المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 411844
يتصفح الموقع حاليا : 269

البحث

البحث

عرض المادة

انحراف الأمة الإسلامية

الحديث عن تأخر الأمة الإسلامية وانحطاطها في القرون الأخيرة طويل ومتشعب، ولكن السمة البارزة في ذلك التأخر تلك التي تجعله يتدنى عن مستوى فترات الانحطاط السابقة هي الانحراف عن فهم الإسلام نفسه، وانحسار مفهوماته التصورية في معانٍ ضيقة ومدلولات محدودة، وهذا الانحراف هو نتيجة وسبب في آن واحد.

نتيجة للوهن الذي أصاب الأمة الإسلامية ((حب الدنيا وكراهية الموت)) والذل الذي ابتليت به عقوبة على ترك الجهاد بالمفهوم الواسع للكلمة، ومعلوم من فقه التربية الإيمانية أن الله يعاقب على الذنب بالذنب، وهي أقسى صنوف العقوبات. وهكذا عوقبت الأمة الإسلامية على انحرافها العملي والسلوكي بانحراف أشد منه في العقيدة والتصور.

وهو سبب لما تلاه من أحداث جسام ومخاطر جمة اجتاحت الرقعة الإسلامية من أقصاها إلى أدناها، نذكر منها على سبيل التمثيل:

الركود العلمي، العام الذي هيمن على الحياة الإسلامية في عصر كانت أوروبا فيه قد نفضت غبار الماضي وحثت الخطا على طريق والاكتشاف، والضعف المادي والمعنوي الذي جعل البلاد الإسلامية لقمة سائغة للكفار، وجعل أوروبا تلتهمها قطعة قطعة، حتى كادت تسيطر على الحرمين الشريفين! ولقد كانت هزيمة العثمانيين في (سان جونار)، وتقهقر المماليك السريع أمام نابليون مؤشراً واضحاً على هذين -أي: الركود العلمي والضعف المادي والمعنوي- وبداية خطرة لنهاية الزعامة الإسلامية ليس على العالم بل على أرض الإسلام! وحين نقول: إن هذا الانحراف هو سبب التدهور والانحطاط، فإننا لا ننسى العوامل الخارجية المتمثلة في تفوق الكفار علمياً وعسكرياً والحقد الصليبي الأعمى الذي بث سراياه الفكرية المضللة جنباً إلى جنب مع السرايا الاستعمارية، لكن المنطق الإسلامي الثابت يؤكد أنه مهما بلغت القوة الخارجية، ومهما كان التخطيط المضاد، فإن المسلمين لن يؤتوا إلا من قبل أنفسهم، حسب القاعدة المطردة التي سنها الله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) [الأنفال:35]، وأوضحها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ودعوت ربي ألا يهلك أمتي بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم حتى يقاتل بعضهم بعضاً}.

ولذلك من الطبيعي أن يكون حديثنا عن أثر هذا الانحراف في انتشار العلمانية في العالم الإسلامي أسبق وأولى من الحديث عن التخطيط -اليهودي- النصراني الذي لا ننكر دوره في نشرها، والذي لا يصح أن نغفل عنه أو نقلل قيمته.

وعلى سبيل الإجمال نستطيع أن نقول: كما أن العلمانية ظهرت في أوروبا نتيجة لتحريف الدين النصراني، فقد ظهرت في العالم الإسلامي نتيجة انحراف المسلمين.

أما مظاهر هذا الانحراف قيمكن إيجازها فيما يلي:

1 - الانحراف في مفهوم الألوهية:

لن نتحدث -الآن- عن التضاد التام بين عقيدة لا إله إلا الله وبين العلمانية، فلذلك الحديث موضع آخر، لكننا سنتناول بإيجاز الحالة الواقعة تاريخياً في العصور الأخيرة الإسلامية:

إن بعض علماء السلف يقسمون توحيد الألوهية قسمين متلازمين:

(أ) توحيد الطاعة والاتباع (الحاكمية).

(ب) توحيد الإرادة والقصد (العبادة).

وجرياً على هذا التقسيم سنجد أن حالة الأمة الإسلامية كان كما يلي:

(أ) في الطاعة والاتباع (الحاكمية):

نسى المسلمون تلك القاعدة التوحيدية العظمى: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وغفلوا عن قوله تعالى: ((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)) [الأعراف:3]، وبذلك صرفوا هذا النوع من العبادة أو جزءاً منه إلى الحكام والولاة وعلماء المذاهب المتعصبين ومشايخ الطرق الصوفية، بالإضافة إلى المشعوذين الذين تهيأ لهم الجو بما كان يسيطر على الأمة من جهل وسذاجة، وقد كانت الدول التي تتقاسم العالم الإسلامي ثلاث دول: الدولة المغولية في الهند، والدولة الصفوية في فارس، ثم الدولة العثمانية في حوض البحر الأبيض المتوسط.

وبالنسبة للدولة الصفوية يمكن القول بأنها كانت منحرفة انحرافاً يجعل انتسابها للإسلام اسمياً فقط، فقد كانت شيعية رافضية، وكان الحكم فيها يجري على آراء وأهواء علماء الشيعة المتعصبين، وكان الشغل الشاغل لملوكها مهاجمة الدولة العثمانية لا لشيء إلا لأنها سنية، وكان العوام يقدسون الملوك والعلماء جرياً على المذهب الرافضي الذي يجيز العصمة لغير الأنبياء (1)

أما الدولة المغولية: فكانت باستثناء بعض الملوك مثل أورنك زيب جاهلة بحقيقة الإسلام، وكان فهمها له مختلطاً بكثير من الخرافات والتصورات الخاطئة، ولا غرابة في ذلك فإن المغول لم يعتنقوا الإسلام الصافي، بل دخلوا فيه على الصورة التي وجدوا الأمة الإسلامية تعيشها في أواخر العصر العباسي الثاني، حيث كانت الصراعات المذهبية والفكرية والطوائف الباطنية قد نخرت جسم الأمة مما هيأ لهم اكتساح العالم الإسلامي، وبعدها دخلوا في دين الأمة المغلوبة لا في صورته المثلى، بل في صورته القائمة يومئذ.

هذا الجهل بالإضافة إلى كون المسلمين أقلية بين الهندوس جعل إلغاء الشريعة الإسلامية من قبل الإنجليز لا يقابل بكبير معارضة، أما الدولة العثمانية: فعلى الرغم من كونها أصلح الدول الثلاث عقيدة وسلوكاً، فإنها كانت بعيدة عن منهج الخلافة الراشدة بعداً يزداد أو يقل حسب نوعية خلفائها.

إن أي باحث نزيه لا يستطيع أن ينكر مآثر الدولة العثمانية ومزاياها التي تستحق الثناء والتقدير، فهي التي جعلت المد الإسلامي في أوروبا الشرقية يبلغ مداه بعد أن فقد المسلمون بلادهم في أوروبا الغربية بسقوط الأندلس، وهي التي كسرت الكماشة الأوروبية التي كادت تطبق فكيها على العالم الإسلامي، ولم تتمكن من ذلك إلا بعد انهيار الدولة العثمانية.

كما أن روح الحماس للدعوة الإسلامية، ونشر الدين الإسلامي في أوربا إحدى مآثرهم التي خلدها التاريخ (2) غير أن هذه المآثر لم تجنب الدولة العثمانية الاستمرار في خط الانحراف الذي ورثته عن أسلافها، ثم الزيادة فيه بحسن نية ودون وعي، ومن مظاهر ذلك فيما يتعلق بأصول الحكم ومنهجه أن الدولة العثمانية كانت تطبق عملياً المذهب الحنفي بتعصب، وعارض علماؤها شيوخ الإسلام فتح باب الاجتهاد، ذلك الذي أغلق منذ القرن الرابع لأسباب ليس هذا مجالها، وتتمثل هذه المعارضة في العداء الذي واجهت به الدولة الحركات والأفكار التجديدية التي كانت تنبذ الجمود، وتدعو إلى الانطلاق الفكري المستمد مباشرة من الكتاب والسنة، كدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب 1206، والإمام الشوكاني 1250هوالشيخ الألوسي (3) وغيرهم، وكان من النتائج السيئة لذلك ما يلي:

1 - استمرار الحكم على طريقة الملك الجبرية الوراثية الذي ابتدأ في عهد الأمويين، وقد يقال: إن هذا الأمر أقره العرف، وله إيجابياته لا سيما في أسرة مجاهدة كآل عثمان، ولكن كان في الإمكان على الأقل أن يكون مبدأ الشورى هو القاعدة الأساسية للحكم مع استمرار الخلافة وراثية، أما أن تترك الأمور على تلك الحال فإن الطريق إلى الاستبداد والظلم مهيأة وهو ما حصل -فعلاً- من بعض السلاطين والولاة بصفة خاصة، ثم إن واقع الظروف العالمية كان يحتم ذلك، فقد كان معاصرو العثمانيين من أباطرة وملوك الغرب تضطرب عروشهم تحت مطارق الدعوات التحررية والمطالبة بالمشاركة في الحكم وحرية الشعب في اختيار الولاة ... إلخ، فكان على الدولة العثمانية أن تتعظ بذلك، وتقطع الطريق على دعاة التغريب بالعودة إلى الأصول الإسلامية الراشدة، نعم حاولت الدولة ذلك، لكنها محاولة جاءت متأخرة، بل كانت في الواقع بضغط من دعاة التغريب أنفسهم، ولم تكن عملاً ذاتياً واعياً.

2 - قصور الاستنباط الفقهي عن مجاراة الوقائع المحدثة: إن كون الشريعة الإسلامية منهجاً كاملاً شاملاً للحياة البشرية منذ نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها -لا يخرج شيء من أحداثها ووقائعها مهما استجد، ومهما تغيرت الظروف والأحوال عن دائرتها الرحبة- لهو أمر بدهي في التصور الإسلامي، والشك فيه يعني بداهةً اتهام الباري -جل شأنه- بالنقص والبداء، ومن ثم فهو الكفر المحض.

وكون الحياة البشرية عرضة لتغيرات لا يدرك مداها أو وقائع حادثة لا يستطيع العقل البشري على الإطلاق أن يتصور أبعادها بحكم حجبه عن علم الغيب، يجعل المجتهد في الشريعة مهما كانت سعة أفقه ودقة نظره يظل محصوراً بواقع بيئته، وواقفاً عند النقطة التي وصلت إليها البشرية على خط سيرها الطويل.

هاتان الحقيقتان آمنت الأمة الإسلامية بأولاهما إيماناً جازماً، وغابت الثانية عن أذهان البعض متأثرين بالواقع الذي ظل قروناً عديدة راكداً لا جديد فيه.

ومن هذا البعض كان خلفاء وعلماء الدولة العثمانية الذين عارضوا فتح باب الاجتهاد أو قيدوه في دائرة التراث المأثور عن فقهاء الحنفية السابقين، وفي الوقت الذي كان الفقه فيها جامداً كانت الحياة حسب سنة الله جارية متطورة، وبذلك حدث لأول مرة في تاريخ المسلمين أن ضاقت دائرة الفقه الواقعي، بل والافتراضي (4) عن الإحاطة بأحداث الحياة كلها، وكان الذي ضاق -بطبيعة الحال- هو فقه المتون والحواشي، ولم تضق الشريعة نفسها، وما كان لها أن تضيق، يقول الشيخ محمد الغزالي:

" مع أن الزمن لا يقف، ومع أنه تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور، ومع أن الجماعة الإنسانية تدخل في أطوار متباينة من ناحية العلاقات الدولية والأوضاع الإدارية والاقتصادية والسياسية، ومع ضرورة بقاء الدين مهيمناً على توجيه القافلة السائرة، مع هذا كله فإن التفكير الإسلامي الفقهي توقف في أغلب ميادين المعاملات إن لم يكن جمد فيها كلها، وأغلقت أبواب الاجتهاد بضعة قرون حتى انكسرت -أخيراً- تحت ضغط الحاجات الملحة، وصحب انكسارها فوضى منكرة في الفهم والتطبيق " (5).

والمؤسف أن الذي حصل أول الأمر هو أن باب الاجتهاد لم يفتح ولم يكسر، بل استوردت القوانين الأجنبية الكافرة.

لكن الطريق الملتوية البطيئة التي سلكتها عملية الاستيراد، والتي كان حسن النية أحد أسباب تقبلها، لم تلفت الأنظار إلى خطورتها، فقد بدأت هذه الطريق باسم الإصلاح والتنظيم الذي تقتضيه الظروف الواقعية.

الجيش العثماني لم يعد يصلح أن يبقي مجموعات من المتطوعين يحملون السيوف ويمتطون الخيول، فالظروف العسكرية الدولية تقتضي وجود جيش منظم مدرب، يستخدم الوسائل الحديثة، ويفرغ نفسه لمهمة الجهاد.

ووضع اللوائح النظامية لهذا الجيش لم يك في مقدور مجلس العلماء، لأنه كان بعيداً عن مثل هذه الشئون التي يراها شكلية لا تستحق الاهتمام، كما أنه لم يك في مقدور قادة الجيش نفسه، لأن الجمود العلمي والذهني الذي ليس من الإسلام في شيء قد كاد يقضي على كل فرصة للتطور والإبداع، إذن ما الحل؟

لجأت الدولة العثمانية إلى ملوك أوروبا الذين كانوا لا يزالون في نظر العثمانيين حتى ذلك الحين خنازير حقيرة، (6) يطلبون منهم إيفاد مدربين للجيش العثماني، وجاء المدربون من ألمانيا وفرنسا والسويد، ولأول مرة في التاريخ الإسلامي يتولى تدريب وتنظيم الجيش الإسلامي خبراء كفرة

وكانت هذه هي البداية، ثم تلاها بعد ذلك ما تلاها.

عندما أريد إصلاح الجهاز الإداري استوردت -أيضاً- الطرائق الغربية في تقسيم الولايات وتنظيم وتحديد مسئوليات الولاة والقضاة، وعندما أريد إصلاح الجهاز التعليمي بنيت المدارس ووضعت المناهج على نمط، يحاكي النمط الأوروبي ويقتبس منه.

وعندما أريد إصلاح منهج الحكم أصر دعاة التغريب على أن تكون مجالس نيابية على الطريقة الغربية، وأن يوضع دستور مكتوب ذو قواعد وبنود على النمط الأوروبي، وكان لهم ما أرادوا.

وليس غرضنا -الآن- تفصيل هذه الأمور، ولكن القصد هو إيضاح أن توحيد الطاعة والاتباع انتقص من حقه بطريق غير واعية ولا مقصودة، لقد نتج عن ضيق الدائرة الفقهية وعن استيعاب الحياة أن ظلت القوانين المستوردة تحتل رويداً رويداً مواقع جديدة من الحياة الإسلامية دون أن تلفت النظر إلى خطورتها إلى أن جاء الوقت الذي أصبح اقتباس هذه القوانين أمراً مقرراً ومنهجاً لا غبار عليه.

ومن الإنصاف والحق أن نقول: إن تلك الاقتباسات كانت تأخذ صفة تنظيمية لا تشريعية، وهكذا كان يسميها العثمانيون تنظيمات، لكنها على أية حال مهدت الطريق إلى استيراد التشريعات -لا سيما- بعد تكوين (مجلس المبعوثان) (7)

وبذلك نصل إلى الغرض الأساسي، وهو أن انحراف المسلمين بجهلهم بحقيقة دينهم وسنة الله في الحياة وعجزهم عن مسايرة الأحداث كانت المنفذ الرئيسي لتسرب العلمانية إلى الشرق المسلم.

(ب) الانحراف في توحيد الإرادة والقصد (العبادة):

ظهرت الصوفية في العصر العباسي لأسباب تاريخية، منها ضعف الخلافة المركزية أو انحرافها، وانغماس الناس في الترف وانصرافهم عن الاهتمام بالدار الآخرة، غير أن الانحراف قد أصاب الفرق الصوفية بدرجة تتناسب تناسباً عكسياً مع قربها من التمسك بالسنة والاقتداء بالسلف الصالح.

وكان من الأخطاء الأساسية في الفكر الصوفي النظرة العدائية إلى الحياة الدنيا، تلك التي يبدو أنها متأثرة بالفكر البوذي والفلسفة الإشراقية، وحدث أن أقبل العامة -بقيادة المتصوفين- على الطقوس والأوراد، وأقبل الحكام ومن في حواشيهم وركابهم على الشهوات والملذات! وهذا الخلط الصوفي الأحمق يعتبر أول صدع أصاب التفكير الإسلامي في صميمه، بل أول تصدع أصاب كيان الأمة الإسلامية -فيما بعد- بالانهيار، (8) فقد نتج عن هذا الانفصام انحسار مفهوم العبادة في دائرة الشعائر والأذكار، بل في الحقيقة كان الالتزام بتلك النظرة يعني تعذر القيام ببعض أركان الإسلام لا سيما الزكاة.

والعبارة المنقولة عن بعض زعماء الصوفية عند سماع قوله تعالى: ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)) [الأنبياء:20] وهي ونحن ما بالنا نفتر؟! تنم في الواقع عن الجهل بحقيقة العبادة في الإسلام، وغاية الوجود الإنساني على الأرض التي أوضحها القرآن الكريم تفصيلاً.

بعد أن كان المسلم - أياً كان عمله الدنيوي - يستشعر في قرارة نفسه أنه يعبد الله تعالى، حتى وهو يكدح على عياله، وحتى وهو يطلب العلم أو يعلمه، وحتى وهو يجوب الأرض في طلب الرزق أو التعرف على المعمورة بلا انفصام أو ازدواجية، أصبح المريد -وقد انحصر مفهوم العبادة لديه في الصلوات والأذكار- يجد مساحة كبيرة من حياته فارغة، فيلجأ إلى الشيخ لتعبئة هذا الفراغ، وعندها يقوم الشيخ بتشريع ما لم يأذن الله به، فيكلف المريد بحفظ المتون الطويلة من الأوراد لترديدها، بآلاف التسبيحات، وأحياناً يكلفه بالسياحة في الأرض بلا زاد، ليقوي يقينه، ويصدق في توكله!! وبذلك أدى انحسار مفهوم العبادة إلى انحراف العبادة نفسها واستقائها من غير معين الكتاب والسنة.

ولندع الصوفية أنفسهم، ولننظر إلى أثرهم المعنوي في الأمة، كان ضمير الفرد العادي من العامة يستشعر الحيرة والألم، وهو يرى الناس فئتين: فئة صالحة تعمل للآخرة وتتقرب إلى الله بأنواع الطاعات والقربات لكنها لا حظ لها من الدنيا، وأخرى فاسقة عاصية مقصرة في حق الله تعالى تتمتع بملاذ الحياة ونعيمها، ولا يكاد يرى لهاتين ثالثة، ويبدو الخيار أمامه صعباً، أيكون مع الأولى فيقضي على نفسه بالحرمان والفاقة، أو ينضم إلى الثانية فيقع في المحارم؟!

ومعظم الأمة بطبيعة الحال لم ينقطعوا عن الدنيا، لكنهم كانوا يعملون فيها والإحساس بالندم والذنب ينتابهم، لأنهم يرون أنهم لا يعبدون الله حين يقومون بذلك، وغاب عنهم أن ذلك جزء من الغاية العظمى التي خلقوا لأجلها!

وكل هذه الانحرافات وقعت قبل احتكاك الغرب اللاديني بالشرق، بل قبل قيام الدولة العثمانية

وعندما سيطر العثمانيون ازداد الأمر سوءاً، وتطورت الانحرافات، حتى توهم الناس أن العبادة نفسها هي بالدرجة الأولى ما يأمر به المشايخ والأولياء من البدع، ووقعت الأمة في شرك حقيقي بما كان السذج والجهلة -بل وبعض العلماء- يمارسونه من بدع الأضرحة والمشاهد والمزارات وتقديس الموتى والاعتماد عليهم في جلب النفع ودفع الضرر، ووصل الأمر إلى حالة مزرية جداً، حين كانت جيوش المستعمرين تقتحم المدن الإسلامية، والمسلمون يستصرخون السيد أو الولي الذي كان قد مضى على وفاته مئات السنين! (9).

وامتد البلاء إلى الأربطة والثغور التي بنيت أساساً للجهاد ومقارعة الكفار، إذ تحولت إلى زوايا وتكايا للصوفية، وفي أحسن الأحوال أصبحت مدارس علمية صرفة لا أثر للتربية الجهادية فيها، وحتى مناهجها التعليمية كانت متخلفة ومحدودة (10).

وبالإضافة إلى الصوفية ساعد الفقهاء المتأخرون وكتب الفقه المبوبة - من غير قصد- على مد هذا الانحراف بتقسيمهم الأحكام الشرعية إلى عبادات ومعاملات واضعين في القسم الأول الأحكام التعبدية المحضة، وفي الآخر الأحكام التعبدية المتعلقة بالنشاط الاجتماعي والاقتصادي وما شاكلها، لم يقولوا ولم يعتقدوا أن القسم الثاني ليس عبادياً، لكنهم وضعوا القسمة لاعتبارات فنية اصطلاحية لا تمس جوهر الموضوعات، ولا أدل على ذلك من أن الكتب الفقهية المؤلفة في القرنين الأول والثاني، وكذلك كتب السنة -بصفة عامة- تخلوان من هذه القسمة، غير أن هذا التقسيم أصبح -بعد ظهور وانتشار الصوفية وحدوث الانفصام العملي في الحياة الإسلامية- أصبح من دعائم هذا الانفصام، يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: "إن تقسيم النشاط الإنساني إلى عبادات ومعاملات مسألة جاءت متأخرة عند التأليف في مادة الفقه، ومع أنه كان المقصود به في أول الأمر مجرد التقسيم الفني، الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه -مع الأسف- أنشأ فيما بعد آثاراً سيئة في التصور، تبعته -بعد فترة- آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها، إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة العبادة إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط الذي يتناوله فقه العبادات، بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط الذي يتناوله فقه

 

 

المعاملات! وهي انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه، فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي " (11).

وانبثق من هذا الانحراف، وواكبه انحراف في مفهوم آخر هو ركن من أركان الإيمان وهو القدر:

2 - الانحراف في مفهوم الإيمان بالقدر:

لقد كتب أحد المستشرقين الألمان، وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم الأخيرة يقول: "طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله والرضا بقضائه وقدره والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار، وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان، ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحروب إذ حققت نصراً متواصلاً؛ لأنها دفعت في الجندي روح الفداء، وفي العصور الأخيرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي، فقذف به إلى الانحدار وعزله وطواه عن تيارات الأحداث العالمية" (12).

إن هذا الرجل -وهو كافر- أدرك هذه الحقيقة، حقيقة الفرق بين الإيمان بالقدر كما فهمه السلف، وبين الإيمان الذي ابتدعه الخلف متأثرين بالمتصوفة، فالذنب ليس ذنب العقيدة بل ذنب المعتقدين.

وقد صاغ ذلك شاعر الإسلام محمد إقبال شعراً فقال:

من القرآن قد تركوا المساعي وبالقرآن قد ملكوا الثريا

إلى التقدير ردوا كل سعي وكان زماعهم قدراً خفياً

تبدلت الضمائر في إسار فما كرهوه صار لهم رضيا (13)

- نعم لا شك أن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان وهزائم معنوية وحسية كان بقدر الله الذي لا يقع في كونه إلا ما يريد، ولا يخفى عليه شيء بل سيان في علمه ما كان وما سيكون، لكن المسلمين في العصور الأخيرة حرفوا هذا المفهوم، فاتخذوا من الإيمان بالقدر مبرراً واهياً لعجزهم وانهيارهم متناسين أن أقدار الله إنما تجرى عليهم وفق سننه الثابتة التي أوضحها لهم، لكنهم غفلوا عنها وأهملوها، فالمسئولية مسئوليتهم وحدهم ولا يظلم ربك أحداً.

لقد انقلب التوكل الذي كان الباعث القوي لحركة الجهاد، والانطلاق في الأرض بأسباب الحياة، إلى تواكل رخيص مذموم سماه المتصوفة يقيناً، وسماه الآخرون قناعة، واحتسبه الكل عند الله.

يقول الإمام أبو حامد الغزالي (505هـ) - وهو يعد من معتدلي الصوفية - في بيان مقامات التوكل: "الأول: مقام الخواص ونظرائه، وهو الذي يدور في البوادي بغير زاد ثقة بفضل الله تعالى عليه في تقويته على الصبر أسبوعاً وما فوقه، أو تيسير حشيش له أو قوت، أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شيء من ذلك .. المقام الثاني: أن يقعد في بيته أو في مسجد، ولكنه في القرى والأمصار وهذا أضعف من الأول، ولكنه أيضاً متوكل لأنه تارك للكسب والأسباب الظاهرة معول على فضل الله تعالى في تدبير أمره من جهة الأسباب الخفية، ولكنه بالقعود في الأمصار يتعرض لأسباب الرزق" (14).

وإذا علمنا أن هذا الكلام يكتب، والحملات الصليبية على أشدها أدركنا مدى الانحراف ...

لقد استسلم المسلمون لنوم طويل محتجين بالقدر، فلم يوقظهم إلا هدير الحضارة الغربية وهي تدك معاقلهم وتقتحم حصونهم، وكانت المفاجأة المذهلة التي زعزعت إيمان الأمة بدينها، وهو الإيمان الذي كان خامداً بارداً لا حراك له، وفي لحظة الانبهار والانذهال هذه، قال المستشرقون والمبشرون وأذنابهم: إن الدين -وعقيدة القدر خاصة - هو سبب التأخر والجمود في العالم الإسلامي، وصدقهم المغفلون الذين كانوا لا يعرفون من شعائر الدين إلا ما رسمه لهم مشايخ الطرق من صلوات وأوراد، ولا من قواعده إلا أن من الإيمان أن يرضى المرء بما كتب له على المفهوم الخاطئ لها، وباسم الزهد في الدنيا والاستسلام الخانع للذل والفقر تحت ستار الإيمان بالقدر وهما ما تطوعت به الطرق الصوفية وشجعته البيئة الجاهلة المنحطة، تقهقرت الحضارة الإسلامية وذبلت، حتى لفظت أنفاسها على يد الغزو العسكري والحضاري القادم من الغرب.

ذلك أن المعادلة الخاطئة التي كانت تقول: إن الصلاح قرين الفقر، والفساد صنو الغنى، قد تطورت واتخذت بعد اليقظة المنبهرة شكلاً آخر، فأصبحت تقول: إن الكفر والدنيا قرينان، والدين والتأخر قرينان.

وكان هذا هو الظاهر من حال أوروبا والعالم الإسلامي في أوهام العامة، إن أوروبا كافرة وبيدها مقاليد الدنيا، ونحن مسلمون - على المفهوم الخاطئ طبعاً للإسلام، وفي الوقت نفسه متأخرون.

وليس من شأننا -الآن- مناقشة هذه الأفكار، وإنما هدفنا أن نعرضها بإيجاز بالغ لنصل إلى النتيجة النهائية، وهي أن هذا الانحراف في التصورات الإسلامية كان المنفذ الذي تسربت منه العلمانية كإحدى مظاهر الغزو الفكري، لتقول للناس: إن الدين لا علاقة له بالحياة ولا بالسلوك العملي، وإنما هو رابطة قلبية بين العبد وربه يستحق بها النجاة والفوز في العالم الأخروي.

صحيح أن العلمانية فكرة أجنبية، وفدت إلينا مع الاستعمار، ودعمت بأذياله ومؤسساته الظاهرة والخفية، ولكن شيئا من ذلك ما كان ليحدث لولا أننا كنا مصابين بما أسماه مالك بن نبي قابلية الاستعمار أو كما سماه العلامة المودودي قابلية الاستعباد (15)

ولا أدل على ذلك من أن الأمة الإسلامية تعرضت للغزو الصليبي، ثم لهجمة التتار الشرسة، وخسرت المعركة سنين طويلة، غير أنه لم يدر بخلدها أن تخنع للأمة الغالبة أو أن تقتبس شيئاً من مناهجها ونظمها وتقاليدها؛ ومع استيعابنا لهذه الحقيقة نورد نماذج من المسلمين المفتونين بالحضارة الغربية باعتبارهم دعامة من الدعامات الأساسية التي ارتكزت عليها العلمانية في العالم الإسلامي:

نماذج لتقبل المسلمين الذاتي للأفكار العلمانية:

لقد سبق الحديث عن الثورة الفرنسية وطبيعتها اللادينية والأثر التلمودي فيها، كما أننا تحدثنا عن المذهب الطبيعي الفيزيوقراطي في فصل السياسة والاقتصاد، وفي فصل الصراع بين الدين والعلم، عرضنا أيضاً للفلاسفة الطبيعيين وآرائهم.

والآن لنقرأ هذه الاقتباسات من كلام شيخ مسلم درس في فرنسا لنرى كيف أنه يذكرنا بما سبق الحديث عنه هناك، وكأنما هو يترجم مع الشرح عبارات روسو وفولتير التي أوردنا نماذج منها سلفاً.

ومن زوال علم أصول الفقه، وما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها، وجعلوها أساساً لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم قل أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات، فما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يشبه ما يسمى عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وهو عبارة عن قواعد عقلية تحسيناً وتقبيحاً، يؤسسون عليها أحكام المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية، وما يتمسك به أهل الإسلام من محبة الدين والولع بحمايته مما يفضلون به عن سائر الأمم في القوة والمنعة يسمونه محبة الوطن، ولما كانت أعمال كل نوع من أنواع المخلوقات، وكل عضو من أعضاء فرد ذلك النوع منقادة لنواميس طبيعية عمومية خصته به الحكمة الإلهية كان لا يمكن مخالفة هذه النواميس بدون اختلال للنظام العام والخاص، وهذه النواميس الطبيعية التي خصت بها العالم القدرة الإلهية عامة للإنسان وغيره، فينبغي للإنسان ألا يتجارى على هذه الأسباب ويتعدى حدودها، حيث أن المسببات الناتجة عنها منتظمة محققة، فعلى الإنسان أن يطبق أعماله على هذه الأسباب التي تقدم ذكرها، ويتمسك بها وإلا عوقب عقاباً إلهياً لمخالفة خالق هذه الأسباب، وأغلب هذه النواميس الطبيعية لا يخرج عنها حكم الأحكام الشرعية، فهي فطرية خلقها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع الإنسان، وجعلها ملازمة له في الوجود، فكأنها قالب له نسجت على منواله وطبعت على مثاله، وكأنما هي سطرت في لوح فؤاده بإلهام إلهي بدون واسطة، جاءت بعدها شرائع الأنبياء بالواسطة وبالكتب التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فهي سابقة على تشريع الشرائع عند الأمم والملل، وعليها في أزمان الفترة تأسست قوانين الحكماء الأول وقدماء الدول، وحصل منها الإرشاد إلى طرق المعاش في الأزمنة الخالية، كما ظهر منها التوصل إلى نوع من انتظام الجمعيات التأنسية عند قدماء مصر والعراق وفارس واليونان، وكان ذلك من لطف الله تعالى بالنوع البشري حيث هداهم لمعاشهم بظهور حكماء فيهم؛ يقننون القوانين المدنية -لا سيما

الضرورية- لحفظ المال والنفس والنسل" (16).

ويقول في مؤلف آخر مثنياً على الدستور الفرنسي "الشرطة": "فيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل ... معنى الشرطة اللغة اللاتينية ورقة، ثم تسومح فيها، فأطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة، فلنذكره لك وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتعرف كيف قد حكم عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا، لذلك عمرت بلادهم، وكثرت مصارفهم، وتراكم بناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيها من يشكو ظلماً أبداً، والعدل أساس العمران" (17).

ويقول شيخ آخر معاصر له بوجوب (تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا بمجرد ما انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراتيب ينبغي أن يهجر، وتآليفهم في ذلك يجب أن تنبذ ولا تذكر).

وهو يعني بذلك اقتباس الطرائق الغربية في الحكم كالدستور المدون والمجالس النيابية ... إلخ، إذ يقول عن الممالك الأوروبية: "وإنما بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي وتسهيل طرق الثورة، وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم، وقد جرت عادة الله (كذا) في بلاده أن العدل وحسن التدبير والتراتيب المحفوظة من أسباب نمو الأموال والأنفس والثمرات".

ويقول مؤيداً ومستشهداً: "سمعت من بعض أعيان أوروبا ما معناه (إن التمدن الأورباوي تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلا إذا أخذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق" (18).

أما جمال الدين الأسد أبادي المشهور بالأفغاني، فهول يقول بصراحة: "إن الأمة هي مصدر القوة والحكم، وإرادة الشعب هي القانون المتبع للشعب، والقانون الذي يجب على كل حاكم أن يكون خادماً له وأميناً" (19).

ويقول أحد المتأثرين به وهو عبد الله النديم: "ولئن قيل إن التجارب دلتنا على أن الشورى لا تنجح في الشرق، أو أن الشرقيين غير عقلاء كما يزعم محبو الأثرة والانفراد بالتسلط، قلنا: إن الشرقي مع الغربي في الخلق يرد هذه الدعوى الباطلة، وإنما ثار الغربيون على العمل بالشورى، وأخذوا يصححون الأغاليط، ويراجعون الأخطاء، ويتبادلون الجدل عن عزائم صادقة حتى تربت الملكات، وتصورت المطالب أمامهم بصور الواقعيات" (20).

ومن أوضح الأدلة على تأثر المسلمين بالغرب وتقبلهم للفكر الدخيل، ما نراه في كلام جمال الدين المذكور وتلامذته من محاولة - لعلها الأولى في التاريخ الإسلامي - للتقريب بين الإسلام والمذاهب البشرية الوضعية، فهو يقول عن الاشتراكية: "وهكذا دعوى الاشتراكية ... ، وإن قل نصراؤها اليوم فلا بد أن تسود في العلم يوم يعم فيه العلم الصحيح، ويعرف الإنسان أنه وأخاه من طين واحد أو نسمة واحدة، وإن التفاضل إنما يكون بالأنفع من المسعى للمجموع".

ويقول: "أما الاشتراكية في الإسلام فهي ملتحمة مع الدين الإسلامي ملتصقة في خلق أهله منذ كانوا أهل بداوة وجاهلية، وأول من عمل بالاشتراكية بعد التدين بالإسلام هم أكابر الخلفاء من الصحابة، وأعظم المحرضين على العمل بالاشتراكية كذلك من أكابر الصحابة أيضاً" (21).

أما تلميذه الشيخ محمد عبده، فيستحسن الأنظمة الجمهورية النيابية، معتقداً أنها هي الوسيلة الحديثة للشورى الإسلامية، يقول: "والمبايعة لا تتوقف صحتها على الشورى، ولكن قد يحتاج فيها إلى الشورى لأجل جمع الكلمة على واحد ترضاه الأمة، فإذا أمكن ذلك بغير تشاور بين أهل الحل والعقد كأن جعلوا ذلك بالانتخاب -المعروف الآن- في الحكومة الجمهورية، وما هو في معناها حصل المقصود" (22).

ونحن لا نورد هذه الأقوال إلا لغرض واحد هو بيان انبهار الأمة الإسلامية بالغرب ونظمه، واستعدادها الذاتي للتلقي عنه تلقياً تدل هذه الشواهد وغيرها أنه لن يكون فيه تمييز ولا اختيار، وإذا كان هؤلاء وأمثالهم تطوعوا بتسويغ النظم اللادينية في أمتهم، وهيئوا النفسية الإسلامية لتقبلها مندفعين بدوافع نفسية ذاتية - وهو أمر قابل للجدال- فقد جاء بعدهم أناس مغرضون صرحاء اتخذتهم القوى المتآمرة على الإسلام أصابع لمخططاتها ومعاول لهدم الكيان المادي والمعنوي للأمة الإسلامية، وهؤلاء نؤجل الحديث عنهم إلى فصوله المناسبة على أن الدلالة المشتركة بين أولئك، وهؤلاء هي أن الأمة الإسلامية نفسها هي المسئولة أولاً وآخراً عن الغزو الفكري والحرب النفسية الشرسة على الإسلام، والتي كانت دعاوى العلمانية إحدى طلائعها.


(1) انظر الكافي باب أن الأئمة معصومون من الخطأ، بل انظر الحكومة الإسلامية للخميني (ص:52) (91هـ) بيروت.

(2) انظر الفصل الخاص بالأتراك من كتاب: الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد.
(3) انظر مثلاً: الاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية. علي الحوافظة.

(4) يمتاز الفقه الحنفي بكثرة افتراض المسائل غير الواقعية، وتقدير الأحكام لها لتكون جاهزة حال وقوعها.
(5) الإسلام والطاقات المعطلة: (98).

(6) انظر ما كتبه شبنلجر حول رحلة توماس مور إلى الباب العالي بشأن الحرب بين فرنسا وبريطانيا، فقال له الصدر الأعظم: إن مولاي السلطان لا يهمه أن يقتتل كلبان بعيداً عن مملكته، فلا داعي لدخولك عليه.

(7) انظر (ص:557) من هذا الكتاب، وتاريخ الدولة العلية العثمانية، ومادة تنظيمات من دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية.

(8) الإسلام المفترى عليه، محمد الغزالي: (68).

(9) من ذلك البيت المشهور:
يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر.
انظر ركائز الإيمان، (338)، وقصة العنزة المقدسة، الجبرتي: (1/ 401 - 403).

(10) انتشرت الزوايا على السواحل الإسلامية للبحر الأبيض وخاصة في الشمال الأفريقي، وقد أعادت الحركة السنوسية إليها الصبغة الجهادية فترة من الزمان.

(11) خصائص التصور الإسلامي: (131).
(12) باول شمتز، الإسلام قوة الغد العالمية: (78).
(13) ضرب الكليم: (9).

(14) إحياء علوم الدين: (4/ 333)، والخواص أحد مشهوري الزهاد المتصوفة.

(15) الأولى في كتابه شروط النهضة والثاني في كتابه: واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم.

(16) رفاعة الطهطاوي: المرشد الأمين: (36 - 38).
(17) تخليص الإبريز: (140).
(18) خير الدين التونسي: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك: (90، 98، 166).
(19) الاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية: علي الحوافظة: (102).
(20) المصدر السابق: (104).
(21) المصدر السابق: (181 - 182).
(22) تفسير المنار: (4/ 203)، وللشيخ دور آخر سيأتي الحديث عنه في فصل تال.

 

  • الخميس PM 06:38
    2022-06-16
  • 1662
Powered by: GateGold