المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 436503
يتصفح الموقع حاليا : 290

البحث

البحث

عرض المادة

ما الحكمة في قيام الليل؟ وكيف يكون؟

لابد من تمهيد لهذا الموضوع، والموضوع الذي يجيء بعده، نتحدث فيه عن الأوج الذي رفع محمد صحبة إليه، وثبتهم – صلوات الله وسلامه عليه – في رباه! لقد اتفق الدارسون لشخصية محمد علي أن قدراته الروحية خارقة للعادة، وأنه يخطف البصائر بطيب نفسه وعظمة خلقه ووهج مشاعره، وأنه استطاع بالقرآن الكريم أن يشرح صدور! ويوسع آفاقا، وينقل جيلاً  من البشرية الضيقة إلى الربانية الرحبة المشرقة!..

 

إن الجيل الذي رباه محمد كان جيلاً محسناً يعبد الله كأنه يراه، شجاعاً يركل الدنيا بقدمه ويمضي ثابت الخطا إلى ربه، كريماً لا يحرص على مال، بل ما يعطيه لله أحب لديه مما يستبقيه لنفسه، مقيماً للصلاة ينتظم في صفوفها برغبة وخشوع، ويحافظ على أوقاتها في الصحة والمرض والسلم والحرب..

 

هذا الجيل تلقى الحق وصانه وسلمه إلى من بعده في وفاة وفداء لم تعرف الدنيا لهما نظيراً في تاريخها الطويل!

 

إن الملائكة لتنظر بإعجاب إلى هؤلاء الأصحاب! بل إنها لتحفهم وهم يجاهدون، تتنزل عليهم وهم يتهجدون! ما أحسبها – وهي ترقب الأرض من قديم – رأت خيراً منهم، حاشا أنبياء الله السابقين!..

 

من أجل لم أحس باستغراب عندما قرآت في الصحاح هذين الخبرين..

 

عن أسيد بن خضير رضي الله عنه قال: "بينما هو يقرآ من الليل وسورة البقرة – وفرسه مربوطة عنده – إذ جالت الفرس، فسكت، فسكنت! فاستأنف القراءة فجالت، فسكت فسكنت الفرس! ثم قرأ فجالت، وكان ابنه يحيى قريباً منها فانصرف فأخره – أبعده عن قوائمها – ثم رفع رأسه إلى السماء، فإذا مثل الظلة، فيها أمثال المصابيح! فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم – بما رأى – فقال له: أو تدري ما ذاك؟ قال لا.. قال: تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت – تابعت التلاوة – لأصبحت ينظر إليها الناس ما تتوارى منهم!..

قلت: ما الغرابة؟ ملائكة السماء اقتربت من ملائكة الأرض الذين يقومون الليل بالقرآن.

 

وقد تكررت هذه القصة لغير أسيد، وسواء استبعدها الماديون أو قبلوها، فإن من يناجي الله بكتابه والناس نيام له مكانة خاصة، وقد جاء في الحديث "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِعَبْدٍ فِي شَيْءٍ – أي ما أنصت – أذنه – أي إنصاته – لعبد يقرأ القرآن في حوف الليل، وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلَاتِهِ وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تعالى بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ".

قال أبو النضر: يعني القرآن، منه بدأ الأمر به، وإليه يرجع الحكم فيه..

 

والناس عادة ينطرحون في فرشهم يحسبون النوم غيبوبة تتخللها أضغاث الأحلام، وغرائز الأجهزة الدنيا أو وساوسها! لكن عن حقيقة!!..

 

فإذا نابتهم يقظة خلال الرقاد، اتجهوا إلى الغائب المشوق، أو الصواب المنشود!..

 

صور الحديث الشريف حال هؤلاء في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ"

 

شتان بين نائم مغمى عليه، ما يحركه إلى ربه شيء، وبين آخر يستجم بنومه، ويسبح بحمد ربه كلما عاد إليه وعيه! الصنفان موجودان في الدنيا، والفارق بينهما شاسع {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ ٱلْءَاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِۦ ۗ  قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا ٱلْأَلْبَٰبِ} [الزمر: 9]..

 

وقيام الليل فريضة على النبي وحده، إن الإحساس بالله نهراً جار في شعوره لا يتوقف أبداً!! في وضح النهار أو في جنح الليل لا يرى محمد إلا موصول القلب بالله!..

 

وهو بهذا الذكر الدافق في حسه، المستولى على نفسه ينضح على من حوله، ويصل الأرض بالسماء طهراً وضوءاً، مستجيباً لقول الله: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِۦ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 78-79].

 

وقد حاول نفر من أصحابه أن يتابعوه في هذا النهج، لشدة حبهم له ورغبتهم في تقليده، غير أن الله سبحانه رحم ضعفهم، وحط عنهم ماجشموا به أنفسهم {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَىِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ  فَٱقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ} [المزمل: 20].

 

ذلك بالنسبة إلى الأصحاب، أما الرسول نفسه فبقي قيام الليل كله من خصائصه، وقد كان ينبعث إلى هذا القيام عن حب ورغبة لا عن تكلف وعنت، كان عميق الشعور بنعمة الله عنده، واصطفائه له، وإلى ذلك يشير عبدالله بن رواحة بقوله:

    وفينا رســول الله يتلــو كتابـه               إذا انشق مكنون من الفجر ساطع

    أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا               بــه مـــوقنات أن مــا قــال واقـع

    يبيت يجافي جنبه عن فراشه                إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

 

في الأيام الأولى للبعثة قيل له: {قُمِ ٱلَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِّصْفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 2-4].

 

أما جمهور الأمة فلن يكلف بذلك، فليس القيام في حقه فريضة لازمة، ولا سنة مؤكدة، وهو نافلة مقبولة ممن يؤثر فيهم السهر، ولا يعجزهم عن أداء واجباتهم طوال النهار!.

 

حسبهم ما يستطيعون قراءته بالليل، وأمامهم سبح طويل بالنهار {... عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ  فَٱقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى ٱلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ ۙ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ فَٱقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].

 

والواقع أن الجهاد العسكري والأقتصادي يحتاج إلى يقظة ونشاط، والتفريط في هذا أو ذاك مضيعة للأمة.

 

ورأيت ناساً يقومون الليل أحياناً، ثم يجيئون إلى مكاتبهم ثقالاً يترنحون، فزجرتهم عن هذا المسلك، وشرحت لهم الحكم! ومع ذلك فما كانوا يسمعون!..

 

وقد رويت في الأمر بالقيام أحاديث ضعيفة مثل ما جاء عَنْ بِلَالٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ".

 

ومع ما في سند الحديث من ضعف، فإننا نحمله على ما ورد في الصحاح مثل حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ" ذلك أن النهوض للفجر فيه مقاومة للنوم، ومشى في الظلمة، واستفتاح للنهار بالخير قبل أن تطلع الشمس بوقت، وكذلك الانتظام في جماعة العشاء، وكانت قديماً تتأخر، حتى تغمش عيون البعض في انتظارها.

 

وسئلت عائشة رضي الله عنها: أي حين كان يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم من الليل؟ فقالت: إذا سمع الصارخ – تعني الديك- !.

 

وما فهمناه وافق ولله الحمد ما رواه أبو داود عن أنس في تفسيره قوله تعالى: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16].

 

قال: نزلت في انتظار الصلاة التي تدعي العتمة – يعني العشاء – كانوا يتنقلون بين المغرب والعشاء..

 

وزيادة في إيضاح الموضوع نذكر أن الجسد البشري يحتاج إلى ساعات معينة ينام فيها، ويستعيد قواه، ويستحيل أن يستغني عن هذه الساعات التي قدرها الأطباء بثماني ساعات أو أكثر أو أقل حسب الأعمار المختلفة..

والقرآن الكريم يقر هذه الحاجة الطبيعية، ويلفت الأنظار إلى أنها من آثار اختلاف الليل والنهار {هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67] .. {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 9-11].

 

وقد تنشأ أحوال يجب فيها العمل بالليل، في ظروف السلم والحرب جميعاً، فعلى المرء أن يقوم بواجبه، وسيطاوعه جسمه مع تعويض يرد إليه ما بذل..

 

وهناك ناس لهم طاقة على العمل الكثير، مع الاكتفاء بنوم قليل! كما أن هناك من في أعصابه مدخر من النشاط يستطيع به أن يضم إلى عمل النهار جزءاً من الليل..

 

وهنا نؤكد أموراً، أن اليوم الإسلامي ييدأ مع الفجر، فكل سهر يضيع صلاة الفجر مرفوض! وهناك قلة من الرجال تستطيع الجمع بين طول التهجيد بالليل، وطول الكدح بالنهار، وهذه قلة لا يقاس عليها!..

 

وقد يستطيع البعض أن يقرأ نصف القرآن في ليلة ثم يستقبل نهاره باسترخاء لا يساعده على أداء واجب، هذه معصية! لقد تلا ألفاظاً لم يتدبرها وأهمل واجبات ترتبط بها حياته وحياة أمته!..

 

وأوغل في المخالفة من يبيت يردد بعض أسماء الله الحسنى، ثم يصبح كليل التفكير لا يحسن شأناً في دنيا أو دين!!..

 

إن عمر بن عبدالعزيز سرح فكره في آية واحدة ظل يرددها طوال الليل {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْـُٔولُونَ} [الصافات: 24] لأن دقة إحساسه جعلته يتصور – وهو أمير المؤمنين – أنه الموقوف المسئول، فطار النوم من عينه!..

 

ولو أن قاضياً سهر في قضية يتحرى الحكم العادل، أو مجتهد سهر في موضوع يبحث فيه عن الصواب، لكان أولى بالله من قارئ لا يعي، أو قائم نائم الضمير والتفكير.

  • الخميس AM 10:37
    2022-03-24
  • 1962
Powered by: GateGold