ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
الصُّدفة في ميزان الفلسفة والعلم والدين دراسة تحليلية نقدية - المبحث الاول - المطلب الثاني
بقلم أ.د عماد العجيلي
استاذ ورئيس قسم العقيدة بجامعة الازهر والجامعة الإسلامية بمنيسوتا
المطلب الثاني
القول بالصُدفة في الاتجاه العلمي
تمهيد: يُبنى المذهب الإلحادي على المادية التي تنبذ كل تصور فكري يُخرج الإنسان من دائرة واقعه الملموس.
ومما لا شك فيه، أنّ المذهب الإلحادي أراد أن يواكب في تطوره تطور العلوم والمعارف، وكان في كل حقبة يعكس المستوى المعرفي في الفكر الإنساني، وأراد أن يدعم مزاعمه بنظريات علمية.
" ولذلك كان لكل عصر إلحاده الذي يستفز الشعور الديني، ويضطره إلى تبرير نشوئه، وتأسيس مقولاته، وتدعيم آرائه " ([1])
وقد تمخض عن لفكر المادي القول: إنّ الكون وما فيه نشأ صدفة من لا شيء، أي من علة غير مُدركة وغير مدبرة، و لم يُوجده موجد، وإنما حصل هكذا عن طريق الصُدفة، ويزعم هؤلاء أنّ الكون بهذا الانتظام قد وُجد صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة، دون تنظيم أو تخطيط سابق، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
فهم يعتبرون أنّ المادة هي الأصل الذي انشقت منه كل الكائنات الحية، وغير الحية، بما في ذلك الإنسان، وأنشأت كل ما يحتوي عليه عالم الإنسان، والمادية " تذهب إلى أنّ المادة في كافة صورها هي المؤثرة في كل شيء، وإلى أنها في الوجود أسبق." ([2])
ويتضاعف ذلك الغلو المادي في تصور أنّ المادة الصماء سابقة على العقل نفسه، وكل آلاته وإدراكاته، فقد "وجدت الطبيعة ليس فقط قبل الناس، وإنما عمومًا قبل الكائنات الحية، وبالتالي مستقلة عن الإدراك، وهي أولية. أما الإدراك فلم يستطع التواجد قبل الطبيعة، فهو ثانوي"([3]).
فالحقيقة الوحيدة في الفكر الإلحادي العلمي هي المادة، والوحدة التي تجمع الكون هي ماديته، ويذهبون إلى أنّ المادة تقوم على قوانين، تلك هي التي أبدعت النظام.
أما مسألة قدم العالم والمادة، فقد ذهب الملاحدة إلى القول: " إن أصل الكون هو المادة، وأنه لا وجود لشيء سوى المادة، ومن ثم استبعدوا أي مصدر خارجي للكون، وأنكروا وجود الله، وعللوا وجود الكون، وتطو المادة فيه بالمصادفة"([4]).
أما المادة ذاتها فلم تُخلق، إنما كانت موجودة، وستظل دائمًا موجودة، أي أنها أزلية أبدية موجودة بذاتها ومنشئة لغيرها، وأما الله الأزلي الأبدي الخالق البارئ المصور المريد الفعال لما يريد؛ فهو عندهم خرافة ابتدعها خيال الإنسان، وبناءً عليه يمكن القول إن الفكر المادي يقوم على رفض وجود الخالق لهذا الكون؛ وأصبح ينكر كل ما هو غيبي، والنظر إلى الإنسان على أنه كائن مادي، وأنه مجرد نتاج للمادة.
وقد أثر الفكر المادي ليس فقط على تشويه الأفكار؛ بل على انحراف مسيرة العلم، كما ربط الفكر المادي بين نشوء إلحاده، وبين التقدم العلمي، وأنهما متلازمان.
يقول (كيلي وكوفالزون): " إنّ العلم إذ يكشف عن الصلات الطبيعية بين ظواهر الطبيعة؛ يطْرُد في تصوره الإله من الطبيعة، ويدحض خطأ المثالية، ويؤيد صحة النظرة المادية للعالم، والعلم يتفق مع المادية في بحثه عن الحقيقة في الحياة ذاتها، وفي الطبيعة، وهذا ما يدل على أنّ العلم الحقيقي هو ذو طابع مادي، وأنّ العلم مادي بطبيعته وجوهره، والمثالية غريبة عنه وعدوة له"([5])
هذا وإن تفسير الكون بوساطة قانون " الصُدفة " ينطبق على قوانين الصُدفة الرياضية المحضة، وفي ذلك يقول أحد العلماء الأمريكيين: " إنَّ نظرية الصُدفة ليست افتراضا، وإنما هي نظرية رياضية عُليا، وهي تطلق على الأمور التي لا تتوفر في بحثها معلومات قطعية، وهي تتضمن قوانين صارمة للتمييز بين الباطل والحق، وللتدقيق في إمكان وقوع حادث من نوع معين، وللوصول إلى نتيجة هي معرفة مدى إمكان وقوع ذلك الحادث عن طريق المصادفة"([6])؛ بل إن بعض المنظرين لها، والمعجبون بها قال عنها " هي نظرية رياضية علمية نطبقها في حياتنا على كل ظاهرة، أو حدث لا يتوافر لنا معرفة علته معرفة يقينية، فالمصادفة اليوم أساس تقوم عليه العلوم الحديثة " ([7]).
والحديث عن إمكانية العشوائية أن تُنتج ما في عالم المادة أمر داخل في علم الرياضيات، أو ما يُعرف تحديدًا بعلم الاحتمالات، يقول الفيزيائي الملحد (أندريه لا لاند): " لدينا العديد من المصادفات العجيبة جدًا جدًا، وكل هذه المصادفات تتميز بأنها تنتهي إلى جعل الحياة ممكنة "([8]).
وبالصدفة نفسر كثيرًا من الأشياء، ونتوصل إلى كثير من المخترعات: فقانون الجاذبية، واكتشاف الكهرباء، وغيرها قد جاء صدفة وهكذا.
هكذا قالوا بالصُدفة على اعتبار أنّ الصُدفة نظرية رياضية تطلق على الأمور التي لا تتوافر في بحثها معلومات قطعية، أي دون أن يكون وراء ذلك أي تخطيط، وأية محاسبة؛ لأنّ المصادفة لا تجري على ترتيب، ولا تدعو إلى نظام، إنها فعل بدون قصد ولا غاية
هذا وقد أثر الفكر المادي على بعض الاتجاهات العلمية فانحرفت مسايرة للفكر المادي، حيث نشأت نظريات علمية مأخوذة من الأسس والمنطلقات الفكرية، والمنهجية التي قام عليها الفكر المادي، سيما أنّ الفكر المادي مرتكز على أزلية المادة وأبديتها، وانكار الغيبيات، ورفض الغائية، ورفض الإقرار بوجود خالق للكون، وربط التقدم العلمي، والمنهج التجريبي بالفكر المادي.
وقد احتج القائلون بالصُدفة لتأييد زعمهم بنظريتين:
أولهما: نظرية التطور ([9])
لقد اتخذت المادية بُعدًا علميًا جديدًا للمعركة بين الإيمان والإلحاد، وذلك عندما جاء " تشارلز داروين" (1809م – 1882م) بكتابه " أصل الأنواع " – وليس المقام يتسع لعرض تفاصيل هذه النظرية، ونقدها، وحسبنا أن نذكر منها ما يتعلق بموضوع الصُدفة فقط.
فقد " كانت فكرة التطور دائمًا متصلة بالإلحاد، وقد ظهرت الأفكار الأولية عن أصل الأنواع وفنائها عند الشاعر الروماني (لوكرنوس)، وكان معروفًا بأفكاره الإلحادية، وبمذهب اللذة"([10]).
ويطلق التطور على: "سلسلة التحولات التدريجية، والمستمرة التي بوسعها تسيير العالم الفيزيائي (والكوسمولوجى) ([11])، وعالم الأحياء، ويرتكز مبدأ التطور وفق التطورات السائدة إما على المصادفة، وإما على قانون يفرض عليه منحى معين" ([12]).
ويذهب داروين إلى أنّ الحياة بدأت صغيرة، وفى غاية الدقة، والبساطة، ثم اتخذت تنمو، وتتطور، وتزداد تعقيدًا وتعددًا وتميزًا، وذلك يجري في الكائنات بسبب تطورات كثيرة عبر ملايين السنين، ويُرجع ذلك إلى الانتخاب الطبيعي، ونتيجة تفاعلات بين التغيرات، فمن يتكيف ويواءم يبقى، ومن لم يستطع التكيف يفنى، ويبقي الأقوى والأصلح. وهو بهذا يحاول أن ينفي كلية وجود خالق، ويثبت أنه ليس في الوجود فاعل سوى " الصُدفة" والانتخاب الطبيعي، ويؤكد ذلك بقوله:" بعد اكتشاف قانون الانتخاب الطبيعي ضعفت عندي فكرة أنّ الكون مخلوق لغاية ووفق خطة معينة، تلك الفكرة التي كانت تبدو لي من قبل قوية" ([13]).
ويصل داروين من خلال نظريته إلى نتيجة مفادها، أنّ الكائنات وُجدت وتطورت صدفة، ومن ثم إنكار وجود خالق ومدبر للكون فقال: "إنّ النظام الذي نراه في الطبيعة، ليس نتيجة لتدخل قوة عُليا خارجية؛ ولكنه نتيجة للتوافق أو التكييف بين أعضاء الكائن الداخلية، وبين ظروف البيئة التي يعيش فيها" ([14])
وبذلك أصبح النظام في الطبيعة نتيجة عن التوافق والتكيف، وأما ذلك التنوع الطبيعي يرى " داروين" أنه من فعل "الطبيعة" فهو حادث" بالصُدفة" ولهذا فهو يقول: " أنه لما كانت التنوعات النافعة لا تحدث إلا مصادفة، فإنّ الفرص لتأكيدها، وإبرازها تزداد كلما اتجهنا إلى تربية عدد أكبر من الأفراد، الذين تظهر فيهم الصفات الجديدة"([15]).
ولهذا قال " جورج برنارد شو": " إن القاعدة الداروينية للتطور قد سلمت الكون للصدفة"([16])
فقد جعل (داروين) الفاعلية في الكون إلى الطبيعة، ولا شيء وراء ذلك، ومن ثم ليس هناك خالق، بل كل ما يجري في هذا الكون من متغيرات إنِّما ناتج عن الصُدفة.
وفكرة الله الخالق المدبر المريد ذي القصد عكس ما زعمت الداروينية في قضية الخلق، حيث نفى " داروين" القصد، ونفى أن يكون الخلق المباشر بيد الله وأرجعه إلى عملية التطور.
ويذهب أصحاب المذهب التطوري أنّ الصُدفة تداخل في كل مراحل التطور، فقد" تطورت مذاهب التطور في المصادفة لتنسج بها نظريتها في أهم محاورها:
أولًا: في الحركة الأولى التي حدثت للمادة في حالتها الأولية الراكدة.
ثانيًا: في ظهور الحياة في البروتوبلازم ([17]).
ثالثًا: فظهور الإنسان بتكوينه المشتمل على العقل وعلى الجهاز البدني شديد التعقيد" ([18])
لأنّ تلك النظرية عندهم تعني أنّ وجود الكائنات الحية أتت في أول الأمر بطريق الصُدفة وتطورت إلى ما هي عليه، ويعتبرون ذلك قد تم بلا قصد.
فقد كان بعض العلماء الذين تبنوا الإلحاد وجدوا – على زعمهم – بغيتهم في نظرية التطور الداروينية وأنها تمثل الدليل على أنّ " تطور الكائنات الحية نتيجة لطفرات عشوائية تحدث بالصُدفة هذه هي حجتهم العلمية الكبرى"([19]).
يقول الماديون:" الإنسان هو الحيوان الكامل، وأنّ الفرق بين الإنسان والحيوان إنِّما هو فرق في الدرجة، وليس في النوع، فليس هناك جوهر إنساني متميز" ([20])، أي أن الإنسان لم يُخلق خلقًا مستقلاً عن خلق الحيوانات.
أما بالنسبة لخلق الكائنات الحية، فينطلق الماديون في نظرتهم من المنهج الاختزالي، الذي يحلل الكائنات الحية إلى مكوناتها الأولية، من أعضاء وخلايا ([21]) وغيرها، وفى النهاية نصل إلى مجالات الطاقة العشوائية، عندها يقول الماديون: لم نجد إلا مادة تنفك إلى طاقة عشوائية ([22]).
إذن كیف نشأت المادة الحیـة؟ و كیـف تنوعـت بعـد ذلـك إلى أنواع مختلفة؟ زعم " داروين إلى أنها نشأت في المـاء مـن مـادة هلامية تـشبه البروتـوبلازم، ثـم تـشكلت وتطـورت بعـد ذلـك إلـى كائنـات بسيطة من فصيلة الأوليات كالأمیبیات ومنها اشتقت بقية الأقسام الحیة " ([23])
ويصور الشيخ الغزالي مذهبهم بقوله:" فقد ادعى أصحاب هذا الإلحاد الفريد من نوعه أنّ كل ما في الوجود أزلي صادر عن المادة، على سبيل المصادفة والاتفاق، فالحياة بدأت خلية بسيطة، أو مجموعة خلايا، ثم بدأ التكاثر يعمل عمله، والتطور يعمل عمله بدون أي تدخل خارجي، حتى وصلت الحياة إلى ما هي عليه الآن"([24])، بالتالي فلا يوجد خالق لهذا الكون.
حيث زعمت نظرية داروين أنّ الله لم يخلق أي كائن حي، فقد وُجدت جرثومة واحدة، وهذه الجرثومة أخذت تتفرع وتتنوع عبر ملايين السنين، فعندهم أنّ" الكائن البشري بدأ تكوينه – جرثومة- منوية تقابلت ببويضة، فاندمجت بها ثم انقسمت الخلية الحادثة من الاندماج إلى خليتين، والخليتين انقسمتا إلى أربع، وهكذا ما زالت الخلايا تتكاثر بالانقسام، وتتكاثر، وتتراص بعضها بجوار بعض حتى تكون ذلك المخلوق البديع. ([25])
المسألة إذن، سلسلة مصادفات متتابعة، الجرثومة خرجت هائمة تتحرك كما يتحرك كل كائن حي فتلاصقت بالبويضة مصادفة، وبذلك نسب داروين خلقة الكائنات الحية للطبيعة قائلًا " الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق"([26]) لقد أنكرت نظرية التطور حقيقة (الله خالق كل شيء).
يقول عبد الوهاب المسيري: "إشكالية الأصل. فكل المخلوقات حسب التصور الداروني المادي ترجع إلى الأشكال البدائية للحياة (الأميبا)، والتي ظهرت بدورها نتيجة عملية طبيعية كيميائية [مادية]. إنّ الإنسان في الحقيقة (من هذا المنظور) إن هو إلا حيوان تطور من المادة إلى الأميبا، والأميبا تطورت حتى وصلت إلى القردة العليا، ومنها إلى الإنسان الذي اتجه نحو الكمال الجسمي والفكري، ومنه إلى الذكاء الخارق. فالتطور ظل محدودًا في نطاق الطبيعة/المادة"([27])
وتذهب نظرية التطور إلى أنّ كل الكائنات الحية على مر الزمان تنحدر من أسلاف مشتركة، وأنّ الإنسان والقردة أبناء عمومة، وتوجد حلقة مفقودة في تطور الإنسان من القرد، وليس مخلوقًا مستقلًا.
وذهب الدارونينون إلى أكثر ما ذهب إليه هو، وأصبحوا ملكيّين أكثر من الملك، فيقارن الدكتور كمال شرقاوي بين داروين، وأتباعه قائلًا: " ولم يفقد داروين نفسه في سبيل نظرية التطوَّر، ويتنحى عن عقيدته الأصلية المسيحية، كما فعل كثيرون مما أُعجبوا وفتنوا بنظريته...كان البعض من المفتونين بسحر النظرية يساهمون في تفسير بعض الأمور المتعلقة بها، فعملوا على إدماج الفروض العلمية في هيئة دين، ومن هنا نمت شجرة الكُفر والإلحاد، واستهوى ذلك الكثيرين ليستظلو بظلها أمثال أبسن، وويلز، وبرجسون، وبرناردشو". ([28])
ترى فكرة الداروينية أنّ هذا الكون نشأ بالمصادفة، وظل يتطور شيئا فشيئا حتى وصل إلى هذا القدر، وهذا يعني وجود الخلق بلا خالق خلقه ومدبر يدبره، وبهذا كانت نظرية داروين من أكثر النظريات التي اعتمد عليها أصحاب القول بالصدفة، وهو ما نراه في كثير من أقوالهم.
يقول عالم الأحياء (فرانسيس كريك):"إنّ استمرار النظام الموجود في العالم يحدث عن طريق المصادفة، وقد تتكرر هذه العلمية فتحدث المرة بعد المرة، وذلك كلما ألقت الصُدفة بطفرات جديدة نافعة. كما أنّ التحسين قد يضاف إلى التحسين، فإذا ما أعطينا هذه العملية الزمن الكافي فسينتج التطور كائنات متوافقة مع بيئتها على نحو ممتاز، والأمر لا يحتاج إلى أكثر من هذه الطفرات التي تحدث بالصُدفة، للوصول إلى هذا الكمال في التصميم ولا يبدو أنّ هناك آلهة، أو على الأقل آلهة شائعة تُوجِد هذا التغيير في الحين...، ولهذا السبب، لابد أن تعتمد على الصُدفة، فالصُدفة هي المصدر الوحيد"([29]). وهكذا ظهر الكون تلقائيًا.
بل وصل الأمر إلى أشد من ذلك حيث زعم بعضهم أن الإنسان هو من اخترع فكرة وجود إله في الوجود الذهني، وجعل له قداسة، فزعم (جوليان هكسلي) أن الإله من صنع الفكر الإنساني، حيث أضفى عليه صورة القداسة فيقول: " والإنسان التطوري لم يعد يستطع الفرار من وحدته بالاحتماء نحو مأوى يقيه، أحضان إله من صنع الإنسان نفسه، خلقه في صورة أب مضفيًا عليه ألوان القداسة"([30]).
فتنظر المادية إلى الخلق بعيدًا عن وجود خالق، إذ تنكر وجود الله، ونذكر على سبيل المثال: الفيلسوف الشيوعي انجل يقول:" ما خلق الإنسان إلا عملية بيولوجية"([31]).
ترى الداروينية أنّ الإنسان نشأ من تطور تدريجي غير مستقل. فتهدف نظرية التطور إلى إلغاء قدرات الإله الخالق، والتعامل مع التطور، وكأنه حقيقة واقعية، ونظرية علمية ثابتة قد تحققت لها أسبابها، وهي أصلاً نظرية معدومة لم تثبت حتى وقتنا هذا؛ بل هي مجرد فرض يحتاج إلى دليل وهو ما لم يقع.
ثانيهما: نظرية التولد الذاتي والصُدفة
فقد لاحظ بعضهم ظهور كائنات حية دقيقة على الطعام والخبر والجبن واللحوم التي تُترك، وخروج بعض الديدان من الأرض الرطبة حية أي المادة، وأنّ الحياة نشأت في الماء قبل اليابس، وحبيبات الطين هي أنسب مكان لحدوث التفاعلات التي أدت إلى نشأة الحياة، وذلك لتوفر العناصر التي تتكون منها الكائنات الحيَّة في الطمي نفسه، ومع توافر مصادر طاقة صدرت من البروق أو الإشعاعات الشمسية، ساعدت على حدوث التفاعلات التي أدت إلى نشأة الحياة.
فالطبيعة هي التي خلقت الكون صدفة، وهي نظرية في علم الأحياء تُعرف بنظرية " التولد الذاتي" وقد قام أصحاب هذه النظرية "بأخذ المادة بعد أن يبحثوها جدًا، ويفتشونها للغاية، حتي يعلموا خلوها من ديدان وحشرات، مستعينين على ذلك بكل وسيلة، ثم يضعونها بعد ذلك في إناء محكم؛ ويتركونه مدة ثم يفتحون، فإذا بالمادة تشتمل على ما لا يحصى من حيوانات تدب دبيبًا، وتتلوي تلويًا، وأنّ لونها ليشابه المادة تماما، وإذا فصلوها ثم وزنوا المادة وحدها، وجدوها قد نقصت بقدر هذه الحشرات، فهل بعد ذلك كان للعقل أن يقول بغي ما قالوا؟"([32]).
وجاء الخطأ عند أصحاب هذه النظرية من كونهم لم يفهموا أنّ هذه الديدان إنِّما كانت لها بذور من الأول في الهواء الذي كان مع المادة داخل الإناء، فأغلقوا الإناء والهواء فيه ببذوره فأفرخت فصار ما رأوا، ولما كانت هذه الحشرات ستتربى من نفس المادة، وتبني بناءها من أديمها، فكان طبيعيا أن يكون لونها كلونها، وأن تنقص بقدر حجمها.
وتزعم نظرية التولد الذاتي " أنّ هناك كائنات حية تتولد ذاتيًا من أشياء غير حية في وجود جوهر نشط كالهواء كما يتولد الدود على الجثث فيحللها، وتتكون البكتيريا على الطعام فتفسده " ([33])
تقوم فكرة التولد التلقائي على فَرضِية أنّ الأشكال الحية الأولى نشأت بسيطةً للغاية وأصبحت معقدة، واعتبر أصحاب هذه النظرية أنّ الفيروسات المتبلورة تعد مرحلة وسيطة بين عالمي الجماد والأحياء.
فلما أنكر الماديون وجود الخالق جل وعلا، زعموا أنّ " المادة الأولي للكون التي هي عديمة الحياة والإحساس والإدراك والفكر، قد ارتقت بالتطور الذاتي حتى نشأت الحياة، التي هي أكمل وأرقى من مادة الكون الأولى. ثم نشأت بعد ذلك في الحياة الإحساسات الراقية، حتى مستوى الفكر، ووعي ما في الكون عن طريقه. وبذلك استطاعت المادة أن تعي ذاتها، متمثلًا ذلك في الجهاز الراقي الذي أبدعته بالتطور الذاتي، وهو الدماغ" ([34]).
مما سبق، تبين أن أصحاب هذه النظرية زعموا أنّ نشوء الحياة على الأرض كانت من مكونات غير حية، وأنّ الحياة نشأت صدفة نتيجة تفاعلات كيميائية. هذه فكرة (التولد الذاتي).
فقد زعم هؤلاء أن الطبيعة – في زعمهم- هي الخالقة لهذا الوجود، والعالم بما فيه من الحياة والأحياء قد تكون هكذا اتفاقًا بطريق الصدفة، أو عن طريق القوة الذاتية في المادة، ومن ثم لم تبق هناك حاجة إلى فرض قوة غيبية غير الطبيعة وقوانينها لتفسير نشوء هذا الكون، وظهور الحياة، وتدبير هذا الوجود.
*****
([1]) مشير باسيل عون، نظرات في الفكر الإلحادي الحديث، دار الهادي، بيروت، لبنان، تاريخ النشر 2015م، ص 93.
([2]) محمد عبد المنعم خفاجي، الرد على الماديين، الناشر: القاهرة، دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع، سنة 1961م، ص 21.
([3]) سيرىكينوياخوت، أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، ترجمة: محمد الجندي، دار التقدم، موسكو، ص 39.
([4]) صابر عبد الرحمن طعيمة، الإلحاد الديني في مجتمعات المسلمين، ط1، 1425 هـ - 2004 م، بيروت، ص 16.
(([5] ف. كيللي، م كوفالزون، المادية التاريخية، ترجمة: أحمد داود، ط دار الجماهير، دمشق، سورية، 1970م، ص500.
([6]) وحيد خان، الإسلام يتحدى، ص 66.
([7]) محمود أمين العالم، فلسفة المصادفة، ص 17.
([8]) سامي العامري، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، ص 472، 473.
([9]) عُرف "التطور" بأنه: "نمو بطئ متدرج يؤدى إلى تحولات مُنظمة، ومُتلاحقة تمر بمراحل مختلفة يُؤذِن سابقها بلاحقها، كتطور الأفكار، والأخلاق، والعادات، ولا يكون التطور مسبوقًا بتخطيط، ولا مستهدفًا لغاية عكس التقدم، وهو في الجملة انتقال من المخْتَلف إلى المؤْتَلَفْ، ومن غير المتجانس إلى المتجانس، ومن اللامحدود إلى المحدود، أو بالعكس، ولايتضمن التطور في ذاته فكرة التقدم أو التقهقر، وإنما يعبر عن التحولات التي يخضع لها الكائن العضوي، أو المجتمع سواء كانت ملائمة أم غير ملائمة، ومذهب التطور هو: "مذهب يعتمد على فكرة التطور، ويؤيد الصيرورة، والتحول، ويذهب إلى أنّ القانون العام لنمو الكائنات يتلخص في تنوع، وتكامل مستمرين .إبراهيم مدكور، المعجم الفلسفي، القاهرة: الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، 1403هـ -1983م، ص 47، ص 175.
([10]) على عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، تقديم عبد الوهاب المسيري، وترجمة: محمد يوسف عدس، الناشر: مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام، ط/1994م، ص 50.
([11]) الكوسمولوجيا: علم الكون هو العلم الذي يدرس أصل، ونشأة، وتاريخ، ومحتويات تطور الكون، و دراسة البنية الواسعة للفضاء، بكل ما فيه من مادة، وطاقة، و موضوعاتها: ظهور الكون والبنية التي يتألف منها ثم ماهي طبيعة المكان وما طبيعة الزمان؟ وكيف ظهرت البدايات الأولي على الأرض؟، وكذلك دراسة مشكلة الغائية» هل هناك غاية أو هدف في الكون» أصحاب مذهب الغائية «أم أنّ الكون بما فيه من ظواهر= = يسري بلا هدف ولا غاية» الطبيعيون «؟ وهل يمكن التوفيق بين النظرة الغائية الدينية، والنظرة العلمية الرافضة لكل غاية؟ بحيث يستطيع الإنسان قبول النظريتين معا ورغم حداثة هذا العلم من حيث تداخله مع الفيزياء الحديثة، فإنّ جذوره تمتد إلى العصور القديمة بمعالجتها الفلسفية، والدينية، والميثولوجية الغيبية (ميتافيزيقية) لموضوع أصل الكون، انظر: هيجل/ جورج فيلهلم فريدريش: موسوعة العلوم الفلسفية: صـ12، وانظر: موسوعة ويكيبديا الحرة http://ar.m.wikipedia.org.
([12]) مصطفي حسيبة، المعجم الفلسفي، دار أسامة للنشر والتوزيع، ط1، 2012م -1433هـ، ص 41.
([13]) شمس الدين آق بلوت، داروين ونظرية التطور، ترجمه: اورخان محمد على، القاهرة: دار الصحوة حدائق حلوان، ط7/1980م، ص 86.
([14]) السيد محمد بدوي، التطور في الحياة وفي المجتمع، دار المعرفة الاجتماعية، ط1/2000، ص 67.
( ([16]فران كلين – ل باومر، نقلًا عن الفكر الأوروبي الحديث، ترجمه: أحمد حمدي محمود، القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، ص9 .
([17]) البروتوبلازم: المادة الزلالية الحية التي تتكون منها خلية الأجسام النباتية والحيوانية، وقد رأينا أن نترجمها بكلمة (النطفة) انظر: كمال الدين الحناوي، معجم مصطلحات علم الأحياء، مراجعة: هشام كمال الدين الحناوي، الناشر: المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط/ 1987م، ص399.
([18]) يحي هاشم فرغل، الإسلام والاتجاهات العلمية المعاصرة، القاهرة: دار المعارف كورنيش النيل، ط/ د ت، ص 57.
([19]) عمرو شريف، خرافة لإلحاد، ص 26.
([20]) على عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ص 47
([21]) الخلية: كتلة صغيرة من مادة حية، تحتوى عادة على نواة أو مادة نووية، وهى الوحدة الأساسية في بناء وعمل النباتات والحيوانات. معجم مصطلح علم الأحياء، ص 92.
([22]) عمرو شريف، وهم الإلحاد، تقديم: د. محمد عمارة، الأزهر، هدية المجلة، 1435م، ص 72.
([23]) د. يحي هاشم فرغل، الإسلام والاتجاهات العلمية الحديثة، ص 37.
([24]) الشيخ محمد الغزالي، الإسلام في وجه الزحف الأحمر، ط/ نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 2005م، ص49 - 50 بتصرف واختصار، انظر أيضا: نديم الجسر، قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن، منشورات دار الخلود طرابلس لبنان، ط3/ 1389م-1969م، ص157 - 182.
([25]) هلال على هلال، الجائزة أو لماذا أؤمن بالله، مطبعة إليوسفية بطنطا، ط1، 1367هـ- 1948هـ، 2/12.
([26]) القس عبد المسيح بسيط - الكتاب المقدَّس يتحدى نُقَّاده والقائلين بتحريفه، مطبعة: بيت مدارس الأحد بروض الفرج، ط1/ 2005م، ص 14، 15.
([27]) عبد الوهاب المسيري، رحابة الإنسانية والإيمان، دار الشروق، القاهرة: مدينة نصر، 8 شارع سيبويه المصري، ط1/2012م، ص78.
([28]) التطوُّر بين الضلال وممارسة حق النقد، ص 29، 30
([29]) فرنسيس كريك، طبيعة الحياة، ترجمة: د. أحمد مستجير، مراجعة: د. عبد الحافظ حلمى، سلسلة عالم المعرفة، العدد 125، مطابع الرسالة بالكويت، 1408هـ- 1988م، صـ 63-64.
([30]) القس عبد المسيح بسيط - الكتاب المقدَّس يتحدى نُقَّاده ص 14، 15
([31]) على عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ص 48
([32]) هلال على هلال، الجائزة أو لماذا أؤمن بالله، ص123.
([33]) د. صبري الدمراش، للكون إله، مكتبة المنار الإسلامية، ط2/ 1427ه- 2006م، ص527.
([34]) عبد الرحمن حبنكة، كواشف زيوف في المذاهب المعاصرة، دار القلم، دمشق، ط2، 1412هـ، 1991م، ص 540.
-
الخميس PM 02:36
2023-06-08 - 1347