ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
اتهام الصحابة بكتمان حديث "غدير خم"
اتهام الصحابة بكتمان حديث "غدير خم" (*)
مضمون الشبهة:
يتهم بعض المشككين الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - بكتمان حديث "غدير خم"؛ حيث يروون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء عودته من حجة الوداع، وهو في طريقه إلى المدينة وصل إلى أرض تسمى "خم" وكان معه مائة وعشرون ألفا من الصحابة. فنزل جبريل - عليه السلام - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالآية الكريمة: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته( (المائدة: ٦٧).
وأبلغ جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى يأمره أن يقيم علي بن أبي طالب إماما على الناس وخليفة من بعده ووصيا له. فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعلن على الملأ أن عليا هو الوصي والإمام من بعده، وحصر الأئمة في اثني عشر إماما، كل منهم ينص ويعلن عن الإمام الذي يليه. قائلين بأن الصحابة كتموا هذا الأمر، وجعلوا الخلافة شورى بين المسلمين. ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في الصحابة بمخالفتهم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإجماعهم على ذلك، ومن ثم الطعن فيما ورد عنهم، وفيما نقلوه إلى أجيال المسلمين من قرآن وحديث.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن قصة وصاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - بالإمامة قصة مختلقة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما تخلف أحد من الصحابة عن الجهر بها، بل ما توانى علي - رضي الله عنه - عن المطالبة بحقه في ذلك؛ بناء على وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - له.
2) إن الناظر في جميع الروايات الواردة في قصة الغدير هذه سوف يجد أنها تتعلق بفضل الإمام علي وآل البيت، ولا تتعلق بأية وصاية أو خلافة لأحد. وأما ما زيد على الروايات الصحيحة الثابتة كأمر الوصاية لعلي بالخلافة، فهي من الموضوع المختلق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو زور وبهتان، ومحض افتراء وضلال.
3) لقد ورد من النقل الصحيح عن عدد من الصحابة، وعن علي - رضي الله عنه - نفسه ما يبطل دعوى وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخلافة من بعده لعلي بن أبي طالب.
التفصيل:
أولا. إن قصة وصاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - بالإمامة قصة مختلقة، لا أساس لها من الصحة:
من الصحيح المجمع عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص على إمامة واحد بعينه، ولو نص على إمامة علي لبايعه الناس كلهم، فما كان للصحابة أن يعرضوا عن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين برهنوا خلال المدة التي قضاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم على صدق إيمانهم وصحة إسلامهم بما قدموه من أرواح ودماء وأموال في سبيل نصرة دين الله، ومن المحال أن يتفقوا كلهم على إنكار مثل هذا النص مع توافر الدواعي إلى معرفته ونقله[1]؛ وعليه فإن من يقول ويعتقد بصحة حديث غدير خم والذي قيل: إنه اشتمل على وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخلافة لعلي - رضي الله عنه - وإسناد الخلافة إلى الأئمة الاثني عشر بعده - يطعن في الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة، بل يرميهم بالخيانة والكفر، وهو لا يجهل أن هؤلاء قد اتخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - رسلا له ووزراء وقوادا.
ومن المعلوم أن القرآن كان يتنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يكشف المنافقين، ويوجه اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء تعلق بأشخاص من المنافقين، أو بأعمال لله فيها حكم آخر، فمثلا عن الأشخاص: حذر القرآن النبي ممن أقاموا مسجدا من المنافقين، فقال سبحانه وتعالى: )والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل( (التوبة: ١٠٧)، وعن الأعمال التي وجهها القرآن، قال الله سبحانه وتعالى: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض( (الأنفال: ٦٧)، فلو كان كبار الصحابة من المنافقين الذين خانوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نسي الخالق العليم أن ينبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، ليعزلهم ويحذر منهم، ولنزل القرآن بذلك أيضا[2].
وعليه، فإن من يدعي تواتر هذا الحديث، ويتهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتمانه وخيانة الأمانة - فإنما يكذب القرآن الكريم الذي وثق هؤلاء وزكاهم، كما أنه يتهم آل البيت بخيانة هذه الأمانة لعدم إظهارهم هذا الحديث، على الرغم من أننا نعلم أن عدالتهم وتقواهم توجب أن يبلغوه ولا يخشوا أحدا، كما أن تجمع القوة بيد آل البيت خلال خلافة علي - رضي الله عنه - ثم مبايعة المسلمين للحسن والحسين يسقط كل أسباب كتمان مثل هذا الحديث إن وجد.
فلو كانت وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - الواردة في هذا الحديث قد نزل بها جبريل - عليه السلام - وفيها قال الله سبحانه وتعالى: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)( (المائدة). لو كان ذلك صحيحا ما تخلف أئمة آل البيت عن الجهر بها، بل ما تخلف أحد من الصحابة عن التمسك بها، فدل ذلك على عدم ثبوتها، كما أن هذه الآية قد نزلت في شأن اليهود والنصارى، ويؤكد ذلك ما قبلها وما بعدها من الآيات القرآنية[3].
ثم إننا نجزم بأن مسألة الإمامة لو كان فيها نص من القرآن أو الحديث لتواتر واستفاض، ولم يقع فيها ما وقع من الخلاف، أو لتصدى علي للقيام بأمر المسلمين يوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطبهم وذكرهم بالنص، وبين لهم ما يحسن بيانه في ذلك الوقت، وكان هذا هو الواجب عليه لو كان يعتقد أنه الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر من الله ورسوله. ولكنه لم يقل ذلك، ولا احتج بالآية لا هو ولا أحد من آل بيته وأنصاره الذين يفضلونه على غيره، لا يوم السقيفة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يوم الشورى بعد عمر، ولا قبل ذلك ولا بعده في زمنه، وهو الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم، ولم يعرف التقية في قول ولا عمل.
والوصية بالخلافة لا مناسبة لها في سياق محاجة أهل الكتاب، فهي مما لا ترضاه بلاغة القرآن، بل لو أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - النص على خليفته من بعده وتبليغ ذلك للناس لقاله في خطبته في حجة الوداع، وهي التي استشهد الناس فيها على تبليغه فشهدوا، وأشهد الله على ذلك[4].
ومن ثم فإن الصحابة ما كتموا حديث غدير خم، لوجود الرواية الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، ولو كانوا يكرهون عليا ويريدون غصب الخلافة منه - حاشا لله أن يفعلوا ذلك - ما نقلوا هذا الحديث أصلا الذي فيه فضله، والإشادة بمناقبه، وأما الوصية لعلي، ولغيره من بعده - فهو اختلاق لم يسمعه الصحابة من النبي أصلا حتى يكتموه، ولو كان ما تجرءوا على كتمانه، وهم الذين بلغوا عنه كل شيء حتى نقلوا أخص خصوصياته؛ فهل يعقل ألا ينقلوا لمن بعدهم أمرا يتعلق بالخلافة ومصير الأمة؟!
ثانيا. حقيقة حديث غدير خم، وما جاء عنه صحيحا، وتبيين ما جاء في الرواية من الوضع:
غدير خم هو موقع بين مكة والمدينة بالجحفة، ويقع شرق رابغ بما يقرب من ستة وعشرين ميلا، ويسمونه اليوم الغربة، ويذكر أنه في هذا الموقع خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس، وذكر فضل علي - رضي الله عنه - وقد اتخذ المدعون هذه الرواية سبيلا إلى إثبات أحقية علي بالخلافة، بعد أن أضافوا ووضعوا وزادوا في هذه الرواية، واختلقوا فيها وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحيح ما أخرجه الإمام مسلم من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أنه قال: «... قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي. قال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: بلى، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم»[5].
وجاء عند غير مسلم كالترمذي وأحمد والنسائي في الخصائص والحاكم وغيرهم بأسانيد صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه»[6].
وأما الزيادات الأخرى فمنها الصحيح كقوله صلى الله عليه وسلم: «... اللهم وال من والاه، اللهم عاد من عاداه»[7]، ومنها الضعيف الواهي كقوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار»[8] فهي ليست ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وخطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غدير خم لها سبب وجيه، فعن ابن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا إلى خالد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليا، وقد اغتسل فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له، فقال: يا بريدة أتبغض عليا؟ فقلت: نعم. فقال: لا تبغضه، فإن له في الخمس أكثر من ذلك»[9].
فلما كانت حجة الوداع رجع علي من اليمن ليدرك الحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وساق معه الهدي، وقد تعجل علي ليلقى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة، واستخلف رجلا من أصحابه على الجند، فكسا ذلك الرجل الجند حللا من البز[10] الذي كان مع علي، فلما دنا الجيش من مكة خرج علي ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل، فقال لنائبه: ويلك، ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك، انزع قبل أن تنتهي به إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فانتزع الحلل وردها إلى البز، فأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم علي، فلما اشتكى الناس عليا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس خطيبا.
قال ابن كثير: إن عليا - رضي الله عنه - لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبه؛ لذلك - والله أعلم - قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس خطيبا، لما رجع - صلى الله عليه وسلم - من حجته وتفرغ من مناسكه، وفي طريقه إلى المدينة من غدير خم، فبرأ ساحة علي ورفع من قدره، ونبه على فضله، ليزيل ما وقر في قلوب كثير من الناس[11].
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر الكلام إلى أن رجع إلى المدينة، ولم يتكلم وهو في مكة في حجة الوداع أو في يوم عرفة، وإنما أجل الأمر إلى أن رجع، فهذا يدل على أن هذا الأمر خاص بأهل المدينة، فهم الذين كانوا مع علي في الغزو[12].
إن الناظر في جميع الروايات التي جاءت في حديث غدير خم يجد أنها كغيرها قد خلت من الأصل الذي يساق من أجله حديث الغدير، وهو تعيين علي وصيا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإسناد الخلافة إلى الأئمة الاثنى عشر من نسل فاطمة.
فهي لا تدل على ولاية السلطة التي هي الإمامة أو الخلافة، ولم يستعمل هذا اللفظ في القرآن بهذا المعنى، بل المراد بالولاية فيها ولاية النصرة والمودة التي قال الله فيها في كل من المؤمنين والكافرين: )بعضهم أولياء بعض( (المائدة: 51)، بعضهم أولياء بعض"، ومعنى الحديث: "من كنت ناصرا ومواليا له فعلي ناصره ومواليه، أو من والاني ونصرني، فليوال عليا وينصره"، وحاصل معناه أنه يقفو أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - فينصر من ينصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى من ينصر النبي أن ينصره، وهذه مزية عظيمة، وقد نصر علي - رضي الله عنه - أبا بكر وعمر وعثمان ووالاهم، فالحديث ليس حجة على من والاهم مثله، بل حجة له على من يبغضهم ويتبرأ منهم[13].
فليس في الحديث دلالة على الإمامة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أراد الخلافة لما أتى بكلمة تحتمل معاني كثيرة مثل كلمة "المولى"[14]، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب، فلو أراد ذلك لقال: علي خليفتي من بعدي، أو: علي الإمام من بعدي، أو: إذا أنا مت فاستمعوا وأطيعوا لعلي بن أبي طالب، ولكن لم يأت النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة الفاصلة التي تنهي الخلاف إن وجد، وإنما قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».
كما أن الموالاة وصف ثابت لعلي في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، وبعد وفاة علي، فعلي - رضي الله عنه - كان مولى المؤمنين في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، وهو مولى المؤمنين بعد وفاته نفسه، كما قال سبحانه وتعالى: )إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55)( (المائدة). وعلي - رضي الله عنه - من رءوس الذين آمنوا. فالحديث يدل على أن عليا ولي من الأولياء، تجب له الموالاة، وهي المحبة والنصرة والتأييد[15].
وعموما فإن هذه الخطبة التي خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - في غدير خم أراد بها تبرئة ساحة علي - رضي الله عنه - ورفع مكانته، والتنبيه على فضله؛ ليزيل ما كان وقر في نفوس الناس من أصحابه الذين كانوا معه في اليمن وأخذوا عليه بعض الأمور، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرد أن يفعل ذلك أثناء موسم الحج؛ لأن الحادثة رغم انتشارها بقيت محدودة في أهل المدينة[16].
يتضح بجلاء إذن أنه لا أصل للوصية المزعومة، وأن ما اعتمد عليه المدعون هو من وضع عبد الله بن سبأ، وهو أول من أحدث الوصية، ثم وضعت بعد ذلك أسانيد وركبت متون نسبوها زورا وبهتانا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدفهم من ذلك الطعن في الصحابة - رضي الله عنهم - بمخالفتهم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإجماعهم على ذلك، ومن ثم الطعن فيما نقلوه إلى أجيال المسلمين من قرآن وحديث[17].
قال ابن تيمية رحمه الله: وأما النص على ولاية علي - رضي الله عنه - فليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وأجمع أهل الحديث على بطلانه، حتى قال محمد بن حزم: ما وجدنا قط رواية عند أحد في هذا النص المدعى إلا رواية إلى مجهول يكنى أبا الحمراء لا نعرف من هو في الخلق[18].
وقال في موضع آخر: فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قديما ولا حديثا، ولهذا كان أهل العلم بالحديث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل، كما يعلمون كذب غيره من المنقولات[19].
اتضح مما سبق أن الثابت الذي ورد في حديث غدير خم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على تعيين علي وتنصيبه خليفة للمسلمين؛ لأن غاية ما دل عليه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - يومها التنبيه على فضل علي - رضي الله عنه - وأنه من أولياء الله تجب له الموالاة، وهي المحبة والنصرة والتأييد كما تجب لغيره من الصحابة الأبرار، وأما ما ادعاه المغرضون من النص عليه فهذا كذب وافتراء ومحض زور وبهتان.
ثالثا. ورود النقل الصحيح عن عدد من الصحابة بما يبطل دعوى الوصية لعلي - رضي الله عنه - بالخلافة:
إن من أخطر الأمور التي ابتدعها بعض فرق الشيعة (الوصية)، وهي تتلخص في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالخلافة لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأن من سبقه من الخلفاء مغتصبون لحقه، كما جاء في كتابهم "الكافي": من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية"، وكان علي هو وصيه بزعمهم[20]، ولكن بالاستقراء التاريخي لتاريخ الخلفاء الراشدين لا نجد للوصية ذكرا في خلافة أبي بكر ولا في خلافة عمر رضي الله عنهما وإنما نجد بداية ظهورها في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان - رضي الله عنه - عند بزوغ قرن الفتنة، وقد استنكر الصحابة هذا القول عندما وصل إلى أسماعهم، وبينوا كذبه، ومنهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نفسه الذي يدعون له الوصية، وكذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهذه الوصية التي تدعيها الرافضة أثبت علماؤهم أنها من وضع عبد الله بن سبأ، كما ذكر ذلك النوبختي والكشي، ويكفي في الرد على من قال بالوصية ما ورد بالنقل الصحيح عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - ومنهم علي - رضي الله عنه - نفسه، والأدلة كثيرة منها:
- ذكر عند عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى إلى علي، فقالت: «من قاله؟ لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وإني لمسندته إلى صدري، فدعا بالطست، فانخنث، فمات، فما شعرت، فكيف أوصى إلى علي؟!» [21].
وتصريح عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص لعلي من أعظم الأدلة على عدم الوصية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي في حجرها، ولو كانت هناك وصية لكانت هي أدرى الناس بها [22].
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «إن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده العباس بن عبد المطلب، فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوف يتوفى في وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله، فلنسأله فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا، فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها، لا يعطيناها الناس من بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم» [23].
وفي قوله - رضي الله عنه - شهادة للصحابة - رضي الله عنهم - على مدى التزامهم بتنفيذ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلو كانت هناك وصية لما تخلف أحد عنه، ولما عبرت الأنصار عن رأيها في اجتماع السقيفة بحرية وشجاعة وصدق، ولبايعوا من عهد إليه بالوصية، أو على الأقل سيذكر بعضهم تلك الوصية المزعومة، ولو كان هناك نص قبل ذلك لقال علي - رضي الله عنه - للعباس: كيف نسأله عن هذا الأمر فيمن يكون، وهو قد أوصى لي بالخلافة، وقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم نفسه، فلما لم يوجد شيء من ذلك تبين أن ما يدعى من النص دعوى لا أساس لها من الصحة، وكل ما أوردوه في ذلك من النص على خلافة علي مردود لمخالفته هذا النص الصريح عن علي؛ لأن كل أدلتهم السمعية إما أنها لا تدل على المدعي، وإما نصوص موضوعة تدل عليه[24].
- «سئل علي رضي الله عنه: أخصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء لم يعم به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوبا فيها: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا»[25].
قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن
علي - رضي الله عنه - يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة، فإنهم كانوا أطوع لله ورسوله في حياته وبعد وفاته، فهم أجل من أن يفتئتوا عليه فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا، ومن ظن بالصحابة ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومضادتهم لحكمه ونصه، ومن وصل الناس إلى هذا المقام، فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام"[26].
قال النووي رحمه الله: "فيه إبطال لما تزعمه الرافضة الشيعة والإمامية بالوصية لعلي، وغير ذلك من اختراعاتهم"[27].
- وعن عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي يوم الجمل (غلب وانتصر) قال: أيها الناس، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعهد إلينا من هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله[28].
وهذا اعتراف صريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعهد إليهم بشيء من الخلافة ولم يوص لأحد منهم، لا لعلي أو لغيره.
- روي البزار بإسناده إلى شقيق بن سلمة قال: "قيل لعلي بن أبي طالب: ألا تستخلف علينا؟ فقال: ما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم"[29]، فهذا دليل واضح على أن دعوى النص عليه - رضي الله عنه - إنما هي من اختلاق الرافضة، الذين ملئت قلوبهم بالبغض والحقد لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما فيهم علي وأهل بيته[30].
بهذه النصوص القطعية يتضح بجلاء أنه لا أصل لهذه الوصية المزعومة، وإنما هي من صنع عبد الله بن سبأ، وجاء بعد ذلك من الغلاة من أحيا هذه النظرية، ثم عمموها على آخرين من سلالة علي والحسين[31].
وثمة أمر جدير بالذكر هنا، هو أن النبي لو كان قد أوصى لعلي بالخلافة، ثم صارت إلى غيره كأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فهذا يعد تكذيبا لله - عز وجل - وقدحا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تكذيب لله؛ لأن ما يقوله الرسول إن هو إلا وحي يوحى، ومن ثم فكلام الله ليس بصدق وليس بحق، حاشا وكلا؛ لذا فلا مكان لهذه الشبهة في عقول العقلاء ولا قلوب الأتقياء.
الخلاصة:
- إنمنيقولبصحةحديثغديرخمالذيقيل: إنهاشتملعلىوصيةالنبي - صلىاللهعليهوسلم - بالخلافةللإمامعلي،وإسنادالخلافةإلىالأئمةالاثنىعشر،ومنيعتقدذلك - يطعنفيالخلفاءالراشدينوكبارالصحابة،بلويرميهمبالخيانةوالكفر، وهو لا يجهل أن هؤلاء قد اتخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - رسلا له ووزراء وقوادا.
- منالمعلومأنالقرآنكانيتنزلعلىالنبي - صلىاللهعليهوسلم - وكانيكشفالمنافقين،فلوكانكبارالصحابةمنالمنافقين،الذينخانواالنبي - صلىاللهعليهوسلم - لما نسي الخالق العليم أن ينبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، ليعزلهم ويحذر منهم، ولنزل القرآن بذلك أيضا.
- لوأنمسألةالإمامةقدوردفيهانصمنالقرآنأوالحديثلتواترواستفاض،ولميقعفيهاماوقعمنالخلاف،أولتصدىعلي - رضياللهعنه - للقيامبأمر المسلمين يوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطبهم وذكرهم بالنص، ولكنه لم يقل بذلك، ولم يحتج بأي نص.
- هذافضلاعنأنجميعالرواياتالواردةفيقصةغديرخمتتعلقبفضلالإمامعليوآلالبيت،ولاتتعلقبأيةوصايةأوخلافةلأحد،وأماالوصيةلعليفهيزيادات مختلقة، وتحريف في حديث رسول الله غير وارد في أي من كتب السنة.
- لوكانالنبيقدأوصىبالخلافةلعليثمصارتلغيره،فهذايقدحفيالنبيوماجاءعنه،بلويقدحفيالذاتالإلهية،إذالميصرماقدره؛لأنمايقولهرسوله - صلىاللهعليهوسلم - هووحيمناللهتعالى.
- ثمةنصوصكثيرةصحيحةعنعددكثيرمنالصحابةمنهمعلينفسهتنفيهذهالدعوىوتثبتضدها،وفيهارواياتيعترففيهاعلينفسهبأنالنبيلميعهدلهمبشيءمنالإمامةأوالخلافة.
- مسألةالوصيةإنهيإلامناختلاقعبداللهبنسبأ،وقدتلقفهاالروافضوعمموها على سلالة علي والحسين رضي الله عنهما.
(*) السنة المفترى عليها، سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط4، 1413هـ/ 1992م.
[1]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، السعودية، ط1، 1426هـ/ 2006م، (1/ 270).
[2]. السنة المفترى عليها، سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط4، 1413هـ/ 1992م، ص126.
[3]. السنة المفترى عليها، سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط4، 1413هـ/ 1992م، ص128 بتصرف.
[4]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (6/ 466) بتصرف.
[5]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب، (8/ 3541)، رقم (6108).
[6]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: مناقب علي بن أبي طالب، (10/ 147)، رقم (3961). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2930).
[7]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب: فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (1/ 43)، رقم (116). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (116).
[8]. ضعيف جدا: رواه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: مناقب علي بن أبي طالب، (10/ 149)، رقم (3962). وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3714).
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع، (7/ 664)، رقم (4350).
[10]. البز: الثياب، أو متاع البيت من الثياب.
[11].البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، (3/ 170، 171) بتصرف.
[12]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، 2003م، ص763.
[13]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (6/ 465، 466) بتصرف.
[14]. قال ابن الأثير: المولى يقع على الرب، والمالك، والمنعم، والناصر، والمحب والحليف، والعبد، والمعتق، وابن العم، والصهر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير الجزري، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ/ 1979م، (5/ 228).
[15]. حقبة من التاريخ، عثمان بن محمد الخميس، مكتبة الإمام البخاري، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص347: 349.
[16]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، 2003م، ص764.
[17]. خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد علي ناصر فقيهي، رسالة علمية قدمت للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لم تطبع بعد، ص65، نقلا عن: فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، ص128، 129.
[18]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (8/ 196).
[19]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (7/ 30).
[20]. فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، ص126.
[21]. صحيح البخاري (بشر ح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته، (7/ 755)، رقم (4459).
[22]. بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود، عبد الله الجميلي، مكتبة الغرباء الأثرية، السعودية، ط2، 1414هـ/ 1994م، (1/ 190).
[23]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم، (7/ 749)، رقم (4447).
[24]. الإمامة والرد على الرافضة، أبو نعيم الأصبهاني، تحقيق وتعليق: د. علي محمد بن ناصر الفقيهي، مكتبة العلوم والحكم، القاهرة، ط1، 1407هـ، ص238.
[25]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الأضاحي، باب: تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، (7/ 3061)، رقم (5034).
[26]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، (5/ 221).
[27]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط2، 1422هـ/ 2001م، (7/ 3062).
[28]. السنة، عبد الله بن أحمد بن حنبل، تحقيق: محمد سعيد القحطاني، دار ابن القيم، السعودية، ط1، 1406هـ، (2/ 569)، رقم (1333).
[29]. أخرجه البزار في مسنده، مسند علي بن أبي طالب، (2/ 186)، رقم (565).
[30]. انظر: فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، ص128.
[31]. فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، ص128، 129.
-
الجمعة AM 05:22
2020-10-23 - 1827