ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ

شٌبهات وردود

المكتبة المرئية

خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ

المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين

البحث
عرض المادة
(حد السرقة)
د/احمد نصير
(حد السرقة)
قال تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
اختلفت طرق حماية المال الخاص في الشريعة الإسلامية عن غيرها في القوانين الوضعية سواء قبل الإسلام أو بعده ، ففي مرحلة ما قبل الإسلام عرف القانون الروماني جريمة السرقة بأنها حيازة مال الغير اختلاسا بقصد الربح رغما عن إرادة مالكه ، ثم تطور هذا التعريف في قانون الألواح الأثنى عشر حيث فرق بين حالة التلبس وجريمة السرقة غير المشهودة ، ففي الحالة الأولي أجاز القانون قتل السارق إذا كانت السرقة وقعت ليلا أو إذا كان مع السارق سلاح ، أما في غير هذه الظروف يتم إلحاق السارق بالمسروق ليكون عبدا له إذا كان السارق حرا ، أما إذا كان عبدا فيلقى به من أعلي صخرة [1] ، والقرآن يشهد علي تطبيق تلك العقوبة في مصر ، بإلحاق السارق بالمجني عليه ليكون عبدا للأخير وذلك في قوله تعالي : "قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ " (يوسف) ، وتلك مكيدة قانونية استغلها يوسف ليخلص أخاه الأصغر من غدر أخوته الكبار ، قال تعالى (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أي أن نبي الله يوسف لم يكن ليطبق شريعة الملك دون وحي من الله ، وإنما هي مكيدة أخذ بها أخاه واحتجزه عنده ليؤمنه من غدر أخوته.
أما في الشريعة الإسلامية فإنه يقصد بحد السرقة المفهوم الضيق لكلمة الحد ، بمعنى العقوبة المقدرة شرعا لجريمة السرقة والتي لا يجوز الانتقاص منها أو الزيادة فيها وهي قطع اليد ، ذلك أن حد السرقة يطلق علي معنى مخصوص من المفهوم العام لجريمة السرقة ، فللسرقة صور شتى بحسب ما جرى عليه العرف ، كالغش في الميزان - خيانة الأمانة – السرقات الأدبية - الاختلاس – التدليس …إلي غير ذلك من الصور التي قد تختلف عن السرقة بمفهومها الضيق والذي هو مناط حد القطع ، ولبيان ذلك نتعرف أولا علي ماهية حد السرقة من خلال معناها اللغوي ، ثم بيان المعنى الذي اعتبره الشرع مناطا للحد ، ثم تحرير المعنى الشرعي لحد السرقة عما يشتبه به من معان ، ونستخلص من ذلك المقصود بالحد في هذا الشأن وبيان أركانه ومناقشة رأي العلماء في كل ركن ، وأخيرا نبين عقوبة السرقة الأصلية والتكميلية أو التبعية ومدى فاعليتها في تقرير الحماية الجنائية لأموال الناس من المساس بدون وجه حق.
قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) بادئ ذي بدء فإن السرقة لغة هي : (أخذ المال خفية) [2] أو (أخذ من المال ما ليس له في خفاء) [3]، هذا وقد ورد هذا اللفظ في القرآن في صيغة "فاعل" و"يفعل" و"فعل" و"افتعل" [4]، فالصيغة الأولي كما في قوله تعالى "السارق والسارقة" ، أما في الصيغة الثانية والثالثة كما في قوله تعالي : (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) (يوسف/ 77) ، والصيغة الرابعة والأخيرة وهي أهمها عند الفقهاء لأنها توضح أهم الأركان المادية لجريمة السرقة التي هي "الخفاء" ، وهي صيغة "افتعل" كما في قوله تعالى (إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) (الحجر/ 18) ، (فاسْتَرَقَ السمع أي سمع مستخفيا ، ويقال هو يُسَارِقُ النظر إليه إذا اغتل غفلته لينظر إليه) [5] ، (وهو تفعل من السَّرِقة أَي أَنها تسمعُه مُخْتفِيةً كما يفعل السارِق)[6] .
يستفاد من التعريف اللغوي لمعنى السرقة أنه يقصد منها " أخذ المال في الخفاء دون علم المجني عليه " ، فإذا ارتكبت جريمة السرقة حال علم المجني عليه بحصول السرقة ، كأن تكون انطوت على الغصب ، لم تكن الجريمة المرتكبة سرقة توجب القطع ، لكن يجوز تكييف الفعل المؤثر ليشكل جريمة أخرى معاقب عليها بعقوبة تعزيرية أو بعقوبة حد "الحرابة" متى انطوت على غصب ، يقول الجصاص : " السرقة اسم لغوي مفهوم المعنى عند أهل اللسان بنفس محتاج إلى بيان ، وكذلك حكمه في الشرع ، وإنما علق بهذا الاسم حكم القطع كالبيع والنكاح والإجارة وسائر الأمور المعقولة معانيها من اللغة قد علقت بها أحكام يجب اعتبار عمومها بوجود الاسم إلا ما قام دليل بخصوصه )[7]، يقصد بذلك أنه ورد أدلة شرعية توجب القطع في مقدار معين للسرقة وبوصف معين للفعل المادي الموجب للقطع ، وبغير هذه الأوصاف والمقدار لا يجب القطع.
مما تقدم من تعريف الفقهاء لحد السرقة بمفهومه الشرعي الموجب للقطع يتبين أن لها معنى مخصوص من معناها اللغوي ، أي أن المعنى الشرعي أضيق نطاقًا من المعنى اللغوي ، وإن كان المعني اللغوي قد حوى المعنى الشرعي في طياته ، ذلك أن السنة النبوية قيدت المعنى المطلق للحد الوارد في اللغة بإيجاب شروط معينة ، ولا شك أنه كلما زادت شروط إيجاب القطع تقلص نطاق إعماله ، والعكس كذلك صحيح ، لكن مدى هذا التقييد مختلف فيه ، وعند التحقيق نجد أن القيود التي استنبطها الفقهاء لحد السرقة منها ما يدخل في ماهية الفعل نفسه كشرط "لخفاء" ، وعليه رتبوا الحكم أنه لا قطع علي خائن أو مختلس ، وإن وجب التعزير عقوبة ، ومنها ما يخرج عن ماهية الفعل نفسه إذ يتعلق بالشيء المسروق , حيث اشترطوا فيه كونه "مال ومتقوم" ، فأخرجوا سرقة الخمر والخنزير لأنه ليس بمتقوم في نظر الشرع إلا عند أهل الملل الأخرى ، كما اشترطوا في المسروق أن يكون في "حرز" فإن لم يكن كذلك فلا قطع ، وخالفهم في ذلك الظاهرية فلم يشترطوا الحرز .
يقول الجصاص : (لا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن من شرط القطع " الحرز " وهو ما بني للسكنى وحفظ الأموال من الأمتعة وما في معناها)[8]، وأخيرا فإنهم اشترطوا في السارق نفسه أن تتوافر لديه نية تملك الشيء المسروق ، ومنهم من اشترط في السارق ألا يكون له ثمه شبهة حق في المسروق فلم يوجبوا القطع في سرقة المال العام ، وإن أوجبوا العقاب تعزيرا ، بل قد يصل الأمر إلى الحرابة لو ترتب على ذلك مفسدة عامة ، وكذا لم يوجبوا القطع في السرقة بين الأصول والفروع ، لشبهة اختلاط الملك ، فهذه كلها ثمة أمور تتعلق بعلة القطع في حد السرقة لابد من بيانها حتى يبين مقصود الشارع من هذا الحد و تمييزه عما يشتبه به بمعايير واضحة ، " شرط الخفاء - شرط الحرز- شرط النصاب - شرط المال - شرط التقوم - شرط نية التملك - شرط انتفاء شبهة الحق "
ومن ثم تعين تمييز السرقة الموجبة للحد عما قد يشتبه بها مما يدخل في إحدى صورها أو يخرج عنها مثل جرائم (خيانة الأمانة –الاختلاس - التدليس – النصب - الغش في الميزان- الرشوة - السرقات الأدبية – الطرار- النباش - سرقة المال العام - حيازة العقارات بدون وجه حق - السرقة بين الأقارب - السرقة بين العمال و أرباب العمل - السرقة بين الضيف و مضيفه ....... إلي غير ذلك من مسائل لا تعد ولا تحصي وجدت وتستجد مع الزمن ) ، وعليه يتعين أولا التمييز بين الشروط التي تتعلق بماهية فعل السرقة ذاته ، وتلك التي تتعلق بأركانه الأخرى ، ذلك أن هذه الشروط تختلف بحسب الركن الذي تتعلق به ، فمنها ما يتعلق بالسارق ، ومنها ما يتعلق بالشيء المسروق ، ومنها ما يتعلق بفعل السرقة ذاته وذلك كما يلي :-
أولا : الشروط المتطلبة في " السارق " ،
وهي شرطان :-
أولا : نية التملك ، وهو ما يعني توافر القصد الجنائي للسرقة ، فإن انتفى القصد ، لم يتحقق الركن المعنوي لجريمة السرقة ، وذلك حاصل حينما يظن أحد أن الشيء ملكه ، لتشابهه مع ملكه ، كأن يأخذ معطف غيره وفيه مال ، أو أخذ حقيبة الغير وبها أموال بدلا من حقيبته للتشابه في اللون والشكل ..الخ ، ويمكن إثبات ذلك بالقرائن .
ثانيا : انتفاء وجه الحق في أخذ المال ، فتخرج بذلك عدة صور من مناط تطبيق الحد ، وهي تلك التي تتوافر فيها شبهة الحق ومنها (سرقة المال العام – السرقة بين الأصول و الفروع – السرقة بين العمال وأرباب العمل في صورة معينة – سرقة المحتاج للمال من الغني بقدر حاجته وكفايته) فإن لم توجب القطع حدا فإنها توجب عقوبة تعزيرية ، ولهذا أسقط عمر بن الخطاب حد السرقة عام المجاعة ، للضرورة الملجئة ولعموم البلوى.
ثانيا : الشروط المتطلبة في " المسروق "
وفيه أربع شروط :-
أولا : أن يكون المسروق مالا قابلا للتداول والمقايضة ، وثم تخرج صور من الحد منها (السرقات الأدبية ، وسرقة المنافع)
ثانيا : أن يكون متقوما ، ومن ثم يجب تحرير مسألة سرقة خمر الذمي وغيره
ثالثا : أن يكون المال المسروق في حرز [9] ، الحرز هو الموضع الحصين الذي يُحفظ فيه المال عادة ، بحيث لا يعد صاحبه مضيعا لو وضعه فيه[10].
رابعا : النصاب المتطلب للقطع [11]
ثالثا : الشروط التي تتعلق بـ " فعل السرقة ذاته "
أولا : شرط "الخفاء" ، وعليه يجب تحرير مسألة : (جريمة خيانة الأمانة التي تنطوي على ركن التسليم – الغصب الذي هو أشبه بالحرابة)
ثانيا : فعل الأخذ ، بمعنى إضافة الشيء المسروق إلى حوزة السارق ليظهر عليه بمظهر المالك .
فقوله (..فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) تحديد لمحل القطع ، قال الشنقيطي (فجاءت السُّنة وبينت محل القطع، فخصصت اليد بالكف، ولذلك قالوا: إنما خصصنا الكفين بالمسح؛ لظاهر حديث عمار: ( فمسح بهما وجهه وكفيه )[12].
قال ابن رشد اتفق الفقهاء على أن محل القطع هو اليد اليمين من الكوع - أي ويعني مفصل الرسغ - وهو الذي عليه الجمهور وقال قوم الأصابع فقط)[13].
حكم القطع عند تكرار السرقة
قال ابن رشد (فأما إذا سرق من قد قطعت يده اليمنى في السرقة ، فإنهم اختلفوا في ذلك فقال أهل الحجاز والعراق تقطع رجله اليسرى بعد اليد اليمنى ، وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى ولا يقطع منه غير ذلك.
واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى.
هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا فقال سفيان وأبو حنيفة يقف القطع في الرجل وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط وقال مالك والشافعي إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى وكلا القولين مروي عن عمر وأبي بكر أعني قول مالك وأبي حنيفة)[14].
قوله تعالى (..فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ففي قطع يد السارق دلالة علي أن الجاني قد ارتكب ما يستوجب استئصالها بعد أن أخفق في شكر هذه النعمة ، كما أن في استئصالها ما يجعله عبرة لغيره من الناس حتى يستشعروا عظم الجرم الذي اقترفه وأن الإسلام يمقت هذه الجريمة لهذه الدرجة ، ففي قوله " نَكَالاً " ما يفيد هذا المعنى ، وأن المقصد من القطع فضلا عن العدالة كما في قوله" جَزَاءً بِمَا كَسَبَا " تحقيق الردع بنوعيه الخاص للجاني ، والعام لغيره من الناس ، فيرتدعوا عما فعله الجاني عندما يرون عقوبته ، فيكون التنكيل به عبرة لغيره للأبد ، فهذا التنكيل يردع من تحدثه نفسه بإتيان هذا الفعل المجرم عندما يرى عقوبته ، بما يوفر الطمأنينة للجماعة كلها ،
والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق خلال قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد الناس ; لأن المجتمع بنظامه والعقوبة بشدتها والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا حادثة تكاد تكون فريدة من نوعها ، أي "حادثة المرأة المخزومية التي سرقت وقطعت يدها" .
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ r فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ r فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)[15]
يقول سيد قطب لتوضيح أسباب تشديد الإسلام لعقوبة القطع ليد السارق : " إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام على اختلاف عقائدهم ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية إنه يوفر لهم ضمانات العيش والكفاية وضمانات التربية والتقويم وضمانات العدالة في التوزيع وفي الوقت ذاته يجعل كل ملكية فردية فيه تنبت من حلال ; ويجعل الملكية الفردية وظيفة اجتماعية تنفع المجتمع ولا تؤذيه ومن أجل هذا كله يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية ، فمن حقه إذن أن يشدد في عقوبة السرقة والاعتداء على الملكية الفردية والاعتداء على أمن الجماعة ومع تشديده فهو يدرأ الحد بالشبهة ; ويوفر الضمانات كاملة للمتهم حتى لا يؤخذ بغير الدليل الثابت.. [16].
فإذا تعطل الإنسان لعدم وجود العمل أو أداته أو لعدم قدرته على العمل جزئيا أو كليا وقتيا أو دائما أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته ، فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه :-
أولا من النفقة التي تفرض له شرعا على القادرين في أسرته
وثانيا على القادرين من أهل محلته
وثالثا من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة
فإذا لم تكف الزكاة فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين ; بحيث لا تتجاوز هذه الحدود ولا تتوسع في غير ضرورة ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال
والإسلام كذلك يتشدد في تحديد وسائل جمع المال ; فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا من حلال .. ; فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب عن طريقة ; لا إلى السرقة والكسب عن طريقها ..إذن فلماذا يسرق السارق في ظل هذا النظام إنه لا يسرق لسد حاجة إنما يسرق للطمع في الثراء من غير طريق العمل ، ... فإذا سرق السارق ..وهو مكفي الحاجة متبين حرمة الجريمة غير محتاج لسلب ما في أيدي .. فإنه لا يسرق وله عذر ولا ينبغي لأحد أن يرأف به متى ثبتت عليه الجريمة ;... لكن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ويريد أن ينميه من طريق الحرام .. وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل
أما حين توجد شبهة من حاجة أو غيرها فالمبدأ العام في الإسلام هو درء الحدود بالشبهات لذلك لم يقطع عمر رضي الله عنه في عام الرمادة حينما عمت المجاعة ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة ; عندما سرق غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة فقد أمر بقطعهم ; ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم درا عنهم الحد ; وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له .
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة فلا يعود للجريمة مرة ثانية ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية )[17].
قوله تعالى (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (39) أوضحت الآية طريقة التوبة من السرقة ، بضرورة إصلاح الأمور ، ورد الأموال المسروقة لأصحابها ، وضمان ما تلف منها ، إذن لابد لقبول توبة السارق "إصلاح الضرر" ، قَالَ رسول الله r (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ)[18] ، فالسارق إن لم يرد الحقوق والأموال لأصحابها أهلكها الله عليه وأتلفها كما في الحديث المذكور ، قال ابن حجر (ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا ، وذلك في معاشه أو في نفسه ، وهو من أعلام النبوة لما نرى من المشاهدة ممن يتعاطى شيئاً من الأمرين)[19]، وقال النووي (أي اتلف الله أمواله في الدنيا بكثرة المحن والمغارم والمصائب ومحق البركة وفي الآخرة بالعذاب)[20].
فإذا تعذر على السارق إرجاع الأموال لأصحابها لعدم معرفته بعدم أو تعذر معرفتهم كلهم ، فقد أفتى ابن تيمية في (المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف فى مصالح المسلمين عند جماهير العلماء كمالك وأحمد وغيرهما ، فإذا كان بيد الانسان غصوب أو عواري أو ودائع أو رهون قد يئس من معرفة أصحابها ، فإنه يتصدق بها عنهم أو يصرفها فى مصالح المسلمين أو يسلمها إلى قاسم عادل يصرفها فى مصالح المسلمين المصالح الشرعية) ، وقال (فإن حبس المال - دائما – لمن لا يرجى – أي لا صاحب له معروف -، لا فائدة فيه ، بل هو تعرض لهلاك المال واستيلاء الظلمة عليه)[21].
وفي قوله تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (40) هذا فتح على الناس جميعا أن يأخذوا من خزائن الله ، فلا ينكر عليهم أحد ذلك ، فلا يلجئوا إلى ما حرمه وعنده ما أحله لهم بما يغنيهم عن ذلك ، قال الشعراوي (هذا التعبير يسمى الاستفهام الاستنكاري أو التقريري . . لأن السامع لا يجد إلا جوابا واحدا بأنه يقر ما قاله الله تبارك وتعالى ، فالملك يقتضي مالكا ويقتضي مملوكا ، ويقتضي قدرة على استمرار هذا الملك وعدم زواله ، فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه يقدر ويملك المقدرة ، والإنسان ليست له قدرة التملك ولا المقدرة على استبقاء ما يملكه)[22] ، فإذا استشعر الإنسان ذلك وعلم عجزه طلب من المالك القادر ما يجيب عجزه وحاجته ، فلا يلجأ لغير الله تعالى في ذلك .
قال ابن عاشور ( تضمنت الآية استئنافا بيانيا جوابا لمن سأل عن انقلاب حال السارق - بعد توبته - من العقاب إلى المغفرة بالرغم من عظم جرمه ، بأن الله هو المتصرف في السماوات والأرض وما فيهما، فهو العليم بمواضع العقاب والعذاب ومواضع العفو والمغفرة)[23].
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها – في الْمَرْأَةِ المخزومية الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ r فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا- فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r )[24] .
[1] ) يراجع في هذا المعنى د/ محمد سلام نظم القانون الروماني طبعة 1966 ص 286 مكتبة حقوق عين شمس
[2] ) المعجم الوجيز 309
[3] ) معجم ألفاظ القرآن الكريم ج 3 ص 138
[4] ) و بالرغم من وضوح معنى السرقة لغة إلا أن ثمة صور لجريمة السرقة أخرجها الفقهاء من ماهية الحد بالرغم من أنها تدخل في المعنى اللغوي للسرقة ، ولا تختلف عن موجب الحد في شيء غير الكم فقط ، مثل سرقة ما هو أقل من النصاب ، كذا ثمة صور أشد ضررا من جريمة السرقة أخرجها الفقهاء عن ماهية الحد ولم يوجبوا فيها القطع مثل الغصب خلافا لأصول الشريعة ، بل إن ثمة صور هي أكثر شيوعا في جريمة السرقات أيضا لا تدخل في ماهية الحد كالاختلاس والغش في الميزان و التدليس ، غير أن بعض الفقهاء بالغ في الأمر حتى أنكر أن سرقة الأولاد – بغير حلي – موجبا للقطع ، واكتفوا بالتعزير باعتبار أن ذلك لا يدخل في ماهية حد السرقة باعتبار أن الأولاد ليس مالا ، بينما يرى الباحث أن في سرقتهم جريمتين و ليس جريمة واحدة ، السرقة والخطف فيشدد العقاب بهذين الاعتبارين ، بل يمكن اعتبارها حرابة بشكل ما ، ولما كانت الصور المتعددة لجريمة السرقة تكتنفها الكثير من الصعوبات لبيان مقصود الشرع من حد القطع ، لزم من ذلك أن نبين ماهية السرقة أولا و ماهية حد السرقة ثانيا وإسقاط ذلك علي كافة الصور لتحقيق ذلك الغرض
[5] ) مختار الصحاح ج 1 ص 125
[6] ) لسان العرب ج 11 ص 155
[7] ) تفسير الجصاص ج 4 ص 62
[8] ) وكذلك الفساطيط والمضارب والخيم التي يسكن الناس فيها ويحفظون أمتعتهم بها كل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أم لا باب له إلا أنه محجر بالبناء وما كان بناء ولا خيمة ولا فسطاط ولا مضرب فإنه لا يكون حرزا إلا أن يكون عنده من يحفظه وهو قريب منه بحيث يكون حافظ له وسواء كان الحافظ نائما في ذلك الموضع أو مستيقظا والأصل في كون الحافظ حرزا له وإن كان في مسجد أو صحراء حديث صفوان بن أمية حين كان نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فسرقه سارق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه
[9] ) والحرز : " ما عد حرزا في العرف " فإنه لما ثبت اعتباره في الشرع تنصيص على بيانه علم أنه ذلك إلى أهل العرب لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته فيرجع إليه كما رجعنا إليه في معرفة القبض والفرقة في البيع وأشباه ذلك إذا ثبت هذا فإن من حرز الذهب والفضة والجواهر الصناديق تحت الأغلاق والأقفال الوثيقة في العمران وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر والنحاس والرصاص في الدكاكين والبيوت المقفلة في العمران أو يكون فيها حافظ فيكون حرزا وإن كانت مفتوحة وإن لم تكن مغلقة ولا فيها حافظ فليست بحرز وإن كانت فيها خزائن مغلقة فالخزائن حرز لما فيها وما خرج عنها فليس بمحرز وقد روي عن أحمد في البيت الذي ليس عليه غلق يسرق سارقا وهذا محمول على أن أهله فيه
فأما البيوت التي في البساتين أو الطرق أو الصحراء فإن لم يكن فيها أحد فليست حرزا سواء كانت مغلقة أو مفتوحة لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران وانصرف عنه لا يعد حافظا له وإن أغلق عليه وإن كان فيها أهلها أو حافظ فهي حرز سواء كانت مغلقة أو مفتوحة وإذا كان لابسا للثوب أو متوسدا له نائما أو مستيقظا أو مفترشا له أو متكئا عليه في أي موضع كان من البلد أو بربة فهو محرز بدليل أن رداء صفوان سرق وهو متوسد له فقطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقه وإن تدحرج عن الثوب زال كم إن كان نائما وإن كان الثوب بين يديه أو غيره من المتاع كبز البزازين وقماش الباعة وخبز الخبازين بحيث يشاهده وينظر إليه فهو محرز وإن نام أو كان غائبا عن موضع مشاهدته فليس بمحرز وإن جعل المتاع في الغرائز وعلم عليها ومعها حافظ يشاهدها فهي محرز وإلا فلا فصل والخيمة والخركاه إن نصبت وكان فيها أحد نائما أو منتبها فهي محرزة وما فيها لأنها هكذا تحرز في العادة وإن لم يكن فيها أحد ولا عندها حافظ فلا قطع على سارقها وممن أوجب القطع في السرقة من الفسطاط الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا يقطع السارق من الفسطاط دون سارق الفسطاط ولنا إنه محرز بما جرت به العادة أشبه ما فيه
[10] ) ثانيا : شرط أن يكون المال محرزا
ذكر النووي أن: الحرز مشروط فلا قطع إلا فيما سرق من حرز والمعتبر فيه العرف ، فما لم يعده العرف حرزاً لذلك الشيء فليس بحرز له ، وهو على نوعين ، الأول : حرز بنفسه و هو: " كل بقعة معدة للإحراز ممنوع من الدخول فيها إلا بالإذن ، فلا يشترط فيه وجود الحافظ " كالبيوت و البنوك و الشركات والمحال التجارية ، وحرز بغيره : وهو كل مكان غير معد للإحراز ، يُدخل إليه بلا إذن ولا يمنع منه ، ولا يعطي حكم الحرز إلا إذا كان عليه حافظ ، وهو يختلف باختلاف العادات ، ونوع المال المراد حفظه ، والبلدان ، وباختلاف عدل السلطان وجوره وقوته[10] ، ولذلك ثبت تطبيق الحد على الجاني إذا أخذ ثوبا من تحت رأس النائم ، لأنه سرق من محرز بالنوم عليه ، ولأن النوم على الثوب مانع من أخذه غالباً، سواء أوقع الفعل في الصحراء أو في المسجد فعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى ثُمَّ لَفَّ رِدَاءً لَهُ مِنْ بُرْدٍ فَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَنَامَ فَأَتَاهُ لِصٌّ فَاسْتَلَّهُ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ فَأَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ rفَقَالَ إِنَّ هَذَا سَرَقَ رِدَائِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ rأَسَرَقْتَ رِدَاءَ هَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبَا بِهِ فَاقْطَعَا يَدَهُ(سنن النسائي
ومستند جمهور الفقهاء في مسألة الحرز ما رواه مالك في موطئه أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ: «لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ. وَلاَ فِي حَرِيسَةَ جَبَل[10]ٍ ، فَإذَا آوَاهُ الْمُرَاح[10]ُ أَو الْجَرِينُ [10]فَالْقَطْعُ فِيمَا ثَمَنَ الْمِجَنِّ[10]»، وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ ٱلله بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ مَزْيَنَةَ أَتَى رَسُولَ ٱلله فَقَالَ يَا رَسُولَ ٱلله كَيْفَ تَرَىٰ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ فَقَالَ هِيَ وَمِثْلُهَا معها وَالنَّكَالُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ قَطْعٌ إلاَّ فِيمَا آوَاهُ الْمُرَاحُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ قَطْعُ الْيَدِ وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ قَالَ يَا رَسُولَ ٱلله كَيْفَ تَرَىٰ فِي الثَّمَرِ الْمُعَلِّقِ قَالَ هُوَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَالنَّكَالُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلِّقِ قَطْعٌ إلاَّ فِيمَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَمَا أُخِذَ مِنَ الْجَرِين فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ وَمَا لَمْ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ " سنن النسائي [10] ، وعن رافع بن خديـج عن النبي قال: «لا قطع في ثمر») رواه مالك والترمذي وأبو داود والنسائي والدارمي وابن ماجه، وكذا الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه في شرح السنة ، وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الثِّمَارِ فَقَالَ « مَا أُخِذَ فِى أَكْمَامِهِ فَاحْتُمِلَ فَثَمَنُهُ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَمَا كَانَ فِى الْجِرَانِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ وَإِنْ أَكَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ». سنن ابن ماجة ،
- حَرِيسَة الـجبل لـيس فـيها قَطْع : أَي لـيس فـيما يُحْرَس بالـجبل إذا سُرِق قطع لأنه لـيس بحرز. و الـحَرِيسَة، فعيلة بمعنى مفعولة أَي أَن لها من يَحْرُسها ويحفظها، ومنهم من يجعل الـحَرِيسَة السرقة نفسها. لسان العرب ج 6 ص 48
- «في حريسة الجبل» أراد بها الشاة المسروقة من المرعى والاحتراس أن يؤخذ الشيء من المرعى - حاشية السندي ج 7 ص 435
- قال السيوطي: قوله: «آواه المراح» هو بضم الميم الموضع الذي تروح إليه الماشية أو تأوي إليه ليلاً.
- "الجرين" كأمير موضع يجمع فيه التمر ويجفف والمقصود أنه لا بد في تحقق الحرز في القطع
- ثمن المجن وهو الدينار - انظر سنن الدارقطني قال السندي: قوله: «وثمن المجن يومئذ دينار»
و في مرقاة المفاتيح ج 4 ص 167 : "لم تقطع يد سارق في أقل من ثمن المجن، فمحمولة على أنه كان ربع دينار "
- قال السيوطي في شرحه لسنن النسائي ج 8 ص 435 : قوله: «فإذا ضمه الجرين» هو موضع تجفيف التمر وهو له كالبيدر للحنطة «ولا يقطع في حريسة الجبل» ، قال في النهاية: أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز والحريسة فعيلة بمعنى مفعولة أي أن لها من يحرسها ويحفظها ومنهم من يجعل الحريسة السرقة نفسها يقال حرس يحرس حرساً إذا سرق فهو حارس ومحترس أي ليس فيما يسرق من الجبل قطع.
قال ابن قدامة : " وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب إذا ثبت اعتبار كم والحرز ما عد حرزا في العرف فإنه لما ثبت اعتباره في الشرع تنصيص على بيانه علم أنه ذلك إلى أهل العرب لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته فيرجع إليه كما رجعنا إليه في معرفة القبض والفرقة في البيع وأشباه ذلك " (المغني ج 9 ص 98 ) ، هذا و قد سبق أن بينا أن علة رفع الإثم عن من أكل أنه لم يحمل ، و أن ذلك تخفيف من الشارع حتى لا يشق ذلك علي المكلفين
ويرى الفقهاء أن أساس هذا الشرط هو تمييز السرقة التامة عن الشروع ،حيث لا قطع في الشروع في السرقة عند الجمهور بخلاف الظاهرية ، وإنما تجب عقوبة تعزيرية ، ذلك أن كون المال محرزا هو شرط يتعلق بماهية فعل السرقة ذاته باعتباره من أوصافه أن يرتكب الجاني الفعل المؤثم في الخفاء ، وهذا الوصف ثابت في اللغة متضمنا هذا المعنى ، و منه قوله تعالي : " استرق السمع " كما ذكرنا آنفا ، فإن لم يكن المال محرزا لم يتحقق الاستراق ، فلو كان المال غير محرز فهو مثل المال الضائع بتقصير صاحبه ، ومن ثم تثور شبهة تدرأ الحد وتدفعه مظنة الخطأ ، ذلك أن إخراج المال من حرزه دليل على اكتمال الأركان المادية لجريمة السرقة
هذا ولقد ضيق بعض الفقهاء من نطاق مفهوم الحرز حتى تكون المسألة وفقا لضابط يمكن علي أساسه إثبات التهمة علي السارقين فتأوّل الشافعي الحديث على الثمار المعلقة غير المحرزة ، وقال: نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها ، والدليل عليه حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ « مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِى حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَىْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُئْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ الْجَرِينُ الْجُوخَانُ ، قال الطيبي: فإن قلت كيف طابق هذا جواباً عن سؤاله عن التمر المعلق فإنه سئل: هل يقطع في سرقة التمر المعلق؟ وكان ظاهر الجواب أن يقال: لا. فلم أطنب ذلك الإطناب قلت: ليجيب عنه معللاً كأنه قيل لا يقطع لأنه لم يسرق من الحرز وهو أن يؤويه الجرين ، ففيه دليل على أن ما كان منها محرزاً بإقامة السور حوله يجب القطع بسرقته
والفقهاء الذين اشترطوا الحرز في المسروق بصرف النظر عن إخراج السارق المتاع من حرزه أم لا ، لم يكن لهم مستند غير حديث حريسة الجبل ، و الثمر المعلق ، وما كان خارجا عن المراح ، و البين من هذه الأحاديث أن علة درء الحد في مثل هذه الأحوال ليست هي الحرز ، إنما هي مظنة الخطأ ، ذلك أن الأموال في تلك الأحوال لا يعرف لها صاحب ، و من ثم لا يعتبر أخذها سرقة لوجود مظنة الخطأ من الأخذ ، لذا ليس فيها القطع ، و إن جاز فيها التعزير و الضمان و الغرامة لأن الجاني كان عليه واجب التثبت و التحقق قبل يأخذ هذا المال ، لكن إذا تأكد الجاني من أن المال غير المحرز له صاحبه فليس ثمة خطأ يتذرع به ، فيجب حينئذ عليه القطع ، لكن لما كانت مسألة علم الجاني بوجود صاحب للمال غير المحرز مما يتعذر إثباتها إلا بالإقرار والسارق لا يقر في الغالب علي نفسه بذلك – لما توافر فيه من خصال النفاق- ، ومن ثم فالفقهاء اعتبروا عدم الحرز هو ما يدرء الحد وليس خطأ الجاني باعتبار أنه الوصف الظاهر المنضبط أي باعتباره مظنة تحقق العلة ، وليس هو العلة ذاتها ، بهذا فحسب تنضبط مسألة الحرز ، ومن ثم يخرج عما يدرأ حد القطع ما ذكره الأحناف توسعا في مفهوم الحرز ، وما قاسوه في هذا الشأن كأن يكون صاحب المتاع نائما أمام متاعه ، إذ أن مثل هذا التوسع يفرغ الحد من مضمونه ، فالغالب أن السرقة لن تتم وصاحب المتاع منتبها ، إنما هي تكون في أغلب الأحوال بأن يختلس السارق النظر فيبادر بسرقة المتاع قبل أن ينتبه الغير إليه ، أما إذا سرقه غصبا فتلك حرابة وليست سرقة ، و في غير هاتين الحالتين لا يسرق السارق إلا خطفا وهو ما يسمى بالمختلس ، والمختلس يجب فيه القطع ترجيحا للخلاف بعد إزالة شبهة الحرز من كونها شرطا في المال المسروق واعتبارها وصفا ظاهرا منضبطا لفعل السرقة.
[11] ) شرط النصاب
ثبت من السنة تقدير نصاب القطع في السرقة بالدنانير ، فعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r قَالَ « لاَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِى رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ». رواه مسلم ، وعن عائشةَ عن النبيِّ r قال: «تُقطعُ يدُ السارقِ في ربُع دينار». رواه البخاري ، و في رواية مسلم : عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ يَقْطَعُ السَّارِقَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً ، ووعن عائشة رضيَ الله عنها قالت: «لم تُقطع يدُ سارقٍ على عهدِ النبيِّ r في أدنى من ثمنِ المجنّ ، وكان كلُّ واحدٍ منهما ذا ثمن». رواه البخاري
فدلت السنة القولية علي أنه لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ، ومن ثم فإن دلالة الحديث قاطعة بقصر القطع علي بلوغ هذا النصاب ، وما دون هذا النصاب الذي هو ربع دينار فلا قطع فيه ، وإنما يجب فيها عقوبة تعزيرية ، والحديث الوارد عند مسلم المشار إليه هو أوضح الأحاديث لبيان هذا الحكم حيث جاء من السنة القولية ، وبأسلوب الحصر والقصر ، أما ما عداه من أحاديث فقد جاء بعضها في مواطن خاصة مثل حريسة الجبل والثمر المعلق ، وبعضها جاء بصيغة الخبر التي تحتمل أن هذا ما قد حدث في عهده ، أنه لم توجد في عهده r سرقات بأقل من ثمن المجن ، لذا فإن الحديث الوارد عند مسلم عمدة في ثبوت هذا الحكم و إن كان الحديث الوارد عند البخاري قد أفاد مثل هذا الحكم بقوله r إلا أنه لم يستعمل فيه أسلوب الحصر و القصر كما ورد عند مسلم .
وفضلا عن الأحاديث المتقدم ذكرها التي أفادت ثبوت القطع في ربع دينار فقد وردت أحاديث أخرى تبين هذا النصاب بالدراهم، فعن نافعٍ عنِ ابن عمرَ قال: «قطعَ النبيُّ r في مِجنّ ثمنه ثلاثةُ دراهمَ». رواه البخاري ، وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ r قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ سَرَقَ تُرْسًا مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ. سن النسائي ، كذلك ثمة أحاديث أخرى لم تقدر هذا النصاب بالمال و إنما قدرته بالقيمة العينية ، فعَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ « مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِى حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَىْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُئْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ الْجَرِينُ الْجُوخَانُ. سنن أبي داود ، وعن عائشة رضيَ الله عنها قالت: «لم تُقطع يدُ سارقٍ على عهدِ النبيِّ r في أدنى من ثمنِ المجنّ ، وكان كلُّ واحدٍ منهما ذا ثمن». رواه البخاري
مما تقدم يبين أن السنة الفعلية قضت بالقطع في ثلاثة دراهم ، ولم تقض بالقطع في أقل من ثمن المجن ، والسنة القولية قضت بالقطع في ربع دينار ، وعلي هذا يكون رسول الله r قد حدد نصاب القطع في السرقة وفقا لمعيارين الأول موضوعي هو ثمن المجن [11]، والثاني شكلي وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار وكلاهما أمر واحد بالتوفيق بين الروايات ، فقوله: «فِي رُبُعِ دِينَارٍ» هذه الرواية موافقة لرواية الثلاثة الدراهم التي هي ثمن المجن ، فقد جاء في رواية النسائي أن ثمن المجن كان ربع دينار ، وجاء في رواية أحمد أنه كان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، قال الشافعي: " ربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم ، وذلك أن الصرف على عهد رسول الله r اثنا عشر درهماً بدينار وكان كذلك بعده ، و كان َ عُمَرَ قد فَرَضَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ " أي أن الدينار كان باثني عشر درهم ، أي أن ربع دينار كان يساوي في عهده r ثلاثة دراهم ، وهو مقدار ثمن المجن ، هذا ولقد ذهب إلى ما تقتضيه الأحاديث السالف ذكرها عنه r من ثبوت القطع في ثلاثة دراهم أو ربع دينار الجمهور من السلف والخلف ومنهم الخلفاء الأربعة .
بيد أن تقويم ثمن المجن الذي اتخذه الصحابة معيارا لنصاب القطع قد تغير ، كما تغير الصرف بين الدراهم والدنانير ، وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ سَرَقَ رَجُلٌ مِجَنًّا عَلَى عَهْدِ أَبِى بَكْرٍ فَقُوِّمَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَقُطِعَ. سنن النسائي ، وعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِى زَمَانِ عُثْمَانَ أُتْرُجَّةً فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنْ تُقَوَّمَ فَقُوِّمَتْ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَىْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ. رواه مالك في الموطأ ، وأخرج أيضاً البيهقي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه «أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطَعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفاً» ، وأخرج البيهقي أيضاً من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: «الْقَطْعُ فِي رُبُعُ دِينَارٍ فَصَاعِداً» ، وأخرج أيضاً من طريقه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه «أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ فِي بَيْضَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِينَارٍ» ورجاله ثقات ولكنه منقطع.
فالآثار السابقة تدل علي أن الصرف قد تغير في عهد علي ، وأن الأسعار قد غلت في عهد عثمان و علي ، وهو أمر لا يحتاج إلي دليل من المنقول فهو مشاهد في كل زمان و كل مكان حتى هذه الآونة ، و من ثم فإن التساؤل يثور ما هو المعيار الذي يتحقق علي أساسه نصاب القطع في السرقة ، وخاصة في مثل هذه الظروف ؟ فهل تتغير الأحكام بتبدل الزمان ؟ أم نتمسك بها دون عبرة لمقاصدها ؟ هذه المسألة اختلف الفقهاء في شأنها ، حيث اختلفوا فيما يُقوم به ما كان من غير الذهب والفضة ، فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه يكون التقويم بالدراهم لا بربع الدينار إذا كان الصرف مختلفاً ، قال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الذهب لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها حتى قال: إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع دينار لم توجب القطع ، وقال مالك: كل واحد من الذهب والفضة معتبر في نفسه لا يقوم بالآخر ، وذكر بعض البغداديين أنه ينظر في تقويم العروض بما كان غالباً في نقود أهل البلد.
ويجدر بنا في هذا الصدد أن ننقل ما ذكره الأستاذ الدكتور سليم العوا ، إذ قال " إذا نظرنا في هذه الأحاديث و اختلاف الفقهاء حولها من ناحية أخرى وجدنا أنها تستهدف منع توقيع عقوبة الحد فيما إذا كانت قيمة الشيء المسروق لا تستأهل توقيعها ، ولذلك تتفق جميع المذاهب علي أنه لا قطع في الشيء التافه الذي يتسامح فيه الناس عادة ، فإذا أخذنا في الاعتبار تغير قيمة النقود من مكان إلي مكان ، وفي المكان الواحد من وقت إلي وقت إلي آخر .. تبين لنا أن قيمة الشيء التافه متغيرة ، ويقررها العرف ، والظروف الاقتصادية في كل مجتمع وقت ارتكاب الجريمة ، ومن ثم فإن الأمثلة التي نجدها في كتب الفقه للشيء التافه ليست أمثلة دائمة ، و لا هي ملزمة للقاضي أو لولي الأمر بعد عصر الفقهاء الذين ذكروها ، فقد بين الفقهاء ما في وسعهم البيان ما لاءم عصورهم من أحكام ، ويجب أن تدار الأحكام في هذا الخصوص علي وفق ما يلائم الأوضاع المختلفة في الأزمنة و الأمكنة المختلفة ، و في هذا يقرر ابن قيم الجوزية أن (حكمة تحديد ربع الدينار في قول الرسول r وفعله أنه هو الذي يكفي الرجل المقتصد قوته وأهله في يومه و ليلته ، و ذلك مما ليس يتسامح فيه الناس) (إعلام الموقعين ج 2 ص 64 )، فإذا صح هذا وقد كان بلا ريب صحيحا ، فإن الحد الذي يجب عنده القطع قد يجوز إعادة النظر فيه من وقت لآخر حسب اختلاف قيمة النقود و الظروف الاقتصادية ، ... و لعل هذا المعنى هو الذي حدا بالإمام ابن حزم إلي تقدير قيمة النصاب بثمن المجن و قيمته التي تتغير بتغير الزمان و المكان " (النظام الجنائي الإسلامي ص 170)
[12] ) شرح زاد المستنقع للشنقيطي ج20 ص 5
[13] ) بداية المجتهد ج2 ص 453 الموسوعة الفقهية الكويتية ج24 ص 336
[14] ) بداية المجتهد ج2 ص 453 الموسوعة الفقهية الكويتية ج24 ص 336
[15] ) رواه البخاري ج11 ص 294 رقم 3216
[16] ) وقال (ولعله من المناسب أن نفصل شيئا في هذا الإجمال إن النظام الإسلامي كل متكامل فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملا ; ويعمل به جملة أما الاجتزاء بحكم من أحكام الإسلام أو مبدأ من مبادئه في ظل نظام ليس كله إسلاميا فلا جدوى له ; ولا يعد الجزء المقتطع منه تطبيقا للإسلام لأن الإسلام ليس أجزاء وتفاريق الإسلام هو هذا النظام المتكامل الذي يشمل تطبيقه كل جوانب الحياة هذا بصفة عامة)
[17] ) في ظلال القرآن
قال (وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم والسرقة على الخصوص والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على السواء واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد ; وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئا ولم تفته منفعة ذات بال أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل أو تنقص
من قدرته على العمل والكسب نقصا كبيرا ; ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه)
[18] ) رواه البخاري ج8 ص 215 رقم 2212
[19] ) ابن حجر : فتح الباري ج5 ص 54 إيقاظ الأفهام في شرح عمدة الأحكام ج1 ص 56
[20] ) التيسير بشرح الجامع الصغير ج2 ص 756
[21] ) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه ج29 ص 321 مكتبة ابن تيمية
[22] ) تفسير الشعراوي ج1 ص 307
[23] ) انظر ابن عاشور : التحرير والتنوير ج5 ص 102 مع بعض التصرف
[24] ) رواه مسلم ج9 ص 55 رقم 3197
-
الاثنين PM 03:08
2025-12-01 - 27



