ادعاء أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان سلبيا خلال فتنة مقتل عثمان بن عفان - مشروع الحصن ll للدفاع عن الإسلام والحوار مع الأديان والرد على الشبهات المثارة ll lightnews-vII

المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 442530
يتصفح الموقع حاليا : 97

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان سلبيا خلال فتنة مقتل عثمان بن عفان

           ادعاء أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان سلبيا خلال فتنة مقتل عثمان بن عفان (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعص المشككين أن عليا - رضي الله عنه - كان في المدينة، ولم يفعل شيئا خلال الفتنة التي قتل فيها الخليفة عثمان بن عفان. ويرمون من وراء ذلك إلى الإيحاء بأن هؤلاء الرجال الأطهار كانوا متفرقي الأهواء متخاذلين فيما بينهم.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  سيرة الإمام علي - رضي الله عنه - تشهد بإيجابيته.

2) الخليفة عثمان هو الذي رفض أن يدافع عنه الصحابة أو يساعدوا على هربه، خوفا منه أن تعظم الفتنة وتسفك الدماء.

3)  موقف الإمام علي - رضي الله عنه - من الثوار يبرز حبه لعثمان و حرصه على حياته.

التفصيل:

أولا. سيرة الإمام علي - رضي الله عنه - تشهد بإيجابيته:

إن الذي يتتبع سيرة الإمام علي - رضي الله عنه - يقر بأنه لم يكن ذلك الشخص السلبي، الذي يقف من الأحداث موقف المشاهد دون أن يشارك فيها مشاركة فعالة.

ويكفي أن المؤرخين ذكروا أنه أول من أسلم من الغلمان؛ "فقد روى يعقوب بإسناد صحيح عن عروة قال: أسلم علي وهو ابن ثمان سنين" [1].

فكيف يعقل أن نتهمه بالسلبية، وقد بدأ حياته بمخالفة دين آبائه وقومه؛ ليتبع دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - قد بلغت مبلغها من الانتشار في ذلك الوقت؟!!

ولم تقف إيجابيته في اتباع الحق ومخالفة الباطل عند هذا الحد، بل إنه عمل على نصرة الحق بكل ما أوتي من قوة، حتى إنه قدم حياته فداء لهذا الحق، فكان هو الفتى الشجاع الذي نام في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد علم أن الأعداء قد أحاطوا ببيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتربصون به ليقتلوه، وكان علي - رضي الله عنه - هو الرجل الذي أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية في خيبر وفتح الله على يديه. [2] وتتعدد المواقف التي تثبت إيجابية الإمام علي ومشاركته الجادة في الأحداث، وتأثيره المشهود في مسيرتها.

فمحال أن نصدق أن هذا الشخص الذي قدم حياته فداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونصرة للحق قد تقاعس عن نصرة أخيه عثمان - رضي الله عنه - في أثناء الفتنة، أو أنه اتخذ موقفا سلبيا كما يزعمون.

ثانيا. الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - هو الذي رفض أن يدافع عنه أحد ضد الثوار أو يساعده أحد على الهرب، خوفا منه أن تعظم الفتنة وتسفك الدماء:

إن أمر الفتنة التي وقعت في عهد عثمان - رضي الله عنه - التي انتهت بمقتله كان معلوما للصحابة؛ لإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ فقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عثمان - رضي الله عنه - أن الله يقمصه بقميص وأن المنافقين يريدونه على خلعه، وأمره ألا يخلعه، وأمره بالصبر فامتثل أمره وصبر على ما ابتلي به صلى الله عليه وسلم.

وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر فتنة، فقال: «يقتل فيها هذا مظلوما»، يعني: عثمان [3].

ومع علم الصحابة بذلك فإنهم حاولوا الدفاع عن عثمان - رضي الله عنه - بكل قوتهم، لكنه منعهم وأمرهم بالتراجع؛ ليقع استشهاده وينفذ الأمر الذي قدر ويقضي الله أمرا كان مفعولا.

ومعلوم أن مقتل الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لم يقع بسبب تقاعس الصحابة عن نصرته أو عدم رغبتهم في الدفاع عنه، أو اتخاذ بعض الصحابة موقفا سلبيا في أثناء هذه الفتنة، بل الحقيقة التي أثبتها التاريخ أن الصحابة - رضي الله عنهم - وقفوا إلى جانبه وعرضوا عليه أن يدافعوا عنه، وعرض بعضهم عليه فكرة الهرب، لكن الخليفة عزم عليهم ألا يدافعوا عنه، ورفض فكرة الهرب، وحاول أن يرد الثوار بطريقة سلمية دون أن يدخل معهم في حرب، لكنه فشل في تحقيق ذلك.

يقول ابن سيرين: كان مع عثمان في الدار سبعمائة، لو يدعهم لضربوهم إن شاء الله حتى يخرجوهم من أقطارها؛ منهم: ابن عمر والحسن بن علي وعبد الله بن الزبير، ويقول أيضا: لقد قتل عثمان يوم قتل وإن الدار لغاصة؛ منهم ابن عمر وفيهم الحسن بن علي في عنقه السيف، ولكن عثمان عزم عليهم ألا يقاتلوا.

وبذلك يظهر زيف ما اتهم به الصحابة - مهاجرين وأنصارا - من تخاذل عن نصرة عثمان - رضي الله عنه - وكل ما روي في ذلك فإنه لا يسلم من علة - إن لم تكن عللا - قادحة في الإسناد أو المتن أو فيهما معا.

عرض بعض الصحابة على عثمان مساعدته في الخروج إلى مكة:

ولما رأى بعض الصحابة إصرار عثمان - رضي الله عنه - على رفض قتال المحاصرين، وأن المحاصرين مصرون على قتله، لم يجدوا حيلة لحمايته سوى أن يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكة؛ هربا من المحاصرين؛ فقد روي أن عبد الله بن الزبير والمغيرة بن شعبة وأسامة بن زيد عرضوا عليه ذلك، وكان عرضهم متفرقا، فقد عرض كل واحد منهم عليه ذلك على حدة، وعثمان - رضي الله عنه - يرفض كل هذه العروض [4].

هذا هو الكلام الذي يتفق مع طبيعة الصحابة - رضي الله عنهم - ويعد قوله عز وجل: )محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)( (الفتح) من أصدق الأدلة على ما تحقق من المحبة والتعاون بين الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام، فهذه الآية تضمنت ذكر منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالثناء، ثم ثنى الله تعالى فيها بالثناء على سائر الصحابة - رضي الله عنهم - فذكر تعالى أن صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء.

قال ابن كثير: فالصحابة خلصت نياتهم، وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة - رضي الله عنهم - الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نوه الله - عز وجل - بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال عز وجل: )ذلك مثلهم في التوراة( (الفتح: 29)، ثم قال: )ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه( (الفتح: 29) أي: فراخه وفروعه: )فآزره( أي: شده وقواه: )فاستغلظ( أي: شب وطال ()فاستوى على سوقه يعجب الزراع( أي: فكذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع: )ليغيظ بهم الكفار(. ثم قال عز وجل:)وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)( (الفتح) أي: ثوابا جزيلا ورزقا كريما، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة - رضي الله عنهم - فهو في حكمهم، وله الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة - رضي الله عنهم - وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل.

وفي قوله - عز وجل - في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم: )ليغيظ بهم الكفار( أخطر حكم وأغلظ تهديد وأشد وعيد في حق من غيظ بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كان في قلبه غل لهم.

وأما قوله - عز وجل - في ختام الآية: )وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)( ففيها وعد من الله تعالى لجميع الصحابة بالجنة، وكذلك كل من آمن وعمل الصالحات من أمة الإجابة؛ إذ هذا الوعد لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة, وكلمة "منهم" في الآية السابقة: "من" لبيان الجنس وليست للتبعيض.

إن ما ذكرناه آنفا ينسجم كليا مع حديث القرآن الكريم عن الرحمة بين الصحابة والشدة على الكفار، وخصوصا بين الخلفاء الراشدين، فهم السادة الكرام، وعلية القوم، وقادة الأمة بعد وفاة نبيها، فالحذر من الروايات الضعيفة والقصص الموضوعة التي اختلقها أعداء الأمة ليشوهوا بها تاريخ صدر الإسلام، أنصدق الروايات الكاذبة والقصص الواهية التي تصور العداء بين الخلفاء الراشدين، أم نصدق كتاب ربنا وما جاء في حقهم على لسان نبينا، وما يوافقه مما دونه العلماء الثقات من أهل السنة والجماعة؟

قال عز وجل: )وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (63)( (الأنفال). فهذا وصف القرآن الكريم لحقيقة الألفة بين قلوب الصحابة، فهي منحة ربانية ونعمة أعطاها الله لذلك الجيل الطاهر ولا دخل لبشر فيها، وبين القرآن الكريم أن الألفة بين الصحابة نعمة من الله تعالى امتن بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا التصوير القرآني لحقيقة الصحابة ينسجم مع الروايات الصحيحة التي تبين محبة الصحابة والمودة بينهم، وبذلك يفتضح أمر الذين وضعوا الروايات المكذوبة والموضوعة، والآية تشمل كل من سار على هدي القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قرابة الرحم تقطع، ومنة المنعم تكفر، ولم نر مثل تقارب القلوب. قال الشاعر:

ولقد صحبت الناس ثم خبرتهم

وبلوت ما وصلوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تقرب قاطعا

وإذا المودة أقرب الأسباب [5]

وعن ظروف مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يحدثنا الأستاذ د. "محمد أمحزون" فيقول: إذا كان لقائل أن يقول: كيف قتل عثمان - رضي الله عنه - وبالمدينة جماعة من كبار الصحابة - رضي الله عنهم - وهو سؤال وضعه ابن كثير، ثم أجاب عنه موضحا ما يأتي:

  • إن كثيرا منهم أو كلهم لم يكونوا يظنون أن يبلغ الأمر إلى قتله؛ فإن أولئك الخوارج لم يكونوا يحاولون قتله عينا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة: إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه. وكانوا يرجون أن يسلم إليهم مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة. وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجرءون عليه إلى هذا الحد.
  • إن الصحابة دافعوا عنه ومانعوا دونه، لكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم لدماء المسلمين ففعلوا، فتمكن المحاصرون مما أرادوا.
  • إن هؤلاء الخوارج اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في موسم الحج وغيبتهم في الثغور والأمصار، وربما لم يكن في المتبقين من أهل المدينة ما يقابل عدد الخوارج الذين كانوا قريبا من ألفي مقاتل.
  • إن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار لحماية عثمان - رضي الله عنه - في انتظار قدوم الجيوش من الأمصار لنصرته.
  • إن الأخبار الصحيحة الموثقة والتي ذكرها المحدثون في كتبهم، تؤكد أن أحدا من الصحابة لم يرض بقتل عثمان - رضي الله عنه - بل كلهم كره ذلك ومقته وسب من فعله.

لقد روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "كنت مع عثمان في الدار، فقال: أعزم على كل من رأى أن لي عليه سمعا وطاعة، إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندي عناء من كف يده وسلاحه" [6].

وعن محمد بن سيرين قال: "انطلق الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان كلهم شاكي السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم" [7].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "قلت لعثمان: اليوم طاب الضرب معك، قال: أعزم عليك لتخرجن" [8].

وعن عبد الله بن الزبير قال: "قلت لعثمان يوم الدار: اخرج فقاتلهم، فإن معك من قد نصر الله بأقل منه، والله وقتالهم لحلال، قال: فأبى" [9].

وأخرج أيضا عن ابن سيرين قال: "جاء زيد بن ثابت إلى عثمان فقال: هذه الأنصار بالباب، قالوا: إن شئت أن نكون أنصار الله مرتين، قال: "أما قتال فلا" [10].

وروى ابن عساكر بإسناده إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن عليا - رضي الله عنه - أرسل إلى عثمان: "إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئا يستحل به دمك. قال - أي عثمان -: جزيت خيرا، ما أحب أن يهراق دم في سببي" [11].

وعن أبي حبيبة، وهو جد موسى بن عقبة قال: "بعثني الزبير إلى عثمان، وهو محصور، فدخلت عليه في يوم صائف وهو على كرسي، وعنده الحسن بن علي وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، فـقـلت: بعـثـنـي إلـيـك الزبير بن العوام، وهو يقرئك السلام، ويقول لك: إني على طاعتي لم أبدل ولم أنكث، فإن شئت دخلت الدار معك وكنت رجلا من القوم، وإن شئت أقمت، فإن بني عمرو بن عوف وعدوني أن يصبحوا على بابي، ثم يمضون على ما آمرهم به، فلما سمع الرسالة، قال: الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي، أقرئه السلام، ثم قل له: إن يدخل الدار لا يكن إلا رجلا من القوم، ومكانك أحب إلي، وعسى الله أن يدفع بك عني، فلما سمع الرسالة أبو هريرة قام فقال: ألا أخبركم ما سمعت أذناي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: بلى! قال: أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تكون بعدي فتن وأمور"، فقلنا: فأين المنجي منها يا رسول الله؟! قال: "إلى الأمين وحزبه". [12] وأشار إلى عثمان بن عفان، فقام الناس فقالوا: قد أمكنتنا البصائر، فأذن لنا في الجهاد، فقال عثمان: أعزم على من كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل".

وهكذا تجمع حول عثمان - رضي الله عنه - كثير من أبطال الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم ليدافعوا ويذودوا عنه، ولو أذن لهم عثمان في حرب الخارجين وقتالهم لنصروه وآزروه، ولكن عثمان أبى عليه إسلامه وإيثاره وإخلاصه أن يقذف بالناس في مغبة حرب طاحنة من أجل شخصه. فقد كره - رضي الله عنه - إن أمر بقتال أولئك الخوارج الذين حاصروه أن يقتل أعلام الدين من الصحابة، فربما لا يبقى أحدهم، فينبني على مصلحة بقائه هو مفسدة أكبر وهي قتل عدد كثير من الناس، ولهذا صبر واحتسب وفضل أن يفدي الأمة بنفسه.

يقول القاضي أبو بكر بن العربي: إن عثمان - رضي الله عنه - قتل والصحابة براء من دمه؛ لأنه منع من قتال من ثار عليه، وقال: لا أكون أول من خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة، وفدى بنفسه الأمة.

وقد كان عثمان - رضي الله عنه - قادرا على الفرار، لكنه لم يرغب فيه، وقد قال له معاوية: "انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإن أهل الشام على الأمر - الطاعة - لم يزالوا. فقال له عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء، وإن كان فيه قطع خيط عنقي. فقال له معاوية: فأبعث إليك جندا منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك، فقال عثمان واضعا مصلحة الرعية في المقام الأول: أنا لا أقتر على جيران رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأرزاق بجند يساكنهم، وأضيق على أهل الهجرة والنصرة، فقال معاوية: والله يا أمير المؤمنين لتغتالن أو لتغزين، فقال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل" [13].

ثالثا. موقف الإمام علي - رضي الله عنه - من الثوار يبرز إيجابيته:

شارك الإمام علي - رضي الله عنه - كعادته في مجريات الأحداث، وحاول أن يرد الثوار منذ مجيئهم إلى المدينة، ونجح في إقناعهم بالعودة إلى بلادهم مقابل أن تتحقق لهم بعض مطالبهم، لكن مثيري الفتنة استطاعوا أن يردوا الثوار مرة أخرى، وذلك عن طريق خطة فعلوها أقنعت الثوار بضرورة الرجوع إلى المدينة ومحاصرة الخليفة عثمان بن عفان.

وعرض الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يدافع عن الخليفة، ووعده بالنصرة، لكن الخليفة رفض مساعدته كما رفض مساعدة غيره من الصحابة.

موقف علي - رضي الله عنه - في بداية الفتنة:

استمر علي - رضي الله عنه - في طريقته المعهوده مع الخلفاء، وهي السمع والطاعة والإدلاء بالمشورة والنصح، وقد عبر بنفسه عن مدى طاعته للخليفة عثمان والتزام أمره ولو كان شاقا بقوله: "لو سيرني عثمان إلى صرار لسمعت وأطعت". [14] وعندما نزل المتمردون في ذي المروة قبل مقتل عثمان بما يقارب شهرا ونصفا، أرسل إليهم عثمان عليا ورجلا آخر لم تسمه الروايات، والتقى بهم علي - رضي الله عنه - فقال لهم: تعطون كتاب الله، وتعتبون من كل ما سخطتم؟ فوافقوا على ذلك، وفي رواية أنهم شادوه وشادهم مرتين أو ثلاثا، ثم قالوا: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله فقبلوا، فاصطلحوا على خمس: على أن المنفي يقلب، والمحروم يعطي، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة، وكتبوا ذلك في كتاب، أن يرد ابن عامر على البصرة، وأن يبقى أبو موسى على الكوفة.

وهكذا كان لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دور في التصدي للفتنة منذ بدايتها، فقد استطاع أن يقنع الثوار بالعودة إلى بلادهم على أن تتحقق لهم بعض مطالبهم. فأدى بذلك دور الممثل الرسمي للخليفة؛ إذ تكلم باسمه وأعطى الوعود وأبرم العهد باسمه. مما يؤكد أنه كان إيجابيا خلال فتنة عثمان، وأنه عمل على التصدي لها منذ بدايتها.

موقف علي - رضي الله عنه - أثناء الحصار:

لما رأى مثيرو الفتنة رجوع الثوار إلى بلادهم، بعدما كلمهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأقنعهم بالعودة اشتد غيظهم وأبوا إلا أن يعود الثوار مرة أخرى إلى المدينة ويحاصروا الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقد استطاع مثيرو الفتنة أن يخدعوا الثوار ويوهموهم أن الخليفة قد خان عهدهم، وأمر بالتنكيل بهم، مما جعلهم يعودون مرة أخرى إلى المدينة مطالبين بعزل الخليفة أو قتله.

فبدأوا بحصاره ولم يستطع أحد أن يردهم، ولم يفلح الخليفة في إقناعهم بخطأ ما يفعلون، ولم يصدقوا أيمانه وقوله أنه لم يغدر بهم، ولم يأمر بالتنكيل بهم.

اشتد الحصار على عثمان - رضي الله عنه - حتى منع من أن يحضر للصلاة في المسجد، وكان صابرا على هذه البلوى التي أصابته كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكان مع إيمانه القوي بالقضاء والقدر، يحاول أن يجد حلا لهذه المصيبة، فنراه تارة يخطب الناس عن حرمة دم المسلم، وأنه لا يحل سفكه إلا بحقه، وتارة يتحدث في الناس ويظهر فضائله وخدماته الجليلة في الإسلام، ويستشهد على ذلك ببقية العشرة - رضي الله عنهم - وكأنه يقول: من هذا عمله وفضله هل من الممكن أن يطمع بالدنيا ويقدمها على الآخرة؟ وهل يعقل أن يخون الأمانة ويعبث بأموال الأمة ودمائها وهو يعرف عاقبة ذلك عند الله وهو الذي تربى على عين النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي شهد له وزكاه وكذلك أفاضل الصحابة، أهكذا تكون معاملته؟!

واشتدت سيطرة الثوار على المدينة حتى إنهم ليصلون بالناس في أغلب الأوقات، وحينما أدرك الصحابة أن الأمر ليس كما حسبوا، وخشوا من حدوث ما لا يحمد عقباه، وقد بلغهم أن القوم يريدون قتله، فعرضوا عليه أن يدافعوا عنه ويخرجوا الغوغاء عن المدينة، إلا أنه رفض أن يراق دم بسببه، وأرسل كبار الصحابة أبناءهم دون استشارة عثمان - رضي الله عنه - ومن هؤلاء الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم - حيث تذكر بعض الروايات أن الحسن حمل جريحا من الدار، كما جرح غير الحسن عبد الله بن الزبير ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، كما كان معهم الحسين بن علي وابن عمر - رضي الله عنهم - وقد كان علي من أدفع الناس عن عثمان - رضي الله عنه - وشهد له بذلك مروان بن الحكم، أقرب الناس إلى عثمان - رضي الله عنه - وألصقهم به في تلك المحنة القاسية الأليمة.

وقد أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن عليا أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي، فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئا يستحل به دمك، فقال: جزيت خيرا، ما أحب أن يهراق دم في سببي.

وقد وردت روايات عديدة تفيد وقوفه بجانب - رضي الله عنه - في أثناء الحصار، فمن ذلك: أن الثائرين منعوا عن عثمان الماء حتى كاد أهله أن يموتوا عطشا، فأرسل علي - رضي الله عنه - إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصلت، ولقد تسارعت الأحداث فوثب الغوغاء على عثمان وقتلوه - رضي الله عنه - ووصل الخبر إلى الصحابة وأكثرهم في المسجد، فذهبت عقولهم.

وقال على لأبنائه وأبناء إخوانه: كيف قتل عثمان وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن، وكان قد جرح، وضرب صدر الحسين، وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله ويقول: تبا لكم سائر الدهر، اللهم إني أبرأ إليك من دمه أن أكون قتلت أو مالأت على قتله، وهكذا كان موقف علي - رضي الله عنه - نصحا وشورى، سمعا وطاعة، وقفة قوية بجانبه في أثناء الفتنة، ومن أكثر الناس دفاعا عنه، ولم يذكره بسوء قط، يحاول الإصلاح وسد الخرق بين الخليفة والخارجين عليه، لكن الأمر فوق طاقته وخارج إرادته، إنها إرادة الله - عز وجل - أن يفوز أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالشهادة.

المصاهرات بين آل علي وآل عثمان رضي الله عنهم:

لم يكن بين بني هاشم وبني أمية شيء من المباغضة والعداوة والمنافرة التي ابتكرها أعداء الإسلام من بنات أفكارهم ونسجوا الأساطير والقصص حولها، ولقد اتضح لكل منصف أن بني أمية مع بني هاشم، علاقتهم فيما بينهم علاقة أبناء العمومة والإخوان والخلان، فهم من أقرب الناس فيما بينهم، يتبادلون الحب والتقدير والاحترام، ويتقاسمون الهموم والآلام والأحزان، فبنو أمية وبنو هاشم كلهم أبناء أب واحد، وأحفاد جد واحد، وأغصان شجرة واحدة قبل الإسلام وبعده، وكلهم استقوا من عين واحدة ومنبع صاف واحد، وأخذوا الثمار من دين الله الحنيف الذي جاء به رسول الله الصادق الأمين [15].

ومن جملة ما سبق يستبين لنا بطلان الادعاء القائل بسلبية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - خلال فتنة مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ويتأكد أن مثيريها لم يدفعهم لذلك غير الحقد على الإسلام وأهله دون التماس لحقيقة تاريخية مؤكدة، ودون وازع من ضمير أو أمانة علمية، وإنما كان قصدهم التشكيك في ثوابت لا يمكن أن يتطرق إليها شك.

الخلاصة:

  • لم يكن الإمام علي سلبيا في يوم من الأيام، بل كان حريصا دائما على المشاركة في الأحداث والتأثير في مسيرتها، والشواهد على ذلك كثيرة ومتعددة وسيرته - رضي الله عنه - خير برهان على ذلك.
  • الخليفة عثمان - رضي الله عنه - هو الذي رفض مساعدة الصحابة له بالدفاع عنه أو تسهيل هروبه، رغبة منه في ألا تسفك دماء المسلمين بسببه، وحرص أن يرد الثوار بالإقناع لكنه فشل في تحقيق ذلك.
  • الإمام علي - رضي الله عنه - شهد أحداث الفتنة وشارك فيها مشاركة إيجابية منذ بدايتها؛ فقد قام بدور الوسيط بين الخليفة والثوار، واستطاع أن يقنعهم ويردهم إلى بلادهم، لكنهم نكثوا على رؤوسهم وعادوا مرة أخرى ليحاصروا الخليفة في داره.
  • وقد عرض الإمام علي - رضي الله عنه - على الخليفة عثمان - رضي الله عنه - مساعدته في رد الثوار بالقوة، لكن رفض الخليفة مساعدته كما رفض مساعدة كثير من الصحابة، خشية أن تسفك الدماء.

 

 

 

(*) بلاد العرب، ديفيد جورج هوجارث، ترجمة: صبري محمد حسن، دار الأهرام، القاهرة، د. ت.

[1]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تصحيح ومراجعة وتحقيق: محب الدين الخطيب، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، ج7، ص89.

[2]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تصحيح ومراجعة وتحقيق: محب الدين الخطيب، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، ج7، ص89.

[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (5953)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (3708)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[4]. عثمان بن عفان، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص454، 455.

[5]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م، ص204: 207.

[6]. أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (1/ 169) برقم (441).

[7]. أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه، ص39، وابن عساكر في تاريخ دمشق (39/ 391).

[8]. أخرجه خليفة في تاريخه، ص38، وابن عساكر في تاريخ دمشق (39/ 396).

[9]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 516) برقم (37662).

[10]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 516) برقم (37664).

[11]. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (39/ 398).

[12]. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (39/ 373).

[13]. تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون، دار السلام، مصر، ط2، 1428هـ/2007م، ص337: 342 بتصرف.

[14]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 523) برقم (37699)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (39/ 361).

[15]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م، ص193: 197. وللمزيد انظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون، دار السلام، مصر، ط2، 1428هـ/2007م، ص368، 369.

 

  • الجمعة AM 12:17
    2020-10-23
  • 3276
Powered by: GateGold