ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
ما العلاقة بين الإسراء وبني إسرائيل؟
ليس من قبيل المصادفات العارضة أن تروي آية فذة قصة الإسراء، ثم ينتقل السياق بغتة إلى تاريخ بني إسرائيل. وليس من قبيل المصادفات العارضة أن تسمى سورة الإسراء في بعض المصاحف سورة "بني إسرائيل".
بل أقول: إنه ليس من المصادفات العارضة أن يدخل صلاح الدين "بيت المقدس" ويسترده من الصليبيين في السابع والعشرين من رجب سنة 583هـ بعد أن لبث في أيديهم قرابة قرن: كأن الأقدار جعلت عودة المسجد الأقصى إلى المسلمين في ذكرى احتفالهم بالإسراء إشارة إلى أن المسجد الذي ورثه الإسلام يجب أن يبقى له، وأن العلاقة بين أولى القبلتين وأخراها لا تنفصم، وأنه لا الصليبية قديماً ولا الصهونية حديثاً ستغيران سنن الله في مصاير الأمم، وإن نجحت كلتاها إلى حين في إلحاق هزيمة بالمسلمين!..
ونعود إلى ما بدأنا به كلامنا..
قال الله تعالى: {سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
وعقب هذه الآية مباشرة نقرأ قوله تعالى {وَءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَجَعَلْنَٰهُ هُدًى لِّبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِى وَكِيلًا} [الإسراء: 2].
ما العلاقة بين الإسراء، وإنزال التوراة وتاريخ اليهود، ثم حكاية مفاسدهم والتعليق عليها، وتبصير المسليمن بعواقبها؟؟
إن الإسراء كان من مكة إلى القدس. ولليهود في هذه البقاع تاريخ!..
صحيح انه لم يكن لهم وجود في فلسطين يوم وقع الإسراء، بل كان وجودهم في فلسطين محظوراً، لكن وجودهم السابق لا ريب فيه..
وانتهاء هذا الوجود ثم حظره يحتاج إلى تفسير، وهو ما أشارت إليه الآية وما بعدها في صدر سورة الإسراء، وهو ما أريد الآن متابعته من الناحية التاريخية..
كان الكنعانيون يسكنون فلسطين قديماً وهم سلالات عربية كإخوانهم العدنانيين والقحطانيين، ويظهر أنهم يجبروا، وأثاروا الرعب حيث يعيشون، وأراد الله تأدبيهم على مفاسدهم، فسلط عليهم بني إسرائيل. وقد وجل الإسرائيليون أيام موسى من التعرض للكنعانيين، وغلبهم الجبن، ورفضوا الزحف إلى فلسطين قائلين لموسى: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة: 22] فلما ألح عليهم قالوا مرة أخرى: {لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا} [المائدة: 24].
وعوقب الإسرائيليون على جبنهم بالتيه في سيناء أربعين سنة مات خلالها موسى، ثم خلفه يوشع الذي قاد بني إسرائيل إلى فلسطين منتصراً على الكنعانيين، وبانياً حكماً دينياً باسم التوراة بعد هزيمة العرب!..
بيد أن اليهود لم يلبثوا طويلاً حتى نجمت بينهم علل خلقية واجتماعية بالغة السوء، زادوا بها شراً على من كان قبلهم! وقد حكوا عن أنفسهم، وحكى القرآن عنهم ما يستحق التأمل، فقد اقترفوا رذائل جعلت القدر يحكم بطردهم من فلسطين شر طردة، وبدا أن السلطة في يدهم تعين على الافتراء والاعتداء إلى حد بعيد، فليسوا لها بأهل!.. ينبغي يجريدهم منها!..
وكانت فلسطين – حتى بعد قدوم اليهود – مليئة بأجناس أخرى، وكان المسلك المستحب لبني إسرائيل تحقير هذه الأجناس والنيل منها بأسلوب غريب! فقد زعموا أن "البنعمين" من أصل لا يمكن أبداً أن يرتفع، كيف، قالوا: إنهم سلالة "لوط" لما سكر وزني بابنته"!.. وكتبوا ذلك في سفر التكوين!!.
والقصة يقيناً مكذوبة، فأنبياء الله لا يسكرون ولا يزنون!!
ثم جاءوا إلى الكنعانيين العرب ووصفوهم بأنهم كلاب! وقد امتد هذا الوصف حتى ذكر في العهد الجديد، فقد لقيت امرأة كنعانية عيسى وهو يدعو في بيت المقدس، وصاحت به: يا سيد يا ابن داود، بنتي مريضة جداً..
وطلبت منه شفاءها!..
قفال لها: اذهبي يا امرأة فإن طعام البنين لا يرمي للكلاب.. يعني بالبنين: بني إسرائيل، وبالكلاب: الكنعانيين..
فقالت المحزونة: والكلاب أيضاً تأكل السادة! فشفى لها ابنتها بعد هذه الضراعة الذليلة!..
ونحن نجزم بأن الإنسان الرقيق الرحيم عيسى بن مريم يستحيل أن يسلك هذا المسلك، أو يرسل هذه الشتائم! لكنهم اليهود الذين تخصصوا في تجريح الأنبياء وإهانة الشعوب! ومن ثم نفهم قول القرآن فيهم: {أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْأَخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ} [آل عمران: 22]..
أيكفي في معاقبة بني إسرائيل أن يطردوا من فلسطين؟..
لا.. إن الله عزلهم نهائياً عن القيادة الدينية التي كانت لهم، وحرمهم من الوحي وشرف إبلاغه، واصطفى الأمة العربية لتقوم بهذه الأمانة، وكانت ليلة الإسراء والمعراج التصديق الحاسم لهذا التحول. فقد انتقلت الرسالة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، وأصبحت الأمة العربية لا العبرية هي الوارثة لهديات السماء!..
ونهض الإسلام بالعرب نهضة رائعة، وجعل منهم حملة حضارة زاهية، وفوجئ العالم بالأمة التي لم تعرف إلا رعي الغنم ونقل السلع، تتلو من كتابها أصح العقائد وأحكم الشرائع وأشرف التقاليد..
كان دريد بن الصمة يصف نفسه وقومه وعلاقة العرب بعضهم ببعض فيقول:
يغار علينا واترين فيشتفي
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
فما ينقضي إلا ونحن على شطر
وها هم العرب بالإسلام يعلمون الناس السماحة والأخوة والتعاون على البر والتقوى حتى قال "غستاف لوبون": إن العالم لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب!..
وكان دخول المسلمين بيت القدس أيام عمر بن الخطاب آية من آيات التواضع لله والبر بالناس.
ثم كان دخولهم بيت المقدس أيام صلاح الدين آية من آيات السماحة والعفو والمرحمة.
أما الأمة العبرية فقد خطت لنفسها طريقاً آخر، لقد هبت على اليهود عاصفة غضب بعثرتهم في أرجاء الأرض، فتوزعتهم المدائن والقرى في المشارق والمغارب. بيد أنهم حيث ذهبوا كان لهم فكر واحد ومنهج ملحوظ، يزعمون أنهم شعب الله المختار، ومع هذا الزعم فإنهم نسبوا إلى الله ما لا يليق بجلاله، ونسبوا إلى رسله ما لا يليق بشرفهم، واستباحوا لأنفسهم الربا وأكل مال الناس بالباطل..
وتقوقعوا في حاراتهم يحملون بالعودة إلى الأرض التي طردوا منها بسوء خلقهم مع الله والناس..
والغريب أنهم جعلوا آمالهم هذه وحياً يتلى، وأودعوها صحائف كتبهم وكأن الله هو الذي أنزلها عليهم!!.. وقد تضايق النصارى من مزاعمهم وأعمالهم لا سيما أنهم هم الذين سعوا في قتل عيسى!..
وإذ كنا على عكس النصارى نعتقد أن عيسى نجا من مؤامرتهم فالقوم على أية حال قتلة بضمائرهم. ومن ثم شرع النصارى حكاماً وشعوباً في اضطهادهم وإرخاص دمائهم..
وعرضت لهم مآس في أنحاء أوربا كادت تنتهي بإبادتهم حتى قال نفر من المؤرخين: لولا ظهور الإسلام لفنى اليهود! إنهم وجدوا في أرضه الفسيحة وسماحته الممتدة ما أبقى حياتهم!!.
ومن المؤرخين من يرى اليهود مسئولين عما نزل بهم من آلام، فأثرتهم الشديدة وشرههم في حب المال، وقلة اكثراثهم بقضايا الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها كل ذلك جعل القلوب تنطوي على بغضهم. وقد كان "هتلر" الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من الحكام الذين أذلوهم في طول أوربا وعرضها..
ومرت السنون ثقيلة طويلة، وظهرت الخلائق المستورة، أو نبتت ونضجت البذور الكامنة!..
كان المسلمون يغطون في نوم عميق، وكانت الدنيا من حولهم تتحرك بحقد مشبوب وتطالب بثارات قديمة.
كان يحلو للمسلمين أن يتحدثوا عن الرحلة الجوية بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وسدرة المنتهى! ولا بأس أن يقولوا شعراً ونثراً!.. أما الدرس الواعي للأمم التي توارثت فلسطين، وأسرار ازدهارها واندثارها فقلما يفكرون في ذلك. وربما لا يخطر لهم ببال أن هذه الأمم تفكر في العودة، وتحسن استغلال الفرص..
فلما جاء العصر الحديث انكشف الغطاء عن مفارقات مذهلة. انكشف عن تعصب يهودي شديد النبض، وعن تأييد حار له من رجال الكنيسة وأغلب الساسة.. أما العرب فقد قيل لهم: احملوا بإنسانية عامة متجردة عن الهوى، نؤازركم في المحافل الدولية، ونعدل بينكم وبين خصومكم!!..
واستكان النوام للأحلام فما صحوا إلا على المذابح تحصدهم رجالاً ونساء، والتسميم يجتاح الطلاب والطالبات، والغيوم تسد الآفاق كلها أمام مستقبل معقول..
ما الذي حدث؟..
ندع الجواب لغيرنا!..
ندعه لخصومنا ونتدبر ما يقولون..
كتب "حاييم وإيزمان" في مذكراته يقول لقومه: تحسبون أن لورد "بلفور" كان يحابينا عندما منحنا الوعد بإنشاء وطن قومي لنا في فلسطين؟.. كلا، إن الرجل كان يستجيب لعاطفة دينية يتجاوب بها مع تعاليم العهد القديم!!..
.. وندع "وايزمان" و "بلفور"، ونتدبر تصريحات مستر "كارتر" ومن بعده!.. إنهم جميعاً يتحدثون مع "بيجن" عن أرض الميعاد، وعن نبوءات التوراة والحدود التي رسمتها!..
إن المشاعر الدينية الغائرة في العقل الباطن والظاهر هي التي جعلت جنرال "جيرو" يقول في دمشق أمام قبر صلاح الدين: ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين!..
وهي نفسها التي جعلت مارشال "اللنبي" يدخل القدس في الحرب العالمية الأولى ويقول: الآن انتهت الحروب الصليبية.
يظهر أن العالم كله شديد الإحساس بعقائده وآماله الدينية إلا قومنا وحدهم، فإنهم يتذاكرون بينهم أن الدين رجعية!!..
إن قضية بيت المقدس وفلسطين منذ فجر التاريخ إلى قيام الساعة قضية دينية عند أصحاب الرسالات السماوية جميعاً، فكيف يتجرأ البعض على جعلها قضية قومية أو اقتصادية؟..
المسلمون يرون المسجد الأقصى يذكر في سياق واحد مع المسجد الحرام والمسجد النبوي، ويرون الدفاع عنه جزءاً من الإيمان، ويعترضون باسم الله ورسوله جهود اليهود لهدمه وإقامة الهيكل فوقه! ويعدون هذه الجهود جريمة ضد الإسلام والألف مليون مسلم الذي يعتنقونه! فكيف يتجاهل هذا؟..
والنصارى يرون بيت المقدس قبلتهم، وبه قبر المسيح، وقد جعلوا مفاتيح كنيسة القيامة بأيدي المسلمين لأنهم أمناء عليها، وحماة لها، ولرفع التنازع الطائفي بينهم على حيازتها!.
واليهود يرون أن هذه الأرض منحها الله إبراهيم الخليل وذريته من بعده وزعموا أنهم هم الذرية المعنية (!) وأن طردهم منها لعصيانهم وقتلهم الأنبياء لا يمنع من العودة إليها وطرد العرب منها!..
فإذا كان الدين وراء كل دعوى، فكيف جاء من أسموا أنفسهم العروبيين، وجردوا العرب من ولائهم الإسلامي، وأغروهم بجعل القضية صراعاً جنسياً أو نزاعاً "أمبرياليا" وغير ذلك من الأوصاف المكذوبة؟..
وعندما يفقد صاحب البيت عاطفته الدينية ويهجم اللص بهذه العاطفة المهتاجة فماذا تكون النتيجة؟..
إن اليهود اغتصبوا نصف مسجد الخليل، ويتآمرون على اغتصاب بقيته، والأخبار تترى – وأنا أكتب هذه السطور – إن مساجد شتى في يافا وعكا نسفت، وإن ترويع الطلاب العرب في مدارسهم بمحاولات التسميم مستمر حتى يترك العرب الضفة الغربية، وقطاع غزة، أو كما يعبر اليهود "يهوذا أو السامرة" إحياء لعناوين التوراة!.
إنني أتساءل: ماذا وراء تجريد فلسطين من صبغتها الإسلامية إلا الضياع؟..
نحن نحتفي بالبقعة التي انتهى إليها الإسراء، وبدأ منها المعراج، ونريد أن يسأل العرب أنفسهم: لماذا لم يكن المعراج من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى مباشرة؟ إن الإجابة تعرف من الآيات التي أعقبت قصة الإسراء في سورتها المباركة، كما تعرف من دراسة التاريخ القديم والوسيط والحديث!..
في هذه الأرض قامت رسالات وانتهت، وفيها نهضت دول وتلاشت..
ثم ورث المسلمون بيت المقدس باسم الله..
ولو أنك قرأت أحوال أمتنا أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجريين لظننت أنك تقرأ أحوال المسلمين في هذه الأيام العجاف!..
إن الصليبيين القدامى في فراغ:
كانت الفرقة بين العرب والمناقسة على السلطة هي الأسلحة التي هزمنا بها أعداؤنا، ولو اشتبك المسلمون مع الهاجمين في آية معركة جادة ما سقطت فلسطين..
وكأن التاريخ يعيد نفسه، إن الصهيونيين تقدموا في الفراغ نفسه!
أعانتهم الفرقة، والشهوات المطاعة، والعقائد المنحلة، والأنانية الطاغية، فكسبوا معركتهم بأيدينا..
أريد – كلما استقبلنا ذكرى الإسراء – أن تنجاوز الهامش إلى الصميم.. أن نترك السرد السطحي للقضية..
أن نعمق النظر في الأسباب التي من أجلها كان الإسراء.. ولأجلها قامت للعرب دولة تحمل الرسالة الإسلامية، ونضع الموازين القسط بين الناس.
-
الخميس AM 10:42
2022-03-24 - 2581