المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416611
يتصفح الموقع حاليا : 285

البحث

البحث

عرض المادة

حجية أخبار الآحاد في العقيدة

لم يكن الصحابة والتابعون يفرقون في الاحتجاج بالسنة بين ما رواه جماعة كثيرة، وبين ما رواه واحد أو اثنان أو ثلاثة ما دام الضبط والعدالة متوافرين، وما دامت ثقة الرواة معلومة، إذ الجميع دين نحن ملزمون به، والعبرة بثقة الناقل لا بكثرة عدد النقلة، فكم من خبر ينقله ثقة واحد يكون في منتهى الصحة والدقة، وكم من خبر مكذوب يرويه عدد كبير لا تزيده الكثرة إلا ظلمة كما قرر أهل الحديث.

كما أنهم لم يكونوا يفرقون في الاحتجاج بين ما مضمونه عقائد وبين ما مضمونه أحكام فالكل إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ملزم للمسلمين.

واستمر الأمر على ذلك إلى زمن أتباع التابعين حيث ظهر تقسيم الحديث باعتبار طرق وصوله إلينا وعدد أسانيده إلى متواتر وآحاد، وكان لأهل الفرق المبتدعة والمناظرة معهم أثر كبير في ظهور هذا التقسيم، ثم استقر الأمر عليه في القرون التالية.

أولا- الحديث المتواتر:

1- المتواتر لغة:

اسم فاعل مشتق من التواتر، بمعنى التتابع، يقال: تواتر المطر إذا تتابع نزوله.

2- المتواتر اصطلاحا:

"ما رواه جمع كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من أول السند إلى منتهاه، ويكون مستند خبرهم الحس".

3- شروطه:

أ- كثرة العدد: وقد اختلفوا في تحديد العدد المفيد للتواتر، فقيل: 5،
وقيل:7، وقيل:10، وقيل:20، وقيل غير ذلك، والذي اختاره السيوطي وبعض العلماء أن أقل الكثرة في إفادة التواتر عشرة.

 والتحقيق في هذه المسألة ما ذكره الحافظ ابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية من أنه لا معنى لتحديد العدد على الصحيح، وأن العبرة بحصول العلم اليقيني الذي قد يكون تارة بكثرة المخبرين، وتارة بصفاتهم، وتارة بقرائن أخرى تحتف بالخبر.

قال ابن تيمية في الفتاوى: "إن الخبر المفيد للعلم يفيده من كثرة المخبرين تارة، ومن صفات المخبرين أخرى، ومن نفس الإخبار به أخرى، ومن نفس أحوال المخبر به أخرى، ومن الأمر المخبر به أخرى، فرب عدد قليل أفاد خبرهم العلم، لما هم عليه من الديانة والحفظ الذي يؤمن معه كذبهم أو خطؤهم، وأضعاف ذلك العدد من غيرهم قد لايفيد العلم ، هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وهو قول جمهور الفقهاء والمحدثين وطوائف المتكلمين".

ب- أن تتوافر الكثرة التي يحصل بها العلم اليقيني في جميع طبقات السند، لأن كل طبقة تمثل عصرا معينا، وخبر أهل كل عصر مستقل بنفسه، فلابد من تحقق الشروط فيه.

جـ- أن تحيل العادة اتفاقهم على الكذب، وذلك بانتفاء كل غرض أو شبهة تحملهم على ذلك، كأن يتفق أهل بلدة موبؤة على كتم خبرها عن غيرهم حتى لا يتركوا التعامل معهم فيختل العيش بها، وكذلك الشائعات التي تصاحب أحداثا سياسية معينة، وإن ظهرت في معظم وسائل الإعلام.

ولهذا الشرط وللشرطين قبله لم يقبل خبر اليهود بتكذيب نسخ شريعة موسى عليه السلام، ولا خبر النصارى بدعوى صلب المسيح عليه السلام، ولا خبر الشيعة بالنص على إمامة علي رضي الله عنه.

د- أن يكون مستند خبرهم الحس من مشاهدة أو سماع أو إخبار، لأن ما لايكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه، وكذلك تتفاوت الأنظار في فهمه والتعبير عنه.

هـ- لا يشترط في الأخبار العامة أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولا، أما في أخبار الديانة ورواية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فالصحيح اشتراط الإسلام للإجماع على عدم جواز رواية الكافر.

4- حكمه:

إن الحديث المتواتر إذا توافرت شروطه فإنه يفيد العلم اليقيني القطعي، الذي يضطر سامعه إلى التصديق به، وهو أعلى درجات الحديث الصحيح، ولا يحتاج إلى دراسة إسناده ولا إلى البحث عن أحوال رواته، لأن جميعه صحيح.

5- عدده:

الحديث المتواتر قليل بالنسبة إلى عموم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في حدود ثلاثمائة حديث.

ثانيا- حديث الآحاد:

1- تعريفه لغة: الآحاد جمع أحد بمعنى الواحد، وهو الفرد.

2- تعريفه اصطلاحا: "هو ما لم يجمع شروط المتواتر، بفقد واحد منها
أو أكثر"، وليس المقصود ما يرويه شخص واحد فقط، كما قد يتوهم، بل قد يرويه الواحد، والاثنين، والثلاثة، ومازاد على ذلك، ما لم يصل إلى حد المتواتر، ويجمع شروطه.

3- أقسامه: ينقسم خبر الآحاد بالنسبة إلى عدد طرقه إلى ثلاثة أقسام، هي:

أ- المشهور: "وهو ما رواه ثلاثة فأكثر في كل طبقة ما لم يبلغ حد التواتر".

ب- العزيز: "وهو ما رواه اثنان في طبقة أو أكثر من طبقات السند".

جـ- الغريب: "وهو ما رواه واحد في طبقة أو أكثر من طبقات السند".

4- حكمه: يخضع خبر الآحاد إلى قواعد الجرح والتعديل، لأن منه المقبول ومنه المردود، والمقبول منه حجة شرعية موجبة لاعتقاد مضمونها والعمل بمقتضاها، في أصول الشريعة وفروعها، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام.

ثالثا- إفادة أحاديث الآحاد للعلم:

إن خبر الواحد الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي تلقته الأمة
بالقبول تصديقا له وعملا به أفاد العلم والقطع واليقين، هذا ما كان عليه عامة
السلف، وجماهير من يعتد به من الخلف من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وهو ماقرره المحققون من العلماء مثل ابن حزم، والخطيب البغدادي، وابن الصلاح، وابن كثير، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الخصوص: "فهذا- أي ما حكم عليه المحدثون بالصحة، وتلقته الأمة بالقبول- يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله
عليه وسلم، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل السرخسي وأبي بكر الرازي من الحنفية، والشيخ أبي حامد الأسفراييني وأبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحق الشيرازي من الشافعية، وابن خويز منداد وغيره من المالكية، ومثل القاضي أبي يعلى وابن أبي موسى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية، ومثل أبي إسحق الإسفراييني وابن فورك وأبي إسحق النظام من المتكلمين، وذكره ابن الصلاح وصححه واختاره، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم، وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة، وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين، وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله أبو عمرو بن الصلاح انفرد به عن الجمهور! وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الآمدي، وإلى ابن الخطيب، فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني.

وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو، والحجة على قول الجمهور: أن تلقي الأمة للخبر تصديقا وعملا إجماع منهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب، كما ذكر الشيخ
أبو عمرو، ومن قبله من العلماء، كالحافظ أبي طاهر السلفي وغيره، فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم، مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها، دون المتكلمين والنحاة، وكذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء الحديث العالمون بأحوال نبيهم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم، فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون
معلوما لغيرهم، فضلا أن يتواتر عندهم، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم، وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علما لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به"([1]).

وبهذا يعلم أن ما شاع لدى المتأخرين من الجزم بأن خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن مطلقا قول مستحدث مرجوح مخالف لما أجمع عليه السلف، ومخالف لما قرره المحققون من العلماء الحفاظ وأهل الاختصاص، وأنه قول يرتكز على التقليد لا على التحقيق، كما هو واضح من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

ونبه ابن القيم على فساد قياس الخبر الشرعي على الأخبار الأخرى في إفادة العلم فقال: "وإنما أتي منكر إفادة خبر الواحد العلم من جهة القياس الفاسد، فإنه قاس المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرع عام للأمة، أو بصفة من صفات الرب تعالى على خبر الشاهد على قضية معينة، ويا بعد ما بينهما! فإن المخبر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لو قدر أنه كذب عمداً أو خطأ، ولم يظهر مايدل على كذبه لزم من ذلك إضلال الخلق، إذ الكلام في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول، وعملت بموجبه، وأثبتت به صفات الرب وأفعاله، فإن ما يجب قبوله شرعاً من الأخبار لا يكون باطلاً في نفس الأمر، لاسيما إذا قبلته الأمة كلها، وهكذا يجب أن يقال في كل دليل يجب اتباعه شرعاً، لا يكون إلا حقاً، فيكون مدلوله ثابتاً في نفس الأمر، هذا فيما نُخْبَر به عن شرع الرب تعالى وأسمائه وصفاته، بخلاف الشهادة المعينة على مشهود عليه معين، فهذه قد لا يكون مقتضاها ثابتاًً في نفس الأمر.

وسر المسألة أنه لا يجوز أن يكون الخبر الذي تعبد الله به الأمة، وتعرف به إليهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات أسمائه وصفاته كذباً وباطلاً في نفس الأمر، فإنه من حجج الله على عباده، وحجج الله لا تكون كذباً وباطلاً، بل لا تكون إلا حقاً في نفس الأمر، ولا يجوز أن تتكافأ أدلة الحق والباطل، ولا يجوز أن يكون الكذب على الله وشرعه ودينه مشتبهاً بالوحي الذي أنزله على رسوله، وتعبد به
خلقه، بحيث لا يتميز هذا عن هذا، فإن الفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب، ووحي الشيطان، ووحي الملك عن الله؛ أظهر من أن يشتبه أحدهما بالآخر، ألا وقد جعل الله على الحق نوراً كنور الشمس يظهر للبصائر المستنيرة، وألبس الباطل ظلمة كظلمة الليل.

وليس بمستنكر أن يشتبه الليل بالنهار على أعمى البصر، كما يشتبه الحق بالباطل على أعمى البصيرة، قال معاذ بن جبل قضيته: "تلقَّ الحق ممن قاله، فإن على الحق نوراً"، ولكن لما أظلمت القلوب، وعميت البصائر بالإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وازدادت الظلمة باكتفائها بآراء الرجال التبس عليها بالباطل، فجوزت على أحاديثه صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي رواها أعدل الأمة وأصدقها أن تكون كذباً، وجوزت على الأحاديث الباطلة المكذوبة المختلقة التي توافق أهواءها أن تكون صدقاً فاحتجت بها!

وإنما المتكلمون أهل ظلم وجهل، يقيسون خبر الصديق والفاروق وأبي بن كعب بأخبار آحاد الناس، مع ظهور الفرق المبين بين المخبرَيْن، فمن أظلم ممن سوى بين خبر الواحد من الصحابة وخبر الواحد من الناس في عدم إفادة العلم؟ وهذا بمنزلة من سوى بينهم في العلم والدين والفضل([2]).

رابعا- حجية أحاديث الآحاد في العقيدة:       

إن صحة الاحتجاج بأحاديث الآحاد في أبواب العقائد أمر مقرر مفروغ منه لدى السلف من الصحابة فمن بعدهم، ولم يكن ذلك مثار شك ولا جدل، فكل حديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو عندهم حجة في الأحكام والعقائد على حد سواء، ولم تكن المسألة بحاجة إلى تقرير خاص في كتب المتقدمين؛ لوضوحها لديهم، وإنما توجد في معرض ردودهم على المخالفين من أهل البدع، وممن نقل إجماع الصحابة فمن بعدهم على هذه المسألة: ابن القيم في مختصر الصواعق المرسلة، وابن عبد البر في التمهيد، وسيأتي نقل ذلك عنهما قريباً عند سياق دليل الإجماع.

ثم ظهر أهل البدع، وشاع علم الكلام، وأثار المبتدعة جملة من القضايا الأصولية دفاعاً عن بدعهم، وكان موضوع حجية خبر الآحاد مما بالغوا في إنكاره حتى يردوا تلك الأحاديث التي تبطل معتقداتهم الفاسدة، وقد رد عليهم علماء السنة بالحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، غير أن بعض أهل الكلام والأصول من المتأخرين قد تأثروا ببعض تلك القضايا المثارة، ومن ذلك القول بعدم حجية خبر الواحد في باب العقائد؛ لأن المطلوب فيها القطع، وأخبار الآحاد لا تفيد عندهم إلا الظن، وهذا مذهب المعتزلة، واشتهر عند متأخري الأشاعرة.

والمذهب الحق أن أخبار الآحاد حجة في باب العقائد، كما هي حجة في باب الأحكام والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

وقبل سياق جانب من أدلة هذه المسألة باختصار أذكّر بما تقدم تقريره قريبا من أن أحاديث الآحاد إذا توافرت فيها شروط الصحة أفادت العلم على التحقيق، وهذا من أعظم ما ينقض به مذهب المخالفين؛ لأن قولهم مبني على أنها لا تفيد إلا الظن، وباب العقائد القطع، وحتى لو قلنا إنها لا تفيد إلا الظن الغالب- كما هو مذهب المخالفين فلا يمتنع إثبات الأسماء والصفات وسائر أمور العقائد بها، إذ الجميع متفقون على أن الأحكام تثبت بها، ولا دليل على التفريق بين الأمرين.

* أما الأدلة من الكتاب العزيز، فمنها:

1- قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}([3]).

ولا خلاف أن الطائفة تطلق في لغة العرب على الواحد فصاعداً، والإنذار هو الإعلام بما يفيد العلم، وهو يتعلق بتبليغ العقيدة وغيرها مما جاء به الشرع.

2- قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}([4])، وهذا أمر لمن لم يعرف دعوة الرسل- وهي أصول وفروع- أن يسأل العلماء عن ذلك، ويكفيه تعليم واحد وبلاغه، ويكون جوابه ملزماً للسائل في العقيدة والأحكام جميعاً.

3- قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}([5])، فدلت الآية بمفهوم الخطاب على أن خبر الواحد العدل حجة شرعية ملزمة، ولا دليل على التفريق في ذلك بين العقائد وغيرها.

* ومن أدلة السنة المطهرة ما تواترت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعث الرسل وإرسال الكتب مع الآحاد إلى المشركين وإلى المسلمين، وعهده إليهم أن يبلغوا عنه جميع أمور الدين أصولاً وفروعاً، ولو كان خبر الواحد لا يقبل في العقائد لبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل قطر جماعة يصلون إلى حد التواتر، لتبليغ أمور العقيدة، وذلك ما لم يحصل.

* دليل الإجماع: لم ينقل عن السلف من الصحابة فمن بعدهم التفريق بين الأحكام والعقائد في طريق إثباتها، ولم ينقل عنهم خلاف في كون خبر الواحد حجة في الأمرين معاً، بل العكس هو الثابت عنهم، فكانوا يكتفون في قبول الخبر بعدالة الرواة وضبطهم مهما كان موضوعه ومضمونه، ولم يكونوا يطلبون التواتر للإقرار والتصديق بما جاء في الأحاديث من العقائد، وقد تناقلوا أحاديث الآحاد الواردة في العقائد وحرصوا على تلقيها والاشتغال بفهمها وحفظها واعتقاد مضمونها والعمل بمقتضاها، وطفحت المصنفات بالاحتجاج بصحيحها، قال ابن عبد البر عن السلف: "وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعا ودينا في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة، ولهم في الأحكام ما ذكرنا".

وذكر ابن القيم في كلام طويل أن الاجماع المعلوم المتيقن قد انعقد على قبول أحاديث الآحاد في العقائد، وإثبات صفات الرب تعالى بها، وأن الصحابة فمن بعدهم قد تناقلوا ذلك جيلاً عن جيل.

* ومن الأدلة العقلية ونحوها:

1- إن إنكار حجية خبر الآحاد في باب العقائد مخالف لأدلة الكتاب والسنة التي يحتج بها المخالفون أيضاً على وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في الأحكام، وتلك الأدلة عامة، فمن أين لهم التفريق؟.

2- إن التفريق بين العقائد والأحكام في حجية خبر الواحد مبني على أساس
أن العقيدة لا يقترن معها عمل، وأن الأحكام الفقهية لا تقترن معها عقيدة، وكلاهما باطل، فإن عمل القلب هو الأصل الذي تبنى عليه كل عبادة، وهو من العقيدة، كما أن تطبيق الأحكام لابد أن يقترن باعتقاد أن الله أوجب ذلك أو نهى عنه، وإلا لم تكن هناك عبادة.

3- إن القول برد أحاديث الآحاد في العقائد يلزم منه إنكار جملة كبيرة من المعتقدات الثابتة لدى المسلمين، مثل بدء الخلق، وسؤال الملكين، والشفاعة العظمى، ونحوها.

4- كما يلزم منه رد مئات الأحاديث الصحيحة لمجرد كونها في باب العقائد، وهذا ما لا يوافقهم عليه أحد من أهل الصنعة الذين هم الحجة في هذا الباب، ويلزم من هذا رد كثير من الأحكام التي وردت في تلك الأحاديث أيضا.

5- ويلزم منه أيضا تفاوت المسلمين فيما يجب عليهم اعتقاده بحسب طريق وصول أحاديث العقائد إلى كل منهم بعد عهد الصحابة، وهذا ظاهر البطلان
والفساد، فإن الله قد تعبد جميع المسلمين بالشريعة نفسها من حيث المعتقدات والأحكام وسائر أمور الديانة.

وبالجملة فإن القول بعدم حجية أخبار الآحاد في العقائد قول مبتدع لا أصل له في الشرع، وهو غريب عن هدي الكتاب والسنة، ومنهج السلف وصنيعهم، فعلى القائلين بذلك أن يتوبوا إلى الله عز وجل، ويلتزموا الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، ويتركوا الانشغال بالتقليد وآراء الرجال.

وأختم هذا المبحث بالرد على الشبهة التي عرضت للمخالفين في هذه المسألة، ثم صارت عقيدة لهم يوالون ويعادون عليها، ويتعبدون الله بها، وهي قولهم: "إن حديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، والظن يعمل به في الأحكام اتفاقا، ولا يجوز الأخذ به في العقيدة".

وقد تقدم بيان إفادة خبر الآحاد الذي تلقته الأمة بالقبول العلم والقطع واليقين.

ولو سلمنا جدلا بأن حديث الآحاد لا يفيد إلا الظن، فإنا نقول لهم: من أين لكم التفريق بين الأحكام والعقائد في الاستدلال بأحاديث الآحاد عليها، وما الدليل على أن لا يجوز الأخذ بها في العقيدة؟

وقد تقدم بيان بطلان هذا التفريق، ونجد أن دليلهم الوحيد في هذا لا يصلح للاستدلال به في هذا الموضع، مما يدل على جهلهم بفهم كتاب الله ويؤكد بطلان ما صاروا إليه.

فقد استدلوا بقوله تعالى في المشركين: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}([6])، وقوله: {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}([7]).

وفات هؤلاء أن الظن المذكور هنا والذي ذمه الله تعالى، والذي هو صنيع المشركين ليس هو الظن الغالب الذي يفيده خبر الآحاد- على قولهم- وإنما هو الشك والخرص والحزر والتخمين، كما جاء في كتب اللغة، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}([8]).

ولوكان الظن المنعي على المشركين في هذه الآيات هو الظن الذي يفيده خبر الآحاد كما زعم أولئك لم يجز الأخذ به في الأحكام أيضا، وذلك لسببين:

أولهما: إن الله تعالى قد أنكره على المشركين إنكارا مطلقا، دون تخصيص له بالعقيدة أو الأحكام.

الثاني: إن الله تعالى قد نص على أن الظن الذي أنكره على المشركين يشمل العقيدة والأحكام جميعا، ذلكم قوله سبحانه([9]): {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا (فهذا عقيدة) ولا حرمنا من شيء (وهذا من الأحكام) كذلك كذب الذين من قبلكم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}.

وبهذا يتأكد أن الظن الذي لا يجوز الأخذ به مطلقا هو الظن اللغوي المرادف للشك والتخمين والتخرص والقول بغير علم، وأنه يحرم اعتباره في العقائد والأحكام جميعا.

كل هذا على سبيل التنزل مع الخصم، وإلا فالصحيح الذي عليه إجماع السلف ومن يعتد به من العلماء أن أحاديث الآحاد التي تلقتها الأمة بالقبول تفيد العلم واليقين، وأنها حجة شرعية في العقائد والأحكام جميعا، فعلى كل مسلم أن يتقي الله، ويقلع عن التقليد ويسلم للدليل الشرعي، حتى يعبد الله كما أمر وشرع في هذه الدنيا، وكي يسلم وينجو عند الوقوف بين يدي الله تعالى يوم القيامة.

 

المراجع المساعدة

  • الرسالة للإمام الشافعي 370.
  • الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 107.
  • التمهيد لابن عبد البر 1/8.
  • مختصر الصواعق المرسلة 2/332، 360، 412، 421، 432.
  • أصل الاعتقاد للأشقر 57.
  • الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد في الأحكام والعقائد للهلالي.
  • الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام للألباني.
  • أخبار الآحاد لابن جبرين 95 - 101.
  • إحكام الفصول للباجي 339.
  • المحصول للرازي 2/1/558.
  • مجموع الفتاوى 20/260.
  • أصول الفقه وابن تيمية 1/249 - 252.
  • السنة المفترى عليها 133.
  • الحديث والمحدثون 24.
  • السنة للسلفي 135.
  • الحديث النبوي 226.

أسئلة التقويم الذاتي

  • عرف المتواتر، واذكر شروطه وحكمه.
  • عرف حديث الآحاد، واذكر شروطه وحكمه.
  • متى ظهر هذا التقسيم، وما هي أسبابه؟
  • هل يفيد خبر الآحاد العلم أو الظن الغالب؟ ناقش المسألة مع الاستدلال والترجيح.
  • ما هي شبهة المخالفين في هذه المسألة مع الرد عليهم.
  • هل قول المخالفين أصيل أو مبتدع في الدين، مع الاستدلال.
  • ما الواجب على المسلم في هذه المسألة عقيدة وعملا ودعوة؟

8- لخص هذا المبحث في ثلاث صفحات من تعبيرك.

 

 

 

 

 

([1]) مختصر الصواعق المرسلة 2/373 .

([2]) مختصر الصواعق المرسلة 2/368 ، 379 .

([3]) التوبة : (122) .

([4]) النحل : (43) .

([5]) الحجرات : (6) .

([6]) النجم : (23) .

([7]) النجم : (28) .

([8]) الأنعام : (116) .

([9]) الأنعام : (148) .

  • الاحد PM 01:34
    2020-11-29
  • 3665
Powered by: GateGold