ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
الفلسفة: مغالطات ومراجعات
أ. عبد المجيد فاضل
بسم اللّهِ الرحمن الرحيم، والصّلاةُ والسّلامُ على خاتَمِ الأنبياء والمرسلين، وبعدُ:
فإنّ الفلسفةَ عِلمٌ مصدرُه التفكيرُ البشري، وهذا التفكيرُ عرضةٌ للأخطاء والأوهام والمغالطات، خصوصاً إذا انطلق مُتحرِّراً من الدين. ويكفي أن نَذْكُرَ في هذا البحث بعضَ المغالطات التي أصبحت منتشرةً في الشبكة العنكبوتية، وسهلةَ الوصول إلى أدمغة الشباب، الذين ليس لهم حصانة للنجاة من مخالبها، وقد يُعَرِّض بعضُهم دينَهم لِخطرِ الفساد والتّفسُّخ والانحلال!
المغالطةُ الأولى: قال بعضُهم: ”الفلسفة تُجيب عن الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عنها، وهنا تلتقي بالدين، عندما يجيب عن أسئلة ماورائية“!
تعقيب: بل إنَّ الفلسفةَ والدينَ يفترِقان في الإجابة عن الأسئلة الماورائية: فأَمَّا الدِّينُ فإنَّه يجيب عن الأسئلة التي لا يستطيع العلمُ الإجابة عنها عن طريق الوحي، الذي مصدرُه اللهُ عالِمُ الغيب والشهادة، وأمّا الفلسفةُ فهي تتوصل – كما تدّعي – إلى الإجابة عن الأسئلة الماورائية أو الغيبية عن طريق النظر العقلي وحده. ولكنْ هلِ النظرُ العقليُّ الفلسفيُّ يملك مفتاحًا سِرِّيًّا، يَفتح به أبوابَ الغيبِ للوصول إلى نفس الإجابات التي توصّلَ إليها الأنبياءُ عن طريق الوحي؟ ومَن أعطى هذا المفتاح للفلاسفة؟
المغالطةُ الثانية: قال بعضُهم: ”كانت الفلسفةُ الوسيلةَ العقلانية لتفسير معاني الخلق والحياة وقِوَى ما خلف الطبيعة، فنجحَتْ قبل ظهور الأديان، كما في اليونان والهند والصين وغيرها، ثم جاءت الأديان لتجيب عن الأسئلة الفلسفية الخالدة، من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟“!
التعقيب الأول: أمّا أنّ الفَلْسَفَةَ ظهرت قبل الأديان، فإن آدمَ هو أولُ إنسان وهو أبو البشر، جاء في الحديث الصحيح أنّ النّاسَ "يَأْتُونَ آدَمَ عليه السَّلَامُ فيَقولونَ له: أنْتَ أبو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بيَدِهِ، ونَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ، وأَمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ". [متفق عليه]
وفي حديث آخر: "وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ". [رواه أحمد، وقال محققو المسند: حديث حسن]
وآدمُ عليه السلام، كان نبيًّا يُوحَى إليه، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، مُكَلَّمٌ»، قَالَ: فَكَمْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ؟ قَالَ: «عَشَرَةُ قُرُونٍ» [أخرجه ابنُ حِبّانَ، وغيرُه، وقال العلاّمةُ شُعيبُ الأرنؤوط: إسناده صحيح/ انظر: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، الأمير علاء الدين علي بن بلبان، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: الثانية 1414هـ - 1993م، ج14 ص69، رقم الحديث 6190].
وهذا دليل على أن الدِّين ظهر مع ظهور أوّل البشر، وقبل أن تظهر الفلسفة.
ولقد جاء في القرآن الكريم قولُه تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]
وقولُه تعالى :{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل: بعضُ الآية 36]
وهذا يدل على أن الدين كان موجوداً في كل الأمم القديمة. نعم لقد كانت بعض الأمم تنحرف، ولكنّ اللهَ يرسل إليها مَن يُذكِّرُها ويُرجِعها إلى الصواب. ولعلّ الفلسفة لم تظهر إلّا في الأمم التي ابْتَعَدت عن دينها، وطال عليها الأمد. وفطرةُ الإنسان – التي لا تهدأ عن البحث عن الحقيقة – هي التي أخرجت بعضَ الناس الذين حاولوا أن يملؤوا الفراغ الروحي، وسُمُّوا بالفلاسفة، ولكنهم كانوا كثيراً ما يتخبطون في الوصول إلى الحقائق الغيبية، التي لا يمكن الوصول إليها إلّا عن طريق الهداية السماوية.
هذا، ولقد توصّل بعضُ الباحثين المعاصرين في الغرب إلى أنّ الدينَ سبق ظهور الفلسفة، فلقد جاء في معجم "لاروس" للقرن العشرين: "إنّ الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدّها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية... وإنَّ الاهتمامَ بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية... إنّ هذه الغريزة الدينية لا تختفي بل لا تضعف ولا تذبل، إلا في فترات الإسراف في الحضارة، وعند عدد قليل جداً من الأفراد".
وانظر النّصَّ الأصلي باللغة الفرنسية في الرابط:
https://fr.m.wikisource.org/wiki/Page:Otlet_-_Monde_-_1935.djvu/314
ولقد توصّلَتْ دراسةٌ أخرى، أجراها اثنان من الأكاديميين في جامعة أكسفورد، إلى أن عملياتِ التفكيرِ البشري متجذرةٌ في المفاهيم الدينية.
شارك في هذا المشروع 57 أكاديميًا في 20 دولة حول العالم، وشمل تخصصات، تشمل الأنثروبولوجيا وعلم النفس والفلسفة... وقال المدير المشارك للمشروع، البروفيسور روجر تريج، من جامعة أكسفورد: "إن البحث أظهر أن الدين ليس مجردَ شيءٍ تفعله قِلَّة من الناس في أيام الأحد بدلاً من لعب الجولف". وقال: "لقد جمعنا مجموعة من الأدلة التي تشير إلى أن الدينَ حقيقةٌ مشتركةٌ في الطبيعة البشرية عبْرَ المجتمعات المختلفة"./ انظر: مقالاً بعنوان «الإيمان بالله جزء من الطبيعة البشرية» بواسطة تيم روس (Tim Ross)، نُشِر بتاريخ 12 مايو 2011، بجريدة التلغراف البريطانية. وانظر النص بالإنجليزية في الرابط:
وقال الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون –Henri Bergson – (1859-1941) والحاصل على جائزة نوبل في الأدب سنة 1927 في كتابه «مَنْبَعا الأخلاق والدين» – وهو متوفِّرٌ في الشبكة العنكبوتية –: “لقد وُجِدَتْ وتوجد جماعاتٌ إنسانية، من غير علوم وفنون وفلسفاتٍ، ولكنْ لم توجدْ قَطُّ جماعةٌ مِن غير ديانة”.
انظر النص الأصلي باللغة الفرنسية في الرابط:
https://fr.m.wikisource.org/wiki/Les_Deux_Sources_de_la_morale_et_de_la_religion/Chapitre_II
وهذا النصُّ أوْرَدَه الأستاذُ الدكتور العلاّمةُ محمد عبدالله دراز في كتابه «الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان»/ صفحة 82.
والدكتور محمد عبد الله دراز كان محاضرًا في كلية أصول الدين، ابتعثه الأزهر إلى فرنسا سنة 1936م حيث دَرَس فلسفة الأديان في «جامعة السوربون»، ونال منها شهادة الليسانس والدكتوراه، ومكث فيها اثنتي عشرة سنة (من مايو 1936 - مارس 1948م). وكتابُه هذا من أهم مؤلفاته، ويُعَدّ العمدة في دراسة تاريخ الأديان وفلسفتها.
التعقيب الثاني: وأمّا أنّ الفلسفةَ نجحَتْ في تفسير معاني الخلق والحياة وقِوى ما خلْفَ الطبيعة، فيكفي أن نُعقِّب على هذا الزعم بقولٍ للدكتور محمد عبد ﷲ دراز جاء فيه: "ونحن نعرف بالاستقراء والتجربة أن أكثرَ هذه النظرياتِ الفلسفيةِ المتضاربةِ فروضٌ وتقديرات، تدور كلُّها في ذلك الإمكان والاحتمال، وتتفاوت فيما بينها بِقَدْرِ ما فيها من حُسنِ العَرْض وتناسُقِ الوضع، لا اعتمادًا على العقل الخالص ومتانة البرهان، بل على جودة الخيال وبراعة البيان، فهي لا تعْدو أن تكونَ ضَرباً من الشِّعر المنثور، يناجي العاطفة ويستهوي القلوب، من غير أن يكون في حُجتها ما يشفي طالب اليقين، ولا في حُكْمها ما يَحسِم مادةَ النزاع بما فيه فصلُ الخطاب". [انظر كتاب «الدين/ بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان»، الدكتور محمد عبد ﷲ دراز، البحث الثاني: ”الدين والفلسفة“، دار القلم، ص64].
المغالطةُ الثالثة: قال بعضُهم: ”فكما أن كلَّ نَبِيٍّ فيه شيءٌ من الفلسفة، فإن كلَّ فيلسوف فيه شيء من النُّبُوَّةِ، باعتبار الحكمة والمنطق“!
التعقيب الأول: هذا الادعاء لا يقول به إلّا مَن يريدُ رفع مكانة الفلاسفة فوق سائر البشر، وإلقاءَ شيءٍ من القَدَاسة عليهم؛ تمهيدًا لِقبُولِ بعض أقوالِهم البشرية، ولو كانت مصادِمةً لِلنُّصوص الشرعية. ولقد بالغ بعضُهم حتَّى جزَمَ أنّ الفلاسفةَ مِن أهل الجَنَّةِ، ودعا اللهَ أنْ يحشُرَه معهم!
التعقيب الثاني: هل الحكمةُ والمنطقُ مِنْ أجزاء النُّبُوَّةِ، حتَّى يُقالَ إنّ الفيلسوفَ فيه جُزْءٌ من النُّبُوَّةِ؟
نحن – المسلمين – نؤمن أن النُّبُوَّةَ قدِ انقطعَتْ، ولمْ يَبْقَ منها إلَّا الرؤيا الصّادقةُ التي تُرى في المنام للرجل الصالح، لا لجميع الناس وإنْ كانوا فلاسفة، قال النَّبِيُّ ﷺ: "لا يَبْقى بَعدي منَ النُّبوةِ شيءٌ إلَّا المُبشِّراتُ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما المُبشِّراتُ؟ قال: الرُّؤيا الصالحةُ، يَراها الرَّجلُ، أو تُرى له". [أخرجه الإمامُ أحمد في مسنده، وقال محققو المسند: صحيح/ مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م، ج1 ص443، حديث رقم 24977].
وقال ﷺ: "الرُّؤْيَا الحَسَنَةُ، مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ". [رواه البخاري]
قال ابنُ حجر العسقلاني: "وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُسْلِمُ الصَّادِقُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالُهُ حَالَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَهُوَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْغَيْبِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُخَلِّطُ فَلَا، وَلَوْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ أَحْيَانًا، فَذَاكَ كَمَا قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَالْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ". [فتح الباري بشرح البخاري، المكتبة السلفية – مصر، ج12 ص362]
التعقيب الثالث: شَتّانَ بين حكمةِ الأنبياء وحكمة الفلاسفة:
إنّنا لا نشُكُّ أنّ الأنبياءَ قد آتاهم الله الحكمة بجميع معانيها الجميلة، فلقد أُوتوا العَقْل الوافِرَ في الدِّينِ، والفَهْمَ الكامل والمعرفة العميقة للأمور، والعلم بحقائق الأشياء، والفِقْهَ والعَمَل، والوَرَع في الدِّينِ، والخَشْيَة لِلَّهِ، وَالْعدْل، والإصابَة في القَوْلِ، والتصرّف بالحكمة المناسبة في الوقت المناسب. والنَّبِيَّ ﷺ آتاه الله أيضاً فهْمَ القرآن الكريم، وجوامع الكَلِم.
وأمّا نَبِيُّنا ﷺ فلقد أثنى اللهُ تعالى على خُلُقِه في كتابه الكريم، بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ﴾ [القلم: 4].
قال الإمامُ ابنُ جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "هذا ثناءٌ على خُلُق رسول الله ﷺ... وتفصيل ذلك: أن رسول الله ﷺ جمع كل فضيلة، وحاز كل خَصْلة جميلة، فمن ذلك شرفُ النسب ووفورُ العقل وصحة الفهم، وكثرة العلم، وشدّة الحياء، وكثرة العبادة والسخاء والصدق والشجاعة والصبر والشكر والمروءة والتودد، والاقتصاد والزهد والتواضع، والشفقة والعدل، والعفو وكظم الغيظ، وصلة الرحم وحسن المعاشرة، وحسن التدبير وفصاحة اللسان، وقوة الحواس وحسن الصورة وغير ذلك".
وهذه المعاني قد آتاها الله كثيراً من المؤمنين، وبعضُها قد آتاها غير المسلمين، ولكنّ حكمةَ الفلاسفة لا يمكن أن تكون كحِكْمة الأنبياءِ؛ لأنّ حكمةَ الفلاسفةِ – كسائر كلام البشر – معرّضةٌ دوْماً للأوهامِ والنّزغاتِ الشيطانية، وأمّا حكمةُ الأنبياءِ فلقد كانت ترعاها العناية الرّبّانية، قال الإمامُ ابنُ حَزْم (456هـ): "ونقول إنه يَقع من الْأَنْبِيَاءِ السَّهْوُ عَن غير قصْد، وَيَقَع مِنْهُم أَيْضا قصْدُ الشَّيْء يُرِيدُونَ بِهِ وَجهَ الله تَعَالَى والتقربَ مِنْهُ، فيوافق خلاف مُرَاد الله تَعَالَى، إِلَّا أَنه تَعَالَى لَا يُقِرُّهم على شَيْء من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ أصْلاً، بل يُنَبِّهُهم على ذَلِك وَلَا بُدَّ، إثرَ وُقُوعه مِنْهُم". [الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، مكتبة الخانجي – القاهرة، ج4، ص2].
وقال القاضي عياض (544 هـ) : "فَالْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَسَائِطُ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ، يُبَلِّغُونَهُمْ أوامرَه ونواهيَه ووعدَه ووعيده، ويُعرِّفونهم بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مِنْ أَمْرِهِ وَخَلْقِهِ، وَجَلَالِهِ وَسُلْطَانِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَمَلَكُوتِهِ..
فَظَوَاهِرُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ وَبِنْيَتُهُمْ مُتَّصِفَةٌ بأوصاف البشر، طارئٌ عَلَيْهَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَنُعُوتِ الْإِنْسَانِيَّةِ..
وَأَرْوَاحُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ مُتَّصِفَةٌ بِأَعْلَى مِنْ أَوْصَافِ الْبَشَرِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى، مُتَشَبِّهَةٌ بِصِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ سَلِيمَةٌ مِنَ التَّغَيُّرِ والآفات... لَا يَلْحَقُهَا غَالِبًا عَجْزُ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا ضَعْفُ الْإِنْسَانِيَّةِ...". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء – عمان، الطبعة الثانية – 1407 هـ، ج2، ص224 وما بعدها].
وقال الشيخُ سيد سابق (1420 هـ): "ومِثلُ هؤلاء، لا يمكن إلّا أن يكونوا معصومين من التورط في الإثم، ومُنزَّهين عن الوقوع في المعاصي، فلا يتركون واجبًا، ولا يفعلون محرّمًا، ولا يتصفون إلا بالأخلاق العظيمة التي تجعل منهم القدوةَ الحسنة، والمَثلَ الأعلى الذي يتجه إليه الناس، وهم يحاولون الوصول إلى كمالهم المُقدَّر لهم.
والله عز وجل هو الذي تولى تأديبهم وتهذيبهم وتربيتهم وتعليمهم، حتى كانوا قِممًا شامخة، وأهلاً للاصطفاء والاجتباء". [العقائد الإسلامية، سيد سابق، دار الكتاب العربي – بيروت، ص181 وما بعدها].
إنّ الفلاسفة كثيرون، وينتمون إلى مدارسَ مناهجُها مُتنوعةٌ، وهؤلاء الفلاسفةُ بعضُهم يدعو النّاس إلى الكفر والإلحاد، وبعضُهم يدعوهم إلى التحلل من القيم والأخلاق، وبعضُهم يدعوهم إلى الإباحية الجنسية وتلبية جميع شهواتهم وغرائزهم الحيوانية دون قيود ولا حدود!
فهل يَصِحُّ لنا أنْ نُسوِّيَ هؤلاء الفلاسفةَ مع الأنبياءِ الذين يدْعون إلى الإيمانِ والإسلام، والتّحلِّي بالأخلاق الكريمة والتمسُّك بالقيم العالية، ويدعون إلى العفاف والحفاظ على الأنساب من الرذيلة والاختلاط، ويدعون إلى الابتعاد عن الخمور والقِمار، وعن كُلّ ما يُفسِدُ العقول والأبدان؟
التعقيب الرابع: الذين رفعهمُ اللهُ درجاتٍ عنده همُ المؤمنون الذين أوتوا العلم:
قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا قِیلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُوا۟ فِی ٱلۡمَجَـٰلِسِ فَٱفۡسَحُوا۟ یَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِیلَ ٱنشُزُوا۟ فَٱنشُزُوا۟ یَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَـٰتࣲۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ﴾ [المجادلة: 11]
قال الإمامُ ابنُ جُزَيّ (741هـ): "﴿يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ فيها قولان أحدهما: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات فقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ صفة للذين آمنوا كقوله: جاءني العاقل الكريم، وأنت تريد رجلاً واحداً، والثاني: يرفع الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعاً درجات، فالدرجات على الأول للمؤمنين بشرط أن يكونوا علماء، وعلى الثاني للمؤمنين الذين ليسوا علماء، وللعلماء أيضاً ولكن بين درجات العلماء وغيرهم تفاوت يوجد في موضع آخر كقوله ﷺ "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم رجلاً" وقوله عليه السلام: "يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء" فإذا كان لهم فضل على العابدين والشهداء، فما ظنك بفضلهم على سائر المؤمنين".
وقال الإمامُ القرطبي (671هـ) في تفسيره: «الجامع لأحكام القرآن»: "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ﴾ أَيْ فِي الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا، فَيَرْفَعُ الْمُؤْمِنَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَالْعَالِمَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَدَحَ اللَّهُ الْعُلَمَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُؤْتَوُا الْعِلْمَ (دَرَجاتٍ) أَيْ دَرَجَاتٍ فِي دِينِهِمْ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ. وَقِيلَ: كَانَ أَهْلُ الْغِنَى يَكْرَهُونَ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ مَنْ يَلْبَسُ الصُّوفَ فَيَسْتَبِقُونَ إِلَى مَجْلِسِ النَّبِيِّ ﷺ فَالْخِطَابُ لَهُمْ. وَرَأَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجُلًا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ يَقْبِضُ ثَوْبَهُ نُفُورًا مِنْ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ إِلَيْهِ فَقَالَ: (يَا فُلَانُ خَشِيْتُ أَنْ يَتَعَدَّى غِنَاكَ إِلَيْهِ أَوْ فَقْرَهُ إِلَيْكَ) وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرِّفْعَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لَا بِالسَّبْقِ إِلَى صُدُورِ الْمَجَالِسِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) الصَّحَابَةُ (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) يَرْفَعُ الله بها العالم والطالب للحق.
قُلْتُ: وَالْعُمُومُ أَوْقَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ، فَيَرْفَعُ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فَسَكَتُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَعْلَمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عن عبد الله ابن عباس قال: قدم عيينة ابن حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابُ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا. الْحَدِيثَ وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ (الْأَعْرَافِ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عبد الحرث لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنُ أَبْزَى. فَقَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ قَدْ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ) وَقَدْ مَضَى أَوَّلُ الْكِتَابِ. وَمَضَى الْقَوْلُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَابِدِ مِائَةُ دَرَجَةٍ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حَضْرُ الْجَوَادِ الْمُضَمَّرِ سَبْعِينَ سَنَةً). وَعَنْهُ ﷺ: (فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ). وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ) فَأَعْظِمْ بِمَنْزِلَةٍ هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ بِشَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: خُيِّرَ سُلَيْمَانُ] عَلَيْهِ السَّلَامُ [بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْمُلْكِ فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ المال والملك معه".
المغالطةُ الرابعة: زعم بعض فلاسفة اليونان القدماء "أن الروح المدبر للعالم لم يُنشِئْ هذا العالم إنشاءً، بل إنه وَجد أمامه المواد الكونية مبعثرةً بغير نظام، فقام بتنسيقها على هذا الوجه الهندسي المتقن، فالخالق في نظرهم ليس بارئاً، بل هو صانعٌ ماهر ليس غير"! [انظر هذه المغالطة في كتاب: الدين: ”بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان“، أ. د. محمد بن عبد الله دراز، دار القلم ـ الكويت، الطبعة الأولى، 1371هـ/ 1952م، ص61].
تعقيباتٌ:
أوَّلًا – هذا الكلامُ يُعتَبرُ مِن عِلْمِ الغيب، ولا يمكن أن يُخبِرَ به إلَّا اللهُ تعالى، عن طريق الأنبياءِ، فمَن الذي أخبر هؤلاء الفلاسفةَ بما زعموه؟ واللهُ تعالى يقول: ﴿ماۤ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّینَ عَضُدࣰا﴾ [الكهف: 51]
قال الإمامُ ابنُ كثير (774هـ) في تفسيره: "يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي عَبِيدٌ أَمْثَالُكُمْ، لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقِي لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا كَانُوا إِذْ ذَاكَ مَوْجُودِينَ، يَقُولُ تَعَالَى: أَنَا الْمُسْتَقِلُّ بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمُدَبِّرُهَا وَمُقَدِّرُهَا وَحْدي، لَيْسَ مَعِي فِي ذَلِكَ شَرِيكٌ وَلَا وَزِيرٌ، وَلَا مُشِيرٌ وَلَا نَظِيرٌ".
والفلاسفة بشر مثلُ سائر البشر، لم يكونوا حاضرين لمّا خلق الله هذا الكون!
ثانياً – يُنْسَب إلى الفيلسوف اليوناني بارمينيدس – وهو من فلاسفة عصر ما قبل سقراط – القولُ بأنه: "ليس هناك شيء يأتي من العدم – أو بتعبير آخر: لا يولد شيء من لا شيء –، وبالتالي فإن الوجود أبدي"؛ لأنه – حسب زعمه – ما ليس موجوداً لا يمكن أن يُصبح شيئاً!
وهذا القول أيّده الدكتور أحمد البرقاوي بقوله: "تُرى لماذا رُفِضت فكرةُ قِدم العالم مع الله؟ ومِن قِبَل الفقهاء؟ لسبب بسيط، وهو أنه إذا كان العالَمُ قديماً مع الله فالعالم إذاً غير مسبوق بعدم وبالتالي لا بداية لوجوده. فالعالم إذن أزلي. فهو إذاً لم يزل موجوداً مع الله ومعلولاً له، ومساوقاً له، غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة ومساوقة النور للشمس.
إن تصوير علاقة الله بالعالم كعلاقة الشمس بنورها، تختصر التصور الفلسفي الإسلامي بمسألة قدم العالم. فنور الشمس صادر عن الشمس صدوراً ضرورياً وليس هناك تقدم للشمس على نورها إلا بتقدم علة الشمس على معلولها النور منطقياً وليس زمانياً. فنور الشمس قديم مع الشمس يلازمها.
والحق أن نظرية الفيض الفارابية والسينوية والتي أخذاها عن أفلوطين، إنما لتأكيد هذه العلاقة الضرورية بين الله والعالم ولتجاوز معضلة الخلق من العدم". مقال للدكتور أحمد برقاوي، بعنوان ”موقف ابن حزم من الفلسفة“، نُشِر بموقع ”ثقافات“، بتاريخ: 9 أبريل 2014. رابط المقال: https://thaqafat.com/2014/04/22993
ومثلُ هذا الكلامِ انتَشَر في بعض الأوساط العلمية الذين زعموا أن المادة أزلية، لم يخلقها أحدٌ!
وأمّا العلمُ الحديث فلقد فنّد هذا الزعمَ، وتوصّل إلى أنّ المادةَ مُحْدَثةٌ، وليست أزليةً، قال الدكتور فرانك ألن – أستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتويا بكندا– في بحث بعنوان ”نشأة العالم: هل هو مصادفة أو قصد؟“ –: "قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا وأنها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغلة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت. أما الشمس المستعرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة، فكلها دليل واضح على ان أصل الكون أن أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذاً حدثٌ من الأحداث. ومعنى ذلك أنه لابد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليس لقدرته حدود، ولابد ان يكون هذا من صنع يديه". [الله يتجلى في عصر العلم، تأليف: نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض، أشرف على تحريره: جون كلوفر مونسيما، ترجمة: الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان، راجعه وعلق عليه: الدكتور محمد جمال الدين الفندي، دار القلم، بيروت – لبنان، ص12].
وقال الدكتور جون كليفلاند كوثران، من علماء الكيمياء والرياضة، دكتوراه من جامعة كورنل – رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث – أخصائي في تحضير النترازول وفي تنقية التنجستين: "وتدلنا الكيمياء، على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة. وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية، ومعنى ذلك أيضا أنها ليست أزلية، إذ أن لها بداية. وتدل الشواهد من الكيمياء وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية، بل أوجدت بصورة فجائية، وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد. وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لا بد أن يكون مخلوقا، وهو منذ أن خُلِق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة ليس لعنصر المصادفة بينها مكان.
فإذا كان هذا العالم المادي عاجزا عن أن يخلق نفسه أو يحدد القوانين التي يخضع لها، فلابد أن يكون الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي". [المرجع السابق، ص31]
وقال الدكتور ايرفنغ وليام نوبلوتشي أستاذ العلوم الطبيعية – حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أيووا، وأخصائي الحياة البرية في الولايات المتحدة –: "فعلم الفلك مثلاً يشير إلى أنّ لهذا الكون بداية قديمة، وأن الكون يسير إلى نهاية محتومة، وليس مما يتفق مع العلم أن نعتقد أنّ هذا الكون أزلي ليس له بداية، أو أبدي ليس له نهاية، فهو قائم على أساس التغيير". [المرجع السابق، ص59]
وقال الدكتور دونالد روبرت كار أستاذ الكيمياء الجيولوجية – حاصل على الدكتوراه من جامعة كولومبيا – مساعد بحوث بجامعة كولومبيا – أستاذ مساعد بكلية شلتون – أخصائي في تقدير الأعمار الجيولوجية باستخدام الاشعاعات الطبيعية: "أما عن تحديد عمر التكوينات الجيولوجية مثل مواد الشهب وغيرها، فقد أمكن باستخدام العلاقات الاشعاعية أن نحصل على صورة شبه كمية عن تاريخ الأرض. ويستخدم في الوقت الحاضر عدد من الطرق المختلفة لتقدير عمر الأرض بدرجات متفاوتة من الدقة، ولكن نتائج هذه الطرق متقاربة إلى حد كبير، وهي تشير إلى أن الكون قد نشأ منذ نحو خمسة بلايين سنة، وعلى ذلك فإن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا. ولو كان كذلك لما بقيت فيه أي عناصر إشعاعية. ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية. أما الرأي الذي يقول بأن هذا دوري، أي أنه ينكمش ثم يتمدد، ثم يعود فينكمش من جديد.. الخ. فإنه رأي لم يقم على صحته دليل، ولا يمكن أن يعتبر رأيا علميا، بل مجرد تخمين". [المرجع السابق، ص91].
وانظر كتاب ”الفيزياء ووجود الخالق: مناقشة عقلانية إسلامية لبعض الفيزيائيين والفلاسفة الغربيين“، للدكتور جعفر شيخ إدريس.
ثالثاً – عليهم أوَّلًا أنْ يكتشفوا – إنِ استطاعوا – أصلَ المادة وماهيّتَها، وأنْ يبرهنوا لنا أنّ اللهَ تعالى لا يقدر على خلق أصل هذه المادة خلقاً مباشراً من لا شيء!
قال الدكتور جون أزولف بوهلر – مستشار كيماوي، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة إنديانا، وأستاذ الكيميا بكلية أندرسون – متخصص في تركيب الأحماض الأمينية والكشف عن الكوبلت –، في بحثه ”الله والقوانين الكيماوية“: "ولابد أن نسلم بأننا لا نعرف حتى الآن كل ما يمكن أن يُعْرَفَ عن المادة والطاقة، فنحن لا نزال في بداية الطريق"! [الله يتجلى في عصر العلم، تأليف: نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض، أشرف على تحريره: جون كلوفر مونسيما، ترجمة: الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان، راجعه وعلق عليه: الدكتور محمد جمال الدين الفندي، دار القلم، بيروت - لبنان، ص107].
رابعاً – أمّا نحن – المسلمين – فلقد أخبرنا ربُّنا تعالى في كتابه العزيز أنّ كلَّ شَيْءٍ يوجد في هذا الكون هو من إبداعه وخَلْقه، وأنه قادرٌ على خَلْقِه بغير آلة ولا مادّة ولا زمان ولا مكان.
* قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡـَٔاخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ﴾ [الحديد: 3]
قال الإمامُ أبو حيان (ت 754 هـ) في تفسيره «البحر المحيط»: ﴿هو الأول﴾ الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة، ﴿والآخر﴾ أي: الدائم الذي ليس له نهاية منقضية. وقيل: الأول الذي كان قبل كل شيء، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء".
* وقال الحقُّ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡـًٔا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ﴾ [يس: جزء من الآية: 82].
قال أبو السعود (982هـ) في تفسيره «إرْشادَ العَقْلِ السَلِيمِ إلى مَزايا الكِتابِ الكَرِيمِ»: "﴿إنَّما أمْرُهُ﴾ أيْ: شَأْنُهُ ﴿إذا أرادَ شَيْئًا﴾ مِنَ الأشْياءِ ﴿أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾ أيْ: أنْ يُعَلِّقَ بِهِ قدرته ﴿فَيَكُونُ﴾ فَيَحْدُثُ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلى شَيْءٍ آخَرَ أصْلًا، وهَذا تَمْثِيلٌ لِقدرته تعالى فِيما أرادَهُ بِأمْرِ الآمِرِ المُطاعِ المَأْمُورَ المُطِيعَ في سُرْعَةِ حُصُولِ المَأْمُورِ بِهِ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلى شَيْءٍ ما".
وقال الإمامُ ابنُ حزم الأندلسي (456هـ): "اتَّفقوا أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ وَحْدَه لا شريكَ له، خالِقُ كُلِّ شَيءٍ غيرِه، وأنَّهُ تعالى لم يزل وحدَه ولا شيءَ غيرُه معه، ثُمَّ خلق الأشياءَ كُلَّها كما شاء". [مراتب الإجماع، لابن حزم الأندلسي القرطبي، بعناية حسن أحمد إسبر، دار ابن حزم، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1419هـ - 1998م، ص 267].
* وقال تعالى: ﴿بَدِیعُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ یَكُونُ لَهُۥ وَلَدࣱ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَـٰحِبَةࣱۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَیۡءࣲۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾ [الأنعام: 101].
قال الإمامُ النسفي (710هـ) في تفسيره «مدارك التنزيل وحقائق التأويل»: "﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أيْ: ما مِن شَيْءٍ إلّا وهو خالِقُهُ وعالِمُهُ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ".
وقال الدكتور أسعد حومد في تفسيره «أيسر التفاسير»: "لَقَدْ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ، وَهُوَ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ.
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ - مُبْدِعُهَا وَخَالِقُها عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ".
خامساً: لا يُمكن لمؤمن بِقُدرة الله تعالى أنْ يتصوّرَ أنّ المادّةَ أزليةُ الوجودِ، وأن الله تعالى كان في حاجةٍ إليها لكي يُنشِئَ ما يشاءُ من المخلوقات؛ لأنّ هذا يعني أنّه لولا وجودُ هذه المادة لما استطاع سبحانه وتعالى أن يخلُقَ شيئاً، وهذا طعنٌ في قدرته تعالى، وطعنٌ في غناه المطلق عن كل شيء من مخلوقاته!
قال تعالى: ﴿لهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ﴾ [الحج 64]
قال الإمامُ ابنُ جرير الطبري (310هـ) في تفسيره: "يقول تعالى ذكره: له مُلك ما في السموات وما في الأرض من شيء هم عبيده ومماليكه وخلقه، لا شريك له في ذلك، ولا في شيء منه، وإن الله هو الغنيّ عن كل ما في السموات وما في الأرض من خلقه وهم المحتاجون إليه، الحميد عند عباده في إفضاله عليهم وأياديه عندهم".
وقال الإمامُ القرطبي (671هـ) في تفسيره: "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ خَلْقًا وَمُلْكًا، وَكُلٌّ مُحْتَاجٌ إِلَى تَدْبِيرِهِ وَإِتْقَانِهِ، (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فَلَا يَحْتَاجُ إلى شيء، وهو المحمود في كل حال".
والذين يتصورون هذا التّصوّرَ، لا يعلمون أنّ الصفاتِ الإلهيةَ ليستْ كالصفاتِ البشريةِ، وأنَّ القدرةَ الإلهيةَ ليست كالقدرةِ البشرية، قال تعالى: ﴿فَاطِرُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَ ٰجࣰا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ أَزۡوَ ٰجࣰا یَذۡرَؤُكُمۡ فِیهِۚ لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ﴾ [الشورى: 11]
قال الإمامُ القرطبي (671 هـ) في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن»: "وَالَّذِي يُعتَقَدُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ اللهَ جَلَّ اسْمُهُ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَمَلَكُوتِهِ وَحُسْنَى أَسْمَائِهِ وَعَلِيِّ صِفَاتِهِ، لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا يُشْبَّهُ بِهِ... وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ: التَّوْحِيدُ إِثْبَاتُ ذَاتٍ غَيْرِ مُشْبِهَةٍ لِلذَّوَاتِ وَلَا مُعَطَّلَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ. وَزَادَ الْوَاسِطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ بَيَانًا فَقَالَ: لَيْسَ كَذَاتِهِ ذَاتٌ، وَلَا كَاسْمِهِ اسْمٌ، وَلَا كَفِعْلِهِ فِعْلٌ، وَلَا كَصِفَتِهِ صِفَةٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ اللَّفْظِ".
ولقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعࣰا قَبۡضَتُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ مَطۡوِیَّـٰتُۢ بِیَمِینِهِۦۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].
قال الإمامُ ابنُ جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي: ما عظّموه حَقَّ تعظيمه، ولا وصفوه بما يجب له، ولا نزَّهوه عما لا يليق به".
تنبيه: انتشر في الآونة الأخيرة كلامٌ آخرُ يناقض القول بأزلية المادة، مفادُه أنّ مجموعةً من الباحثين يعملون في جامعة مانشستر تمكّنوا في يناير 2022 من صناعة الأجسام الأوليّة للمادة مِن لا شيء أو مِن العدم!
وقالوا: وأخيرًا توصّلَ العلماء إلى أنْ توليدِ المادة من العدم. فهل هذا الخبر صحيحٌ؟
يقول بعضُ الباحثين ما مُفادُه: "إنّ تعريف العدمِ – أو اللّاشيء – في الفيزياء، لا يعني العدم المحض بالمفهوم الفلسفي، ولا يُعدّ نقيضًا للوجود، لأنه يحتوي على جُسيماتٍ افتراضية تتحرّك وَفْق التّمَوُّجات الكَمومية؛ ولذلك فإنّ العدمَ المحضَ هو أمرٌ غيرُ ممكنٍ فيزيائيًا من الأساس.
وهؤلاء الباحثون استخدموا طاقةً كهرومغناطيسيةً قويّةً جدًّا، مكّنتهم من صنع جسيمات المادة من ”لاشيء“، أيّ: استطاعوا أن يحوّلوا الجسيمات الافتراضية إلى جسيماتٍ حقيقيةٍ باستخدام الطاقة. فهم لم يخلقوا المادة من الفراغ المحض". / منقول بتصرّف من مقالٍ بعنوان ”بين المنطق وفيزياء الكمّ: هل يستطيع العِلم خَلق مادة من لا شيء؟“، لمايكل ماهر، نُشِر بموقع: ”معنى“، بتاريخ: 3 مايو، 2023/ رابط المادة: https://mana.net/nothing/
- مايكل ماهر: مصري باحث في الفلسفة والعلوم الإنسانية.
وانظر – أيضاً – مقالاً بعنوان ”مغالطات أكذوبة أن الكون نشأ من لا شيء دون الحاجة إلى خالق“، الدكتور ربيع أحمد، نُشِر بموقع (الألوكة) بتاريخ : 9/12/2015 م – 26/2/1437 هـ/ رابط المقال: https://www.alukah.net/sharia/0/95709
وقفة تعجُّب: لقد فرِح بعضُ الملاحدةِ بهذا ”الاكتشاف“، وظنوا أنّهم ظَفِروا بدليلٍ قاطِعٍ على عدم وجود خالقٍ لهذا الكون!
وهذا خلَلٌ في عملية التفكير والاستنتاج المنطقي؛ لأنهم إذا اعتقدوا أنه يمكن للإنسان أن يخلق المادة من لاشيء، فهذا لا يستلزم عدم وجود خالق عظيم له هذه القدرةُ أيضاً!
المغالطةُ الخامسة: زعم بعضُ الفلاسفة "أن صلة الإِله بالعالَم إنما هي صلةُ العِلَّةِ الأولى والسببِ البعيد الذي أدى عملَه، وانتهت مهمتُه، ولا صلةَ له بتدبير عالمنا الأرضي"! [انظر هذه المغالطة في كتاب: ”الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان“، أ. د. محمد بن عبد الله دراز، دار القلم ـ الكويت، الطبعة الأولى، 1371هـ/ 1952م، ص61].
قال الدكتور دراز في حاشية الصفحة 62: "اشتهر عن أبيقور Epicure أنه كان يزعم أن الآلهة تعيش مثالية في اللهو والنعيم، وأنها لا شأن لها بالعالم الأرضي حتى يرجوَ الناسُ خيرها، أو يخْشَوْا غضبها. وقد عقد أفلاطون بحثًا في كتاب القوانين، ذكر فيه أنَّ الإِلحاد نوعان: أحدهما إِنكار الألوهية، والثاني الاعتراف بآلهة لا تُعنى بشئون الإِنسان، وأخذ يسرد الدلائل العقلية على بطلان هذا الرأي وفساده. Platon, les Lois L. x, 900 et suiv".
تعقيب: وهذا الكلام أيضاً مِن عِلْمِ الغيب، ولا يمكن أن يُخبِرَ به إلَّا اللهُ تعالى، فمَن الذي أخبرهم بما زعموه؟ وما هي أدلتُهم على هذا القول؟
ومثل هذا القول يتشبّث به بعضُ العلمانيين؛ لإبطال العمل بالشريعة الإسلامية، وجعلِ التشريع بيدهم، حتَّى يتحكّموا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها، بعيدًا عن أوامر الدين ونواهيه، وإخراج الناس من عبادة الله وحده، إلى عبادتِهم، وعبادة الإمبريالية العالمية والصهيونية المُتغَطْرِسَة!
والقرآن الكريم يُكذِّبهم، ويخبرنا أنه هو الذي يُدبّر أمور الدنيا، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِیعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: 3]
قال الإمامُ النسفي (710هـ) في تفسيره «مدارك التنزيل وحقائق التأويل»: "﴿يُدَبِّرُ﴾ يَقْضِي ويُقَدِّرُ عَلى مُقْتَضى الحِكْمَةِ ﴿الأمْرَ﴾ أيْ: أمْرَ الخَلْقِ كُلِّهِ وأمْرَ مَلَكُوتِ السَمَواتِ والأرْضِ والعَرْشِ".
وقال الإمامُ ابنُ كثير ابن (774هـ) في تفسيره: "﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ أَيْ: يُدَبِّرُ أَمْرَ الْخَلَائِقِ، ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ﴾، وَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَلَا تُغَلِّظُهُ الْمَسَائِلُ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ وَلَا يُلْهِيهِ تَدْبِيرُ الْكَبِيرِ عَنِ الصَّغِيرِ، فِي الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْعِمْرَانِ وَالْقَفَارِ، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾. ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾".
وقال تعالى: ﴿یَسۡـَٔلُهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ یَوۡمٍ هُوَ فِی شَأۡنࣲ﴾ [الرحمن: 29]
قال الإمامُ ابنُ جُزَيّ الغرناطي في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ﴾ المعنى أن كل من في السمٰوات والأرض يسأل حاجته من الله، فمنهم من يسأله بلسان المقال، وهم المؤمنون، ومنهم من يسأله بلسان الحال لافتقار الجميع إليه ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ المعنى أنه تعالى يتصرف في ملكوته تصرفاً يظهر في كل يوم من العطاء والمنع، والإماتة والإحياء وغير ذلك وروي أن رسول الله ﷺ قرأها فقيل له وما ذلك الشأن، قال من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين".
المغالطةُ السادسة: زعم بعضُ الفلاسفة أنّ اللهَ تعالى يعْلم الكليات دون الجزئيات!
وهذا مِن عِلْمِ الغيب، لا يمكن للفيلسوف أن يَصِلَ إليه عن طريق العقل والتأمل، فَمَنْ أخبرهم بذلك؟
أمّا اللهُ تعالى فإنَّه يُكذِّبُهم ويقول سبحانه عن نفسه: ﴿وَمَا تَكُونُ فِی شَأۡنࣲ وَمَا تَتۡلُوا۟ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانࣲ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَیۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِیضُونَ فِیهِۚ وَمَا یَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَاۤ أَصۡغَرَ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرَ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینٍ﴾ [يونس: 61].
قال الإمامُ ابنُ كثير (774 هـ) في تفسيره: "يُخْبِرُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ أَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِ أُمَّتِهِ، وَجَمِيعَ الْخَلَائِقِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَآنٍ وَلَحْظَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يعْزُب عَنْ عِلْمِهِ وَبَصَرِهِ مثقالُ ذَرَّةٍ في حقارتها وصِغرها في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْهَا وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الْأَنْعَامِ: 59]، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ حَرَكَةَ الْأَشْجَارِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ، وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ السَّارِحَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 38]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هُودٍ: 6].
وَإِذَا كَانَ هَذَا عِلْمَهُ بِحَرَكَاتِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَكَيْفَ بِعِلْمِهِ بِحَرَكَاتِ الْمُكَلَّفِينَ الْمَأْمُورِينَ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: 217-219]".
المغالطةُ السابعة: زعم بعضُ الفلاسفة أنّ الأجساد لا تحشر يوم القيامة، وإنما المُثابُ والمُعاقَبُ هي الأرواحُ المجردة!
قال الإمامُ ابنُ الجوزي (597هـ): "وَقَدْ أنكرتِ الفلاسفةُ بعثَ الأجساد، وردَّ الأرواح إِلى الأبدان، ووجودَ جَنّةٍ ونارٍ جسمانِيَيْن، وزعموا أنّ تلك أمثلةٌ ضُرِبَتْ لعوام الناس؛ ليفهموا الثواب والعقاب الروحانِيَيْن". [تلبيس إبليس، جمال الدين ابنُ الجوزي، تحقيق: دكتور/حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث – القاهرة، الطبعة الثانية، 1431هـ/ 2010م، ص55].
من الآيات التي تدل على أن الله يبعث يوم القيامة الأرواح مع أجسادها:
قولُه تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلࣰا وَنَسِیَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن یُحۡیِ ٱلۡعِظَـٰمَ وَهِیَ رَمِیمࣱ. قُلۡ یُحۡیِیهَا ٱلَّذِیۤ أَنشَأَهَاۤ أَوَّلَ مَرَّةࣲۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِیمٌ﴾ [يس 78-79].
قال الدكتور أسعد حومد في تفسيره «أيسر التفاسير»: "وَذَكَرَ أَمْراً عَجِيباً يَنْفِي بِهِ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الخَلْقِ، بَعْدَ أَنْ يَمُوتُوا، وَتَبْلَى عِظَامُهُمْ، وَتُصْبحَ رَمِيماً، فَقَالَ: مَنْ يُحْيي العِظَامَ حِينَما تُصْبحُ رَمِيماً؟ وَنَسِيَ هَذَا الإِنْسَانُ الخَصِيمُ خَلْقَ اللهِ لَهُ مِنْ نُطْفَةٍ ضَعِيفَةٍ مَهِينَةٍ، ثُمَّ جَعْلَهُ بَشَراً سَوياً. وَمَنْ فعَلَ ذَلِكَ لاَ يُعْجِزُهُ أَنْ يُعِيدَ الأَمْوَاتَ إِلَى الحَيَاةِ".
وقولُه تعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡۘ یَوۡمَ یَدۡعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَیۡءࣲ نُّكُرٍ. خُشَّعًا أَبۡصَـٰرُهُمۡ یَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ كَأَنَّهُمۡ جَرَادࣱ مُّنتَشِرࣱ. مُّهۡطِعِینَ إِلَى ٱلدَّاعِۖ یَقُولُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا یَوۡمٌ عَسِرࣱ﴾ [القمر 6-8]
وقولُه سُبحانَه: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ [الإسراء: 97-98] .
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبࣱ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَ ٰبًا أَءِنَّا لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدٍۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلۡأَغۡلَـٰلُ فِیۤ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾ [الرعد:5].
وقوله تعالى: ﴿أَذَ ٰلِكَ خَیۡرࣱ نُّزُلًا أَمۡ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ. إِنَّا جَعَلۡنَـٰهَا فِتۡنَةࣰ لِّلظَّـٰلِمِینَ. إِنَّهَا شَجَرَةࣱ تَخۡرُجُ فِیۤ أَصۡلِ ٱلۡجَحِیمِ. طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّیَـٰطِینِ. فَإِنَّهُمۡ لَـَٔاكِلُونَ مِنۡهَا فَمَالِـُٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ﴾ [الصافات 62-66]
وقوله تعالى: ﴿مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِیهَاۤ أَنۡهَـٰرࣱ مِّن مَّاۤءٍ غَیۡرِ ءَاسِنࣲ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّن لَّبَنࣲ لَّمۡ یَتَغَیَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ خَمۡرࣲ لَّذَّةࣲ لِّلشَّـٰرِبِینَ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ عَسَلࣲ مُّصَفࣰّىۖ وَلَهُمۡ فِیهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَـٰلِدࣱ فِی ٱلنَّارِ وَسُقُوا۟ مَاۤءً حَمِیمࣰا فَقَطَّعَ أَمۡعَاۤءَهُمۡ﴾ [محمد: 15]
وقوله تعالى: ﴿لَوۡ یَعۡلَمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ حِینَ لَا یَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمۡ وَلَا هُمۡ یُنصَرُونَ﴾ [الأنبياء:39].
الذين سيُحْشرون يوم القيامة لهم عظام سيُحْيِيها الله تعالى، وسيخرجون من القبور مسرعين، وستكون الأغلال في أعناقهم، وسيأكلون من شجر الزقوم، ولا يستطيعون إبعاد النار عن وجوههم أو عن ظهورهم.
المغالطة الثامنة: ذهب زعيم المذهب السوفسطائي الفيلسوف اليوناني بروتاغوراس (420 ق.م) إلى أن: "الحقيقةَ كلَّها والخيرَ والجمالَ أمورٌ نسبية وشخصية"!
قال ويليام جيمس ديورَانت: "فبينما كان بارمنيدس يرى أن الإحساس لا يهدي إلى الحقيقة، كان بروتاغوراس يرى كما يرى لُك Locke أنه السبيل الوحيد إلى المعرفة، ويأبى أن يعترف بوجود أية حقيقة تعلو على العقل ولا تدركها الحواس. ومن أقوال بروتاغوراس أن الحقيقة المطلقة لا وجود لها، وأن كل ما يوجد هو الحقائق التي يعتنقها بعض الناس في ظروف خاصة، وقد تكون الأقوال المتناقضة حقائق متساوية القيمة في اعتقاد أشخاص مختلفين أو في أزمنة مختلفة. والحقيقة كلها والخير والجمال، أمور نسبية وشخصية، «والإنسان هو المقياس الذي تقاس به جميع الأشياء فهو الذي يقرر أن الأشياء الكائنة كائنة، وأن الأشياء غير الكائنة غير كائنة»". [قصة الحضارة، ويليام جيمس ديورَانت، ترجمة: زكي نجيب محمود، محمد بدران، عبد الحميد يونس، محمد علي أبو درة، فؤاد أندراوس، عبد الرحمن عبد الله الشيخ، دار الجيل، بيروت - لبنان، المجلد 7، نُشِر (بتكليف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم - تونس) سنة 1408هـ - 1988م، ص213-214].
وإذا كانت الحقيقة نسبية، فهذا معناه أنه لا وجود للحقيقة، وهذه المغالطة يُروِّجها بعضُ العلمانيين والملاحدة للّعب بالدين وتحريفه، حتَّى يُواكبَ أهواءَهم وأهواءَ أعداء الإسلام!
المغالطة التاسعة: الزعم أن الأديان طَوْرٌ ظهر في مرحلة طفولة الإنسان، وهي في طريقها إلى الشيخوخة والهرم؛ ثم إلى الزوال!
قال الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الله دراز في مبحث «مصير الديانات أمام التقدم العلمي»: "وجاء القرنُ التاسع عشر وقد تقرر هذا المعنى في النفوس، فلم يجرؤ أحدٌ أن يشكك النَّاس فيه، بل ظهرت نظرية جديدة في الطرف المقابل، مضمونُها أن الأديان وإِنْ كانت عريقةً في القدم، لكن تَقَدُّمَها الزماني لا يُكسبها صفة الثبات والخلود، بل هو بالعكس يطبعها بطابع الشيخوخة والهرم، وينذر بأن مصيرها إِلى الاضمحلال والفناء.
هذه هي نظرية «أوجست كونت»، فقد ذهب هذا الفيلسوف إِلى أن العقلية الإِنسانية قد مرت بأدوار ثلاثة: Loi des troisages دور الفلسفة الدينية، ثم دور الفلسفة التجريدية، ثم دور الفلسفة الواقعية، وهذا الدور الثالث في نظره هو آخر الأطوار وأسماها، فبعد أن كان النَّاس يعللون الظواهر الكونية بقوة أو بقوًى إِرادية خارجة عنها، انتقلوا إِلى تفسيرها بمعانٍ عامة، وخصائص طبيعية كامنة فيها، كقوة النمو، والمرونة، والحيوية … إِلخ.
ثم انتهوا إِلى رفض كل تفسير خارجي أو داخلي، واكتفوا بتسجيل الحوادث كما هي، ومعرفة ما بينها من ترابط وجودي بقطع النظر عن أسبابها وغاياتها. وعلى هذا يكون دور التفكير الديني يمثل الحال البدائية التي تلهت بها الإِنسانية في مرحلة طفولتها؛ فلما كبرت عن الطوق خلعتها لتستبدل بها ثوبًا وسطًا في دور مراهقتها؛ حتى إِذا بلغت أشدها، واكتمل رشدها، أخذت حُلتها الأخيرة من العلوم التجريبية.
نقطة الخطأ البارزة في هذا المذهب التطوري هي أن أنصاره جعلوا منه قانونًا يستوعب التاريخ كله في شرط واحد، قطعت الإِنسانية ثلثيه بالفعل، ونفضت – أو كادت تنفض – يدها منهما إِلى غير رجعة، فلن تعود إِليهما إِلا أن يعود الكهل إِلى طفولته وشبابه.
ولو أنهم جعلوا منه سلسلة دورية، كلما ختمت شوطًا رجعت عودًا على بدء، لكان الخطأ في هذه النظرية أقل شناعة، ولكنها بعد ذلك تظل دعوى غير مُسلَّمة، لا لأنها مجردة عن البرهان فحسب، بل لأنها تُحرف التاريخ وتُصادم العيان، فنحن ما زلنا نسمع ونرى في كل عصر تقديسًا للروحانيات، وشغفًا بالمعنويات والمعقولات الكلية عند فريق من النَّاس، إِلى جانب الكلف بالحوادث والحقائق الجزئية عند فريق آخر، وليس الحد الذي يفصل بين المعسكرين هو جهل أحدهما بالتجارب الكونية وخبرة الآخر بها؛ إِذ كثيرًا ما نجد من بين الجهلاء جاحدين متعصبين، كما نجد من بين علماء المادة مؤمنين متحمسين، وها نحن أولاء، في القرن العشرين، وفي قلب الحضارة الأوروبية، نرى إِلى جانب البحوث المادية المتشعبة، دراسات روحية واسعة، تقوم بها جماعات محترمة من كبار علماء الطب والفلسفة والطبيعة (أمثال Lodge الفيلسوف الإِنجليزي، و William James الأمريكي، و Richet العالِم الفرنسي المتخصص في وظائف الأعضاء)، على منهاج علمي دقيق، وبأسلوب برهاني يعتمد على التحليل والنقد الصارم، الذي ينحي عن الوقائع كل ما عساه أن يَعلق بها من تزوير وخداع، وكل ما يحوم حولها من وهم وتسرُّع في الحكم، ولا يقبل منها إِلا ما يؤيده اليقين، وما ينتهي إِليه البحث الدقيق الرزين...
على أن الذي يعنينا هنا ليس هو الوضع التقويمي لكل واحدة من هذه النزعات، وإِنما هو دخولها جميعًا في كيان النفس الإِنسانية، فكما أننا لا نجد أمارة واحدة تدل على قرب زوال النزعة الاستقرائية، أو النزعة التعليلية، كذلك لا نرى أمارة واحدة تشير إِلى أن فكرة التدين ستزول عن الأرض قبل أن يزول الإِنسان.
يقول سالمون ريناك: «ليس أمام الديانات مستقبل غير محدود فحسب؛ بل لنا أن نكون على يقين من أنه سيبقى شيء منها أبدًا؛ ذلك لأنه سيبقى في الكون دائمًا أسرارٌ ومجاهيل، ولأن العلم لن يحقق أبدًا مهمته على وجه الكمال.»
ويقول الدكتور «ماكس نوردوه» عن الشعور الديني: «هذا الإِحساس أصيلٌ يجده الإِنسان غير المتمدين، كما يجده أعلى النَّاس تفكيرًا، وأعظمهم حدسًا، وستبقى الديانات ما بقيت الإِنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائمًا مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة.٤
ويقول أرنست رينان Renan في تاريخ الأديان: «إِن من الممكن أن يضمحل كل شيء نُحبه، وأن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حُجة ناطقة على بطلان المذهب المادي، الذي يريد أن يحصر الفكر الإِنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية.»
ولقد أحسن الأستاذ محمد فريد وجدي حين يقولُ في دائرة معارفه تعليقًا على هذه الكلمة، في مادة «دين»: «نعم، يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين؛ لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها، ناهيك بميل يرفع رأس الإِنسان، بل إِن هذا الميل سيزداد … ففطرة التدين ستلاحق الإِنسان ما دام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح، وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة عُلُوِّ مداركه ونمو معارفه»
على أن الذي يعنينا هنا ليس هو الوضع التقويمي لكل واحدة من هذه النزعات، وإِنما هو دخولها جميعًا في كيان النفس الإِنسانية، فكما أننا لا نجد أمارة واحدة تدل على قرب زوال النزعة الاستقرائية، أو النزعة التعليلية، كذلك لا نرى أمارة واحدة تشير إِلى أن فكرة التدين ستزول عن الأرض قبل أن يزول الإِنسان.
يقول سالمون ريناك: «ليس أمام الديانات مستقبل غير محدود فحسب؛ بل لنا أن نكون على يقين من أنه سيبقى شيء منها أبدًا؛ ذلك لأنه سيبقى في الكون دائمًا أسرارٌ ومجاهيل، ولأن العلم لن يحقق أبدًا مهمته على وجه الكمال».
ويقول الدكتور «ماكس نوردوه» عن الشعور الديني: «هذا الإِحساس أصيلٌ يجده الإِنسان غير المتمدين، كما يجده أعلى النَّاس تفكيرًا، وأعظمهم حدسًا، وستبقى الديانات ما بقيت الإِنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائمًا مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة».
ويقول أرنست رينان Renan في تاريخ الأديان: «إِن من الممكن أن يضمحل كل شيء نُحبه، وأن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حُجة ناطقة على بطلان المذهب المادي، الذي يريد أن يحصر الفكر الإِنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية»
ولقد أحسن الأستاذ محمد فريد وجدي حين يقولُ في دائرة معارفه تعليقًا على هذه الكلمة، في مادة «دين»: «نعم، يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين؛ لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها، ناهيك بميل يرفع رأس الإِنسان، بل إِن هذا الميل سيزداد … ففطرة التدين ستلاحق الإِنسان ما دام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح، وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة عُلُوِّ مداركه ونمو معارفه»". [الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، أ. د. محمد بن عبد الله دراز، دار القلم ـ الكويت، الطبعة الأولى، 1371هـ - 1952م، ص84 وما بعدها].
المغالطة العاشرة: زعم بعضُهم أن التعمق في الفلسفة يوصِلُ إلى شاطئ الإيمان!
ومثل هذا الكلام يُنْسَب إلى الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون، الذي قال: “قليل من الفلسفة قد يؤدّي بك إلى الإلحاد، لكنّ التعمق الشّديد في الفلسفة يرمي بك في أحضان الدين”.
وهذا الزعم يحتاج إلى تفصيل:
أوَّلًا – ماذا يعنون بالفلسفة هنا؟
فإن كانت الفلسفة تعني التفكير في خلق النجوم، والشمس والقمر، والجبال والبحار والأنهار، وما تُخْرِجُه الأرض من النباتات والخضر والفواكه، والتفكير في أنواع الحشرات والطيور والحيوانات، والتفكير في نفسه، فيتفكر كيف يتحرك جسمه، وكيف يبصر... فلا شكّ أن صاحب هذا التفكير غالباً ما يصل إلى الإيمان بالله، أو إلى ازدياده وتثبيتِه.
وهذا التفكير دعا إليه القرآن الكريم، ولسنا في حاجة إلى أن نُسمِّيَهُ فلسفة.
وإن كانت الفلسفة تعني دراسة أقوال الفلاسفة الأقدمين والذين جاؤوا من بعدهم، فإن التعمق في دراسة علم الفلسفة قد يضر بعض العقول الضعيفة أو النفوس المريضة، ولا يزيدها إلّا ضلالاً، وقد يجرّها إلى الإلحاد، والواقع شاهد على ذلك.
نعم، قد يتعمق الباحثُ عن الحقيقة في الفلسفة؛ ثُمَّ يهتدي إلى الإسلام، ولكن ليس بفضل الفلسفة، ولكن بفضل الله أوّلاً، ثُمَّ بفضل تنبُّهِه إلى أنه بعد أنْ تعمّق في دراسة الفلسفة لم يصل إلى ما كان يبحث عنه، بل وصل إلى السّراب؛ وعندها فإنه غيّر وجهته في البحث عن الحقيقة، ووجدها في الدين الإسلامي؛ فهذا الباحث لم تُقَوِّ الفلسفةُ إيمانَه بالله، بل قوَّتْ إيمانه بعدم صلاحيتها لإخراجه مِن الظلمات إلى نور الحق.
* السرابُ هو ما يُرى في الفلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماءٌ يجري على وجه الأرض، يظنُّه العطشانُ ماءً، فيأتيه ليشربه، فإذا جاءه خاب أملُه.
ثانياً – يجب تحديد مفهوم الإيمان في هذه المسألة؛ لأن الإيمان قد يكون معناه الإيمان بوجود الله فقط، ولكن بعد ذلك فقد يسلك صاحبُه عدةَ مسالكَ:
- فقد يقف عند ذلك ولا يتعداه، وما فائدة هذا الإيمان إذا كان صاحبُه لا يؤمن بوجوب عبادة الله؟
- وقد يعتقد أن الله خلق الكون، وتركه وشأنه! ومِثل هذا الإيمان، لا ينفعُ صاحبَه عند المصائب والدواهي.
- وقد يقول على الله تعالى ما لم يقله سبحانه وتعالى عن نفسه، وقد يصف الله بأوصاف لا تليق بجلاله وكبريائه!
إن الإيمان بوجود الله هو بداية السير في الطريق المستقيم، ولكنه لا يكفي للنجاة من النار في الشريعة الإسلامية؛ إذْ لا بُدَّ مع ذلك بأن يؤمن المرءُ بما وصف الله به نفسه، وبأسمائه الحُسنى التي جاءت عن طريق الوحي، ويؤمن بكتبه ورسله، وملائكته،... ولا يشرك به أحداً، ولا يقول عيسى ابن الله، ولا يقول الله ثلاثة،... إلخ.
ولا بُدَّ أن يؤمن مع ذلك بوجب إطاعة الله وإطاعة رسوله...
ثالثاً – إن كثيراً من الفلاسفة ضلوا عن الطريق المستقيم، ولم ينفعْهمُ التعمقُ في الفلسفة، منهم – على سبيل المثال –: ديموقريطس، ودياجوارس، وأبيقور، وثيودوروس الملحد، والفيلسوف الماركسي أرنست ببلو، والفيلسوف أوجست كونت، الذي ذهب إِلى أن الدين مآله الزّوال، والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.
ومنهم من تعمق في دراسة الفلسفة، فقادتْه إلى الإلحاد والخروج من دينه الإسلام، ومن هؤلاء الفيلسوفان المصريّان الدكتور زكي نجيب محمود والدكتور عبد الرحمن بدوي، والمشهور عنهما أنهما عادا إلى رحاب الإيمان.
رابعاً – بعض الفلاسفة المشهورين، قد خرجوا من ظلمات الحيرة والشك إلى نور الإسلام، بفضل تعرُّفهم على الإسلام وتعمّقهم في دراسته، لا بِسبب تَعمُّقِهم في دراسة الفلسفة، منهم الفيلسوفُ الفرنسي روجيه جارودي أو رجاء جارودي، والفيلسوف الفرنسي رينيه جينو.
انتهى البحث بفضل الله تعالى وعونِه، الحمدُ لِلّهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على خاتَمِ الأنبياء والمرسلين.
وكتبه: عبد المجيد فاضل
الفهرست
المغالطةُ الأولى: قال بعضُهم: ”الفلسفة تُجيب عن الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عنها، وهنا تلتقي بالدين، عندما يجيب عن أسئلة ماورائية“!
المغالطةُ الثانية: قال بعضُهم: ”كانت الفلسفةُ الوسيلةَ العقلانية لتفسير معاني الخلق والحياة وقِوَى ما خلف الطبيعة، فنجحت قبل ظهور الأديان، كما في اليونان والهند والصين وغيرها، ثم جاءت الأديان لتجيب عن الأسئلة الفلسفية الخالدة، من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟“!
المغالطةُ الثالثة: قال بعضُهم: ”فكما أن كلَّ نَبِيٍّ فيه شيءٌ من الفلسفة، فإن كلَّ فيلسوف فيه شيء من النُّبُوَّةِ، باعتبار الحكمة والمنطق“!
المغالطةُ الرابعة: الزعم أنّ "أن الروح المدبر للعالم لم يُنشِئْ هذا العالم إنشاءً، بل إنه وَجد أمامه المواد الكونية مبعثرةً بغير نظام، فقام بتنسيقها على هذا الوجه الهندسي المتقن، فالخالق في نظرهم ليس بارئاً، بل هو صانعٌ ماهر ليس غير"!
المغالطةُ الخامسة: الزعم أنّ "أن صلة الإِله بالعالَم إنما هي صلةُ العِلَّةِ الأولى والسببِ البعيد الذي أدى عمله، وانتهت مهمتُه، ولا صلةَ له بتدبير عالمنا الأرضي"!
المغالطةُ السادسة: الزعم أنّ اللهَ تعالى يعْلم الكليات دون الجزئيات!
المغالطةُ السابعة: الزعم أنّ الأجساد لا تحشر يوم القيامة، وإنما المُثابُ والمُعاقَبُ هي الأرواحُ المجردة!
المغالطة الثامنة: الزعم أنّ: "الحقيقة كلها والخير والجمال أمورٌ نسبية وشخصية"!
المغالطة التاسعة: الزعم أن الأديان طَوْرٌ ظهر في مرحلة طفولة الإنسان، وهي في طريقها إلى الشيخوخة والهرم؛ ثم إلى الزوال!
المغالطة العاشرة: الزعم أن التعمق في الفلسفة يوصِلُ إلى شاطئ الإيمان!
الخاتمة
-
الثلاثاء PM 01:46
2025-05-20 - 126