312

البحث

البحث

عرض المادة

علمانية الحكم

سبق أن ذكرنا في الباب الأول أن الشريعة المسيحية لم تطبق في عالم الواقع، وذكرنا هنالك بعض العوائق التاريخية التي عرقلت قيام مجتمع إسلامي تحكمه هذه الشريعة.

على أن إقصاء الشريعة المسيحية عن واقع الحياة لا يعني أنها كانت عديمة التأثير في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن السلوك الشخصي للحكام المسيحيين، وذلك بفضل المنهج الأخلاقي المثالي الذي كان الدعاة المسيحيون المخلصون يبثونه بحرارة وإصرار، والنفوذ القوي الذي كان رجال الدين يتمتعون به في الأمم.

وكان للكنيسة آراؤها السياسية التي يمكن أن يستخلص من مجموعها نظرية سياسية تعبر عن وجهة نظرها الذاتية وإن كانت -طبعاً- لا تعبر عن أحكام الدين كما أنزل من عند الله.

والنظرية الكنسية في أكمل صورها أشبه شئ بالنظريات الخيالية التي تتحدث عن مدن فاضلة وهمية، هذا إذا نظرنا إلى أوغسطين على أنه قديس مسيحي وليس فيلسوفاً رومانياً، فهو الذي عبر عن هذه النظرية في كتابه مدينة الله وفكرة أوغسطين الأساسية صحيحة تماماً من جهة أنه ليس في الوجود إلا مملكتان أو مدينتان لا ثالث لهما إحداهما مدينة الله، والأخرى مدينة الشيطان.

ولكن الخطأ الذي يفسد هذه الفكرة ذاتها عنده يكمن في تحديده لخصائص كل مدينة، فهو يرى أن مدينة الله هي التي يحكمها آباء الكنيسة بخلاف مدينةالشيطان التي يسوسها رجال الدنيا، ثم إن الصورة التي تخيلها لمدينة الله موغلة في الخيال إلى درجة تجعل إمكان تطبيق نظريته عملياً خارقة نادرة إن لم تكن مستحيلة (1).

أما النظرية الأكثر واقعية والتي سادت عملياً طيلة فترة نفوذ الكنيسة، فالحكام في نظرها لا يشترط أن يكونوا رجال دين؛ ولكن يجب أن يخضعوا في ذواتهم لسلطة رجال الدين.

فعلى الرغم من قصور النظرية الكنسية وعجزها عن تنظيم شئون الحياة بسب تحريفها وإهمالها لشريعة الله ونظرتها الخاطئة إلى الحياة الدنيا، وإيمانها بقاعدة: "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" بالمدلول الخاص لهذه العبارة - على الرغم من ذلك فقد كان الملوك والأباطرة في القرون الوسطى يخضعون -في صورة ما- لرجال الدين، ولا يعدون أنفسهم مسيحيين فحسب، بل جنوداً للمسيحية -كما حدث في الحروب الصليبية- والخطأ الفادح جاء من قبل الكنيسة، إذ وجهت واستغلت عواطفهم الدينية لخدمة مصالحها الذاتية وجهدت في إخضاعهم لا لشريعة الله بل لأهواء البابوات (2).

صحيح أن إيمانهم بالدين كان محصوراً في الحدود الضيقة التي رسمتها الكنيسة، ومشوباً بالتصورات الوثنية، لكنهم كانوا يرون أنفسهم ملزمين بالأخلاق الدينية في تعاملهم السياسي - ولو ظاهراً - لأن ذلك هو مقتضى كونهم مسيحيين.

وكانت ضرورات العمل السياسي -كما يدَّعون- تلجئهم إلى مخالفة الروح المسيحية فينكثون بالعهود، ويزهقون أرواح الأبرياء ويستبيحون الكذب والمواربة في سبيل تحقيق مصالحهم السياسية، غير أنهم لم يتخذوا ذلك مسلكا عاماً ولم يختلقوا له تبريراً عقلياً منافياً لتعاليم الدين.

ربما كان منهم من يتلهف للحصول على مبرر ما ليقيه على الأقل وطأة التناقضات النفسية وعقاب الضمير، لكن العثور على ذلك ظل مستحيلاً أمداً غير يسير.

وصحيح أن الكنيسة أهملت تنظيم شئون الدولة، وأن القانون الروماني كان يطبق على مسمع منها ومرأى، لكنها كانت متشددة فيما يتعلق بالسلوك الشخصي للحكام، يشاركها في ذلك عواطف الشعب وضمير الأمة، وكان الأباطرة مضطرون للتمسك بالأخلاق المسيحية كي يكسبوا ود الكنيسة، حيث أن إبقاء سلطانهم وشرعيته مرهونان برضاها عنهم، فهي التي تتولى تتويجهم وتقدس حكمهم وتباركه، ثم إن من حقها - كما قال البابا جريجوري السابع - أن تخلع المسيئين منهم وتحل رعيتهم من طاعتهم.

لهذه الاعتبارات يصح القول بأن عملية الفصل بين السياسة وبين الدين والأخلاق بمفهومها المعاصر لم تكن معروفة لدى سياسيي القرون الوسطى، وإن كانت أوروبا -حقيقة وواقعاً- لم تحكم بما أنزل الله قط في أية مرحلة من تاريخها.

وإذا تجاوزنا النظرية الكنسية إلى الفكر السياسي اللاديني، فسنجد نظريات عديدة قبل أن نصل إلى النظريات المعاصرة.

 


(1) انظر معالم تاريخ الإنسانية: (3/ 724).
(2) انظر الطغيان السياسي من فصل الطغيان الكنسي بالباب الثاني (ص:133) السابقة.

وأشهر تلك النظريات ثلاث:

1 - النظرية الخيالية.

2 - نظرية العقد المجتمع.

3 - نظرية الحق الإلهي.

أولاً: النظرية الخيالية:

عرفت هذه النظرية قديماً في الفكر الإغريقي حيث كان الفلاسفة يهربون من الواقع السيئ إلى عالم الخيال الواسع، ويبنون من الأوهام والأحلام الجانحة مجتمعات مثالية أو مدناً فاضلة تتمتع بالوئام التام والإيثار المتناهي والمساواة الكاملة في جو ملائكي حالم!

ومن النماذج القديمة لها: جمهورية أفلاطون (1) لأفلاطون (348ق. م)، ومن أبرز المحاولات التي قام بها مسيحيون لصياغة هذه النظرية يوتوبيا لتوماس مور (1535)؛ ومدينة الشمس لكامبانيلا (1639).

والذي يهمنا من هذه النظرية هو أنها لا تجعل الدين هو المنهج الذي تقوم عليه الحياة، والأساس الذي تنبثق منه كل التصورات والقيم، بل إن الانسجام العقلي والمصلحة الدنيوية المجردة هما الدعامة التي بنت النظرية عليها مجتمعاتها اللادينية، وإن كان بعض متخيليها كتوماس مور تخيل وجود دين في مدينته إلا أنه دين شخصي بارد لا أثر له في الحياة (2).

هذه الفكرة الخطرة ترسبت - لا شعورياً - في أذهان المثقفين الذين كانوا شغوفين بقراءة مثل هذه المؤلفات، وولدت فيهم إحساساً بأن الحياة تكون سعيدة فاضلة لو عزل الدين عن الواقع وبقي طقوساً جامدة لا علاقة لها بالحياة؛ بل أوحت إليهم بإمكان قيام حياة بهيجة متكاملة بلا دين

ولا شك أن مثل هذه الأفكار يسهل استيعابها وتقبلها في بيئة تخضع لطغيان الكنيسة الأعمى ومضايقاتها المرهقة.


(1) انظر الكتاب الذي يحمل هذا الإسم ترجمة: حنا خباز.
(2) انظر سلسلة تراث الإنسانية "يوتوبيا: (1/ 384).

  • الثلاثاء AM 05:09
    2022-07-12
  • 910
Powered by: GateGold