المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 681609
يتصفح الموقع حاليا : 545

البحث

البحث

عرض المادة

حرمة الدم بغير نفس أو فساد (دراسة لقصة قابيل وهابيل وجريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد)

د/احمد نصير

حرمة الدم بغير نفس أو فساد   

(دراسة لقصة قابيل وهابيل وجريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد)

 

قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

 

قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) حكاية عن أصل ومنشأ جريمة القتل ، والسبب الباعث لارتكابها ، إذ (يُبِيِّنُ اللهُ تَعَالَى عَاقِبَةَ البَغْي وَالحَسَدِ وَالظُّلْمِ ، فِي خَبْرِ ابْنَي آدَمَ (قَابِيلَ وَهَابِيلَ) ، وَكَيْفَ عَدا أحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ فَقَتَلَهُ بَغْياً عَلَيهِ ، وَحَسَداً لَهُ ، فِيمَا وَهَبَهُ اللهُ مِنَ النِّعْمَةِ)[1].

 

 قال ابن جرير الطبري (اختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قَبُول الله عز وجل ما تقبل منه، ومَنِ اللذان قرَّبا؟) [2] ،، روى ابن جرير عن ابن عباس قال: (كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتَصَدّق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل) [3]، قال ابن كثير  (فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارئ في امرأة، كما تقدم عن جماعة مَنْ تقدم ذكرهم، وهو ظاهر القرآن ، فالسياق يقتضي إنه إنما غضب عليه وحسده لقبول قربانه دونه)[4].

وأيا كان سبب ذلك فإن أصل ومنشأ جريمة القتل مهما تعددت أسبابه الحسد والحقد والغل ، فعن النَّبِيَّ r قَالَ (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)[5]

 

قوله تعالى (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ) ، هذا هو منشأة هذه الجريمة ، فالحسد هو الذي دفع ابن آدم القاتل لقتل أخيه ، فعن عبد الله بن عمرو قال (إنّ ابني آدم اللذين قرّبا قربانًا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حَرْثٍ،والآخر صاحب غنم. وأنهما أُمرا أن يقرّبا قربانًا ، وإن صاحب الغَنَم قرب أكرم غنمه وأسمَنَها وأحسَنَها طيّبًة بها نفسه ، وإن صاحبَ الحرث قرّب شَرّ حرثه،غير طيبةٍ بها نفسه ، وإن الله تقبّل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قُربان صاحب الحرث ، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه) [6] .

 

قال الشعراوي (والذي ظهر من الآيات أن خلافاً قد وقع بينهما ثم تحاكما لله فيما بينهما ، لكن كان لكل واحد منهم شُبهة .. ، ولا أحد منهما بقادر على إقناع الثاني؛ .. فقربا قربانا ..، والذي تقبل الله منه القربان هو الذي سيُقْتل ، والذي يملأه الغيظ هو من لم يتقبل الله قربانه ، وهو الذي سوف يَقْتُل ، فهذا أهل لأن يتقبل الله قربانه ، لأنه متيقظ الضمير بمنهج السماء ، وهذه حيثية لتقبل القربان)  [7]

 

قوله تعالى (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ..) حسداً له - كما حسدت اليهود النبي r وحسده قومه في نبوته ورسالته -[8] ،قال الرازي (فلم يكن ذلك القتل إلا بسبب البغي والحسد ، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر) [9]، وفي الأثر (إيَّاكُمْ وَالحَسَدَ ؛ فَإنَّ الحَسَدَ يَأكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأكُلُ النَّارُ الحَطَبَ)[10]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)[11]، قال ابن رسلان (ويظهر أنه لو صالح أحدهما الآخر فلم يَقْبَل غُفِر للمُصَالِح )[12]

ولعل القاتل عرف "القتل" من مهنة الصيد ، وإن لم يجرب موت أحد من البشر.

 

فعَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ (ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ قَالَ ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)[13] ، أي أنهما يعلمان أنه لا يجوز الاقتتال ، لكن اقتتلا عصبية ، لا بسبب الفتنة ، قال النووي (وأما كون القاتل والمقتول من أهل النار) فمحمول على من لا تأويل له ويكون قتالهما عصبية ونحوها ، (ثم كونه فى النار) معناه مستحق لها ، وقد يجازى بذلك وقد يعفو الله تعالى عنه هذا مذهب أهل الحق)[14] .

 

 وقال النووي (اعلم أن الدماء التى جرت بين الصحابة رضى الله عنهم ليست بداخلة فى هذا الوعيد ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والامساك عما شجر بينهم وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفة باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله وكان بعضهم مصيبا وبعضهم مخطئا معذورا فى الخطأ لأنه لاجتهاد والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه ، وكان على رضى الله عنه هو المحق المصيب فى تلك الحروب هذا مذهب أهل السنة وكانت القضايا مشتبهة حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا ولم يتيقنوا الصواب ثم تأخروا عن مساعدته) [15].

 

وأيا كان الحال فإنه يجوز دفع الصائل في كل الأحوال لقوله r (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ أَوْ دُونَ دَمِهِ أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)[16]، بل يجب فعل ذلك ، من باب دفع المنكر باليد عند الاستطاعة ، فذلك من أسباب الإباحة ، فالدفاع الشرعي يجيز قتال المعتدي لرد اعتدائه .

 

قوله تعالى (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(27) تعريض من "المعتدى عليه" الذي هدد بالقتل ، بأن أخيه "المعتدي"لم يكن من المتقين حتى ينال قبول قربانه [17]، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ويحبط كل عمل ليس له ، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس/81).

 

 وتضمن كذلك انتصار لنفسه عليه بعد أن هُدِد بالقتل ، فأبان له بتلك العبارة أن الله جازاه بالقبول لتقواه ، ولم يتقبل منه لعدم تقواه ، ولم يكن لينتصر لنفسه بالقول إلا بعد أن هُدد بالقتل ، فلعله بتذكير أخاه بسبب القبول أراد منع نفسه من بسط يده ، فيصير ظالما مثله ، وهذا جائز في حال المشاجرة والانتصار على الظالم، قَالَ رسول الله r (الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ)[18]،قال ابن الجوزي (وهذا لأن البادئ ظالم بابتدائه بالسب فجوابه جزاء ، فإذا اعتدى المظلوم كان عليه إثم)[19].

 

قوله تعالى (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)(28) فعن عبد الله بن عمرو قال (أيمُ الله، إنْ كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّجُ أن يبسطَ يده إلى أخيه)[20] ، ولعل سبب هذا التحرج هو أن الإسلام لا يجيز أن يرفع المسلمان سلاحهما على بعضهما البعض ، حرصا على وحدة الصف وتقليلا للضرر ، ودرءا للفتنة ، كما أنه ليس يستفاد من الآية أنه لم يدافع عن نفسه ، ولم يقاوم ، بل إن المقاومة في هذا الحال من العدوان فطرة بشرية قبل أن يكون تكليف شرعي ، والمعنى أنه يدفع الضرر الشديد بالضرر الأيسر إن استطاع ، لكن لو لم يكن في الإمكان دفعه إلا بالقتل هنا يتحرج ، لاسيما وأنهما يمثلان ذرية آدم التي منها يحصل النسل ، ففي حصول القتل من أحدهما للآخر إهلاك لنصف البشرية ، ولذلك كان الحرج منه شديد ، ولم يكن في الحسبان أن أخيه سوف ينفذ تهديده بالقتل فعلا حتى وإن شرع فيه .

 

  والسنة أجازت ترك الدفاع عن النفس في أحوال الفتنة لذات العلة ، وهي أن انتشار القتل بين المسلمين يؤدي إلى إنهاك الفريقين وكلاهما متأول ، ولا يدري أحدهما علام يقاتل أخيه بسبب سوء الظن ، فكان تحمل ترك القتال وتحمل الأذى ضرر أخف من حيث المجموع على المسلمين ، فيصبر على البلاء ولا يدفع العدوان في هذه الحالة .

 

ففي أحوال الفتن فإنه يستحب ترك القتال لما روي عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ عن أبيه يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُ ذَكَرَ فِتْنَةً الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي قَالَ فَإِنْ أَدْرَكْتَ ذَاكَ فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ)[21]

 وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ فَإِنْ دُخِلَ يَعْنِي عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ)[22].

(فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ) : القسي هي: الأقواس التي هي من أدوات الحرب في ذلك الوقت

(وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ) : الأوتار هي للأقواس

(وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ) : معناه: حتى لا يكون عندكم سلاح، ولا يكون هناك مجال للمشاركة في الفتنة

 

قوله تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (29) أي (ترجع إلى الله يوم القيامة بإثم قتلك إياي ، وإثمك في معاصيك)[23]، قال ابن جزي (الإرادة هنا ليست بإرادة محبة وشهوة ، وإنما هو تخيير في أهون الشرين كأنه قال : إن قتلتني ، فذلك أحب إلي من أن أقتلك)[24] .

 

والعلماء أوجبوا ترك القتال عندما تحدث فتنة بين المسلمين ، ويكون كلا الفريقان متأولا ، فلا يعلم المخطئ من المصيب ، فعَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ r يَا خَالِدُ (إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَحْدَاثٌ وَفِتَنٌ وَاخْتِلَافٌ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ لَا الْقَاتِلَ فَافْعَلْ)[25]

 وعن رسول الله r (أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي قال فإن أدركت ذاك فكن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل)[26]

 وعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r  قَالَ (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي قَالَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي قَالَ كُنْ كَابْنِ آدَمَ)[27] .

 

والإمام النووي رجح في هذه المسألة رأي الفريق الذي أوجب قتال الفئة الباغية عند الفتنة كما ورد بالآية متى ظهر له ظلمها ، وأوَّل الأحاديث التي توجب ترك القتال والدخول فيه نصرة لأحد الفريقين حال عدم تبين الظالم من المظلوم أو عدم ظهور المفسدة من المصلحة أو عدم القدرة على ترجيح أحدهما على الآخر ولذلك قال (وقد اختلف العلماء فى قتال "الفتنة" فقالت طائفة (لايقاتل فى فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله فلا يجوز له المدافعة عن نفسه لأن الطالب "متأول") ، وهذا مذهب أبى بكرة الصحابى رضى الله عنه وغيره .

وقال بن عمر وعمران بن الحصين رضى الله عنهم وغيرهما (لايدخل فيها لكن إن قُصِد دفع عن نفسه)

فهذان المذهبان متفقان على (ترك الدخول فى جميع فتن الاسلام)

 

 وقال معظم الصحابة والتابعين وعامة علماء الاسلام (يجب نصر المحق فى الفتن والقيام معه بمقاتلة الباغين) كما قال تعالى (فقاتلوا التى تبغى) الآية

ثم عقب النووي على الرأي الأخير فقال (وهذا هو الصحيح وتتأول الأحاديث على (من لم يظهر له المحق أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما) ، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغى والمبطلون)[28].

 

إذن نفهم مما ذلك أن مسألة رد العدوان ودفع الصائل أو ترك القتال وعدم الخوض في الفتنة أو نصرة الفئة المعتدى عليها من الفئة الباغية من أعصى مسائل الفقه الإسلامي لا سيما السياسة الشرعية عن أن توضع لها قاعدة واحدة وثابتة ومضطردة بل هي مسألة تحتاج لقراءة دقيقة للواقع ، وتأصيل شديد للمشكلة ، ولا يفتي فيها من لا يفقه شيئا وإلا زادت الفتنة بسبب قوله المبني على جهل إما بالنصوص أو بفقهها أو بالواقع أو بتوصيفه أو بتكييف الواقع على النصوص أو بتقدير الملائمة أو الترجيح بين المفاسد وأقلها ضررا ، وهذا ما لا يقدر عليه إلا الراسخون في العلم ، ومن اتبعهم فهو آمن.

 

قوله تعالى (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (30) قال ابن عاشور (دلّت الفاء على التفريع والتعقيب، ودلّ لفظ"طَوّعت" على حدوث تردّد في نفس قابيل ومغالبة بين دافع الحَسد ودافع الخشية)[29] ، (والمعنى الحاصل أن نفس قابيل سولت له قتل أخيه بعد ممانعة)[30] ، وقد وصف الشيخ الشعراوي الصراع النفسي الذي انتاب ابن آدم قبل ارتكاب جريمته فقال (وحتى لا نظن أن الآخر « قابيل » كله شر لمجرد أن الشهوة سيطرت عليه ، يظهر لنا الحق أن فيه بعض الخير ، ودليل ذلك قول الحق "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ" وهذا القول يدل على أنه تردد ، ولا يقال : طوعت الشيء إلا إذا كان الشيء متأبيًا على الفعل ، فلا يقال : « طوّعت الماء » ، ولكن يقال «طوّعت الحديد» ، فكأن الإيمان كان يعارض النفس ، إلا أن النفس قد غلبت وطوّعت له القتل ، فالإنسان فيه ملَكتان ؛ ملكة فطرية تُحبّ الحق وتُحبّ الخير ، وَملَكَة أهوائية خاضعة للهوى ، والملكتان تتصارعان ، وكأن النفس الشريرة الأهوائية تغلبت على الخيّرة ، فكان هناك تجاذبا وتصارعاً وتدافعا ، إنه لا يزال فيه بقيّة من آثار النُّبوة؛ لأنه قريب من آدم ، ولاتزال المسألة تتأرجح معه ، والشر من الأخيار ينحدر ، والشر في الأشرار يصعد)  [31].

 

والخسران المشار إليه في الآية هو خسران الدين ، لقوله r (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)[32]، قال النووي (قتاله بغير حق فلا يكفر به عند أهل الحق كفرًا يخرج به من الملة إلا اذا استحله ، والمراد كفر الاحسان والنعمة وأخوة الاسلام لاكفر الجحود)[33] ، قال ابن الجوزي (وإذا قاتل المسلم المسلم من غير تأويل كان ظاهر أمره أنه رآه كافرا أو رأى دين الإسلام باطلا أو لا يرى أن الإسلام قد عصم دمه فيكفر باعتقاد ذلك)[34] .

 

 وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)[35] ، (لأن الإسلام جاء بحفظ الضرورات الخمس والتي منها حفظ النفوس، ولولا ذلك لانتشر القتل وعمت الفوضى ولربما انقطعت الحياة)[36]، (والمعنى أنه في أي ذنب وقع كان له في الدين والشرع مخرج إلا القتل فإن أمره صعب)[37] ويوضح هذا ما روي عن ابن عمر أنه قال (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ)[38].

 

قوله تعالى (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (31) وذلك لأنه وإن تعلم القتل في الصيد ، إلا أنه يجهل ما يترتب على موت الإنسان ، وماذا يفعل بسوأته أي جيفته ؟ فبعث الله له غرابا ليتعلم من سلوكياته كيف أنها لا تقتل بعضها بعضا إلا لأجل الدفاع عن النفس أو بسبب خروج الجاني عن قوانينها الاجتماعية ، وتقوم بدفن الجثث فلا تتركها تتحلل في العراء احتراما لجسد الميت ، وهكذا يتعلم من أخلاقياتها ما يجب أن يتعلمه في حياته الاجتماعية مع بني جنسه (الإنسان).

وتبدو الحكمة الإلهية في أن جعل الله تعالى الغراب مُعلما لابن آدم كيف يدفن أخوه ، ليتعظ من هذا السلوك ، ويعلم أن سلوكه الإنساني لم يرق لسلوك الغربان التي يستبشع الإنسان منظرها وهي تأكل لحم الجثث ، ولكن الغربان لا تقتل بعضها بعضها بدون سبب يجيز لها القتل في قوانينها الاجتماعية ، فهي تعيش في نظام اجتماعي منظم ، فالغراب من أذكى الطيور ، وهو اجتماعي في نظامه المعيشي ، ويسير وفقا لقوانين الجماعة ، ويعقد محاكم للغربان التي تخالف ذلك ويوقع عليها العقوبات[39] .

 

   

 

تقول كايلي سويفت، خبير أمراض الكائنات الحية الدقيقة في جامعة واشنطن تشتهر الغربان بإقامة الجنازات عند موت أحد أفراد عائلتها، وقد تظل واقفة فوق الطائر لعدة أيام متتالية، ويمكن أن يكون ذلك السلوك هو نوع من أنواع الحداد على الطائر الميت.

 

والغراب رغم أنه لا يفترس الكائنات بل يأكل الجيف إلا أنه سلوكه قد  يتسم بالعدوانية والأذى حين تختطف اللحم من أيدي الناس[40]، بل ويعتدي على الدواب فينقرها ليتغذى على لحم ظهرها ، وويسرق أمتعة الناس[41] ،أك ولذلك أمرنا بقتله لفساده ، قَالَ رسول r (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ)[42] ، (وخصت بالحكم لأنها مؤذيات مفسدات تكثر في المساكن والعمران ويعسر دفعها والتحرز منها)[43] .

 

أي أن الغربان ورغم ما يصدر عنها من أخلاق عدوانية إلا أنها في إطارها العام محكومة بقوانين خاصة تلتزم بها  ، وتطبقها على المخالفين لها  ، فكيف انحط الإنسان بسلوكه العدواني عن سلوك الطيور ، وكيف لم يصل إلى مثل تنظيمها الاجتماعي الذي يحفظ له الأمن والسلام .

 

إذن كان محل ندم ابن آدم أنه عجز أن أخلاقه لم تواز أخلاق الغربان ، إذ رأي من أخلاق الغراب – وهو معروف بسوء خلقه وفساده - ما أشفق به على مقتوله ، ولم يكن من أخلاقه ما يعادل أخلاق الغراب في احترام حقوق الموتى بالدفن ، وإن تساويا في الاعتداء على الغير ، قال الرازي (لما رأى أن الغراب لما قتل الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه ، فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ، ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب) [44].

 

وفي ذلك تعليم من الله تعالى أن يقف المسلم عند ارتكاب الذنب ، فلا يفعل ذنب آخر ولو كان أيسر من الأول ، فلا يسترسل في العدوان إلى منتهاه حتى وإن لم يبق منه إلا اليسير فليكف عنه ، فمن اعتدي فقتل ، فعليه ألا يستطيل عدوانه على جسد المقتول فيُمثل به ، بل عليه أن يدفنه لعل ذلك يذكره بالتوبة .

 

قوله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (32) تعقيب على أحداث القصة سالفة الذكر وما انطوى عليها من جريمة القتل بسبب "الحسد" ، وتعليل لتعظيم إثم مرتكبها عند الله ، وقد ورد تخصيص بني إسرائيل بالذكر في موضع ذم القتل باعتبارهم أكثر الناس عدوانا على الناس والأنبياء بل هم قتلة الأنبياء .

 

 قال طنطاوي (وخص بنو إسرائيل بالذكر مع أن الحكم عام - لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا ، وكان قبل ذلك قولا مطلقا ، ولأنهم أكثر الناس سفكا للدماء ، وقتلا للمصلحين ، فقد قتلوا كثيرا من الأنبياء ، كما قتلوا أكثر المرشدين والناصحين ، ولأن الأسباب التي أدت إلى قتل قابيل لهابيل من أهمها الحسد ، وهو رذيلة معروفة فيهم ، فقد حملهم حسدهم للنبي r على الكفر به مع أنهم يعرفون صدقة كما يعرفون أبناءهم ، كما حملهم على محاولة قتله ولكن الله - تعالى نجاه من شرورهم) [45]

 

 ولذلك كان اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا ، بل وعداوة للناس جميعا ، قال مفتي الديار المصرية (وقيد القتل بأنه "بِغَيْرِ حَقٍّ" مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، للتصريح بموضع الاستنكار ، لأن موضع الاستنكار هو اعتداؤهم على الحق بقتلهم الأنبياء ، وللإشارة إلى أنهم لتوغلهم في الظلم والعدوان قد صاروا أعداء للحق لا يألفونه ولا تميل إليه نفوسهم ، وللتسجيل عليهم أن هذا القتل للأنبياء كان مخالفاً لما في شريعتهم فإنها قد نهتهم عن قتلهم ، بل عن مخالفتهم ، فهذا القيد من باب الاحتجاج عليهم بما نهت عنه شريعتهم لتخليد مذمتهم في كل زمان ومكان )[46].

 

فقيد موضع الذنب في القتل بالآية أنه حصل بغير نفس أي عدوانا وليس قصاصا ، وحصل بغير فساد في الأرض أي بسبب ارتكاب جريمة تستحق القتل جزاء لها كجريمة الحرابة ،  فالحكم الوارد في شريعة بني إسرائيل بشأن تجريم القتل بغير حق هو ذاته في شريعة محمد r ، إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ) [47] ، وفي رواية (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث :-

 أن يزني بعدما أحصن

 أو يقتل إنسانا فيقتل

 أو يكفر بعد إسلامه فيقتل)[48].

 

قوله (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) إمعان في التبشيع والتنكير لهذه الجريمة ، لأن آثار جريمة القتل لم تكن تقتصر على المجني عليه وحده أو أهله وعشيرته ، وإنما هي تمثل إعتداء على حق البشرية جمعاء ، فهي تؤدي إلى ترويع الأمن العام ، فيظل أهل القرية برمتها خائفين من تكرار هذا الفعل في أحد منهم ، فلا يأمن بعضهم بعضا بسبب واقعة واحدة .

 

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ)[49] ، قال السندي (فهو متبوع في هذا الفعل وللمتبوع نصيب من فعل تابعه وان لم يقصد التابع اتباعه في الفعل) [50]، ذلك أن أهل الباطل لا يجهرون بباطلهم ، ولا يستأسدون ويتجرءون على جرمهم إلا برؤية من يسبقهم في ذلك ، فالسابق للمنكر أول من يكسر حرمته في المجتمع ، فيسهل على غيره ارتكاب ذات الجرم ، وأن يتبعه في باطله .

 

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r (وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)[51] ، ولذلك كان أجرأ الناس على المعصية هو أشقى القوم ، قال تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا)(الشمس/11-12)  .

 

قوله تعالى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) أي كان سببا في إحيائها بالإسعاف أو الطب أو الوقاية العلاجية أو الكلمة الطبية أو منع الفتنة ...الخ ، والله هو الفاعل على الحقيقة ، فجزاؤه عظيم حيث يتعدى الثواب للمصلحة الخاصة لنفس واحدة إلى إحياء أنفس الناس جميعا ، لأنه بهذا السلوك يحيي في المجتمع الضمير ، والحس الأمني ، واليقظة لحرمة الإنسان ، وحفظ حقوقه ، واحترامه ، قال الزمخشري (ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك )[52]، قال ابن عاشور (والإحياء مستعار لما يشبه إحياء الميت ، وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان)[53]

 

وقد توسع مجاهد في المعنى فقال «من لم يقتل أحدا فقد أحيا الناس منه »[54]، ذلك أن الله تعالى ينظر إلى قلوب العباد ، ولا ينظر إلى كثرة الأعمال ، فمن ساهم في إحياء إنسان فهو بنيته الصالحة لن يبخل أن يساهم مرة أخرى في إحياء غيره ولو البشرية كلها ، ولذلك يعطيه الله تعالى على قدر نيته وليس على قدر عمله ، وفي ذلك مدح حثيث لمن امتهن مهنة الطب أو الإسعاف أو الإنقاذ ...الخ .

 

ويجدر بنا في هذا الصدد أن نشيد بقصة الشاب المصري حسن الجزار الذي أنقذ 13 فتاة  في محافظة الإسماعيلية من الغرق بعدما انقلبت السيارة في مصرف ماء ، ثم أحس بإعياء شديد على إثره أصيب بأزمة قلبية ومات ، فنسأل الله له أن يتغمده بالرحمة [55] ، فشتان بين من يقتل النفس التي حرم الله بغير حق لأجل الحسد والغيرة ، وبين من يضحي بنفسه لينقذ غيره ، ولو كانت ألف نفس لما تردد عن إنقاذها ، حتى تذهب روحه لبارئها .

 

قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) إذن لابد من دستور يؤكد حق صيانة الدم ، يتعهد أهل الكتاب بالتزامه ، كما أن للمسلمين دستورهم وهو القرآن يلتزمون بأحكامه ، قال أبو حيان (أخبر تعالى أنّ الإسراف والفساد فيهم هذا مع مجيء الرسل بالبينات من الله ، وكان مقتضى مجيء رسل الله بالحجج الواضحة أن لا يقع منهم إسراف وهو المجاوزة في الحد ، لكن خالفوا هذا المقتضى)[56] ، والضمير عائد على بني إسرائيل [57]، قال تعالى (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) (آل عمران/112) .

فإذا كانت آيات القرآن قد أبانت حرمة الدم بغير حق للمسلمين الذي يؤمنون بها ، بينما أهل الكتاب لا يؤمنون بها ، فكان لابد من اتفاق سياسي واجتماعي (دستور يضمن حقوق الإنسان) معهم يؤكد ما في القرآن من حرمة الدم ، وجزاء القصاص على من يتجاوز ذلك ، وجزاء القتل على من يقتل غير معين أو يفسد في الأرض ، وذلك حتى ينعموا بحق الذمة بين المسلمين ، لاسيما وأن كتبهم المحرفة تحض على قتل من ليس على ملتهم تقربا للآله .


 

[1] ) علي بن نايف الشحود / الترغيب بالجنة والتحذير من النار ج1 ص 420

[2] ) تفسير الطبري ج10 ص 202

[3] ) فبينا  ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه  الله ، أرسل إليه نارا فتأكله  وإن لم يكن رضيه الله خَبَت النار، فقربا قربانا ، وكان أحدهما راعيا، وكان الآخر حَرّاثا، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها، وقرب الآخر بعض زرعه، فجاءت النار فنزلت بينهما، فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قَرّبت قربانا فَتُقُبِّل منك وَرُدّ عليَّ؟ فلا والله لا ينظر الناس إليك وإليَّ وأنت خير مني. فقال: لأقتلنك. فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين

تفسير الطبري ج10 ص 204 رقم 11706

وقد عقب الشيخ أحمد شاكر– رحمه االله– في الهامش على ما ذكره ابن كثير من روايات إسرائيلية بقوله: "هذا من قصص أهل الكتاب ، ليس له أصل صحيح ، ثم ساق الحافظ المؤلف هنا آثارا كثيرة في هذا المعنى، مما امتلأت به كتب المفسرين.

على سبيل المثال وليس على سبيل الرواية الصحيحة المقبولة"  ، وذكر مثل هذه الروايات كونها أجود إسنادا ، وذلك مخالف من وجهة نظر الباحث للمنهج السديد في الروايات كونها أجود إسنادا الاختصار وفي التعامل مع الروايات الاسرائيلية، ومخالف لما قرره في المقدمة من أنه سيحذف الروايات الاسرائيليلة وما أشبهها ولو أنه أعرض عنها كليا بالكلية لكان أفضل، فقد ذكر بأن هذه الروايات من قصص أهل الكتاب، ليس له أصل صحيح، فكان الأولى حذف. ثم ما الفائدة المرجوة من ذكر كل هذه التفاصيل؟!.

[4] ) تفسير ابن كثير ج3 ص 85

[5] ) رواه الترمذي ج9 ص 50 رقم 2434 وحسنه الألباني : الجامع الصغير ج1 ص 568 رقم 5673 إرواء الغليل ج3 ص 238

[6] ) تفسير الطبري ج10 ص 202

[7] ) تفسير الشعراوي ج1 ص 2130

[8] أيسر التفاسير للجزائري ج1 ص 344

[9] ) تفسير الرازي ج3 ص 246

[10] ) رياض الصالحين (تحقيق الدكتور الفحل) ج2 ص 206 ، قال الألباني : قلت : ورجاله موثقون غير جد إبراهيم وهو مجهول لأنه لم يسم  ، ورواه البخاري في " التاريخ الكبير " و قال : لا يصح ، و ضعفه العراقي و الألباني و شعيب الأرناؤوط .- المصادر : "التاريخ الكبير" (1/272) "مختصر سنن أبي داود" للمنذري(7/226) "ضعيف الجامع" " الضعيفة " ( 1902 )أخرجه أبو داود، وفي إسناده رجل مبهم، وهو الراوي لـه عن أبي هريرة، والمبهم لا يُحتج به؛ لجهالة عينه وحاله.

[11] ) رواه مسلم ج12 ص 429 رقم 4652

[12] ) شرح الزرقاني ج4 ص 335

[13] ) رواه البخاري ج1 ص 54 رقم 30

[14] ) شرح النووي على مسلم ج18 ص 11

[15] ) شرح النووي على مسلم ج18 ص 11

[16] ) رواه أبو داود ج12 ص 388 رقم 4142 وصححه الألباني صحيح كنوز السنة النبوية ج1ص 87

[17] ) قال جمهور المفسرين: إن اسم القاتل قابيل واسم المقتول هابيل ، والغالب أن ذلك مأخوذ من الإسرائيليات، كما قال العلامة أحمد شاكر ، ولم يرد ذلك في كتاب الله عز وجل ولا في الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، [عمدة التفسير: 1/662]. ولكن قال الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ  [المائدة:27].قال الشيخ أحمد فريد ( فليس في تسمية الرجلين عبرة وعظة).

[18] ) رواه مسلم ج12 ص 472 رقم 4688

[19] ) كشف المشكل من حديث الصحيحين ج1 ص 1042

[20] ) تفسير الطبري ج10 ص 202

[21] ) مسند أحمد ج43 ص 89 رقم 20154 وصححه الألباني إرواء الغليل ج8 ص 143

[22] ) رواه أبو داود ج11 ص 328 رقم 3715 وصححه الألباني : صحيح ابن ماجة ج2 ص 356 رقم 3200 وصحيح وضعيف سنن أبي داود ج9 ص 259 رقم 4259 والسلسلة الصحيحة المجلدات ج2 ص 426 رقم 1682

[23] ) أيسر التفاسير للجزائري ج1 ص 344

[24] ) التسهيل لعلوم التنزيل ج1 ص 346

[25] ) رواه أحمد في مسنده ج45 ص 491 رقم 21461 وصححه الألباني : إرواء الغليل ج8 ص 146 ـ وقال الألباني (سكت عنه الحاكم والذهبى , وعلى بن زيد هو ابن جدعان , سىء الحفظ , لكن الأحاديث التى قبله تشهد له )

[26] ) رواه أحمد في مسنده ج5 ص 110 رقم 21101 وصححه الألباني : إرواء الغليل ج8 ص 143 ، وقال أخرجه أحمد بسند صحيح على شرط مسلم ، وصححه ابن حجر في الفتح /  قال الشيخ الأرناؤوط: رجاله ثقات رجال الشيخين،

[27] ) رواه الترمذي ج8 ص 118 رقم 2120 وصححه الألباني : صحيح وضعيف سنن الترمذي ج5 ص 194 رقم 2194

[28] ) شرح النووي على مسلم ج18 ص 10

[29] ) تفسير التحرير والتنوير ج 5ص 84

[30] ) التحرير والتنوير ج5 ص 85

قال الأستاذ فاضل السمرائي (ما الفرق بين (طوعت) و (سولت)(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) المائدة) وسولت (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) طه) و(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا (18) يوسف)؟(سولت) معناها زينت له، يقال سولت له نفسه أي زينت له الأمر، (طوّعت) أشد. نضرب مثلاً" الحديد يحتاج إلى تطويع أي يحتاج إلى جهد حتى تطوعه، تريد أن تطوع وحشاً من الوحوش تحتاج لوقت حتى تجعله يطيعك، فيها جهد ومبالغة في التطويع حتى تروضه وتذلله، المعادن تطويعها يحتاج إلى جهد وكذلك الوحوش والطيور تطويعها يحتاج إلى جهد وبذل.التسويل لا يحتاج إلى مثل ذلك الجهد. إذن سولت أي زينت له نفسه، لذا ابني آدم قال (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) كان يفكر هل يمكن أن يقدم على قتل أخيه فاحتاج وقتاً لترويض نفسه ليفعل هذا الفعل وهو ليس كأي تسويل أو تزيين بسهولة تفعل الشيء وأنت مرتاح ، التطويع يحتاج إلى جهد حتى تروض نفسه وتهيء له الأمر. وفي القرآن قال تعالى: (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) في قصة السامري هنا بسهولة وهذه أسهل من أن يقتل الواحد أخاه.  

[31] ) تفسير الشعراوي ج1 ص 2130

[32] ) رواه البخاري ج 18 ص 475 رقم 5584

[33] ) شرح النووي على مسلم ج2 ص 54

[34] ) كشف المشكل من حديث الصحيحين ج1 ص 200

[35] ) رواه البخاري ج21 ص 151 رقم 6355

[36] ) شرح سنن أبي داود لعبد المحسن العباد ج24 ص 35

[37] ) كشف المشكل من حديث الصحيحين ج1 ص 675

[38] ) رواه البخاري ج21 ص 152 رقم 6356

[39] ) https://www.eajaz.org/index.php/component/content/article/79-Number-twenty-one/670-Kill-this-reprobate

https://www.youtube.com/watch?v=egsBnqyQgXc

[40] ) عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج16 ص 50

[41] ) أبو عمر النمري : التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ج15 ص 160

[42] ) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج1 ص 355 رواه البخاري ج6 ص 359 رقم 1698

[43] ) فيض القدير ج3 ص 607

[44] ) مفاتيح الغيب ج11 ص 167

[45] ) الوسيط لسيد طنطاوي ج1 ص 1241

[46] ) الوسيط لسيد طنطاوي ج1 ص 574

[47] ) رواه البخاري ج21 ص 171 رقم 6370

[48] ) رواه االنسائي ج2 ص 301 رقم 3521 وصححه الألباني : صحيح وضعيف سنن النسائي ج9 ص 130 رقم 4058

[49] ) رواه البخاري ج11 ص 116 رقم 3088

[50] ) حاشية السندي على النسائي ج7 ص 82

[51] ) رواه مسلم ج5 ص 198 رقم 1691

[52] ) الدر المنثور ج 3 ص 467 الزمخشري : الكشاف ج2 ص 21

[53] ) التحرير والتنوير ج9 ص 68

[54] ) تفسير مجاهد ج 1 ص 339 رقم 333

[55] ) https://www.elwatannews.com/news/details/8181267

[56] ) البحر المحيط ج4 ص 420

[57] ) الوسيط طنطاوي ج1 ص 1242

  • الاثنين PM 02:59
    2025-12-01
  • 40
Powered by: GateGold