ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
الصُّدفة في ميزان الفلسفة والعلم والدين دراسة تحليلية نقدية - المبحث الثالث - المطلب الاول
بقلم أ.د عماد العجيلي
استاذ ورئيس قسم العقيدة بجامعة الازهر والجامعة الإسلامية بمنيسوتا
المبحث الثالث
الصُدفة في ميزان الإسلام
المطلب الأول
نقض القرآن لدعوى فَرضِية الصُدفة
ترى النظرة الإسلامية للوجود أنّ الكون له بداية، وأنّ الله قد خلقه من عدم، وفي هذا المعنى يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض. وفي رواية: لم يكن شيء قبله. قال ابن حجر: وفي رواية غير البخاري: ولم يكن شيء معه)([1]).
وقد جاءت آيات القرآن الكريم لترد على من أنكروا وجود الله، ونسبوا نشأة الكون إلى غيره، وكان معتمد آيات القرآن الكريم -في هذا المقام- هو بيان عظمة الله وقدرته في كل مخلوقاته، وبيان العناية والإبداع، والحكمة في هذا العالم، وفي نظمه وقوانينه ونواميسه، وأنّ كل ذلك إنِّما يستدعي خالقًا وصانعًا ومدبرًا.
ورؤية الإسلام للكون أنّ لله القومية المتصلة بالوجود، فليس الوجود مستقلا بذاته وقوانينه؛ بل هو محتاج في كل لحظة إلى الحق- سبحانه- ليمنعه من الزوال والفناء، ويمنحه الوجود والبقاء، وفى ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أنْ تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ﴾ [ فاطر: 41]، ويقول تعالى أيضًا: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ﴾[ الحج: 65].
أي أنَّ الكون مفتقر إلى الله في وجوده من عدم، ومفتقر في استمراريته إلى قيومية الله تعالى عليه، هذا في آيات الله الكونية. وكذلك في آيات الله الإنسانية، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ولفت نظر الإنسان إلى نفسه، وطلب منه أن يتأملها، ويتدبر ما فيها من لطيف الصنع وعظيم الغاية([2])، في مثل قوله سبحانه: ﴿ وَفِي أنّفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [ الذاريات: 21].
وامتنَّ الله تعالى على الإنسان بقوله تعالى:﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئًا﴾[ مريم: 67] ؛ بل في تطور خلق الإنسان في بطن أمه العجب المدهش. من هنا يلفت القرآن النظر في تكوين الإنسان منذ أن كان نطفة فعلقة فيقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12-14].
هذه الآيات وغيرها تدل على العظمة الإلهية في خلق الإنسان، وأنّ الإنسان خلق بقدرة الله وعنايته، فكيف يدعي هؤلاء أنّ خلق الإنسان يأتي عن الصُدفة، ويزعمون أنّ التقاء الحيوان المنوي بالبويضة صدفة.
والسؤال الذي يفرض نفسه: من الذي خلق الحيوان المنوي في الإنسان؟ ومن الذي خلق النطفة؟ إذا نظرنا إلى هؤلاء الماديين الملحدين نرى أنه لم ينجح أحد إلى الآن في خلق نطفة، أو خلية حية فضلاً عن الإنسان، فما زال التحدي قائمًا مصداقًا لقوله تعالى:﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ في ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾[ لقمان: 11] .
لقد حوى القرآن الكريم كثيرًا من الدلائل التي تضيف إلى الخلق والإبداع العناية، والقصد في الكون بما فيه، قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
إنّ سمات الألوهية لا تتشابه مع حالات المصادفة فتلك تفصح عن القصد والتدبير والحكمة، بخلاف هذه، فالعمل الذي يُحتاج في إجرائه إلى تدبير لا يمكن أن يأتي من غير تدبير، ولا سبيل إلى القول بأنه جاء مصادفة، ولا يجد المرء عنتًا إذا أراد أن يفند دعوى الصُدفة في وظائف أعضاء جسم الإنسان، فكل عضو له وظيفته، وسبق هذا تدبير وقصد وحكمة.
أضف إلى ذلك تنوع البشر من ذكر وأنثى، وتنوع الحيوانات، وتنوع الطيور، فمن الذي وجه هذا التوجيه الخلقي في كل الأنواع سواء الإنسان أو غير الإنسان؟
قال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]
يقول " القاسمي": " والإشارة إلى الإبداع في الصنع إذ لا يعقل أنّ هذا التخالف بين الذكر والأنثى في الحيوان يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل كما يزعم بعض الجاحدين، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر، أو كون الأنثى، فتكوين الولد من عناصر واحدة تارة ذكرًا، وتارة أنثى، دليل على أنّ واضع هذا النظام عالم بما يفعل، محكم فيما يضع ويصنع "([3]).
لقد خلق الله- سبحانه وتعالى- الإنسان الأول آدم، فأوجده بعد أن لم يكن موجودًا أي أنه أصبح "شيئًا" بعد أن لم يكن "شيئًا" موجودًا ؛ وإنِّما كان وجوده فقط في العلم الإلهي، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ﴾ [ مريم: 67] .
أما مراحل خلق الله، سبحانه وتعالى، لآدم فقد بدأت بالتراب، فالماء، فالطين، فالحمأ المسنون، فالصلصال، نفخ الله، سبحانه وتعالى، في مادة الخلق هذه من روحه، فأصبح هذا المخلوق " إنسان" هو آدم-عليه السلام- قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ﴾ (السجدة: 7).
ومن الآيات التي تحدثت عن تكامل هذه المراحل في خلق الإنسان الأول، وسلالته، قول الله، سبحانه و تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أنّ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَانً خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [الحج: 5] .
ويعرض القرآن الكريم على العقل البشري ما في الأنفس من عظمة وإبداع كدليل على وجود مبدع خالق، حيث يقول الله تعالى:]أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ[ [الطور:35].
ومن تدبر هذه الآية استخرج منها أقيسة عقلية، ومنطق عقلي يسوقه القرآن في أسلوب بلاغي بياني، فالمخاطبون مخلوقون لا شك في ذلك، وهذه قضية بديهة أضمرها القرآن الكريم لبداهتها، وكل مخلوق لابد له من خالق، وهذا الخالق إما أن يكون هو الصدفة وهو محال بداهة، وإما أن يكون هو نفس المخلوق، وإما أن يكون غيره، فكونهم خلقوا من غير شيء محال، وكونهم خلقوا أنفسهم محال أيضًا، فلم يبق إلا أنهم مخلوقون لله، والنتيجة أنّ الله خالق كل شيء.
كذا في النباتات والحيوانات. فهل ينسب للمصادفة العمياء التي لا تعقل فعل هذا؟
فبالنظر إلى" ثنايا الجسم البشري وفي غيره من أجسام الحيوانات والنباتات؛ بل والجمادات أيضًا نجد صنائع فنيه، يدل وجودها على أنها وليدة عقل وتدبير؛ وحذق حتمًا، ويُوحي بأنّ المصادفة ليس لها مجال في الموضوع، إذ المصادفة لا تنهض بذلك ولا تستطيع" ([4])، هكذا يصنع الله في الكون دلائل وجوده وعظمته.
وهذا دليل على أنّ الله تعالى جعل خلق الكون من دلائل إثبات وجوده، وعجائب الكون براهين لقدرته.
لقد جعل القرآن من إيجاد هذه المخلوقات على النسق التي هى عليه دليل على وجود مبدع أبدعها وهو الله تعالى. قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾[ الفرقان:61].
فهذه السماء بما اشتملت عليه من الكواكب، ومنازل لهذه الكواكب، بالإضافة إلى الشمس والقمر؛ فضلاً عن تعاقب الليل والنهار بصورة منظمة ملفتة للأنظار تؤكد وجود خالق لها على أسس محكمة، ودقة لا مثيل لها.
الأمر الذي يستوجب الإقرار بوجوده والشكر على هذه النعم العظيمة ([5]).
وتتوالى الآيات التي ترشد إلى عناية الله تعالى بالمخلوقات فنجدها في مثل قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)﴾ [ الواقعة: 63، 64]، ففي هذه الآيات " يوضح الله تعالى أنه المتفضل على المخلوقات، وذلك بالعناية بها والإشراف عليها، ويتجلى ذلك بوضوح في عملية الزراعة، وذلك من خلال إنباته للنبات في الأرض، وحفظه، وبقائه رحمة للناس"([6]).
وثمة سؤال جوهري في الإسلام، هل الكون موجود بمحض الصُدفة؟ أم بقدرة العناية الإلهية؟ فالمناقشة العبثية ونكران الغائية تجعل العالم الذي هو مادة فاعلة ومنفعلة في آنٍ واحد، دون فاعل حكيم، وهذا ما أبطله العلم الحديث.
يقول عالم الوراثة والبيئة الدكتور جون وليان كلوتس: " إن هذا العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الاتفاق، والتعقيد درجة تجعل من المحال أن يكون قد نشأ بمحض المصادفة، إنه مليء بالروائع والأمور التي تحتاج إلى مدبر، والتي لا يمكن نسبتها إلى قدر أعمى"([7])، وهكذا يثبت أنه في تأمل الكون، والوقوف على نظامه برهان على وجود مبدع عظيم أبدعه، فالعقل يقيم هذه الرابطة المنطقية بين النظم والشعور، وأنه من الممتنع عقلاً أن يكون النظم البديع وليد الصُدفة، أو خصوصية في المادة"([8]).
هذا وبرهان الضبط الدقيق في الإسلام بَيّن في كتاب الله المسطور والمنظور، قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾[الفرقان: 2]، قال الإمام الطبري:" فسوّى كل ما خلق وهيأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت" ([9]).
والتقدير والتسخير هو دليل على وجود خالق للكون والكائنات، وأنها تسير وفق قدرة الله وقيوميته على خلقه.
قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وأنزل مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأنّهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [ إبراهيم: 32 –33].
فالحياة قائمة على التسخير، وهو برهان واضح على فساد القول بالصُدفة، وهو يقوم على مقدمتين: الأولى: حسية، والأخرى: عقيلة، " فأما الأولى: فهي أنّ هناك نظامًا بديعًا يسود كل أرجاء الكون من الذرة إلى المجرة، وهو أمر تتكفل بإثباته المشاهدة والملاحظة، وأما الثانية: فهي أنّ العقل بعد ما لاحظ النظام وما يقوم علية من المحاسبة، والتقدير والهداية والقصد والتوازن، ويحكم بأنّ هذا يمتنع صدوره بمحض الصُدفة والاتفاق، بل لا ينبع إلا من فاعل قادر عليه ذي إرادة وحكمة وقصد"([10])، فنظام العالم وترتيبه على هذا النحو ينقض القول بفرضية الصدفة.
وهذا الدليل يكشف لنا عن عظيم قدرة الله تعالى في خلقه، ولهذا أعطاه القرآن الكريم قدرًا كبيرًا من الاهتمام والمساحة الواسعة شرحًا وبيانًا وتفصيلاً انظر مثلاً إلى قوله تعالى:
﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 6- 8].
إنّ استمرار العالم بهذا الإبداع، يجعلنا نتساءل مع الأستاذ العقاد " لماذا تماسك نظام هذا الكون واستمر وجوده بعد أن وجد مصادفة واتفاقا، ولم يسرع إليه الخلل وتنجم فيه الفوضى قبل أن ينتظم على نحو من الانحناء؟ وما الذي قدره وأمضاه وجعله مفصلًا على الخلل والفوضى وهما مثله ونظيره في كل احتمال؟"([11]).
إنّ النظام الدقيق في الكون كما أوضحت بعض دلائله يبين لنا أنّ الكون صُنعٌ مُتقن، وعلى درجة غاية في الدقة والاتفاق، يستحيل أن تنتج عن صدفة، وإنما هو كون مخلوق يقوم بتدبير أمره خالق حكيم عليم سبحانه جلَّ شأنّه، وأصدق تعبير عن هذا كله هو قوله تعالى:﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ النمل: 88].
وقد أشار القرآن الكريم إلى دليل العناية الذي يثبت وجود الله بصورة لا أكمل ولا أتم منها، وذلك لتنبيه الذهن الغافل إلى ما في تلك العناية من العبرة فيقول: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنّ جَعَلَ اللَّهُ عليكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنّ جَعَلَ اللَّهُ عليكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)﴾ [ الفرقان: 71- 73]. هكذا ترشد الآيات إلى قدرة الصانع ووجوده فقد بان بكل وضوح أنه ما من شيء في هذه الحياة إلا وهو يحمل في صميمه، وكيانه الحجة على بارئه، وينادي به سبحانه، فهو يدل على الخالق، ويحمل الحجة على وجوده صغر أو كبر.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل فيما أشار إليه من الأدلة الكثيرة التي تنبه الذهن إلى تدبير العلى الحكيم وتقديره وعلو إفضاله ورحمته فقال تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأنّ بَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: 19].
أي منضبط مقدر في بنائه، وتركيبه الدقيق، منضبط مقدر في معالمه، وخصائصه، منضبط مقدر في مقدار كميته التي ظهر للوجود بها حتى جاء وفق الحاجة التي يحتاجها لا أكثر ولا أقل بدليل قوله تعالى: ﴿وإن مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر:21]. وقوله تعالى:
﴿وأنزلنا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ في الْأَرْضِ وَانًا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18]
فالكون كله متقن، قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام: 1].
يقول الأصفهاني:" أي أبدعهما، بدلالة قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 117]،
وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا الله تعالى، ولهذا قال تعالى في الفضل بينه وبين غيره: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 17]" ([12]).
" فتعال نتصور عدد ما في عالم الخلق" من شيء" في ملكوت السماوات والأرض، من الذرة إلى المجرة، وعدد ما يربط بينها في عالم الأمر من روابط وعلائق. ثم تعال ندرس على ضوء العلم والقرآن الكريم بعض ما في الكون من تقدير واتزان وتنظيم وترتيب وإحكام واتفاق، لنعرف ما هو حظ المصادفة في تكوينه؟ هل يعقل أن يكون قد كُتب الفوز لهذا التقدير الدقيق، والاتزان المعجز، والتنظيم البديع والترتيب المذهل، والإحكام الرائع، والاتفاق منقطع النظير حظ المصادفة ضد عدد هائل من الممكنات الأُخر المتزاحمة؟" ([13])
فحركة الكون لا سبيل إلى نسبتها إلى المصادفة، لأنّ القصد فيها ظاهر، والتدبير أكيد، فما من حاجة لحي من الأحياء فيي الكون إلا لها ما يسدها، ويلبي مطالبها على أكمل وضع وأتقنه، والعناية تستلزم الاتقان في الصنع، فكل مشمول بالعناية.
*****
(([1] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، الطبعة السلطانية، 1311هـ، 13/304..
([2]) فرج الله عبد الباري، العقيدة الإسلامية في مواجهة التيارات الإلحادية، ط دار الآفاق العربية، 2004م، ص 99
([3]) القاسمي، دلائل التوحيد، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، 1405ه- 1985م، ص 52.
([4]) هلال على هلال، الجائزة أو لماذا أؤمن بالله، ص 98، 99.
([5]) الزمخشري، (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل)، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط3(1407هـ)، جـ 3، صـ 290، الفخر الرازي، (مفاتيح الغيب) أو (التفسير الكبير) الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3/ (1420هـ)، جـ24 صـ 107-108.
([6]) ابن كثير، (البداية والنهاية)، تحقيق/ عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلأنّ، ط1، (1418هـ - 1997م)، سنة النشر: (1424هـ / 2003م)، جـ 4 صـ 461 – 462
([7]) جون كلوفر مونسيما، الله يتجلى في عصر العلم، ص76.
([9]) ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط1(1420هـ - 2000م) 17/ 396.
([10]) فتحي عبد الرحمن عطية، جهود الشيخ حسين الجسر الكلامية في الإلهيات، رسالة ماجستير إعداد الباحث - كليه أصول الدين بطنطا 1421هـ-2000م، ص124.
([11]) عباس العقاد الله- كتاب نشأة العقيدة الإلهية، ص149.
([11]) الراغب الأصفهاني، (الحسين بن محمد بن المفضل)، (ت 425 هـ) : مفردات ألفاظ القرآن، مادة خلق، تحقيق: عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، ط 3، 1423هـ 2002م، ص 296.
([12]) الراغب الأصفهاني، (الحسين بن محمد بن المفضل)، (ت 425 هـ) : مفردات ألفاظ القرآن، مادة خلق، ص 296.
-
الخميس PM 02:41
2023-06-08 - 1120