ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم زورا
ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم زورا(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم زورا، مستدلين على ذلك بما يزعمونه من أنه - صلى الله عليه وسلم - تعمد أن يحكم على رجل بريء بالرجم؛ مستشهدين بما ورد في الحديث: "أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح، وهي في طريقها إلى المسجد، فاستغاثت برجل، وفر الآخر، ثم مر عليها قوم ذوو عدد فاستغاثت بهم، فأمسكوا بالذي استغاثت به، ولم يستطيعوا الإمساك بالجاني، فأتوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحلف لهم أنه المستغاث به لا المجرم، وهنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمه، وعندئذ استيقظ ضمير الجاني واعترف، وبرأ الذي أغاثها"، ويتساءلون: ماذا لو لم يستيقظ ضمير الجاني الحقيقي؟! هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في تشريع النبي - صلى الله عليه وسلم - بغية القول بعدم تثبته - صلى الله عليه وسلم - فيما يقضي به، وعدم نزاهته فيما يحكم به.
وجها إبطال الشبهة:
1) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثالا فريدا في العدل والإنصاف، وهذا ما لا ينكره منصف حين يطالع سيرته العطرة، فهو - صلى الله عليه وسلم - بشهادة القرآن الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، فكيف يكون القدوة والأسوة ظالما؟!
2) إن الرواية الصحيحة التي غيب المدعون جزءا منها تفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - حكم باعتبار الظواهر وشواهد الأحوال، فكل القرائن من شهادة المرأة والإمساك بالرجل وهو يجري، كل هذا يقضي بأنه الفاعل، والشريعة تقضي بإجراء الأحكام القضائية على الظواهر والقرائن دفعا للحرج والمشقة، وإلا فلماذا يحابي الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الرجل، وهو الذي لا يحابي أحدا، وإن كان أقرب الناس إليه؟! وموقف المرأة المخزومية خير شاهد على ذلك.
التفصيل:
أولا. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثالا فريدا في العدل والإنصاف؛ لأنه الأسوة والقدوة:
جعل الله - عز وجل - النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة للمؤمنين أجمعين حين قال سبحانه وتعالى: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21)( (الأحزاب). وقد اكتملت مقومات هذه القدوة نظريا وعمليا؛ ولذلك يقولون: "إن تأثير العمل على الناس فوق تأثير القول، فنبوته - صلى الله عليه وسلم - جمعت إلى القول العمل الصالح، والخلق الفاضل، والدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - والصبر عليها، والصلابة في الحق" [1].
وهذه الأسوة وتلك القدوة تحتاج إلى أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعدل الناس في أحكامه وأفعاله؛ لأنه لا يحكم إلا بما أمره الله - سبحانه وتعالى - به، والله - سبحانه وتعالى - لا يأمر إلا بالعدل يقول سبحانه وتعالى: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي( (النحل: ٩٠)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير منفذ لما أمره به ربه، وهناك أمثلة كثيرة تدل على ذلك منها:
لما اختلفت قريش، وتحازبت[2] عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر الأسود، حكموا أول داخل عليهم، فإذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - داخل، وذلك قبل نبوته، فقالوا: هذا محمد، هذا الأمين قد رضينا به، وعن الربيع بن خثيم قال: كان يتحاكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية قبل الإسلام[3].
هذا قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - أما بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - فقد كان أعدل الناس، وأبعدهم عن الظلم، ما ظلم أحدا في دم، أو عرض، أو مال، ولا جار في حكم. وكان من أخلاقه العدل في الرضا والغضب، وكان مثالا للعدل مع نفسه وأهله وولده وصحابته، ولقد بلغ من عدله أنه كان ينصف الناس من نفسه، ومن ذلك قصته مع سواد بن غزية، ورضاؤه أن يقتص منه طعنة طعنه إياها، وهو يعدل الصفوف، ولما قال أحد المنافقين بعد قسمة غنائم حنين: «يا رسول الله، اعدل، قال له: ويلك، ومن يعدل إذ لم أعدل، خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» [4] [5].
ولا يفوتنا في هذا الشأن أن نذكر حديث المرأة المخزومية التي أهم أمرها قريشا، فاستشفعوا أسامة بن زيد فيها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشفع لها عنده فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال: أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» [6].
ناهيك عن أقواله - صلى الله عليه وسلم - في فضل العدل، وجزاء العادلين، فقد جعلهم أول من يظلهم الله في ظله يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن» [7]، وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضا: «وأهل الجنة ثلاث: ذو سلطان مقسط متصدق موفق...» [8].
إن الله هو العدل، وإن حكمه - سبحانه وتعالى - هو العدل، فهو الخبير بما تكنه الصدور، وهو المطلع على ما خفي من الأمور؛ لذا فقد أنزل قانونا يتحاكم إليه العباد، قانونا يضمن ويكفل حرية الإنسان وأمانه في المجتمع، وكيف لا وهو - سبحانه وتعالى - مالك السماوات والأرض وهو العليم الحكيم، وكانت مهمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي أن ينفذ هذا العدل بين الناس، دون اعتبارات لأية أهواء أو آراء من قبل البشر، ممتثلا في ذلك لقول ربه سبحانه وتعالى: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله( (المائدة: ٤٩)، وقال سبحانه وتعالى: )فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق( (المائدة: ٤٨).
ويجدر بنا أن نطالع أقواله - صلى الله عليه وسلم - فيمن يجور في حكمه بين الناس، وهو ما اتهم به - صلى الله عليه وسلم - فعن ابن أبي أوفـى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان» [9]، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وكله إلى نفسه».[10] وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق، فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار»[11] [12].
ولا تخفى علينا نصوص تحريم الظلم، ومنها قول الله - عز وجل - في الحديث القدسي: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا» [13]، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» [14].
أبعد كل هذا يتهم صاحب هذه الأقوال والأفعال جميعا بالجور، وبأنه كان يحكم زورا؟! وكيف يستقيم في ذهن عاقل أن يجور - صلى الله عليه وسلم - وهو صاحب رسالة؟ ولحساب من يجور وهو الذي أقسم على قطع يد فاطمة - ابنته - إن سرقت؟ وهو الذي لم يرض بشفاعة أسامة في المرأة المخزومية التي كانت من شريفات القوم، إذ قد أهم قريشا أمرها؟!!
ثانيا. تقضي الشريعة بإجراء الأحكام القضائية على الظواهر والقرائن؛ دفعا للحرج والمشقة، وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس في حكمه هذا زور:
لم يبق لنا الآن إلا أن نذهب إلى هذه الرواية التي ادعوا من خلالها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم زورا.
تقول الرواية: إن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح، وهي في طريقها إلى المسجد، فاستغاثت بأحد المارة، ففر المعتدي، ثم مر عليها ناس فاستغاثت بهم، فأمسكوا بالذي استغاثت به، ولم يستطيعوا الإمساك بالجاني، فأتوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحلف لهم أنه المستغاث به لا المجرم، وهنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمه، وعندئذ استيقظ ضمير الجاني فاعترف وبرئ الذي أغاثها.
وأول ما ينبغي التوجه إليه هنا التأكد من لفظ الرواية الصحيحة لهذه القصة، فالأمور لا تؤخذ هكذا بحيث يشكل الباحث فكرة مسبقة، ثم يحاول أن يوجد الأدلة عليها بما شاء، فمن مقتضيات البحث العلمي وقواعده أن يبدأ المرء في بحثه لأمر ما، وهو خالي الذهن من أحكام مسبقة، ثم يكون آراءه من خلال ما تجمع لديه من أدلة ومعطيات، فتستخلص النتائج من المقدمات[15]. وهو ما عبر عنه فقهاؤنا حين قالوا: "استدل قبل أن تعتقد، ولا تعتقد قبل أن تستدل فتضل".
والرواية الصحيحة: «خرجت امرأة إلى الصلاة، فلقيها رجل فتجللها بثيابه، فقضى حاجته منها وذهب، وانتهى إليها رجل، فقالت له: إن الرجل فعل بي كذا وكذا، فذهب الرجل في طلبه، فانتهى إليها قوم من الأنصار فوقعوا عليها، فقالت لهم: إن رجلا فعل بي كذا وكذا، فذهبوا في طلبه، فجاءوا بالرجل الذي ذهب في طلب الرجل الذي وقع عليها، فذهبوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: هو هذا، فلما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمه، قال الذي وقع عليها: يا رسول الله، أنا هو، فقال للمرأة: اذهبي فقد غفر الله لك، وقال للرجل قولا حسنا، فقيل: يا نبي الله، ألا ترجمه؟ فقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم» [16].
فإن قيل: كيف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار؟! قيل: هذا من أدل الدلائل على اعتبار القرائن والأخذ بشواهد الأحوال في التهم، وهذا يشبه إقامة الحدود كحد شرب الخمر بالرائحة والقيء، كما اتفق عليه الصحابة، وإقامة حد الزنا بالحبل، كما نص عليه عمر وذهب إليه فقهاء المدينة، وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك إقامة حد السرقة على المتهم بالسرقة، إذا وجد المسروق عنده، فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد [17] هربا، وقالت المرأة: هذا هو الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دنا منها، وأتى إليها وادعى أنه كان مغيثا، ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان هذا أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة.. وعداوة المرأة في هذا الموضع في غاية الاستبعاد[18].
إذن فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا لا يعدو كونه حكما بقرائن الموقف، وشواهد الأحوال، وحكما بما دلت عليه الظواهر، وقد قضت الشريعة الإسلامية أن الأحكام القضائية في منازعات الناس وخصوماتهم، وقضاياهم، ومعرفة المحق من المبطل، والمصلح من المفسد، أجراها النبي - صلى الله عليه وسلم - على الظاهر الذي يظهر من خلال كلام الخصمين؛ تعليما لأمته وإرشادا لهم، ورفعا للحرج أو المشقة عن القضاة الذين يحكمون في هذه المنازعات.
قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المبدأ، فعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته[19] من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» [20]، فقد أرشدنا هذا الحديث إلى أن أحكام الشريعة والقضاء مبنية على الظاهر وغلبة الظن في القضية، وأصبح المبدأ المقرر والشعار المرفوع: نحن نحكم بالظواهر، والله أعلم بالسرائر، وإنما بدأ صدر الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر"؛ إيذانا بأن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان، وأن الوضع البشري يقضي ألا يدرك الإنسان من الأمور الشرعية إلا ظواهرها، تمهيدا للمعذرة فيما عسى يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من أمثال تلك الأحكام، ولو كان نادرا في الأيام، وليس هذا من قبيل الخطأ في الحكم؛ فإن الحاكم مأمور بالعمل والحكم بما يسمع من كلام الخصمين، وبما تقتضيه البينة، ولا يحكم بما في نفس الأمر، أو حقيقة القضية، فهذا متروك لله عز وجل.. فأحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من القضاة تجري على الظاهر... وذلك يتفق مع مقتضى حكمة الله - عز وجل - في ذلك، فإنه - سبحانه وتعالى - لو شاء لأطلعه على سرائر عباده وخفايا ضمائر أمته، فيكون الأمر مبنيا على اليقين والعلم القطعي دون حاجة إلى إقرار الخصم، أو البينة، أو اليمين، أو القرينة، أو المشابهة التي ترجح الحكم لأحد الخصمين، ولكن هذا إن تأتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالوحي، فلا يتيسر لأمته المأمورة باتباعه، والاقتداء به في أفعاله وأحواله وقضاياه وسيره، ولا تتمكن الأمة من معرفة الأمور بالوحي الإلهي؛ لأنه مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فأجرى الله - عز وجل - أحكامه وأحكام القضاة على الظواهر التي يستوي في العلم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من البشر، فيتم اقتداء الأمة بنبيها - صلى الله عليه وسلم - في إصدار الأحكام القضائية، إذ البيان بالفعل أوقع منه بالقول؛ لاحتمال اللفظ أكثر من معنى، وتأويل المتأول، فيكون حكمه على الظاهر أجلى في البيان، وأوضح في إعلان الأحكام، وأكثر فائدة لظروف التشاجر والخصام، وليكون هذا المبدأ هو القاعدة العامة التي يسير عليها حكام الأمة وتنضبط بها قوانين الشريعة.
حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذن على الظاهر، فحكم - باعتبار القرائن وشواهد الأحوال - على هذا البريء حكما عادلا كما دلت عليه أحواله الظاهرية، وليس زورا - كما يدعون - ولو أنه أراد زورا لأثبت الحكم على هذا البريء حتى يقام عليه حد الزنا، وما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك، بل إنه قال للرجل الذي أغاثها قولا حسنا كما تقول الرواية.
ومن نافلة القول أن نقول: "إن ذلك لا يقدح في صفة النبوة، ولا يمس مبدأ العصمة، أي النزاهة والطهارة والسداد" [21].
أما بخصوص الحكم على الذي وقع عليها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقم عليه الحد، فهذا خلاف بين العلماء على قولين، قول يقول بأن الحد يثبت بالإقرار والاعتراف، وقوم قالوا بأن التائب يسقط عنه الحد "ومن تأمل المطابقة بين الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وارتباط أحدهما بالآخر، علم فقه هذا الباب، وإذا كان الله لا يعذب تائبا فهكذا الحدود لا تقام على تائب..." [22].
وعلى هذا الرأي فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم عليه بالرجم؛ لأنه تاب توبة صادقة، وفي الرواية: «لو تابها أهل المدينة أو يثرب لقبل منهم».
أيصح بعد كل ما أوردناه أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم زورا على رجل بريء؟!
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسعه إلا أن يحكم بالعدل الذي أمره به ربه، وهذا ما حدث، أما إذا غاب جزء من الحقيقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفته بشرا لا يعلم الغيب، فقضى بما رأي؛ فإن عالم الغيب والشهادة المطلع على أفعال العباد لربما ينزل قرآنا يخبر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بحقيقة الحدث وحقيقة الحكم؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - هو العدل، وهو الذي يأمر بالعدل، وخير مثال على ما نقول ما حدث مع اليهودي، وذلك في قصة طعيمة بن أبيرق واليهودي حين حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلم، فنزل القرآن يبرئ ساحة اليهودي، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب طعيمة فهرب إلى مكة[23].
فلا محاباة ولا مجاملة، ولا مخاتلة على حساب الدين، وإقامة الحدود، فلا محسوبية ولا وساطة في الإسلام، ولا شفاعة في الحدود، إذ لو كان ذلك لكان في شأن المرأة المخزومية صاحبة الشأن والمكانة.
وكيف يكون ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو القائل: «من أعان على خصومة بظلم أو يعين على ظلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع» [24]، وهو القائل: «لا يؤخذ الرجل بجناية أبيه، ولا بجناية أخيه» [25]، وهو القائل: «لا تجني نفس على أخرى»[26]، ومحال على حكمة الله مخالفة فعل رسوله لقوله.
الخلاصة:
- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعدل الناس، وهذا يتضح من سيرته الشريفة، فقد أرسى معالم الهدى والعدل بأقواله في أكثر من موقف، كما حذر من الظلم والجور والزور، وكانت أفعاله ترجمة عملية لإقرار العدل في المجتمع، دون تفرقة بين الناس على اختلاف أصولهم وألوانهم وأجناسهم، وما حدث من إقامته - صلى الله عليه وسلم - الحد على المرأة المخزومية هو خير دليل على هذا.
- الناظر للرواية التي استند إليها في اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكم زورا، يجد فيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حكم باعتبار قرائن الموقف وشواهد الحال، وأحكام القضاء في الشريعة مبنية على ذلك، فنحن نحكم بالظواهر، والله أعلم بالسرائر، وذلك لرفع الحرج والمشقة عن الأمة.
- لو أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم على البريء زورا لما تراجع عن حكمه في رجمه، بيد أنه قال له قولا حسنا، وأمر برجم الواقع على المرأة في بعض الروايات، أما في الرواية الأخرى التي مفادها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم الحد على الزاني؛ لتوبته توبة نصوحا.
- كيف لا يحكم بالعدل من أسقط جميع الوسائط - من محاباة، ومجاملة، ووساطة، وشفاعةـ التي تحول دون إقامته؟! وإذا لم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - هو من دعا إلى العدل وحكم به، فمن الذي دعا إليه وحكم به؟!
(*) مجتمع يثرب، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1997م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة,1420هـ/2000م.
[1]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص339.
[2]. تحازبت: صارت فرقا.
[3]. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج1، ص134.
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3414)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2505)، واللفظ للبخاري.
[5]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1408هـ/1998م، ج2، ص660.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله عز وجل: ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: 9) (3288)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (4505)، واللفظ له.
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (4825).
[8]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (7386).
[9]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الأحكام، باب الإمام العادل (1330)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب فضل من ابتلي بشيء من الأعمال فقام فيه بالقسط (19954)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1253).
[10]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة (2312)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب فضل من ابتلي بشيء من الأعمال فقام فيه بالقسط (19955)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1826).
[11]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية،باب في القاضي يخطئ (3575)، ابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق (2315)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4446).
[12]. وإنك لعلى خلق عظيم، صفي الرحمن المباركفوري، شركة كندة، القاهرة، ط1، 1427هـ/2006م، ص533، 534.
[13]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (6737).
[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (6741).
[15]. مفتريات المستشرقين وعملائهم على الإسلام، إسماعيل علي محمد، دار النيل، مصر، ط1، 1421هـ/ 2000م، ص24.
[16]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند القبائل، حديث وائل بن حجر رضي الله عنه (27283)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في صاحب الحد يجيء فيقر (4381)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3572).
[17]. يشتد: يجري مسرعا.
[18]. إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، مطبعة السعادة، القاهرة، د. ت، ج3، ص17: 20.
[19]. ألحن بحجته: فطن وانتبه لها.
[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم (6748)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (4572)، واللفظ للبخاري.
[21]. شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/2006م، ص534، 535.
[22]. إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، مطبعة السعادة، القاهرة، د. ت، ج3، ص17: 20 بتصرف يسير. وانظر شواهد أخرى له في هذا الحكم في الصفحات المشار إليها.
[23]. انظر كلام المفسرين في قوله عز وجل: ) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) ( (النساء).
[24]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب من ادعى ما ليس له وخاصم فيه (2320)، والحاكم في مستدركه، كتاب الأحكام (7051)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6049).
[25]. صحيح: أخرجه النسائي في المجتبى، كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل (4126)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7277).
[26]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الديات، باب لا يجني أحد على أحد (2672)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7234).
-
السبت AM 01:20
2020-09-19 - 1739