إضاءات حول بعض النصوص التي ظاهرُها وقوع النبي صلى الله عليه وسلم في الصغائر - مشروع الحصن ll للدفاع عن الإسلام والحوار مع الأديان والرد على الشبهات المثارة ll lightnews-vII

المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 443021
يتصفح الموقع حاليا : 215

البحث

البحث

عرض المادة

إضاءات حول بعض النصوص التي ظاهرُها وقوع النبي صلى الله عليه وسلم في الصغائر

أ. عبد المجيد فاضل

 قال القاضي عياض (ت 544 هـ) عن الذين أجازوا الصغائر على الأنبياء: "اِعْلَمْ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِلصَّغَائِرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَمَنْ شَايَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِظَوَاهِرَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ.. إِنِ الْتَزَمُوا ظَوَاهِرَهَا أَفْضَتْ بِهِمْ إلى تجويز الكبائر وخرق الإجماع، وما لَا يَقُولُ بِهِ مُسْلِمٌ.

فَكَيْفَ وَكُلُّ مَا احتجو بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ وَتَقَابَلَتِ الاحتمالات في مقتضاه، وجاءت أقاويلُ فيها للسلف بخلاف ما التزموا مِنْ ذَلِكَ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهُمْ إِجْمَاعًا وَكَانَ الْخِلَافُ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ قَدِيمًا، وَقَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ قَوْلِهِمْ، وَصِحَّةِ غَيْرِهِ، وَجَبَ تَرْكُهُ وَالْمَصِيرُ إِلَى مَا صَحَّ". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء - عمان، الطبعة الثانية - 1407 هـ، الفصل الثالث عشر الردّ على من أجاز عليهم الصّغائر، ج2 ص353-354].

وهذه بعضُ النصوص التي استدلوا بها، مع ذكر أقوال بعض المحققين الذين بيّنوا أنَّ ظاهرَها غيرُ مراد:

النّصُّ الأوّل: قال تعالى: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7].

أوَّلًا- معنى الضلال عند أهل اللغة:

قال الراغب الأصفهاني (502 هـ) في معجمه (مفردات ألفاظ القرآن) في مادّة (ضل): "الضَّلَالُ: العدولُ عن الطّريق المستقيم، ويضادّه الهداية، قال تعالى: {فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها}، ويقال الضَّلَالُ لكلّ عدولٍ عن المنهج، عمدا كان أو سهوا، يسيراً كان أو كثيراً،... وإذا كان الضَّلَالُ تركَ الطّريق المستقيم عمْداً كان أو سهواً، قليلا كان أو كثيرا، صحّ أن يستعمل لفظ الضَّلَالِ ممّن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب الضَّلَالُ إلى الأنبياء، وإلى الكفّار، وإن كان بين الضَّلَالَيْنِ بَوْنٌ بعيد، ألا ترى أنه قال في النّبي ﷺ: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى﴾، أي: غير مهتد لِمَا سِيق إليك من النّبوّة. وقال في يعقوب: ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ﴾، وقال أولادُه: ﴿إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾، إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وكذلك: ﴿قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾، وقال عن موسى عليه السلام: ﴿فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾، تنبيهٌ أنّ ذلك منه سهوٌ، وقوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما﴾، أي: تنسى، وذلك من النّسيان الموضوع عن الإنسان".

وقال الدكتور محمد حسن جبل (1436 هـ) – وهو لغوي وأكاديمي مصري – في كتابه «المعجم الاشتقاقي»: "وليس في دلالة التركيب الأصلية أنّ الضلالَ هو مقارفةُ الذنوبِ والرذائلِ ضرورةً". [المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، د. محمد حسن حسن جبل، مكتبة الآداب - القاهرة، الطبعة الأولى، 2010 م، ج3 ص1297-1298].

ثانياً- معنى لفظ (ضالاًّ) عند أهل التفسير:

قال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ﴾ فيه ستة أقوال:

أحدها: وجدك ضالاً عن معرفة الشريعة فهداك إليها، فالضلال عبارة عن التوقيف في أمر الدين حتى جاءه الحق من عند الله، فهو كقوله: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ﴾ [الشورى: 52] وهذا هو الأظهر وهو الذي اختاره ابن عطية وغيره، ومعناه أنه لم يكن يعرف تفصيل الشريعة وفروعها حتى بعثه الله، ولكنه ما كفر بالله ولا أشرك به لأنه كان معصوماً من ذلك قبل النبوة وبعدها.

والثاني: وجدك في قوم ضلاّل، فكأنك واحد منهم، وإن لم تكن تعبد ما يعبدون، وهذا قريب من الأول.

والثالث: وجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها، وهذا ضعيف، لأن السورة نزلت قبل الهجرة.

الرابع: وجدك خامل الذِّكر لا تُعرَف فهدى الناس إليك وهداهم بك، وهذا بعيد عن المعنى المقصود.

الخامس: أنه من الضلال عن الطريق، وذلك أنه ﷺ ضلّ في بعض شعب مكة، وهو صغير فردّه الله إلى جده، وقيل: بل ضلّ من مرضعته حليمة فرده الله إليها، وقيل: بل ضل في طريق الشام حين خرج إليها مع أبي طالب.

السادس: أنه بمعنى الضلال من المحبة أي وجدك محباً لله فهداك إليه ومنه قول إخوة يوسف لأبيهم، ﴿تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ﴾ [يوسف: 95] محبتك ليوسف".

وقال الشيخُ المفتي عطية صقر: "يقول الله سبحانه {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى: 7]، الضلال أنواع، منه ضلال الشرك، وضلال الهوى، وضلال الطريق. الأول في العقيدة والثاني في السلوك القولي والعملي، والثالث في أمور الدنيا، وإن كان في بعضها تداخل، والدليل العقلي مع إجماع أهل الملل على أن الشرك مستحيل على الأنبياء قبل البعثة وبعدها، فلا يصح أن يكون مقصودا من الآية، والدليل العقلي قام أيضا على استحالة صدور الكبائر من الأنبياء، فلا تصح إرادة ذلك من الآية، بقي النوع الثالث من الضلال وهو ضلال الطريق، سواء منه المادي والمعنوي، وهو الذى يجب حَمْلُ الآية عليه، فقد كان ﷺ في نشأته بين قومه مطبوعا على التمسك بالكمالات، والبعد عن كل ما يشعر بالخسة والنقص في الفهم والسلوك، وكانت نفسه تَتُوقُ إلى السعي دائما لرفع شأن قومه بما يخلصهم مما ارتكسوا فيه من شرك وسلوك غير مستقيم، ومازال يفكر في وسيلة تحقق له أمنيته، فلم يجد في الأديان السائدة، ما يشفي غلته حتى طلعت عليه شمس النبوة، ونزل عليه جبريل يبين له الطريق الذى يسلكه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبهذا هداه الله من حيرته، ويُحمَل عليه قوله تعالى {ووجدك ضالا فهدى}". [فتاوى دار الإفتاء المصرية، ج8 ص197].

النّصُّ الثاني: قال تعالى: {وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ. ٱلَّذِیۤ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ} [الشرح: 2-3].

قال ابن عطية (546 هـ) في تفسيره (المحرر الوجيز): "و {الوِزْرُ} الَّذِي وضَعَهُ اللهُ عنهُ هو – عِنْدَ بَعْضِ المُتَأوِّلِينَ – الثِقلُ الَّذِي كانَ على رسولِ اللهِ ﷺ، وحَيْرَتُهُ قَبْلَ المَبْعَثِ؛ إذْ كانَ يَرى سُوءَ ما قُرَيْشٌ فِيهِ مِن عِبادَةِ الأصْنامِ، وكانَ لَمْ يَتَّجِهْ لَهُ مِنَ اللهِ أمْرٌ واضِحٌ، فَوَضَعَ اللهُ تَعالى عنهُ ذَلِكَ الثِقلَ بِنُبُوَّتِهِ وإرْسالِهِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: المَعْنى: خَفَّفْنا عَلَيْكَ أثْقالَ النُبُوَّةِ، وأعَنّاكَ عَلى الناسِ، وقالَ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، والحَسَنُ، وجُمْهُورٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: الوِزْرُ هُنا: الذُنُوبُ، الثِقلُ، فَشُبِّهَتِ الذُنُوبُ بِهِ، وهَذِهِ الآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفتح: 2]، وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في الجاهِلِيَّةِ قَبْلَ النُبُوَّةِ وِزْرُهُ صُحْبَةُ قَوْمِهِ، وأكْلُهُ مِن ذَبائِحِهِمْ، ونَحْوُ هَذا، وقالَ الضَحّاكُ، وفي كِتابِ النَقّاشِ: حُضُورُهُ مَعَ قَوْمِهِ المَشاهِدَ الَّتِي لا يُحِبُّها اللهُ تَعالى.

قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ كُلُّها جَرَّها المَنشَأُ، كَشُهُودِهِ حَرْبَ الفُجّارِ، يَنْبُلُ عَلى أعْمامِهِ وقَلْبُهِ في ذَلِكَ مُنِيبٌ إلى الصَوابِ، وأمّا عِبادَةُ الأصْنامِ فَلَمْ يَلْتَبِسْ بِها قَطُّ. وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: {وَحَطَطْنا عنكَ وِزْرَكَ}، وفي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {وَحَلَلْنا عنكَ وِزْرَكَ}، وفي حَرْفِ أُبَيٍّ {وَحَطَطْنا عنكَ وِزْرَكَ}، وذَكَرَ أبُو عَمْرٍو أنَّ النَبِيَّ ﷺ صَوَّبَ جَمِيعَها. وقالَ المُحاسِبِيُّ: إنَّما وُصِفَتْ ذُنُوبُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ بِالثِقلِ – وهي صَغائِرُ مَغْفُورَةٌ – لِهَمِّهِمْ بِها وتَحَسُّرِهِمْ عَلَيْها".

وقال الشيخُ العلاّمةُ ابن عاشور (1393 هـ) في تفسيره (التحرير والتنوير): "والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ أزالَ عَنْهُ كُلَّ ما كانَ يَتَحَرَّجُ مِنهُ مِن عاداتِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ الَّتِي لا تُلائِمُ ما فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ مِنَ الزَّكاءِ والسُّمُوِّ، ولا يَجِدُ بُدًّا مِن مُسايَرَتِهِمْ عَلَيْهِ، فَوَضَعَ عَنْهُ ذَلِكَ حِينَ أوْحى إلَيْهِ بِالرِّسالَةِ، وكَذَلِكَ ما كانَ يَجِدُهُ في أوَّلِ بِعْثَتِهِ مِن ثِقَلِ الوَحْيِ فَيَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ [الأعلى: 6]) إلى قَوْلِهِ: (﴿ونُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى﴾ [الأعلى: 8])".

النّصُّ الثالث: قوله تعالى: {فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِۗ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مُتَقَلَّبَكُمۡ وَمَثۡوَىٰكُمۡ} [محمد: 19].

قال الثعلبي (427 هـ) في تفسيره: "وقيل: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ من التقصير الواقع لك في معرفة الله".

وقال أبو السعود (982 هـ) في تفسيره: "﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ وهو الَّذِي رُبَّما يَصْدُرُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن تَرْكِ الأوْلى، عُبِّرَ عَنْهُ بِالذَّنْبِ نَظَرًا إلى مَنصِبِهِ الجَلِيلِ؛ كَيْفَ لا؟ وحَسَناتُ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ، وإرْشادٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى التَّواضُعِ وهَضْمِ النَّفْسِ واسْتِقْصارِ العَمَلِ".

وقال ابن عاشور (1393 هـ) في تفسيره «التحرير والتنوير»: "وما يَسْتَغْفِرُ مِنهُ النَّبِيءُ ﷺ لَيْسَ مِنَ السَّيِّئاتِ لِعِصْمَتِهِ مِنها، وإنَّما هو اسْتِغْفارٌ مِنَ الغَفَلاتِ ونَحْوِها، وتَسْمِيَتُهُ بِالذَّنْبِ في الآيَةِ إمّا مُحاكاةٌ لِما كانَ يُكْثِرُ النَّبِيءُ ﷺ أنْ يَقُولَهُ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي)، وإنَّما كانَ يَقُولُهُ في مَقامِ التَّواضُعِ، وإمّا إطْلاقٌ لِاسْمِ الذَّنْبِ عَلى ما يَفُوتُ مِنَ الِازْدِيادِ في العِبادَةِ مِثْلُ أوْقاتِ النَّوْمِ والأكْلِ".

النّصُّ الرابع: قوله تعالى: {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا. وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا} [النساء:105-106].

قال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ نزلت هذه الآية وما بعدها في قصة طُعْمَةَ بن أُبَيْرِقَ إذ سرق طعاماً وسلاحاً لبعض الأنصار، وجاء قومه إلى النبي ﷺ وقالوا: إنه بريء، ونسبوا السرقة إلى غيره، وظن رسول الله ﷺ أنهم صادقون، فجادل عنهم ليدفع ما نسب إليهم حتى نزل القرآن فافتضحوا، فالخائنون في الآية: هم السُّرَّاقُ بنو الأُبيْرِق، وقال السهيلي: هم بشر وبشير ومبشر وأسيد، ومعناها: لا تكن لأجل الخائنين مخاصماً لغيرهم ﴿وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ﴾ أي: مِن خصامك عن الخائنين؛ على أنه ﷺ إنما تكلم على الظاهر وهو يعتقد براءتهم".

وقال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره: "المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الطّاعِنُونَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَإنَّهُ لَوْلا أنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أرادَ أنْ يُخاصِمَ لِأجْلِ الخائِنِ ويَذُبَّ عَنْهُ، وإلّا لَما ورَدَ النَّهْيُ عَنْهُ.

والجَوابُ: أنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لا يَقْتَضِي كَوْنَ المَنهِيِّ فاعِلًا لِلْمَنهِيِّ عَنْهُ، بَلْ ثَبَتَ في الرِّوايَةِ أنَّ قَوْمَ طُعْمَةَ لَمّا التَمَسُوا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ يَذُبَّ عَنْ طُعْمَةَ، وأنْ يُلْحِقَ السَّرِقَةَ بِاليَهُودِيِّ تَوَقَّفَ وانْتَظَرَ الوَحْيَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وكانَ الغَرَضُ مِن هَذا النَّهْيِ تَنْبِيهَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى أنَّ طُعْمَةَ كَذّابٌ، وأنَّ اليَهُودِيَّ بَرِيءٌ عَنْ ذَلِكَ الجُرْمِ.

فَإنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلى أنَّ ذَلِكَ الجُرْمَ قَدْ وقَعَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ . فَلَمّا أمَرَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِغْفارِ دَلَّ عَلى سَبْقِ الذَّنْبِ.

والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:

الأوَّلُ: لَعَلَّهُ مالَ طَبْعُهُ إلى نُصْرَةِ طُعْمَةَ بِسَبَبِ أنَّهُ كانَ في الظّاهِرِ مِنَ المُسْلِمِينَ؛ فَأمَرَ بِالِاسْتِغْفارِ لِهَذا القَدْرِ، وحَسَناتُ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ.

والثّانِي: لَعَلَّ القَوْمَ لَمّا شَهِدُوا عَلى سَرِقَةِ اليَهُودِيِّ، وعَلى بَراءَةِ طُعْمَةَ مِن تِلْكَ السَّرِقَةِ، ولَمْ يَظْهَرْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما يُوجِبُ القَدْحَ في شَهادَتِهِمْ هَمَّ بِأنْ يَقْضِيَ بِالسَّرِقَةِ عَلى اليَهُودِيِّ، ثُمَّ لَمّا أطْلَعَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى كَذِبِ أُولَئِكَ الشُّهُودِ عَرَفَ أنَّ ذَلِكَ القَضاءَ لَوْ وقَعَ لَكانَ خَطَأً، فَكانَ اسْتِغْفارُهُ بِسَبَبِ أنَّهُ هَمَّ بِذَلِكَ الحُكْمِ الَّذِي لَوْ وقَعَ لَكانَ خَطَأً في نَفْسِهِ، وإنْ كانَ مَعْذُورًا عِنْدَ اللَّهِ فِيهِ.

الثّالِثُ: قَوْلُهُ: (واسْتَغْفِرِ اللَّهَ) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: واسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ طُعْمَةَ، ويُرِيدُونَ أنْ يُظْهِرُوا بَراءَتَهُ عَنِ السَّرِقَةِ".

النصّ الخامس: قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].

قال الإمامُ ابن كثير (774 هـ) في تفسيره: "وَقَوْلُهُ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾: هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ – صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ – الَّتِي لا يشاركه فيها غيره. وليس صحيح فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لِغَيْرِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ – صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ – فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ وَالِاسْتِقَامَةِ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ، لَا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنَ الْآخِرِينَ، وَهُوَ أَكْمَلُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".

وقال الإمامُ أبو السعود (982 هـ) في تفسيره: "﴿ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ أيْ: جَمِيعَ ما فَرَطَ مِنكَ مِن تَرْكِ الأوْلى؛ وتَسْمِيَتُهُ ذَنْبًا بِالنَّظَرِ إلى مَنصِبِهِ الجَلِيلِ".

وقال العلاّمةُ الطاهر ابن عاشور (1393 هـ) في تفسيره (التحرير والتنوير): "والمُرادُ بِـ {ما تَقَدَّمَ}: تَعْمِيمُ المَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ كَقَوْلِهِ ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة: 255]، فَلا يَقْتَضِي ذَلِكَ أنَّهُ فَرَطَ مِنهُ ذَنْبٌ أوْ أنَّهُ سَيَقَعُ مِنهُ ذَنْبٌ".

النصّ السادس: يقول تعالى: {وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِیۤ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَیۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِی فِی نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِیهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَیۡدࣱ مِّنۡهَا وَطَرࣰا زَوَّجۡنَـٰكَهَا لِكَیۡ لَا یَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ حَرَجࣱ فِیۤ أَزۡوَ ٰ⁠جِ أَدۡعِیَاۤىِٕهِمۡ إِذَا قَضَوۡا۟ مِنۡهُنَّ وَطَرࣰاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولࣰا} [الأحزاب: 37].

قال الشيخُ العلاّمةُ الدكتور محمد أبو شُهبة (ت 1403هـ): "إبطال ما ورد في قصة السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها:

ومن ذلك: ما ذكره بعض المفسرين في سبب نزول قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}.

فقد رُوِي عن قتادة وابن زيد أن رسول الله ﷺ ذهب إلى بيت زيد في غيبته، فرأى زينب في زِينتها، وفي رواية: أن الريح كشفت عن ستر بيتها، فرآها في حُسنها، فوقع حبُّها في قلبه فرجع وهو يقول: سبحان الله العظيم، سبحان مقلب القلوب. فلما حضر زيد أخبرَتْه بكلام رسول الله، فذهب زيد، وقال: بلغني أنك أتيت منزلي، فهلا دخلت يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك، فأفارقها، فقال له رسول الله: أمسك عليك زوجك، واتق الله، فنزلت الآية. وقد ذُكِر هذا السبب في تفسير الجلالين، وفَسَّر المفسرُ الجلالُ الآيةَ على هذه الرواية، فيقول: وتخفي في نفسك ما الله مبديه: تظهره من محبتها وأن لو فارقها زيد تزوجتها. وذكر مثله الزمخشري، والنسفي، وابن جرير، والثعلبي، وغيرهم؛ إلا أن ابن جرير ذكر بجانب هذا الباطل المدسوس روايةً تتفق مع الواقع والحق. وذِكْرُ مِثلِ هذه الروايات الباطلة – التي ليس لها من شاهد من نقل ولا عقل – غفلة شديدة، وإن كان مَن أبْرَزَ سنَدَه تَبِعَتُهُ أخَفُّ.

وهذه الرواية إنما هي من وَضْع أعداء الدين. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم متهم بالكذب، والتحديث بالغرائب، ورواية الموضوعات. ولم يذكر هذا إلا المفسرون والإخباريون المولعون بنقل كل ما وقع تحت أيديهم من غث أو سمين، ولم يوجد شيء من ذلك في كتب الحديث المعتمدة التي عليها المعول عند الاختلاف؛ والذي جاء في الصحيح يخالف ذلك، وليس فيه هذه الرواية المنكرة، روى البخاري في صحيحه، عن أنس بن مالك، أن هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} نزلت في شأن زينب ابنة جحش، وزيد بن حارثة واقتصر على هذا القدر، وليس فيه شيء من هذا الخلط، وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكر رواية قتادة: "ووردت آثار أخرى، أخرجها ابن أبي حاتم، والطبري، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، وما أوردته هو المعتمد". وهذه شهادة لها قيمتها، والذي أورده هو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن طريق السدي، في هذه القصة، فساقها سياقا واضحا حسنا، ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمُّها أميمة بنت عبد المطلب: عمة رسول الله، وكان رسول الله أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه، فكرهت ذلك، ثم رضيت بما صنع رسول الله، فزوجها إياه؛ ثم أعلم الله عز وجل نبيه بعْدُ، أنها من أزواجه، فكان يستحيي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال بين زيد وزينب ما يكون بين الناس، فأمره رسول الله أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى أن يعيب عليه الناس، ويقولوا: تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيدا. وهو السبب الصحيح.

وروى ابن أبي حاتم أيضا، والطبري – كلٌّ بسنده – عن علي بن الحسين بن علي، قال: أعلم الله نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها، وقال له: "اتق الله، وأمسك عليك زوجك"، قال الله: قد أخبرتك أني مزوِّجُكَها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وقال ابن كثير في تفسيره عند قول الله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}: "ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا أثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنهم صفحًا؛ لعدم صحتها فلا نوردها".

التفسير الصحيح للآية:

وهاك تفسير الآية الذي يساير روحها ونصها، وتشهد له الروايات الصحيحة، وتتجلى فيه حكمة الله العالية؛ ذلك: أن العرب كان من عادتها التبني، وكانت تُلْحِق الابنَ المتبنَّى بالعصبي، وتجري عليه حقوقه في الميراث، وحرمةُ زوجته على من تبناه، وكانت تلك العادة متأصلة في نفوسهم، كما كان كبيرا أن تتزوج بنات الأشراف من مَوالٍ، وإن أعتقوا، وصاروا أحرارا طلقاء، فلما جاء الإسلام، كان من مقاصده: أن يزيل الفوارق بين الناس التي تقوم على العصبية، وحَمِيَّةِ الجاهلية، فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب، وأن يقضي على حرمة زوجة الابن المتبنى، وقد شاء الله أن يكون أول عتيق يتزوج بعربية في الصميم من قريش هو زيد، وأن يكون أول سيد يبطل هذه العادة – حرمة زوجة الابن المتبنى – هو رسول الله، وما على بنات الأشراف أن يتزوجن بعد المولى، وقد قبلت السيدة زينب اقترانها بزيد، وما على سادات العرب أن يتزوجوا بأزواج أدعيائهم، وقد قضَوا منهن وطرا، وأمام المسلمين، ومن يصدع بأمر اللهِ، قد فتح هذا الباب، وتزوج حليلةَ متبناه بعد فراقها، وقد كان كل ما أرد الله، فرسول الله يخطب زينب لزيد، فتأبى، ويأبى بعض أهلها، ويكرر رسول الله الطلب، وينزل الوحي بذلك: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} فلم يبقَ إلا الإذعان من زينب وأهلها، ولكن زيدا وجد منها تعاظما، فيرغب في فراقها، ويستشير الرسول، فينصحه بإمساكها، وكان جبريل قد أخبر رسول الله بأن زينب ستكون زوجة له، وسيبطل الله بزواجه منها هذه العادة، ولكن النبي وجد غضاضة على نفسه أن يأمر زيدا بطلاقها، ويتزوجها من بعد، فتشيع المقالة بين الناس، أن محمدا تزوج حليلة ابنه، وبذلك: يصير عرضة للقيل والقال من أعدائه، وهو في دعوته إلى دين الله أحوج إلى تأييد المؤيدين، فهذا المقدار من خشية الناس حتى أخفى ما أخبره الله به  –وهو نكاحها – هو ما عاتبه الله عليه، وقد صرح الله في كلامه بالسبب الباعث على هذا الزواج فقال: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}، هذا هو التفسير الذي يتفق مع الحق والواقع....

وثَمّةَ حجة دامغة تذهب بالقصة من أساسها، فالسيدة زينب هي: بنت أميمة بنت عبد المطلب، بنت عمة رسول الله، وقد ربيت على عينه، وشهدها وهي تحبو، ثم وهي شابة، وله بحكم صلة القرابة معرفة بها، وبمفاتنها، ولا سيما: والنساء كن يبدين من محاسنهن ما حرم الإسلام منه بعد، وهو الذي خطبها على زيد مولاه، وكرر الطلب، حتى استجيب له، روى ابن مردويه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ لزينب: إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة، فإني قد رضيته لك، قالت: لكني لا أرضاه لنفسي، وأنا أيم قومي، وبنت عمتك، فنزلت الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} قالت: قد أطعتك، فاصنع ما شئت. فغير معقول، والحال كما ذكرت، ألا يكون شاهدها، فلو كان يهواها، أو وقعت من قلبه، فأي شيء كان يمنعه من زواجها، وإشارة منه كافية؛ لأن يقدموها له وما ملكت؟ فمثله وهو في الذروة من قريش نسبا وخلقا ودينا، ما كان يُقدَع أنفه". [الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد بن محمد أبو شُهبة، دار الجيل-بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ-1992م، ص323-327].

النصّ السادس: قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِیٍّ أَن یَكُونَ لَهُۥۤ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ یُثۡخِنَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِیدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡیَا وَٱللَّهُ یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ. لَّوۡلَا كِتَـٰبࣱ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمۡ فِیمَاۤ أَخَذۡتُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ} [الأنفال 67-68].

قال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره: "المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: تَمَسَّكَ الطّاعِنُونَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِهَذِهِ الآيَةِ مِن وُجُوهٍ:

الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى﴾ صَرِيحٌ في أنَّ هَذا المَعْنى مَنهِيٌّ عَنْهُ، ومَمْنُوعٌ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ إنَّ هَذا المَعْنى قَدْ حَصَلَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ:

الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّمَن فِیۤ أَیۡدِیكُم مِّنَ ٱلۡأَسۡرَىٰۤ﴾ [الأنْفالِ: 70] .

الثّانِي: أنَّ الرِّوايَةَ الَّتِي ذَكَرْناها قَدْ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما قَتَلَ أُولَئِكَ الكُفّارَ، بَلْ أسَرَهم، فَكانَ الذَّنْبُ لازِمًا مِن هَذا الوَجْهِ.

الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى أمَرَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وجَمِيعَ قَوْمِهِ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ الكُفّارِ وهو قَوْلُهُ: ﴿فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ واضْرِبُوا مِنهم كُلَّ بَنانٍ﴾ [الأنْفالِ: 12] وظاهِرُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَلَمّا لَمْ يَقْتُلُوا بَلْ أسَرُوا كانَ الأسْرُ مَعْصِيَةً.

الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَكَمَ بِأخْذِ الفِداءِ، وكانَ أخْذُ الفِداءِ مَعْصِيَةً، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ:

الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ المُرادَ مِن عَرَضِ الدُّنْيا هَهُنا هو أخْذُ الفِداءِ".

والثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكم فِيما أخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿أخَذْتُمْ﴾ ذَلِكَ الفِداءُ.

الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وأبا بَكْرٍ بَكَيا، وصَرَّحَ الرَّسُولُ ﷺ أنَّهُ إنَّما بَكى لِأجْلِ أنَّهُ حَكَمَ بِأخْذِ الفِداءِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ذَنْبٌ.

الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنَّ العَذابَ قَرُبَ نُزُولُهُ ولَوْ نَزَلَ لَما نَجا مِنهُ إلّا عُمَرُ»، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى الذَّنْبِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ وُجُوهِ تَمَسُّكِ القَوْمِ بِهَذِهِ الآيَةِ.

والجَوابُ عَنِ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ أوَّلًا: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ في الأرْضِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ الأسْرُ مَشْرُوعًا، ولَكِنْ بِشَرْطِ سَبْقِ الإثْخانِ في الأرْضِ، والمُرادُ بِالإثْخانِ هو القَتْلُ والتَّخْوِيفُ الشَّدِيدُ، ولا شَكَّ أنَّ الصَّحابَةَ قَتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ خَلْقًا عَظِيمًا، ولَيْسَ مِن شَرْطِ الإثْخانِ في الأرْضِ قَتْلُ جَمِيعِ النّاسِ، ثُمَّ إنَّهم بَعْدَ القَتْلِ الكَثِيرِ أسَرُوا جَماعَةً، والآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ بَعْدَ الإثْخانِ يَجُوزُ الأسْرُ فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً دَلالَةً بَيِّنَةً عَلى أنَّ ذَلِكَ الأسْرَ كانَ جائِزًا بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الآيَةِ في أنَّ ذَلِكَ الأسْرَ كانَ ذَنْبًا ومَعْصِيَةً؟ ويَتَأكَّدُ هَذا الكَلامُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا أثْخَنْتُمُوهم فَشُدُّوا الوَثاقَ فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً﴾ [مُحَمَّدٍ: 4] .

فَإنْ قالُوا: فَعَلى ما شَرَحْتُمُوهُ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ ذَلِكَ الأسْرَ كانَ جائِزًا، والإتْيانُ بِالجائِزِ المَشْرُوعِ لا يَلِيقُ تَرْتِيبُ العِقابِ عَلَيْهِ، فَلِمَ ذَكَرَ اللَّهُ بَعْدَهُ ما يَدُلُّ عَلى العِقابِ؟ فَنَقُولُ: الوَجْهُ فِيهِ أنَّ الإثْخانَ في الأرْضِ لَيْسَ مَضْبُوطًا بِضابِطٍ مَعْلُومٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ المَقْصُودُ مِنهُ إكْثارُ القَتْلِ بِحَيْثُ يُوجِبُ وُقُوعَ الرُّعْبِ في قُلُوبِ الكافِرِينَ، وأنْ لا يَجْتَرِئُوا عَلى مُحارَبَةِ المُؤْمِنِينَ، وبُلُوغُ القَتْلِ إلى هَذا الحَدِّ المُعَيَّنِ لا شَكَّ أنَّهُ يَكُونُ مُفَوَّضًا إلى الِاجْتِهادِ، فَلَعَلَّهُ غَلَبَ عَلى ظَنِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ ذَلِكَ القَدْرَ مِنَ القَتْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ كَفى في حُصُولِ هَذا المَقْصُودِ، مَعَ أنَّهُ ما كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَكانَ هَذا خَطَأً واقِعًا في الِاجْتِهادِ في صُورَةٍ لَيْسَ فِيها نَصٌّ، وحَسَناتُ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ، فَحَسُنَ تَرْتِيبُ العِقابِ عَلى ذِكْرِ هَذا الكَلامِ لِهَذا السَّبَبِ، مَعَ أنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ البَتَّةَ ذَنْبًا ولا مَعْصِيَةً.

والجَوابُ عَنِ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ثانِيًا أنْ نَقُولَ: إنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ﴾ أنَّ هَذا الخِطابَ إنَّما كانَ مَعَ الصَّحابَةِ لِإجْماعِ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كانَ مَأْمُورًا أنْ يُباشِرَ قَتْلَ الكُفّارِ بِنَفْسِهِ، وإذا كانَ هَذا الخِطابُ مُخْتَصًّا بِالصَّحابَةِ، فَهم لَمّا تَرَكُوا القَتْلَ وأقْدَمُوا عَلى الأسْرِ، كانَ الذَّنْبُ صادِرًا مِنهم لا مِنَ الرَّسُولِ ﷺ. ونُقِلَ أنَّ الصَّحابَةَ لَمّا هَزَمُوا الكُفّارَ وقَتَلُوا مِنهم جَمْعًا عَظِيمًا، والكُفّارُ فَرُّوا ذَهَبَ الصَّحابَةُ خَلْفَهم وتَباعَدُوا عَنِ الرَّسُولِ وأسَرُوا أُولَئِكَ الأقْوامَ، ولَمْ يَعْلَمِ الرَّسُولُ بِإقْدامِهِمْ عَلى الأسْرِ إلّا بَعْدَ رُجُوعِ الصَّحابَةِ إلى حَضْرَتِهِ، وهو عَلَيْهِ السَّلامُ ما أسَرَ وما أمَرَ بِالأسْرِ، فَزالَ هَذا السُّؤالُ.

فَإنْ قالُوا: هَبْ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ، لَكِنَّهم لَمّا حَمَلُوا الأُسارى إلى حَضْرَتِهِ فَلِمَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِمُ امْتِثالًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ﴾.

قُلْنا: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاضْرِبُوا﴾ تَكْلِيفٌ مُخْتَصُّ بِحالَةِ الحَرْبِ عِنْدَ اشْتِغالِ الكُفّارِ بِالحَرْبِ، فَأمّا بَعْدَ انْقِضاءِ الحَرْبِ فَهَذا التَّكْلِيفُ ما كانَ مُتَناوِلًا لَهُ، والدَّلِيلُ القاطِعُ عَلَيْهِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ اسْتَشارَ الصَّحابَةَ في أنَّهُ بِماذا يُعامِلُهم، ولَوْ كانَ ذَلِكَ النَّصُّ مُتَناوِلًا لِتِلْكَ الحالَةِ، لَكانَ مَعَ قِيامِ النَّصِّ القاطِعِ تارِكًا لِحُكْمِهِ وطالِبًا ذَلِكَ الحُكْمَ مِن مُشاوَرَةِ الصَّحابَةِ، وذَلِكَ مُحالٌ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ﴾ أمْرٌ، والأمْرُ لا يُفِيدُ إلّا المَرَّةَ الواحِدَةَ، وثَبَتَ بِالإجْماعِ أنَّ هَذا المَعْنى كانَ واجِبًا حالَ المُحارَبَةِ فَوَجَبَ أنْ يَبْقى عَدِيمَ الدَّلالَةِ عَلى ما وراءَ وقْتِ المُحارَبَةِ، وهَذا الجَوابُ شافٍ.

والجَوابُ عَمّا ذَكَرُوهُ ثالِثًا، وهو قَوْلُهم: إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حَكَمَ بِأخْذِ الفِداءِ، وأخْذُ الفِداءِ مُحَرَّمٌ، فَنَقُولُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ أخْذَ الفِداءِ مُحَرَّمٌ.

وأمّا قَوْلُهُ: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ فَنَقُولُ: هَذا لا يَدُلُّ عَلى قَوْلِكم، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ:

الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الآيَةِ حُصُولُ العِتابِ عَلى الأسْرِ لِغَرَضِ أخْذِ الفِداءِ، وذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى أنَّ أخْذَ الفِداءِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا.

الثّانِي: أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: الأوْلى أنْ نَأْخُذَ الفِداءَ لِتَقْوى العَسْكَرُ بِهِ عَلى الجِهادِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهم إنَّما طَلَبُوا ذَلِكَ الفِداءَ لِلتَّقَوِّي بِهِ عَلى الدِّينِ، وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى ذَمِّ مَن طَلَبَ الفِداءَ لِمَحْضِ عَرَضِ الدُّنْيا ولا تَعَلُّقَ لِأحَدِ البابَيْنِ بِالثّانِي، وهَذانِ الجَوابانِ بِعَيْنِهِما هُما الجَوابانِ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكم فِيما أخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾.

والجَوابُ عَمّا ذَكَرُوهُ رابِعًا: أنَّ بُكاءَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِأجْلِ أنَّ بَعْضَ الصَّحابَةِ لَمّا خالَفَ أمْرَ اللَّهِ في القَتْلِ، واشْتَغَلَ بِالأسْرِ اسْتَوْجَبَ العَذابَ، فَبَكى الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خَوْفًا مِن نُزُولِ العَذابِ عَلَيْهِمْ، ويُحْتَمَلُ أيْضًا ما ذَكَرْناهُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ اجْتَهَدَ في أنَّ القَتْلَ الَّذِي حَصَلَ هَلْ بَلَغَ مَبْلَغَ الإثْخانِ الَّذِي أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿حَتّى يُثْخِنَ في الأرْضِ﴾ ووَقَعَ الخَطَأُ في ذَلِكَ الِاجْتِهادِ، وحَسَناتُ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ، فَأقْدَمَ عَلى البُكاءِ لِأجْلِ هَذا المَعْنى.

والجَوابُ عَمّا ذَكَرُوهُ خامِسًا: أنَّ ذَلِكَ العَذابَ إنَّما نَزَلَ بِسَبَبِ أنَّ أُولَئِكَ الأقْوامَ خالَفُوا أمْرَ اللَّهِ بِالقَتْلِ، وأقْدَمُوا عَلى الأسْرِ حالَ ما وجَبَ عَلَيْهِمُ الِاشْتِغالُ بِالقَتْلِ، فَهَذا تَمامُ الكَلامِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ".

النصّ السابع: قال تعالى: {عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ} [التوبة: 43].

قال القاضي عياض (ت 544 هـ): "وَأَمَّا قَوْلُهُ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، فَأَمْرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَهْيٌ فَيُعَدُّ معصية..

ولا عَدّهُ الله تعالى مَعْصِيَةً.. بَلْ لَمْ يَعُدَّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مُعَاتَبَةً وَغَلَّطُوا مَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ.

قَالَ نِفْطَوَيْهِ: وَقَدْ حَاشَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ.. بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَمْرَيْنِ.

قَالُوا: وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ.. فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ الله تعالى: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ سِرِّهِمْ.. أَنَّهُ لَوْ لَمْ يأذن لَقَعَدُوا وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَ.

وليس {عفا} هنا بمعنى غفر.. بل قال النبي ﷺ: «عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ قَطُّ، أَيْ: لَمْ يُلْزِمْكُمْ ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ لِلْقُشَيْرِيِّ قَالَ: «وَإِنَّمَا يَقُولُ (الْعَفْو) لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ مَنْ لَمْ يعرف كلام العرب قال: وَمَعْنَى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} ،أَيْ: لَمْ يُلْزِمْكَ ذنبا».

قال الداودي: «روي أنها كانت تكرمه».

قال مَكِّيٌّ: «هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ مِثْلَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، وَأَعَزَّكَ» وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ: «أَنَّ مَعْنَاهُ: عَافَاكَ اللَّهُ..»". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء – عمان، الطبعة الثانية – 1407 هـ، ج2 ص360-361].

وقال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَفا الله عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الكاذِبِينَ﴾.

اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ﴾ أنَّهُ تَخَلَّفَ قَوْمٌ مِن ذَلِكَ الغَزْوِ، ولَيْسَ فِيهِ بَيانُ أنَّ ذَلِكَ التَّخَلُّفَ، كانَ بِإذْنِ الرَّسُولِ أمْ لا. فَلَمّا قالَ بَعْدَهُ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ دَلَّ هَذا عَلى أنَّ فِيهِمْ مَن تَخَلَّفَ بِإذْنِهِ وفِيهِ مَسائِلُ:

المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ بَعْضُهم بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى صُدُورِ الذَّنْبِ عَنِ الرَّسُولِ مِن وجْهَيْنِ:

الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾ والعَفْوُ يَسْتَدْعِي سابِقَةَ الذَّنْبِ.

والثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ وهَذا اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى الإنْكارِ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ ذَلِكَ الإذْنَ كانَ مَعْصِيَةً وذَنْبًا.

قالَ قَتادَةُ وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: اثْنانِ فَعَلَهُما الرَّسُولُ، لَمْ يُؤْمَرْ بِشَيْءٍ فِيهِما، إذْنُهُ لِلْمُنافِقِينَ، وأخْذُهُ الفِداءَ مِنَ الأسارى، فَعاتَبَهُ اللَّهُ كَما تَسْمَعُونَ.

والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: لا نُسَلِّمُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾ يُوجِبُ الذَّنْبَ؛ ولِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى مُبالَغَةِ اللَّهِ في تَعْظِيمِهِ وتَوْقِيرِهِ، كَما يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ إذا كانَ مُعَظَّمًا عِنْدَهُ: عَفا اللَّهُ عَنْكَ ما صَنَعْتَ في أمْرِي؟ ورَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، ما جَوابُكَ عَنْ كَلامِي؟ وعافاكَ اللَّهُ ما عَرَفْتَ حَقِّي! فَلا يَكُونُ غَرَضُهُ مِن هَذا الكَلامِ، إلّا مَزِيدَ التَّبْجِيلِ والتَّعْظِيمِ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ الجَهْمِ فِيما يُخاطِبُ بِهِ المُتَوَكِّلَ، وقَدْ أمَرَ بِنَفْيِهِ:

عَفا اللَّهُ عَنْكَ ألا حُرْمَةٌ تَعُودُ بِعَفْوِكَ أنْ أُبْعَدا

ألَمْ تَرَ عَبْدًا عَدا طَوْرَهُ ∗∗∗ ومَوْلًى عَفا ورَشِيدًا هَدى

أقِلْنِي أقالَكَ مَن لَمْ يَزَلْ ∗∗∗ يَقِيكَ ويَصْرِفُ عَنْكَ الرَّدى

والجَوابُ عَنِ الثّانِي أنْ نَقُولَ: لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ الإنْكارُ؛ لِأنّا نَقُولُ: إمّا أنْ يَكُونَ صَدَرَ عَنِ الرَّسُولِ ذَنْبٌ في هَذِهِ الواقِعَةِ أوْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ ذَنْبٌ، فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ ما صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ، امْتَنَعَ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ إنْكارًا عَلَيْهِ، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ كانَ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ، فَقَوْلُهُ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ العَفْوِ عَنْهُ، وبَعْدَ حُصُولِ العَفْوِ عَنْهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَتَوَجَّهَ الإنْكارُ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أنَّهُ عَلى جَمِيعِ التَّقادِيرِ يَمْتَنِعُ أنْ يُقالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ الرَّسُولِ مُذْنِبًا، وهَذا جَوابٌ شافٍ قاطِعٌ، وعِنْدَ هَذا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ عَلى تَرْكِ الأوْلى والأكْمَلِ، لا سِيَّما وهَذِهِ الواقِعَةُ كانَتْ مِن جِنْسِ ما يَتَعَلَّقُ بِالحُرُوبِ ومَصالِحِ الدُّنْيا".

النّصُّ الثامن: قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰۤ. أَن جَاۤءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ. وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّهُۥ یَزَّكَّىٰۤ. أَوۡ یَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكۡرَىٰۤ. أَمَّا مَنِ ٱسۡتَغۡنَىٰ. فَأَنتَ لَهُۥ تَصَدَّىٰ. وَمَا عَلَیۡكَ أَلَّا یَزَّكَّىٰ. وَأَمَّا مَن جَاۤءَكَ یَسۡعَىٰ. وَهُوَ یَخۡشَىٰ. فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ} [عبس: 1-10].

قال القاضي عياض (544 هـ): "وَأَمَّا قَوْله {عَبَسَ وَتَوَلَّى} الآيات، فَلَيْس فِيه إثْبَاتُ ذَنْب لَه ﷺ؛ بَل إعْلَامُ اللهِ أَنّ ذَلِك المُتَصَدِّي لَه مِمَّن لَا يَتَزَكَّى، وأن الصَّوَاب وَالأوْلَى كَانَ – لَو كُشِف لَك حَالُ الرَّجُلَيْن – الإقْبَال عَلَى الأعْمَى. وَفِعْل النَّبِيّ ﷺ لِمَا فَعَل، وَتَصَدّيه لِذاك الكافر، كان طَاعَةً لله وتَبْلِيغًا عَنْه وَاسْتِئْلَافًا لَه، كَمَا شَرَعَه اللهُ لَه، لَا مَعْصِيَةً، وَلا مُخَالَفَةً لَه. وَمَا قَصَّهُ اللهُ عَلَيْه من ذَلِك إعْلَامٌ بِحال الرَّجُلَيْن وتَوْهِينُ أمْر الكافر عِنْدَه، وَالإشَارَةُ إِلَى الإعْرَاض عَنْه، بِقَوْلِه: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى (مذيلا بالحاشية المسماة مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء)، أبو الفضل القاضي عياض، دار الفكر، 1409 هـ - 1988 م، ج2 ص161].

وقال الإمامُ القرطبي (671 هـ) في تفسيره: "قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَا فَعَلَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجُو إِسْلَامَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاتَبَهُ حَتَّى لَا تَنْكَسِرَ قُلُوبُ أَهْلِ الصُّفَّةِ، أَوْ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ خَيْرٌ مِنَ الْغَنِيِّ".

النّصُّ التاسع: قال تعالى: {وَإِمَّا یَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ نَزۡغࣱ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ سَمِیعٌ عَلِیمٌ} [الأعراف: 200].

قال ابن جرير الطبري (310 هـ) في تفسيره: "يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿وإما ينزغنك من الشيطان نزغ﴾، وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدُّك عن الإعراض عن الجاهلين، ويحملك على مجازاتهم. ﴿فاستعذ بالله﴾ ، يقول: فاستجر بالله من نزغه".

وقال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره: "المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ الطّاعِنُونَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ بِهَذِهِ الآيَةِ وقالُوا: لَوْلا أنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الرَّسُولِ الإقْدامُ عَلى المَعْصِيَةِ أوِ الذَّنْبِ، وإلّا لَمْ يَقُلْ لَهُ: ﴿وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ .

والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:

الأوَّلُ: أنَّ حاصِلَ هَذا الكَلامِ أنَّهُ تَعالى قالَ لَهُ: إنْ حَصَلَ في قَلْبِكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ، كَما أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزُّمَرِ: 65] ولَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ أشْرَكَ.

وقالَ: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنْبِياءِ: 22] ولَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ حَصَلَ فِيهِما آلِهَةٌ.

الثّانِي: هَبْ أنّا سَلَّمْنا أنَّ الشَّيْطانَ يُوَسْوِسُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ، إلّا أنَّ هَذا لا يَقْدَحُ في عِصْمَتِهِ، إنَّما القادِحُ في عِصْمَتِهِ لَوْ قَبِلَ الرَّسُولُ وسْوَسَتَهُ، والآيَةُ لا تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ. عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما مِن إنْسانٍ إلّا ومَعَهُ شَيْطانٌ“ قالُوا: وأنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: وأنا ولَكِنَّهُ أسْلَمَ بِعَوْنِ اللَّهِ، فَلَقَدْ أتانِي فَأخَذْتُ بِحَلْقِهِ، ولَوْلا دَعْوَةُ سُلَيْمانَ لَأصْبَحَ في المَسْجِدِ طَرِيحًا». وهَذا كالدَّلالَةِ عَلى أنَّ الشَّيْطانَ يُوَسْوِسُ إلى الرَّسُولِ ﷺ، وقالَ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلّا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحَجِّ: 52] .

الثّالِثُ: هَبْ أنّا سَلَّمْنا أنَّ الشَّيْطانَ يُوَسْوِسُ وأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَقْبَلُ أثَرَ وسْوَسَتِهِ، إلّا أنّا نَخُصُّ هَذِهِ الحالَةَ بِتَرْكِ الأفْضَلِ والأوْلى، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «وإنَّهُ لَيُغانُ عَلى قَلْبِي وإنِّي لَأسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً».

المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الِاسْتِعاذَةُ بِاللَّهِ عِنْدَ هَذِهِ الحالَةِ أنْ يَتَذَكَّرَ المَرْءُ عَظِيمَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وشَدِيدَ عِقابِهِ فَيَدْعُوهُ كُلُّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ إلى الإعْراضِ عَنْ مُقْتَضى الطَّبْعِ والإقْبالِ عَلى أمْرِ الشَّرْعِ.

المَسْألَةُ الخامِسَةُ: هَذا الخِطابُ وإنْ خَصَّ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ إلّا أنَّهُ تَأْدِيبٌ عامٌّ لِجَمِيعِ المُكَلَّفِينَ؛ لِأنَّ الِاسْتِعاذَةَ بِاللَّهِ عَلى السَّبِيلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ لُطْفٌ مانِعٌ مِن تَأْثِيرِ وساوِسِ الشَّيْطانِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٩٨] وإذا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أنَّ لِهَذِهِ الِاسْتِعاذَةِ أثَرًا في دَفْعِ نَزْغِ الشَّيْطانِ وجَبَتِ المُواظَبَةُ عَلَيْهِ في أكْثَرِ الأحْوالِ".

وقال العلاّمةُ الطاهر ابن عاشور (1393 هـ) في تفسيره (التحرير والتنوير): "والمَعْنى إنْ ألْقى إلَيْكَ الشَّيْطانُ ما يُخالِفُ هَذا الأمْرَ بِأنْ سَوَّلَ لَكَ الأخْذَ بِالمُعاقَبَةِ أوْ سَوَّلَ لَكَ تَرْكَ أمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ غَضَبًا عَلَيْهِمْ أوْ يَأْسًا مِن هُداهم، فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنهُ لِيَدْفَعَ عَنْكَ حَرَجَهُ ويَشْرَحَ صَدْرَكَ لِمَحَبَّةِ العَمَلِ بِما أُمِرْتَ بِهِ...

فَأمَرَ اللَّهُ بِدَفْعِ وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ بِالعَوْذِ بِاللَّهِ، والعَوْذُ بِاللَّهِ هو الِالتِجاءُ إلَيْهِ بِالدُّعاءِ بِالعِصْمَةِ، أوِ اسْتِحْضارُ ما حَدَّدَهُ اللهُ لَهُ مِن حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وهَذا أمْرٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ عَلى الِالتِجاءِ إلى اللهِ فِيما عَسُرَ عَلَيْهِ، فَإنَّ ذَلِكَ شُكْرٌ عَلى نِعْمَةِ الرِّسالَةِ والعِصْمَةِ، فَإنَّ العِصْمَةَ مِنَ الذُّنُوبِ حاصِلَةٌ لَهُ، ولَكِنَّهُ يَشْكُرُ اللهَ بِإظْهارِ الحاجَةِ إلَيْهِ لِإدامَتِها عَلَيْهِ، وهَذا مِثْلُ اسْتِغْفارِ الرَّسُولِ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ – في قَوْلِهِ في حَدِيثِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ «إنَّهُ لَيُغانُ عَلى قَلْبِي فَأسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَوْمِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً». فالشَّيْطانُ لا يَيْأسُ مِن إلْقاءِ الوَسْوَسَةِ لِلْأنْبِياءِ لِأنَّها تَنْبَعِثُ عَنْهُ بِطَبْعِهِ، وإنَّما يَتَرَصَّدُ لَهم مَواقِعَ خَفاءِ مَقْصِدِهِ طَمَعًا في زَلَّةٍ تَصْدُرُ عَنْ أحَدِهِمْ، وإنْ كانَ قَدْ عَلِمَ أنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ إغْواءَهم، ولَكِنَّهُ لا يُفارِقُ رَجاءَ حَمْلِهِمْ عَلى التَّقْصِيرِ في مَراتِبِهِمْ، ولَكِنَّهُ إذا ما هَمَّ بِالوَسْوَسَةِ شَعَرُوا بِها فَدَفَعُوها، ولِذَلِكَ عَلَّمَ اللهُ رَسُولَهُ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ – الِاسْتِعانَةَ عَلى دَفْعِها بِاللَّهِ تَعالى".

النّصُّ العاشر: قال تعالى: {وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولࣲ وَلَا نَبِیٍّ إِلَّاۤ إِذَا تَمَنَّىٰۤ أَلۡقَى ٱلشَّیۡطَـٰنُ فِیۤ أُمۡنِیَّتِهِۦ فَیَنسَخُ ٱللَّهُ مَا یُلۡقِی ٱلشَّیۡطَـٰنُ ثُمَّ یُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَایَـٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ} [الحج: 52].

قال أبو حيان (745 هـ) في تفسيره «البحر المحيط»: "وهَذِهِ الآيَةُ لَيْسَ فِيها إسْنادُ شَيْءٍ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إنَّما تَضَمَّنَتْ حالَةَ مَن كانَ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ إذا تَمَنَّوْا.

وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في كُتُبِهِمُ ابْنُ عَطِيَّةَ والزَّمَخْشَرِيُّ فَمَن قَبْلَهُما ومَن بَعْدَهُما ما لا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِن آحادِ المُؤْمِنِينَ مَنسُوبًا إلى المَعْصُومِ صَلَواتِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وأطالُوا في ذَلِكَ وفي تَقْرِيرِهِ سُؤالًا وجَوابًا، وهي قِصَّةٌ سُئِلَ عَنْها الإمامُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ جامِعُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَقالَ: هَذا مِن وضْعِ الزَّنادِقَةِ، وصَنَّفَ في ذَلِكَ كِتابًا. وقالَ الإمامُ الحافِظُ أبُو بَكْرٍ أحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ البَيْهَقِيُّ: هَذِهِ القِصَّةُ غَيْرُ ثابِتَةٍ مِن جِهَةِ النَّقْلِ، وقالَ ما مَعْناهُ: إنَّ رُواتَها مَطْعُونٌ عَلَيْهِمْ ولَيْسَ في الصِّحاحِ ولا في التَّصانِيفِ الحَدِيثِيَّةِ شَيْءٌ مِمّا ذَكَرُوهُ فَوَجَبَ اطِّراحُهُ ولِذَلِكَ نَزَّهْتُ كِتابِي عَنْ ذِكْرِهِ فِيهِ. والعَجَبُ مِن نَقْلِ هَذا وهم يَتْلُونَ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى ﴿وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ. وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ. إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ﴾، وقالَ اللَّهُ تَعالى آمِرًا لِنَبِيِّهِ: ﴿قُلْ ما يَكُونُ لِي أنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ﴾، وقالَ تَعالى: ﴿ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ﴾ الآيَةَ، وقالَ تَعالى: ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ﴾ الآيَةَ، فالتَّثْبِيتُ واقِعٌ والمُقارَبَةُ مَنفِيَّةٌ. وقالَ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ﴾، وقالَ تَعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ وهَذِهِ نُصُوصٌ تَشْهَدُ بِعِصْمَتِهِ، وأمّا مِن جِهَةِ المَعْقُولِ فَلا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأنَّ تَجْوِيزَهُ يَطْرُقُ إلى تَجْوِيزِهِ في جَمِيعِ الأحْكامِ والشَّرِيعَةِ فَلا يُؤْمَنُ فِيها التَّبْدِيلُ والتَّغْيِيرُ، واسْتِحالَةُ ذَلِكَ مَعْلُومَةٌ".

وقال الشيخُ العلاّمةُ محمد الأمين الشنقيطي (1394 هـ) في تفسيره «أضواء البيان»: "وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ قِصَّةَ الغَرانِيقِ قالُوا: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ، فَلَمّا بَلَغَ: ﴿أفَرَأيْتُمُ اللّاتَ والعُزّى ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ [النجم: 19 - 20] ألْقى الشَّيْطانُ عَلى لِسانِهِ: تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلى وإنَّ شَفاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجى، فَلَمّا بَلَغَ آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ وسَجَدَ مَعَهُ المُشْرِكُونَ والمُسْلِمُونَ. وقالَ المُشْرِكُونَ: ما ذَكَرَ آلِهَتَنا بِخَيْرٍ قَبْلَ اليَوْمِ، وشاعَ في النّاسِ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ أسْلَمُوا بِسَبَبِ سُجُودِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، حَتّى رَجَعَ المُهاجِرُونَ مِنَ الحَبَشَةِ ظَنًّا مِنهم أنَّ قَوْمَهم أسْلَمُوا، فَوَجَدُوهم عَلى كُفْرِهِمْ.

وَقَدْ قَدَّمْنا في هَذا الكِتابِ المُبارَكِ أنَّ مِن أنْواعِ البَيانِ الَّتِي تَضَمَّنَها أنْ يَقُولَ بَعْضُ العُلَماءِ في الآيَةِ قَوْلًا، ويَكُونُ في الآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلى بُطْلانِ ذَلِكَ القَوْلِ، ومَثَّلْنا لِذَلِكَ: بِأمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وهَذا القَوْلُ الَّذِي زَعَمَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: وهو أنَّ الشَّيْطانَ ألْقى عَلى لِسانِ النَّبِيِّ ﷺ، هَذا الشِّرْكَ الأكْبَرَ والكُفْرَ البَواحَ الَّذِي هو قَوْلُهم: تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلا وإنَّ شَفاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجى، يَعْنُونَ: اللّاتَ والعُزّى، ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى، الَّذِي لا شَكَّ في بُطْلانِهِ في نَفْسِ سِياقِ آياتِ ”النَّجْمِ“ الَّتِي تَخَلَّلَها إلْقاءُ الشَّيْطانِ المَزْعُومِ قَرِينَةً قُرْآنِيَّةً واضِحَةً عَلى بُطْلانِ هَذا القَوْلِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ بَعْدَ مَوْضِعِ الإلْقاءِ المَزْعُومِ بِقَلِيلٍ قَوْلَهُ تَعالى، في اللّاتِ والعُزّى، ومَناةَ الثّالِثَةِ الأُخْرى: ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [النجم: 23] ولَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَسُبُّ آلِهَتَهم هَذا السَّبَّ العَظِيمَ في سُورَةِ النَّجْمِ مُتَأخِّرًا عَنْ ذِكْرِهِ لَها بِخَيْرٍ المَزْعُومِ، إلّا وغَضِبُوا، ولَمْ يَسْجُدُوا؛ لِأنَّ العِبْرَةَ بِالكَلامِ الأخِيرِ، مَعَ أنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آياتٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلى بُطْلانِ هَذا القَوْلِ، وهي الآياتُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلشَّيْطانِ سُلْطانًا عَلى النَّبِيِّ ﷺ، وإخْوانِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وأتْباعِهِمُ المُخْلِصِينَ كَقَوْلِهِ تَعالى: (إِنَّهُۥ لَیۡسَ لَهُۥ سُلۡطَـٰنٌ عَلَى ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلۡطَـٰنُهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ یَتَوَلَّوۡنَهُۥ وَٱلَّذِینَ هُم بِهِۦ مُشۡرِكُونَ) [النحل 99-100] [النحل: 99 - 100] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الحجر: 42] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِن سُلْطانٍ إلّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ﴾ الآيَةَ [سبإ: 21] وقَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ﴾ الآيَةَ [إبراهيم: 22]، وعَلى القَوْلِ المَزْعُومِ أنَّ الشَّيْطانَ ألْقى عَلى لِسانِهِ ﷺ ذَلِكَ الكُفْرَ البَواحَ، فَأيُّ سُلْطانٍ لَهُ أكْبَرُ مِن ذَلِكَ.

وَمِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى بُطْلانِ ذَلِكَ القَوْلِ المَزْعُومِ قَوْلُهُ تَعالى في النَّبِيِّ ﷺ: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى إنْ هو إلّا وحْيٌ يُوحى﴾ [النجم: 3 -4] وقَوْلُهُ ﴿هَلْ أُنَبِّئُكم عَلى مَن تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ [الشعراء: 221 - 222]، وقَوْلُهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر:9] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41 - 42] فَهَذِهِ الآياتُ القُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلى بُطْلانِ القَوْلِ المَزْعُومِ.

مَسْألَةٌ:

اعْلَمْ: أنَّ مَسْألَةَ الغَرانِيقِ مَعَ اسْتِحالَتِها شَرْعًا، ودَلالَةِ القُرْآنِ عَلى بُطْلانِها لَمْ تَثْبُتْ مِن طَرِيقٍ صالِحٍ لِلِاحْتِجاجِ، وصَرَّحَ بِعَدَمِ ثُبُوتِها خَلْقٌ كَثِيرٌ مِن عُلَماءِ الحَدِيثِ كَما هو الصَّوابُ، والمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ القِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن طَرِيقِ الكَلْبِيِّ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ الكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ، وقَدْ بَيَّنَ البَزّارُ – رَحِمَهُ اللَّهُ –: أنَّها لا تُعْرَفُ مِن طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إلّا طَرِيقَ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وقَعَ في وصْلِهِ، وقَدِ اعْتَرَفَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ انْتِصارِهِ، لِثُبُوتِ هَذِهِ القِصَّةِ بِأنَّ طُرُقَها كُلَّها إمّا مُنْقَطِعَةٌ أوْ ضَعِيفَةٌ إلّا طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

وَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، لَمْ يَرْوِها بِها أحَدٌ مُتَّصِلَةً إلّا أُمَيَّةَ بْنَ خالِدٍ، وهو وإنْ كانَ ثِقَةً فَقَدْ شَكَّ في وصْلِها.

فَقَدْ أخْرَجَ البَزّارُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ أُمَيَّةَ بْنِ خالِدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فِيما أحْسَبُ، ثُمَّ ساقَ حَدِيثَ القِصَّةِ المَذْكُورَةِ، وقالَ البَزّارُ: لا يُرى مُتَّصِلًا إلّا بِهَذا الإسْنادِ، تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خالِدٍ، وهو ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وقالَ البَزّارُ: وإنَّما يُرْوى مِن طَرِيقِ الكَلْبِيِّ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ.

فَتَحَصَّلَ أنَّ قِصَّةَ الغَرانِيقِ، لَمْ تَرِدْ مُتَّصِلَةً إلّا مِن هَذا الوَجْهِ الَّذِي شَكَّ راوِيهِ في الوَصْلِ، ومَعْلُومٌ أنَّ ما كانَ كَذَلِكَ لا يُحْتَجُّ بِهِ لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، ولِذا قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: إنَّهُ لَمْ يَرَها مُسْنَدَةً مِن وجْهٍ صَحِيحٍ.

وَقالَ الشَّوْكانِيُّ في هَذِهِ القِصَّةِ: ولَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِن هَذا، ولا يَثْبُتُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ومَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ، بَلْ بُطْلانِهِ فَقَدْ دَفَعَهُ المُحَقِّقُونَ بِكِتابِ اللَّهِ؛

  • كَقَوْلِهِ ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ﴾ الآيَةَ [الحاقة: 44]
  • وقَوْلِهِ ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ الآيَةَ [النجم: 3]،
  • وقَوْلِهِ ﴿وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 74]

فَنَفى المُقارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكانِيُّ عَنِ البَزّارِ أنَّها لا تُرْوى بِإسْنادٍ مُتَّصِلٍ، وعَنِ البَيْهَقِيِّ أنَّهُ قالَ: هي غَيْرُ ثابِتَةٍ مِن جِهَةِ النَّقْلِ، وذَكَرَ عَنْ إمامِ الأئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مِن وضْعِ الزَّنادِقَةِ وأبْطَلَها ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيُّ، والفَخْرُ الرّازِيُّ وجَماعاتٌ كَثِيرَةٌ، وقِراءَتُهُ ﷺ سُورَةَ النَّجْمِ وسُجُودُ المُشْرِكِينَ ثابِتٌ في الصَّحِيحِ، ولَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِن قِصَّةِ الغَرانِيقِ، وعَلى هَذا القَوْلِ الصَّحِيحِ وهو أنَّها باطِلَةٌ فَلا إشْكالَ".

هذا، ولقد أبطل (قصة الغرانيق) العلاّمةُ الدكتور محمد أبو شَهْبَة في كتابه (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير)، ورَدّ على ابن حجر العسقلاني الذي صحّحَها.

النّصُّ الحادي عشر: قال تعالى: {وَإِن كَادُوا۟ لَیَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ لِتَفۡتَرِیَ عَلَیۡنَا غَیۡرَهُۥۖ وَإِذࣰا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِیلࣰا. وَلَوۡلَاۤ أَن ثَبَّتۡنَـٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَیۡهِمۡ شَیۡـࣰٔا قَلِيلًا. إِذࣰا لَّأَذَقۡنَـٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَیَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَیۡنَا نَصِیرࣰا} [الإسراء: 73-75].

قال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره: "المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ الطّاعِنُونَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ – عَلَيْهِمُ السَّلامُ – بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى صُدُورِ الذَّنْبِ العَظِيمِ عَنْهم مِن وُجُوهٍ:

الأوَّلُ: أنَّ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَرُبَ مِن أنْ يَفْتَرِيَ عَلى اللَّهِ، والفِرْيَةُ عَلى اللَّهِ مِن أعْظَمِ الذُّنُوبِ.

والثّانِي: أنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَوْلا أنَّ اللَّهَ تَعالى ثَبَّتَهُ وعَصَمَهُ لَقَرُبَ مِن أنْ يَرْكَنَ إلى دِينِهِمْ ويَمِيلَ إلى مَذْهَبِهِمْ.

والثّالِثُ: أنَّهُ لَوْلا سَبْقُ جُرْمٍ وجِنايَةٍ وإلّا فَلا حاجَةَ إلى ذِكْرِ هَذا الوَعِيدِ الشَّدِيدِ.

والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ كادَ مَعْناهُ المُقارَبَةُ فَكانَ مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ قَرُبَ وُقُوعُهُ في الفِتْنَةِ، وهَذا القَدْرُ لا يَدُلُّ عَلى الوُقُوعِ في تِلْكَ الفِتْنَةِ، فَإنّا إذا قُلْنا كادَ الأمِيرُ أنْ يَضْرِبَ فُلانًا لا يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ ضَرَبَهُ.

والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنَّ كَلِمَةَ لَوْلا تُفِيدُ انْتِفاءَ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ، تَقُولُ لَوْلا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ، مَعْناهُ أنَّ وُجُودَ عَلِيٍّ مَنَعَ مِن حُصُولِ الهَلاكِ لِعُمْرَ، فَكَذَلِكَ هَهُنا قَوْلُهُ: ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ حَصَلَ تَثْبِيتُ اللَّهِ تَعالى لِمُحَمَّدٍ ﷺ فَكانَ حُصُولُ ذَلِكَ التَّثْبِيتِ مانِعًا مِن حُصُولِ ذَلِكَ الرُّكُونِ.

والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ: أنَّ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ عَلى المَعْصِيَةِ لا يَدُلُّ عَلى الإقْدامِ عَلَيْها والدَّلِيلُ عَلَيْهِ آياتٌ، مِنها قَوْلُهُ: ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَیۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِیلِ. لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡیَمِینِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتِينَ﴾، ومِنها قَوْلُهُ: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾، ومِنها قَوْلُهُ: ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ﴾".

ثمَّ قال في المَسْألَة الخامِسَة: "قالَ القَفّالُ – رَحِمَهُ اللَّهُ –: قَدْ ذَكَرْنا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الوُجُوهَ المَذْكُورَةَ، ويُمْكِنُ أيْضًا تَأْوِيلُها مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسَبَبٍ يُضافُ نُزُولُها فِيهِ؛ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَسْعَوْنَ في إبْطالِ أمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأقْصى ما يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَتارَةً كانُوا يَقُولُونَ: إنْ عَبَدْتَ آلِهَتَنا عَبَدْنا إلَهَكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلۡ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡكَـٰفِرُونَ. لَاۤ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ وقَوْلَهُ: ﴿ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ وعَرَضُوا عَلَيْهِ الأمْوالَ الكَثِيرَةَ والنِّسْوانَ الجَمِيلَةَ لِيَتْرُكَ ادِّعاءَ النُّبُوَّةِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ ودَعَوْهُ إلى طَرْدِ المُؤْمِنِينَ عَنْ نَفْسِهِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى قَوْلَهُ: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ فَيَجُوزُ أنَّ تَكُونَ هَذِهِ الآياتُ نَزَلَتْ في هَذا البابِ، وذَلِكَ أنَّهم قَصَدُوا أنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ وأنْ يُزِيلُوهُ عَنْ مَنهَجِهِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ يُثَبِّتُهُ عَلى الدِّينِ القَوِيمِ والمَنهَجِ المُسْتَقِيمِ، وعَلى هَذا الطَّرِيقِ فَلا حاجَةَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآياتِ إلى شَيْءٍ مِن تِلْكَ الرِّواياتِ".

وقال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ الآية: سببها أن قريشاً قالوا للنبي ﷺ: اِقْبَلْ بعض أمرنا ونقبل بعض أمرك، وقيل: إن ثقيفاً طلبوا من النبي ﷺ أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات والعزى، والآية على هذا القول مدنية ﴿لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ﴾ الافتراء هنا يراد به المخالفة لما أوحى إليه من القرآن وغيره ﴿وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾ أي لو فعلت ما أرادوا منك لاتخذوك خليلاً ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ لولا تدل على امتناع شيء لوجود غيره، فدلت هنا على امتناع مقاربة النبي ﷺ الركون إليهم لأجل تثبيت الله له وعصمته، و{كدت} تقتضي نفي الركون، لأن معنى كاد فلان يفعل كذا أي: إنه لم يفعله فانتفى الركون إليهم ومقاربته، فليس في ذلك نقص من جانب النبي ﷺ، لأن التثبيت منعه من مقاربة الركون، ولو لم يثبته الله لكانت مقاربته للركون إليهم شيئاً قليلاً، وأما منع التثبيت فلم يركن قليلاً ولا كثيراً، ولا قارب ذلك ﴿إِذاً لأذَقْنَٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَٰوةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ﴾ أي عذابهما لو فعل ذلك".

فائدة: قال الطبري (ت 310 هـ) عند تفسيره للآية 71 من سورة البقرة: "وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ كَادَ أَوْ كَادُوا أَوْ لَوْ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {أَكَادُ أُخْفِيهَا}".

النّصُّ الثاني عشر والثالث عشر: اللذان ورد فيهما دخولُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ، ودخولِه بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ ونَوْمِه عَلَى فِرَاشِهَا:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا وَلَيْسَتْ فِيهِ قَالَ فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهَا فَأُتِيَتْ فَقِيلَ لَهَا هَذَا النَّبِيُّ ﷺ نَامَ فِي بَيْتِكِ عَلَى فِرَاشِكِ قَالَ فَجَاءَتْ وَقَدْ عَرِقَ وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ عَلَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا فَفَزِعَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ مَا تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا قَالَ أَصَبْتِ. [رواه مسلم].

وعنه – أيضاً –، أنه قال: "كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يَدْخُلُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِ إِلَّا أُمِّ سُلَيْمٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي". [متفق عليه].

وقال في حديث آخر: "كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَطْعَمَتْهُ وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ – شَكَّ إِسْحَاقُ – قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ، فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَا قَالَ فِي الأَوَّلِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: أَنْتِ مِنْ الأَوَّلِينَ. فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ". [رواه البخاري ومسلم].

زعمَ بعضُ النّاسِ أنّ في هذه الأحاديثِ دليلاً على أنّ النَّبِيَّ ﷺ لمْ يكن معصوماً من الذنوب والخطايا؛ لأنَّه كان لا يتحرّج من الخَلوة بالنساء غير المحارِم والسماحِ لهنَّ بمَسّه!

ويُرَدُّ عليهم بما يأتي:

أوَّلًا- قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِینَ یُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا} [الأحزاب: 57].

قال ابْنُ جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره: "وأما إذاية رسول الله ﷺ فهي التعرض له بما يكره من الأقوال أو الأفعال، وقال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا عليه حين أخذ صفية بنت حييّ".

ولا شَكَّ أنّ الذي يُثيرُ الشُّبُهاتِ حوْل دخولِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ وأُمِّ سُلَيْمٍ، يستحقُّ اللّعن والطّردَ من رحمة الله، وهو أشدُّ إساءةً مِن الذين طعنوا عليه حين تزوّج صفية بنت حييّ، وهو أمرٌ مباحٌ له.

ثانياً- عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: "كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه". [متفق عليه].

وقَالَ ﷺ: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ". [رواه البخاري].

ولا شَكَّ أنّ الذي يعمل المعصيةَ أمامَ النّاسِ، وهم ينظُرون إليه يكون مُجاهراً بها، وفي ذلك استخفاف بأوامرِ الله تعالى، ويدلُّ على أن صاحبها لا يسْتَحْيِي من الناس.  

ولا يمكن لرسول الله ﷺ الذي شهِد اللهُ له في كتابه العظيم بحُسْن الْخُلُق، أنْ يكون من أهل المجاهرة بالمعاصي؛ فلقد قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ} [القلم: 4].

ولا يمكن لرسولِ اللهِ ﷺ الذي شَهِدَ له بالحياء وحُسنِ الخُلُق أقرَبُ النّاسِ إليه، أنْ يكون من أهل المجاهرة بالمعاصي؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ". [متفق عليه].

وعَن سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ". [رواه أحمد، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين].

وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا". [متفقٌ عَلَيْهِ].

ثالثاً- قال الإمامُ النووي (ت 676 هـ): "قَوْلُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَتَفْلِي رَأْسَهَ وَيَنَامُ عِنْدَهَا) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ ﷺ، واختلفوا في كيفية ذلك فقال ابن عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ كَانَتْ إِحْدَى خَالَاتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَتْ خَالَةً لِأَبِيهِ أَوْ لِجَدِّهِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ". [المنهاج شرح صحيح مسلم، الإمامُ النووي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ، ج13 ص57-58].

وقال النووي – أيضاً –: "وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْبَابِ وَمَعَانِيهِ فَفِيهِ أُمُّ سُلَيْمٍ وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهَا فَقِيلَ اسْمُهَا سَهْلَةُ وَقِيلَ مُلَيْكَةُ وقيل رميثة وقيل أنيفة ويقال الرميضا وَالْغُمَيْصَا، وَكَانَتْ مِنْ فَاضِلَاتِ الصَّحَابِيَّاتِ وَمَشْهُورَاتِهِنَّ وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ". [شرح صحيح مسلم، ج3 ص220-221].

وقال في (باب فَضَائِلِ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا): "قَدْ قَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ عِنْدَ ذِكْرِ أُمِّ حَرَامٍ أُخْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهُمَا كَانَتَا خَالَتَيْنِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَحْرَمَيْنِ إِمَّا مِنَ الرَّضَاعِ وَإِمَّا مِنَ النَّسَبِ؛ فَتَحِلُّ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهِمَا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا خَاصَّةً لَا يَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا أَزْوَاجِهِ". [شرح صحيح مسلم، ج16 ص10].

وقال القاضي عياض (ت 544 هـ): "وقوله في حديث أم سليم: أنه كان يدخل عندها فنام على فراشها؛ ذلك لأنها فيما ذكر على ما تقدم كانت ذات محرم منه من الرضاعة، فيه جواز الخلوة مع المحارم، والنوم عندهن". [إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض، ج7 ص297].

وقال الإمامُ ابن عبد البر القرطبي (ت 463 هـ): "وأمُّ حرام هذه هي خالةُ أنسِ بنِ مالك، أختُ أمِّ سُليم بنتِ مِلحانَ أمِّ أنسِ بنِ مالك، وقد ذكَرناهما ونَسَبْناهما وذكَرْنا شيئًا من أخبارِهما في كتابِنا كتاب (الصحابة)، فأغنَى عن ذكرِه هاهُنا، وأظنُّها أرْضَعَتْ رسولَ اللَّه ﷺ، أو أمُّ سُليم أرضعَتْ رسولَ اللَّه ﷺ، فحصَلتْ أمُّ حرام خالةً له من الرَّضاعة، فلذلك كانت تَفْلي رأسَه، وينامُ عندَها، وكذلك كان ينامُ عندَ أمِّ سُليم، وتنالُ منه ما يجوزُ لذي المَحْرَم أن يَنالَه من محارمِه، ولا يشكُّ مسلمٌ أنَّ أُمَّ حرام كانت من رسولِ اللَّه بمَحْرم، فلذلك كان منها ما ذُكِرَ في هذا الحديث، واللَّهُ أعلم.

وقد أخبَرَنا غيرُ واحدٍ من شُيوخِنا، عن أبي محمدٍ الباجيِّ عبدِ اللَّه بنِ محمدِ بنِ عليّ، أنَّ محمدَ بنَ فُطيس أخبرَه، عن يحيى بن إبراهيمَ بن مُزين، قال: إنَّما استجازَ رسولُ اللَّه ﷺ أن تَفْليَ أُمُّ حرام رأسَه لأنّها كانت منه ذاتَ مَحْرَم من قبلِ خالاتِه؛ لأنَّ أمَّ عبدِ المطَّلبِ بنِ هاشم كانت من بني النَّجّار.

وقال يونسُ بنُ عبدِ الأعلى: قال لنا ابنُ وَهْب: أُمُّ حرام إحدَى خالاتِ النبيِّ ﷺ من الرَّضاعة، فلهذا كان يَقيلُ عندَها، وَينامُ في حِجْرِها، وتَفْلي رأسَه". [التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، حققه وعلق عليه: بشار عواد معروف، وآخرون، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي - لندن، الطبعة الأولى، 1439 هـ - 2017 م، ج1 ص438-439].

رابعاً- ما يجب الإيمان به: قال الإمامُ ابن عبد البر: "أيُّ ذلك كان، فأُمُّ حرام مَحْرَمٌ من رسولِ اللَّه ﷺ، والدليلُ على ذلك ما حدَّثنا عبدُ اللَّه بنُ محمدِ بنِ أسد، قال: حدَّثنا حمزةُ بنُ محمد، قال: حدَّثنا أحمدُ بنُ شُعيب، قال: حدَّثنا عليُّ بنُ حُجر، قال: أخبرنا هُشيمٌ، عن أبي الزُّبير، عن جابر، قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: «ألَا لا يَبِيتَنَّ رجلٌ عندَ امرأةٍ إلّا أن يكونَ ناكحًا أو ذا محرم». [رواه مسلم].

وروَى عمرُ بنُ الخطاب، عن النبيِّ ﷺ، قال: "لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة؛ فإنَّ الشَّيطانَ ثالثُهما". [رواه أحمد].

وروَى ابنُ عباس، أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قال: «لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلّا أنْ تكونَ منه ذاتَ مَحْرَم». [متفق عليه].

وروَى عبدُ اللَّه بنُ عمرِو بنِ العاص، أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ، قال: «لا يَدْخل رجلٌ على مُغِيبةٍ إلّا ومعه رجلٌ أو رجلان». [رواه مسلم].

وحدَّثنا محمدُ بنُ إبراهيم، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ معاوية، قال: حدَّثنا أحمدُ بنُ شعيب، قال: حدَّثنا قتيبةُ بنُ سعيد، قال: حدَّثنا الليثُ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عُقبةَ بنِ عامر، أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قال: "إيّاكم والدُّخولَ على النساء". فقال رجلٌ من الأنصار: أرأيْتَ الحَمْوَ؟ قال: "الحَمْوُ الموتُ". [متفقٌ عَلَيْهِ].

وهذه آثارٌ ثابتةٌ بالنَّهْي عن ذلك، ومحالٌ أن يأتيَ رسولُ اللَّه ﷺ ما يَنهَى عنه". [المصدر السابق: ج1 ص439-441].

تعقيب: النَّبِيُّ ﷺ لمْ يكن مُسْتَثْنىً مِنَ التحريم بالخلوة بالأجنبية – كما زعم البعضُ –، ومن الأدلة على ذلك ما وَرَدَ عَنْ صَفِيَّةَ – زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ – أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ، مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ ﷺ: "عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ"، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا". [متفق عليه].

فلو كان يُباح للنَّبِيُّ ﷺ الخَلْوةُ بالنساء الأجنبيات، لما احْتاجَ أنْ يقول للصّحابِيَيْن بأنّ المرأةَ التي رَأَيَاهُ معها هي زوجتُه صَفيّة.

النّصُّ الرابع عشر: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ امْرَأَةً لَقِيَتِ النَّبِيَّ ﷺ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: "يَا أُمَّ فُلَانٍ، اجْلِسِي فِي أَيِّ نَوَاحِي السِّكَكِ شِئْتِ، أَجْلِسْ إِلَيْكِ". قَالَ: فَقَعَدَتْ، فَقَعَدَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا. [رواه أحمد، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه أبو داود].

وفِي رِوايةٍ أُخْرى عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقَالَ: "يَا أُمَّ فُلَانٍ! انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ" فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ؛ حتى فرغت من حاجتها. [رواه مسلم وأبو داود وأحمد].

زعم بعضُهم أنّ هذا النص دليل على أنّ النَّبِيَّ ﷺ كان يختلي بالنساء!

وهذا غيرُ صحيح، قال الإمامُ النووي في (شرح صحيح مسلم): "(خَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ) أَيْ: وَقَفَ مَعَهَا فِي طَرِيقٍ مَسْلُوكٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهَا وَيُفْتِيَهَا فِي الْخَلْوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ فِي مَمَرِّ النَّاسِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ إِيَّاهُ وَإِيَّاهَا، لَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهَا؛ لِأَنَّ مَسْأَلَتَهَا مِمَّا لَا يُظْهِرُهُ".

النّصُّ الخامس عشر: عَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ". [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وأحمد والحاكم وَالدَّارِمِيُّ].

استدلّ بعضُهم بهذا الحديث على جواز وقوع النَّبِيَّ ﷺ في المعصية؛

لأن الحديث لم يستثنِ النَّبِيَّ ﷺ؛ وهذا غير صحيح، قال علي الملا القاري (ت 1014هـ): "قِيلَ: أَرَادَ الْكُلَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ – صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ – فَإِمَّا مَخْصُوصُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ صَغَائِرَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَإِنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى، أَوْ مِنْ قَبِيلِ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ يُقَالُ: الزَّلَّاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ بَعْضِهِمْ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْعِصْيَانِ". [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي الملا القاري، دار الفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2002م، ج4 ص1622].

وجاء في حديث آخر عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ". [أخرجهُ مُسْلِم، والتِّرمذيُّ وابنُ ماجه، والامامُ أحْمَد، وابنُ حِبَّانَ، والحاكمُ].

قَالَ علي المُلا القاري (ت 1014هـ): "الْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْخِطَابِ التَّغْلِيبِيِّ...

(يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ): وَالْمَعْنَى تُذْنِبُونَ بِالْفِعْلِ، بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِهِمْ، وَبِالْقُوَّةِ بِاعْتِبَارِ أَقَلِّهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: «غَيْرُ الْمَعْصُومِينَ إِذْ لَيْسُوا مُرَادِينَ بِهَذَا» فَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ؛ لِعُمُومِ عِبَادِي الشَّامِلِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ. نَعَمْ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ غَيْرُ اسْتِغْفَارِ الْمُذْنِبِينَ". [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي الملا القاري، دار الفكر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 م، ج4 ص1611 و 1612].

فالخطأ في هذا الحديث قد يكون ذنبا، وقد يكون من حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ التي تُعدُّ سَيِّئَاتٍ بالنسبة للْمُقَرَّبِينَ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ عندئذ غَيْرُ اسْتِغْفَارِ الْمُذْنِبِينَ.

هذا، ولقد جاء حديثٌ آخرُ يُلْقِي الضوءَ على الحديثَيْنِ السّابقَيْنِ، ويُقوِّي ما ذهب إليه العلاّمةُ علي الملا القاري مِنْ أنَّ الْأَنْبِيَاءَ – صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ – مَخْصُوصُونَ عَنْ ذَلِكَ، وأنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى، أَوْ مِنْ قَبِيلِ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ يُقَالُ: الزَّلَّاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ بَعْضِهِمْ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْعِصْيَانِ؛ ومِنَ القواعدِ المشهورةِ عند العلماءِ أنّ الأحاديث يشرحُ بعضُها بعضاً، قَالَ الإمامُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ: "الْحَدِيثُ إِذَا لَمْ تَجْمَعْ طُرُقَهُ لَمْ تَفْهَمْهُ، وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، تحقيق: د. محمود الطحان، مكتبة المعارف – الرياض، ج2 ص212].

وَقَالَ القَاضِي عِيَاضٌ (ت 544 هـ): "فَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ويَرفَعُ مُفسّرُه الإِشْكالَ عن مُجْمَلِه ومُتشَابَهِه". [إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، القَاضِي عِيَاضٌ، تحقيق الدكتور يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء - 7مصر، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م، ج8 ص380].

فلقد ورد عَنْ أَبِي ذَرٍّ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ". [جزء من حديث أخرجه ابن ماجه، والإمامُ أحمد، وقال محققو المسند: حديث صحيح/ انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م، ج35 ص294-295].

وفي رواية أخرى عَنْ ‌أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُ فَسَلُونِي الْهُدَى أَهْدِكُمْ، وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ فَسَلُونِي أَرْزُقْكُمْ، وَكُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ» [رواه الترمذي، وقال حديث حسن/ انظر: الجامع الكبير (سنن الترمذي)، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى، 1996 م، ج4 ص270].

قال المباركفوري (ت 1353هـ): "(وَكُلُّكُمْ مُذْنِبٌ) قِيلَ أَيْ كُلُّكُمْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الذَّنْبُ (إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ) أَيْ: مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، أَيْ: عَصَمْتُ وَحَفِظْتُ. وَإِنَّمَا قَالَ عَافَيْتُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ مَرَضٌ ذَاتِيٌّ وَصِحَّتُهُ عِصْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحِفْظُهُ مِنْهُ أَوْ كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ بِالْفِعْلِ، وَذَنْبُ كُلٍّ بِحَسَبِ مَقَامِهِ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةَ". [تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفورى، دار الكتب العلمية - بيروت، ج7 ص166-167].

فائِدَةٌ حديثيةٌ: الحديث: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ: يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مِنْ عَافَيْتُ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ، إِنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ وَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ، عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، ضعّفه الشيخُ الألباني في «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» (الحديث رقم 5375/ ج11 ص 627-628) وقال: "وهذا إسناد ضعيف؛ لسوء حفظ شهر – وهو ابن حوشب –، وقال في «التقريب»: صدوق، كثير الإرسال والأوهام".

تعقيباتٌ على تضعيف الألباني:

أ) قالَ ابن حجر العسقلاني في ترجمته لشَهْر بن حَوْشَب، في كتابه «تقريب التهذيب/ رقم: 2830»: "شَهْرُ بن حَوْشَب الأَشْعَري، الشامي، مولى أسماءَ بنت يزيد بن السَّكَن: صدوقٌ كثيرُ الإِرسال والأوهام".

وقال مُؤلِّفَا «تحرير تقريب التهذيب» في تعليقهما على قول ابن حجر العسقلاني: "لو قال: ضعيفٌ يُعتبر به، لكان أحسنَ، إذ لا يُحتج بشَهْر إذا انفرد، ولكن يُعتبر به في المتابعات والشواهد، وهو كما قال المصنف كثيرُ الإرسالِ والأوهامِ، وقد ضعفه يحيى بن سعيد، وشعبة، والجوزجاني، وموسى بن هارون، وأبو حاتم الرازي، وابنُ حبان، وابنُ عدي – بعد أن سبر حديثه –، والدارقطني، والساجي، وأبو أحمد الحاكم، وغيرهم؛ ولكن حَسّن الرّأي فيه البخاري، وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة الرازي، ووثقه يحيى بن معين، ويعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، والعجلي. ولا بد من دراسة كل حديث من أحاديثه على حدة ليتبين أمره في كل حديث، وروى له مسلم مقرونًا".

[تحرير تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني، تأليف: الدكتور بشار عواد معروف، الشيخ شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م، ج2 ص122].

والشيخ بشار عواد حسّن حديث أبي ذر الذي رواه الترمذي من رواية شهر بن حوشب، والشيخ شعيب الأرنؤوط حسّن حديث أبي ذر الذي رواه أحمد من رواية شهر بن حوشب كذلك، كما رأينا سابقا.

ب) وقال الشيخُ بشير علي عمر في كتابه «منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث»: "المطلب الثاني: الحالات التي لا يُعلّ فيها حديث الراوي المتصف بسوء الحفظ.

سبق أن الأصل عند الإمام أحمد عدم الاحتجاج بحديث الراوي المتصف بسوء الحفظ إذا انفرد به، وهناك حالات لا يعلّ فيها حديثه بل يقبل ولا يردّ، وقد جاء عن الإمام أحمد إشارة إلى بعض تلك الحالات...

 الحالة الثانية: أن تأتي الرواية عن طريق من عُرف بصحة روايته عنه. إذا كان الراوي موصوفاً بسوء الحفظ، فليس معنى ذلك أنه لا يصيب أبداً في الرواية، فقد يصيب ويخطئ، وإن كان الخطأ منه كثيراً فقد تكون له – ولا بُدَّ – حالاتٌ يصيب الوجه الصحيح في روايته، فمن سمع منه في تلك الحالة يكون عنده شيء من صحيح حديثه، وقد استطاع الأئمة أن يتعرفوا على بعض التلاميذ عن شيوخ ضعفاء حديثهم عنهم صحيح، فإذا جاء الحديث من رواية أمثالهم قُبل ولم يعلّ بسوء حفظ الشيخ....

ومن ذلك أيضاً: شهر بن حوشب ورواية عبد الحميد بن بهرام عنه

وشهر بن حوشب ممن تُكلّم فيه، وإن كان كثير من الأئمة قد وثقوه. فقال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: "عبد الحميد بن بَهرام حديثه عن شهر مقارِب، كان يحفظها كأنه سورة من القرآن، وهى سبعون حديثاً طوال". وشاهِدُ ذلك أن الإمام أحمد، والطبراني رويا من حديث قتادة، عن شهر ابن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري أنه صلى بهم صلاةَ رسول الله ﷺ، فصلى الظهر فقرأ بفاتحة الكتاب يُسمِع من يليه ـ وذكر الحديث.

ورواه عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب وذكر في حديثه: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورةٍ يُسِرُّهما، وذكر حديثاً طويلاً. أخرجه الإمام أحمد من طريقه.

قال ابن رجب: وهو أصح، وعبد الحميد أحفظ لحديث شهر بن حوشب بخصوصه من غيره". [منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث، بشير علي عمر، نشر: وقف السلام، الطبعة الأولى 1425 هـ - 2005 مـ، ج1 ص301-304].

ج) وقال الشيخُ الدكتور عبد الله بن يوسف الجديع في كتابه (تحرير علوم الحديث) في مبحث (تنبيهات حول تعارض الجَرح والتعديل): "التنبيه الرابع: جرى عند علماء هذا الفنّ أن الراويَ إذا اتَّفَق على توثيقه إمَامَا الصّناعة أحمدُ بنُ حنبل ويَحيَى بنُ مَعِين، فإنه جاز بذلك القنطرة.

والمقصودُ أنه لو جُرِح فغايةُ أمرِه أن يكون لِخطأ أخطأه لا يسقُطُ به، ولا يُزيلُه عن درجة المقبولين، وإنما قد يَنزِل به عن درجة المُتْقِنين إلى مَن يُحَسَّنُ حديثُه.

والاستثناءُ لِمَن هذه صِفتُهُ وقع من جهة انتفاء وجودِ حالةٍ خرجت عما ذكرتُ من القَبول.

مثل: (حَشْرَج بن نُبَاتَة الأشْجَعِيِّ)، أَنْكر عليه البخاري حديثَ الخلفاء، وذكره ابنُ عديِّ واعتذَر عنه، وأجاب عمَّا أُنكِر عليه، ثم قال: «وأحاديثُه حسان وإفراداتٌ وغرائبُ، وقد قمتُ بعُذرهِ فيما أنكروه عليه، وهو عندي لا بأس به وبروايته، على أنّ أحمدَ ويَحيَى قد وثَّقاه».

واتّفقا على توثيق شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، وضَعَّفه بعضُ الحُفَّاظ، لكنك لا تجد في المُفَسَّرِ القادِحِ من الجَرْح ما يَنْزِلُ به عن رُتبَة الصَّدُوق الذي يُحَسَّنُ حديثه".

وقال في حاشية الصفحة 557: "هوَ حديث رواه عن سعيد بن جُهْمان، عن سفينة مولى النبي ﷺ، فيه ذكر الخُلفاء مِن بعْدِه: أبي بكر وعمَر وعثْمان. وحوْله تفصيلٌ له مَقام آخر، وإنما الشاهد مِمَّا ذكرت اتفاقُ أحمدَ ويحيى على توثيق حشرج". [تحرير علوم الحديث، عبد الله الجديع، مؤسسة الريان-بيروت، الطبعة الأولى 1424 هـ- 2003 م، ج1 ص556-557].

د) لقد حسّن ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) - نفسُه - هذا الحديث في كتابه (موافقة الـخُبْرِ الـخَبَـر في تخريج أحاديث المختصر) في «المجلس الخامس والأربعون بعد المئة» حيث قال: "هذا حديث حسن من هذا الوجه، أخرجه الترمذي عن هناد بن السري عن أبي الأحوص عن ليث. وأخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن سعيد عن عبدة بن سليمان عن موسى بن المسيب.

وليث هو ابن أبي سليم وفيه ضعف، لكنه توبع فاعتضد، وشهر فيه مقال، لكن حديثه في درجة الحسن، وقد أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات من طريق الأعمش عن موسى بن المسيب. والأعمش أكبر من موسى. ووقع فيه بين البيهقي وبين الأعمش ستة أنفسٍ فكأني سمعته من صاحب صاحبه، وله منذ مات أكثر من مئتي سنة بنحو العشرين". [موافقة الـخُبْر الـخَبَـر في تخريج أحاديث المختصر، ابن حجر العسقلاني، حققه وعلق عليه: حمدي عبد المجيد السلفي، صبحي السيد جاسم السامرائي، مكتبة الرشد، الرياض - السعودية، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1993 م، ج1 ص77-78].

فائدة: الـخُبْر – بضم الخاء وسكون الباء –: العِلمُ بالشيء؛ والمعنى: موافقة حقيقة الشيء لما يُسمع عنه.

فائدة حديثية: تضعيفُ الألباني للحديث السابق لا يمنع من الاستعانة به لشرح الحديثين: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ... الحديث" و "يَا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ... الحديث"؛ لأنّ ضُعفَه ليس بالشّديد، والحديث الذي لم يشتد ضعفه يجوز الاستعانة به في شرح الحديث، قال الشيخُ الدكتور  محمد بن عمر بن سالم بازمول: "الذي يُفْهَمُ من تصرّفات الأئمة وكلامهم أنَّ هناك مجالاً للعمل بالحديث الضعيف الذي لم يشتدّ ضُعْفُه في شرح الحديث؛ وذلك في الترجيح بين المعاني التي يتحملها الحديث الصحيح". [روافد حديثية (في علوم الحديث وعلم الرجال وعلم تخريج الحديث وعلم شرح الحديث)، محمد بن عمر بن سالم بازمول، دار الاستقامة، الطبعة الأولى 1427 هـ - 2008 م، ص157-158]

النّصُّ السادس عشر: قولُه ﷺ: "إنَّه لَيُغَانُ علَى قَلْبِي، وإنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، في اليَومِ مِئَةَ مَرَّةٍ". [رواه مسلم].

قال القاضي عياض (ت 544 هـ): "فإن قِيل فَمَا مَعْنَى قَوْله ﷺ (إنَّه لَيُغَانُ علَى قَلْبِي، فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ) وَفِي طَرِيقٍ (فِي الْيَوْمِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ)، فَاحْذَرْ أَنْ يَقَعَ بِبَالِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغَيْنُ وَسْوَسَةً أو رَيْبًا وَقَع فِي قَلْبِه عَلَيْه السَّلَام؛ بَل أصْل الغَيْن فِي هَذَا مَا يَتَغَشَّى القَلْب وَيُغَطّيه – قَالَه أَبُو عُبَيْدٍ –، وَأَصْلُه من غَيْن السَّمَاء وَهُو إِطْبَاق الْغَيْم عَلَيْهَا. وَقَال غيره والغين شيء يُغَشّي القَلْب وَلَا يُغَطّيه كُلّ التّغْطِيَة، كالغَيْم الرَّقِيق الَّذِي يَعْرِض فِي الْهَوَاء فَلَا يَمْنَع ضَوْء الشَّمْس.

وَكَذَلِك لَا يُفْهَم مِن الْحَدِيث أنَّه يُغَان عَلَى قَلْبِه مِائَة مَرَّة أو أَكْثَر من سَبْعِين فِي الْيَوْمِ؛ إِذ لَيْس يَقْتَضِيه لَفْظُه الَّذِي ذَكَرْنَاه وَهُو أَكْثَر الرَّوَايَات، وَإِنَّمَا هذا عَدَدٌ للاسْتِغْفَار لَا لِلْغَيْن؛ فَيَكُون المُرَاد بَهَذَا الْغَيْن إشَارَة إِلَى غَفَلات قَلْبِه، وَفَتَرات نَفْسِه وَسَهْوِهَا عَن مُدَاوَمَة الذَّكْر وَمُشَاهَدَة الحَقّ، بِمَا كَان ﷺ دُفِع إليه من مُقَاسَاة البَشَر، وَسِيَاسَة الْأُمَّة، ومعاناة الأهْل، وَمُقَاوَمَة الوَلِيّ وَالعَدُوّ، وَمَصْلَحَة النَّفْس، وَكَلَّفَه مِن أعْبَاء أداء الرِّسَالَة وَحَمْل الأمَانَة؛ وَهُو فِي كُلّ هَذَا فِي طَاعَة رَبَّه وَعِبَادَة خَالقِه. وَلَكِن لَمّا كَان ﷺ أَرْفَعَ الخَلْق عِنْد اللَّه مَكَانَةً، وَأعْلَاهُم دَرَجَة وَأتَمَّهُم بِه مَعْرِفَة، وَكَانَت حَالُه عِنْد خُلُوص قَلْبِه وَخُلُو هَمّه وَتَفَرّدِه بِرَبَّه وَإقْبَالِه بِكُلَّيَّتِه عَلَيْه، ومقامه هنالك أرْفَع حَالَيْه؛ رَأى ﷺ حَال فَتْرَتِه عَنْهَا وَشُغْلِه بِسِواها غَضًّا من عَلِيّ حَالِه، وَخَفْضًا من رَفِيع مَقَامِهِ، فَاستَغْفَر اللَّه من ذَلِك.

هَذَا أوْلَى وُجُوه الْحَدِيث وَأشْهَرُهَا، وَإلى مَعْنَى مَا أشَرْنا بِه مَال كَثِير مِن النَّاس وَحَام حَوْلَه فَقَارَب وَلَم يَرِد، وَقَد قَرَّبْنَا غَامِض مَعْنَاه وَكَشَفْنَا لِلْمُسْتَفِيد مُحَيَّاه، وَهُو مَبْنِيّ عَلَى جَوَاز الفَتَرَات وَالغَفَلات وَالسَّهْو فِي غَيْر طَرِيق البَلاغ". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى - مذيلا بالحاشية المسماة مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء- القاضي عياض، دار الفكر، 1409 هـ - 1988 م، ج2 ص106].

وقال ابن المَلَك (ت 854 هـ): "قيل: لما كان – عليه الصلاة والسلام – أتمَّ القلوبِ صفاءً وأكثرَها ضياءً، وكان لم يكن له بدٌ من النزول إلى الرُّخص، والالتفات إلى حظوظ النفس من معاشرة الأزواج والأولاد والأكل والشرب والنوم، فكان إذا تعاطى شيئًا من ذلك أسرع كُدُورَتُه إلى القلب، لكمال رِقَّتِه وفَرْطِ نورانيته. فكان إذا أحسَّ بشيء من ذلك يلوم نفسه بترك كمال الحضور، ويعده تقصيرًا ويستغفر منه؛ ولذا قال: «وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة». [شرح مصابيح السنة للإمام البغوي، ابن المَلَك، تحقيق ودراسة: لجنة مختصة من المحققين بإشراف: نور الدين طالب، إدارة الثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1433 هـ - 2012 م، ج3 ص132].

النّصُّ السابع عشر: قوله ﷺ: "أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ". [رواه مسلم].

وفي روايةٍ أخرى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً". [رواه البخاري].

قال الإمامُ أبو العباس القرطبي (656 هـ) في (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم): "وإنَّما أخبر النبي ﷺ بأنه يكرر توبته كل يوم مع كونه مغفوراً له، ليُلْحِق به غيرُه نفسَه بطريق الأولى؛ لأنَّ غيرَه يقول: إذا كانت حال من تحقق مغفرة ذنوبه هكذا، كانت حال مَنْ هو مِنْ ذلك في شك أحرى وأولى، وكذلك القول في الاستغفار والتوبة يقتضي شيئا يتاب منه؛ إلا أن ذلك منقسم بحسب حال من صدر منه ذلك الشيء، فتوبة العوام من السيئات، وتوبة الخواص من الغفلات، وتوبة خواص الخواص من الالتفات إلى الحسنات، هكذا قاله بعض أرباب القلوب، وهو كلام حسن في نفسه، بالِغٌ في فنِّه". [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، أبو العباس القرطبي، حققه وعلق عليه وقدم له: محيي الدين ديب ميستو - أحمد محمد السيد - يوسف علي بديوي - محمود إبراهيم بزال، دار ابن كثير، دمشق - بيروت/ دار الكلم الطيب، دمشق - بيروت، الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1996 م، ج7 ص28].

وقال أبو حيان (745 هـ) – عند تفسيره لقولِه تَعَالَى: {رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَیۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّیَّتِنَاۤ أُمَّةࣰ مُّسۡلِمَةࣰ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَیۡنَا إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ} [البقرة: 128] – في كتابه «البحر المحيط»: "قالُوا التَّوْبَةُ مِن حَيْثُ الشَّرِيعَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ التّائِبِينَ، فَتَوْبَةُ سائِرِ المُسْلِمِينَ النَّدَمُ بِالقَلْبِ والرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ، والعَزْمُ عَلى عَدَمِ العَوْدِ، ورَدُّ المَظالِمِ إذا أمْكَنَ، ونِيَّةُ الرَّدِّ إذا لَمْ يُمْكِنُ. وتَوْبَةُ الخَواصِّ الرُّجُوعُ عَنِ المَكْرُوهاتِ مِن خَواطِرِ السُّوءِ، والفُتُورِ في الأعْمالِ، والإتْيانُ بِالعِبادَةِ عَلى غَيْرِ وجْهِ الكمالِ. وتَوْبَةُ خَواصِّ الخَواصِّ لِرَفْعِ الدَّرَجاتِ، والتَّرَقِّي في المَقاماتِ".

النّصُّ الثامن عشر: دعاءُ النبيِّ ﷺ بهذا الدُّعَاءِ: "رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي وجَهْلِي، وإسْرَافِي في أمْرِي كُلِّهِ، وما أنْتَ أعْلَمُ به مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي خَطَايَايَ، وعَمْدِي وجَهْلِي وهَزْلِي، وكُلُّ ذلكَ عِندِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعْلَنْتُ، أنْتَ المُقَدِّمُ وأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وأَنْتَ علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ". [رواه البخاري].

قال أبو العباس شهاب الدين القسطلاني (ت 923): "أي أنا مُتَّصِفٌ بهذه الأشياء، فاغفرها لي؛ قاله ﷺ متواضعًا وهضْمًا لنفسه، أو عَدَّ فواتَ الكمالِ وتركَ الأوْلى ذُنوبًا، أو أرادَ ما كان عن سهْو أو ما كان قبل النُّبُوَّةِ". [إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، أبو العباس شهاب الدين القسطلاني، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة السابعة، 1323 هـ، رقم الحديث 6397، ج 9  ص 224].

وقال ابنُ حَجَر العَسْقلاني ( 852 هـ): "قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ أَشَدُّ لِلَّهِ خَوْفًا مِمَّنْ دُونَهُمْ، وَخَوْفُهُمْ خَوْفُ إِجْلَالٍ وَإِعْظَامٍ وَاسْتِغْفَارُهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ لَا مِنَ الذَّنْبِ الْمُحَقَّقِ". [فتح الباري، ج11 ص198].

تعقيب: إنّ كثرة الاستغفارَ سنَّةٌ نَبَوِيّةٌ ممْدوحةً ومطلوبة، وليست مُتوفِّقةً على أن تكون بعد الوقوع في الذنوب والمعاصي، والدليلُ على ذلك قولُ النَّبِيِّ ﷺ: "طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا". [رواه ابن ماجه، حديث رقم 3818، وقال المحققون: إسناده صحيح/ انظر: سنن ابن ماجه، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، 1430 هـ - 2009 م].

وعَنِ الزُّبَيرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: "مَن أَحَبَّ أَنْ تَسُرَّهُ صَحِيفَتُه؛ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الاِسْتِغْفَار". أورده المنذري (656 هـ) في «الترغيب والترهيب»، وقال: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ، وحسنه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب».

قال حسن بن علي الفيومي (870 هـ): "قوله ﷺ: (من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار) الاستغفارُ في حق الأنبياء يكون على سبيل الشكر، وفي حق الأُمَّةِ قد يكون عن تقصير، ووجهُ التقصير عدمُ القيام بشكر النعمة. وقد يكون الاستغفار عن ذنب فيكون واجباً". [فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب للإمام المنذري، حسن بن علي الفيومي، تقديم: الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، دراسة وتحقيق وتخريج: أ. د. محمد إسحاق محمد آل إبراهيم، مكتبة دار السلام، الرياض - السعودية الطبعة الأولى، 1439 هـ - 2018 م، ج7 ص560].

هذا، وإنّ النَّبِيّ ﷺ قد أُوتِيَ من العلم بالله وما عنده، ما لم يُؤْتَ لأحدٍ من الناس؛ ولذلك قال ﷺ: "والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم، لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلًا". [رواه البخاري].

قال ابن حجر العسقلاني: "(لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِمَعَارِفَ بَصَرِيَّةٍ وَقَلْبِيَّةٍ، وَقَدْ يُطْلِعُ اللَّهُ عَلَيْهَا غَيْرَهُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ مِنْ أُمَّتِهِ لَكِنْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُهَا فَاخْتُصَّ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ؛ فَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ مَعَ الْخَشْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ وَاسْتِحْضَارِ الْعَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ (إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ لَأَنَا)". [فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة - بيروت، ط 1379، ج11 ص527].

ولأنه ﷺ كان أعلمَ النّاسِ بعظمة الله وجلاله؛ فإنّه كان أشدَّ النّاسِ خوفاً من ربِّه، فعن أنس رضي الله عنه، قال: "كانت الريح الشديدة إذا هبت، عُرِفَ ذلك في وجه النبي ﷺ". [رواه البخاري].

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: خسفت الشمس، فقام النبي ﷺ فزِعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطْول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله، وقال: "هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد، ولا لحياته، ولكن يُخوِّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك، فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره". [متفق عليه].

وكلَما ازدادتِ المعرفةُ باللَّهِ زادتِ الخشيةُ والمحبة والشعور بالتقصير؛ قال ابن جُزَيّ (741 هـ) – عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ} –: "يعني العلماء بالله وصفاته وشرائعه، عِلْماً يوجب لهم الخشية من عذابه؛ وفي الحديث: (أعلمكم بالله أشدكم له خشية)؛ لأن العبد إذا عرف الله خاف من عقابه، وإذا لم يعرفه لم يخف منه؛ فلذلك خص العلماء بالخشية".

وقال ابن الجوزي (ت 597 هـ): "من علم عظمة الإله زاد وجلُه، ومن خاف نِقَم ربه حسُن عملُه، فالخوف يَستخرج داء البطالة ويشفيه، وهو نِعْمَ المؤدب للمؤمن، ويكْفيه.

قال الحسن: صحِبت أقواماً كانوا لحسناتهم أن تُرَدَّ عليهم أخوفَ منكم من سيئاتكم أن تُعذَّبوا بها". [الياقوتة - مواعظ ابن الجوزي، الفصل الثاني عشر: عليك بالخوف من الله، ص91].

  • الخميس PM 03:35
    2022-10-20
  • 1835
Powered by: GateGold