المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412292
يتصفح الموقع حاليا : 344

البحث

البحث

عرض المادة

كيف ولماذا اختير الأذان للصلاة؟ ولماذا لم يأت عن طريق الوحي مباشرة؟

لا أرى كلمات أحق بالسماع وأولى بالتأمل من كلمات الأذان، ولا أرى داعياً أقرب إلى الرشد من المؤذن.. إن الكلمات الجهيرة المدوية في الآفاق، تذكير بالله وحقوقه، تذكير بالعمل الذي خلقنا من أجله، إنها مناشدة لأبناء آدم أن يعرفوا الصراط المستقيم ويثبتوا عليه، وأن يحذروا السبل المعوجة وينأوا عنها.

 

عندما يقول المؤذن: "الله أكبر الله أكبر" ويؤكد فكأنه يقول للإنسان: لا تدر حول نفسك واذكر من رباك وسواك، واجعله غايتك من مسعاك، يبارك لك في وقتك وجهدك: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُۥ فِى حَرْثِهِ} [الشورى: 20].

 

وعندما يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله" ويكررها مرة أخرى، فكأنه يقول للإنسان: لا تخش آلهة أخرى في الأرض، الأمور كلها صائرة إليه وحده، يبت فيها ولا راد لحكمه، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فانتصب عزيز النفس رفيع الرأس، واذهب لتسجد لله، فإنك لن تذل بعده لأحد!

 

وعندما يقول: "أشهد أن محمداً رسول الله" ويكررها مرة أخرى، فهو يرسم أمام بصيرتك صورة الكمال الإنساني لتقتدي به وتقتفي آثاره، محمد وحده الأسوة الحسنة في الإيمان والتقوى والخلق والاستقامة..

 

وعندما يقول: "حي على الصلاة" ويكررها مرة أخرى فهو يدعوك لتتشرف بالمثول بين يدي ربك كي تسبح بحمده وتستزيد من رفده وتشترك مع إخوان العقيدة في التجمع عليه والتحاب فيه..

 

وعندما يقول: "حي على الفلاح" ويؤكدها مرة أخرى فهو يدلك على الجهد المثمر والسعي الناجح، فما أكثر الذين يزرعون ولا يحصدون، أو يمشون ولا يصلون! أما أهل الصلاة فلا يضيعون، {وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ} [الحج: 54].

وعندما يقول مرة ثالثة: "الله أكبر الله أكبر" فهو يؤكد الغاية الصحيحة من الحياة والكدح طول العمر، إن المرء يخرج من بيته لعمله، وليحصل ما يقدر عليه من نفع لنفسه وأهله، وصيحة التكبير التي يسمعها تهيب به أن يقصد ربه، ويجعل له عمله، وعندما يقدم نفسه لربه فسيجدها موفورة مقدورة، أما من آثر نفسه، فسيفقدها {وَلَا تَكُونُوا كَٱلَّذِينَ نَسُوا ٱللَّهَ فَأَنسَٰهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ} [الحشر: 19].

 

ويختم الأذان بصيحة التوحيد، لإسقاط الوثنيات كلها، إن العالم الآن لا ينحني لصنم من حجر، ولكنه يتفانى في أصنام حية قامت شواخص مهيبة في دنيا الحكم والمال، وخافها الناس أكبر مما يخافون رب الأرباب.

 

إن كلمات الأذان منهج كامل، ودعوة تامة، ما يمكن أن يغني عنها بريق نار، ولا رنين جرس، ولا صفير بوق.. إنها هتاف من الملأ الأعلى، يهيب بالبشر أن يرجعوا إلى أصلهم السماوي العريق.

 

هذه الكلمات نزلت من السماء ولم تخرج من الأرض، استمع إليها نفر من الصحابة في رؤي متقاربة، وأحد الملائكة الكرام يهتف بها، في أعقاب مؤتمر تباحث فيه الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم حول أمثلة الطرق للدعوة إلى الصلاة! والحديث هنا يعود بنا إلى الإجابة السابقة، وكيف كانت الملائكة تدنو من الأرض تستمع الذكر من تاليه وهو يناجي به ربه، وتعود بنا إلى الأثر الروحي لمحمد في أصحابه!..

 

إن صحابيا أنكر نفسه لما أحس الفرق الشاسع بين حالته مع رسول الله وحالته بعد أن يخالط الأهل ويكابد هموم الرزق، وظن أنه نافق بهذا التفاوت حيث إنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون منبر القلب، يتقلب في مقام الإحسان، وكأنه يشهد ربه ويحس جلاله! حتى إذا رجع إلى البيت والشارع والأهل والناس هبط، واعتكر!!..

 

قال له الرسول: "لَو بَقيتم عَلَى حَالتكم مَعي لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ ولكن سَاعَةً وَسَاعَةً"

 

وكثير من الصحابة كان يستديم ساعات الإشراق التي تجمعه بصاحب الرسالة العظمى، ويغالب إلى أمد طويل كثافة الطبع، ومشاغل العيش، وظلال الخلق!..

جاء في السنة عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة: كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة! فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا، فلم يعجبه ذلك!..

 

فذكر له شبور اليهود – البوق الذي ينفخون فيه للإعلام بصلاتهم – فلم يعجبه ذلك وقال: هذا من أمر اليهود! فذكر له الناقوس، فقال: هذا من أمر النصارى!..

 

فانصرف عبدالله بن زيد الأنصاري، وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرى الأذان في منامه.

 

وفي تفصيل آخر يذكر الراوي أن رجلاً من الأنصار جاء فقال: يا رسول الله، إني لما رجعت – إلى بيتي – لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلاً كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن، ثم قعد قعدة ثم قام فقال مثلها، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة!..

 

ولولا أن يقول الناس لقلت: إني كنت يقظان غير نائم!.. فقال رسول الله: لقد أراك الله خيراً، فمر بلالا فليؤذن!..

 

فقال عمر بن الخطاب: أما أني قد رأيت مثل الذي رأى، ولكني لما سبقت استحييت، وقال فيه فاستقبل – الملك الذي رآه عمر – القبلة وقال: الله أكبر الله أكبر مرتين أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم أمهل هنية، ثم قام فقال مثلها، إلا أنه زاد بعد ما قال حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقنها بلالاً! فأذن بها بلال.

 

وكان بلال ندى بصوت، عذب الأداء، وتتفاوت الروايات تفاوتاً قليلاً في عدد الألفاظ مع اتفاقها جميعاً في أصل القصة ومصدر التلقي...

 

وعندما أتجرد من التأثر بكل ما يروى، أراني أميل إلى سماع الأذان ومتابعة كلماته الهادية، فإني أحب أن أقاد من عقلي لا من أذني! إن الأذان يوقظ فؤادي، ويعرفني بربي على نحو ينسجم مع الفطرة السليمة.

 

ومن ثم استحب الشارع لسامعي الأذان أن يرددوا كلماته، ويغرسوها في مشاعرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا يَقِينًا دَخَلَ الْجَنَّةَ", عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ".

 

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

 

والمرء عندما يتأمل في كلمات الأذان يجدها خلاصات للرسالة الإسلامية ووصفاً لله قائماً على الحق المطلق، والحق الذي لا يتغير بين مشرق ومغرب!..

 

ماذا وراء تكبير الله وتوحيده والنداء الدائب لعبادته؟

 

إن هذا لنداء يتنقل على سطح الأرض، عابراً خطوط الطول فوق البر والبحر مصاحباً الأرض في دورانها حول أمها الشمس "ووظيفة محمد العظمى تلبية الأمر الصادر إليه" {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ  وَمِنْ ءَانَآئِ ٱلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [طه: 130].

 

إن الكون كله لا الأر ض وحدها يتجاوب مع أصوات المؤذنين وهي تهيب بالبشر أن يهرعوا لمرضاة الله!..

 

وليس بغريب أن يطلب من سامعي الأذان – وصداه لا يزال يرن في آذانهم – أن يدعوا للإنسان العظيم الذي يقودهم إلى الله، ويؤمهم على الصراط المستقيم! إنه والله جدير بالدعاء المستديم أن يرفع الله درجته، ويجزيه عن المسلمين خيراً...

 

على أن رؤى البشر مهما صلحت حالهم لا تكون مصدر وحي، ولا دليل، ولولا أن رؤيا الأذان أقرها النبي صلى الله عليه وسلم ووافق على العمل بها، ما التزم العمل بها أحد!..

 

ولعل الله سبحانه وتعالى أراد طمأنة نبيه على أن رسالته قد نجحت في تكوين جيل نقى الصفحة زكى السريرة يلتقي بالملأ الأعلى، فيسمع منهم وينقل عنهم، وقد قلنا في إجابة سابقة: إن الملائكة تتنزل على المؤمنين المستقيمين فتلهمهم الرشد، وتساند على الحق، وتقذف في قلوبهم بالبشريات {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30].

 

لكن باب الأوهام والمزاعم لابد من سده فما يقبل كلام عن عالم الغيب إلا من المعصوم وحده! والمسلمون مجمعون على أن الشريعة، لا منبع لها إلا الكتاب والسنة.

 

وقد ظهر في عصرنا هذا فلاحون اقتحموا ميدان التدين وزعموا أن وحياً يجيئهم، وخير علاج لهم أن يقادوا إلى تبليغه في مستشفيات الأمراض العقلية..

 

  • الخميس AM 10:38
    2022-03-24
  • 1129
Powered by: GateGold