ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
الطعن في حديث "الأئمة من قريش"
الطعن في حديث "الأئمة من قريش"(*)
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المغرضين في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- حيث قال: «إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام على باب بيت ونحن فيه، فقال: الأئمة من قريش، إن لهم عليكم حقا؛ ولكم عليهم حقا مثل ذلك، ما إن استرحموا فرحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
قائلين: إن في السند سهل أبا الأسد، وهو ضعيف عند العلماء، وليس بثقة، بالإضافة إلى أحاديث أخرى صحيحة وردت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا فيها بالسمع والطاعة للإمام ولو كان عبدا حبشيا مما يناقض الحديث، كما أن أحاديث قصر الإمامة على القرشيين فيها نوع من التعصب الذي يأباه الإسلام وينهى عنه، متسائلين: كيف لا يربط الإسلام الإمامة بالجدارة والأهلية دون النسب والعرق؟! رامين من وراء ذلك إلى الطعن في الأحاديث الصحيحة والتشكيك في السنة النبوية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن حديث: «الأئمة من قريش»، حديث صحيح بمجموع طرقه، بلغ حد التواتر، ورواية (سهل أبي الأسد) عن أنس -رضي الله عنه- صحيحة، أخرجها أحمد في "المسند"، ولم يقدح أحد من العلماء في روايته، بل قبل العلماء حديثه ووثقوه، ومن هؤلاء ابن معين وأبو زرعة وابن حجر العسقلاني.
2) اتفق أهل العلم على وجوب تقديم القرشي في الإمامة على غيره، و يفهم من ذلك عدم جواز إمامة العبد؛ لأن الحبشة لا تولى الخلافة، وما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأمر بالسمع والطاعة ولو لعبد حبشي، فالمقصود به إذا استعمل الإمام الأعظم عبدا على إمارة، فتجب طاعته، وهذا من باب ضرب المثل للمبالغة في الطاعة، وإن كان لا يتصور شرعا أن يلي العبد ذلك، فإن تغلب العبد بشوكته، فيحكم البلاد حرا لا مختارا فهنا تجب الطاعة له؛ إخمادا للفتنة.
3) ليس في حديث «الأئمة من قريش» أي نوع من أنواع التعصب وإلغاء المساواة بين الناس، بل هو لحكمة أرادها الشارع؛ ذلك أن قريشا كانت لها السيادة على العرب، ولن تقبل الأمر في غيرهم، وأيضا لقداسة الحرم والعصبية الدينية لديهم، كما أن اشتراط القرشية في الإمامة ليس على إطلاقه، بل هو مشروط بإقامتهم للدين، وإلا فيقدم صاحب الدين ولو كان غير قرشي.
التفصيل:
أولا. حديث «الأئمة من قريش» صحيح متواتر:
إن حديث «الأئمة من قريش» حديث صحيح، فقد رواه الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث عن جماعة من الصحابة منهم: أنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب، وأبو برزة الأسلمي، وهو حديث صحيح الإسناد بطرقه وشواهده، ولم يطعن فيه أحد من علماء الحديث المعتبرين بشبهة.
لقد جاء هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- متواترا من أكثر من طريق، ولاشك أن كثرة الطرق تشهد للحديث بصحته، ولعل من الجدير بالذكر أن نشير إلى ما قام به العلامة الشيخ الألباني - رحمه الله - حينما جمع طرق الحديث في كتابه "إرواء الغليل" حيث قال: حديث «الأئمة من قريش» صحيح، ورد من حديث جماعة من الصحابة منهم: أنس بن مالك، وعلى بن أبي طالب، وأبو برزة الأسلمي.
- أما حديث أنس فله عنه طرق:
الأولى: قال الطيالسي في مسنده (2133): حدثنا ابن سعد عن أبيه عنه مرفوعا. وأخرجه ابن عساكر (7/ 48/ 2) من طريق أبي يعلى، حدثنا الحسن بن إسماعيل أبو سعيد بالبصرة حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه به. وهكذا أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/ 171) من طريق الطيالسي عن إبراهيم بن سعد به. وقال: هذا حديث مشهور ثابت من حديث أنس. قلت: وإسناده صحيح على شرط الستة، فإن إبراهيم بن سعد وأباه ثقتان من رجالهم.
الثانية: عن بكير بن وهب الجزري قال: قال لي أنس بن مالك: أحدثك حديثا ما أحدثه كل أحد، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام على باب البيت ونحن فيه فقال: فذكره. أخرجه أحمد (3/ 129)، والدولابي في "الكنى" (1/ 106)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1020 - بتحقيقي)، وأبو نعيم (8/ 122 - 123)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (ق 3/ 2)، والبيهقي (3/ 121) وقال: مشهور من حديث أنس رواه عنه بكير. قلت: وليس بالقوي كما قال الأزدي، وذكره ابن حبان في "الثقات" فمثله يستشهد به. والحديث عزاه في "المجمع" (5/ 192) للطبراني أيضا في الأوسط وأبي يعلى والبزار وقال: رجاله ثقات.
الثالثة: عن محمد بن سوقة عن أنس به. أخرجه أبو نعيم (5/ 8) من طريق أبي القاسم حماد بن أحمد بن حماد بن أبي رجاء المروزي قال: وجدت في كتاب جدي حماد بن أبي رجاء السلمي بخطه عن أبي حمزة السكري عن محمد بن سوقة به. وقال: غريب من حديث محمد تفرد به حماد موجود في كتاب جده. قلت: والحمادان لم أجد من تراجم لهما.
الرابعة: عن عمر بن عبد الله بن يعلى عنه مرفوعا. أخرجه ابن الديباجي في "الفوائد المنتقاة" (2/ 79/ 2) عن مروان بن معاوية عنه. قلت: وعمر هذا ضعيف.
الخامسة: عن علي بن الحكم البناني عنه مرفوعا بلفظ: «الأمراء من قريش...» الحديث. أخرجه الحاكم (4/ 501) من طريق الصعق بن حزن حدثنا علي بن الحكم به وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وإنما هو على شرط مسلم وحده؛ فإن الصعق هذا إنما أخرج له البخاري خارج الصحيح. والحديث عزاه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 91) للذهبي والحاكم بإسناد صحيح. فلعله يعني السنن الكبرى للنسائي.
السادسة: عن قتادة عنه بلفظ: «إن الملك في قريش...» الحديث. رواه الطبراني كما في "الفتح" (13/ 101).
- وأما حديث علي بن أبي طالب فهو من طريق فيض بن الفضل البجلي حدثنا مسعر بن كدام عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجذ عنه بلفظ: "الأئمة من قريش..." الحديث. أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" (ص 85)، وعنه أبو نعيم (7/ 242)، وأبو القاسم المهراني في "الفوائد المنتخبة" (4/ 40/ 1، 2)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (ق 4/ 2)، والحاكم (4/ 75، 76)، والخطابي في "غريب الحديث" (ق 71/ 1) من طرق عن الفيض به. وقال الطبراني: لم يروه عن مسعر إلا فيض. قلت: وهو مجهول الحال؛ فقد ذكره ابن أبي حاتم (2/ 3/ 88)، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا غير أنه قال: كتب أبي عنه وروى عنه. قلت: وهو من رواة هذا الحديث عنه؛ خلافا لما قد يشعر به صنيع الهيثمي (5/ 192). حيث أعل الحديث بحفص بن عمر بن الصباح الراقي مع أنه تابعه أبو حاتم وغيره عند الداني والحاكم. وبقية رجال الإسناد ثقات فهو حسن في الشواهد. وقد سكت عنه الحاكم وكذا الذهبي على ما في النسخة المطبوعة من كتابيهما، وأما المناوي فقال في فيض القدير: أخرجه الحاكم في "المناقب" - يعني: المكان الذي أشرنا إليه بالرقم - وقال: صحيح. وتعقبه الذهبي فقال: حديث منكر. وقال ابن حجر رحمه الله: حديث حسن لكن اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الدارقطني وقفه. قال: وقد جمعت طرق خبر "الأئمة من قريش" في جزء ضخم عن نحو أربعين صحابيا. قلت: وذكر العلامة القاري في شرحه لـ "شرح النخبة" أن الحافظ قال في هذا الحديث: إنه متواتر. ولا يشك في ذلك من وقف على بعض الطرق التي جمعها الحافظ رحمه الله كالتي نسوقها هنا.
- وأما حديث أبي برزة الأسلمي، فهو من طريق سكين بن عبد العزيز عن سيار بن أبي سلمة أبي المنهال الرياحي عنه.
أخرجه الطيالسي (926)، وأحمد (4/ 421، 424)، وكذا يعقوب بن سفيان وأبو يعلى والطبراني والبزار كما في الفتح (13/ 101)، والمجمع (5/ 163)، وقال: ورجال أحمد رجال الصحيح خلا سكين هو ثقة. قلت: وثقه جماعة، وضعفه أبو داود، وقال النسائي ليس بالقوي. فالسند حسن، والحديث صحيح.
وفي الباب عن جماعة آخرين من الصحابة بمعناه في الصحيحين وغيرهما، فمن شاء فليراجع "مجمع الزوائد"، و "فتح الباري" ثم "السنة" لابن أبي عاصم، رقم (1009: 1029) بتحقيقي.
وهذا الحديث بمجموع طرقه - كما رأينا - نص في الإمامة الكبرى دون غيرها من إقامة الصلاة، فإن في حديث أنس وغيره: «ما عملوا فيكم بثلاث: ما رحموا إذا استرحموا، وأقسطوا إذا قسطوا، وعدلوا إذا حكموا»[1].
وما دعانا إلى إيراد تخريج الألباني هذا إلا دقته وشموله في جمع طرق الحديث، مما يقطع الطريق على كل منقول.
وقد علق ابن حزم الظاهري على هذه الرواية: «الأئمة من قريش»، بقوله: وهذه رواية جاءت مجيء التواتر، رواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومعاوية، وروى جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها [2].
هذا بالنسبة لطرق الحديث وتواتره، فإن قيل: إن في بعض طرق الحديث من يتهم في روايته؛ وذلك كما في رواية أنس أنه جاء فيها (سهل أبي الأسد) وهو ضعيف، وعليه فلا يقبل الحديث، بل يرد ولا يعمل به.
نقول: هذا كلام ليس له أساس من الصحة، فإن سهلا ثقة، قبل العلماء روايته، ولم يتهموه بكذب أو تدليس.
قال المزي: روى عنه سليمان الأعمش وشعبة بن الحجاج إلا أن الأعمش يقول: سهل أبو الأسد، وتابعه مسعر بن كدام. قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة.
وقال أبو زرعة: صدوق [3].
وقال الذهبي: علي أبو الأسد - يعني سهلا - عن بكير بن وهب، وعنه الأعمش وشعبة (وثق) [4].
وقال الرازي في الجرح والتعديل: "سهل أبو الأسد حنفي، كوفي روى عن أبي صالح الحنفي وبكير بن وهب الجزري عن أنس، روى عنه الأعمش سمعت أبي يقول ذلك.
حدثنا عبد الرحمن قال: ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: سهل أبو الأسد ثقة[5].
من خلال هذا العرض تتضح صحة رواية هذا الرجل، فقد وثقه العلماء المعتبرون؛ وعليه فالحديث صحيح سندا، ولا إشكال فيه.
ثانيا. اتفق أهل العلم على وجوب تقديم القرشي في الإمامة، وطاعته فيمن ولاه ولو كان عبدا حبشيا:
لم يختلف أهل العلم في وجوب تقديم القرشي في الإمامة العظمى، وذلك بالشرط المذكور في الحديث، وهو إقامة الدين، جاء هذا فيما رواه الإمام البخاري بسنده عن محمد بن جبير بن مطعم أنه كان يحدث أنه«بلغ معاوية - وهم عنده في وفد من قريش - أن عبد الله بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك من قحطان فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين»[6].
وكذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»[7].
قال الخطابي: "وقد ذهب بعض المتكلمين إلى أن الخلافة قد يجوز أن تكون في سائر قبائل العرب وفي أفناء العجم، وهذا خلاف السنة وقول الجماعة" [8].
وقد نقل ابن بطال عن المهلب قال: قوله: «اسمعوا وأطيعوا» لا يوجب أن يكون المستعمل للعبد إلا إمام قرشي، لما تقدم أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، وإنما أجمعت الأمة على أنه لا يجوز أن تكون الإمامة في العبيد" [9].
قال النووي: "هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، فكذلك بعدهم ومن خالف فيه من أهل البدع أو عرض بخلاف من غيرهم، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين، فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة. قال القاضي: اشتراط كونه قرشيا هو مذهب العلماء كافة [10].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الناس تبع لقريش في هذا الشأن: مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» [11].
وقد جاء في مسند الإمام أحمد ما يؤكد هذا المعنى حين اجتمع الأنصار لاختيار خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر رضي الله عنه: «... ولقد علمت يا سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم قال: فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء، وأنتم الأمراء»[12].
وما رواه أيضا في مسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام على باب البيت ونحن فيه فقال: «... الأئمة من قريش إذا استرحموا رحموا، وإذا عاهدوا وفوا، وإذا حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»[13].
كل هذه الأحاديث السابقة وغيرها تؤكد ما قلناه من وجوب اشتراط القرشي في الإمامة العظمى، وكذلك تؤكد عدم جواز العبد، ولم يخالف في هذا الأمر إلا طائفة من المبتدعة، ومن سار على نهجهم.
أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة[14]»[15].
فقد قال الخطابي: "هذا في الأمراء والعمال دون الخلفاء والأئمة، فإن الحبشة لا تولى الخلافة.
والظاهر من الحديث وجوب السمع والطاعة للعبد الذي يتولى الإمارة من قبل الإمام الأعظم، وليس المقصود به الخليفة العام للمسلمين، ولا أدل على ذلك من بناء الفعل (استعمل) للمجهول.
قال الله سبحانه وتعالى: )أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( (النساء: ٥٩)، فطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طاعة الله، وطاعة ولي الأمر (العام) من طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعلاوة على ما ذكره النقل من طاعة العبد المولى، فإن العقل الصحيح يقر طاعته.
فمثلا إذا استعمل الإمام الأعظم العبد على إمارة بلد مثلا، وجبت طاعته، وهذا واضح في الحديث؛ فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي، كأن رأسه زبيبة»[16].
وفي رواية أخرى لأبي ذر في صحيح مسلم قال: «إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا مجدع الأطراف[17]»[18].
وعن يحيى بن حصين، عن جدته أم الحصين. قال: سمعتها تقول: «حججت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع. قالت. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولا كثيرا، ثم سمعته يقول: إن أمر عليكم عبد مجدع - حسبتها قالت: أسود - يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا»[19].
قال ابن حجر: قيل: "إن المراد أن الإمام الأعظم إذا استعمل العبد الحبشي على إمارة بلد مثلا وجبت طاعته، وليس فيه أن العبد الحبشي يكون هو الإمام الأعظم"[20].
وإذا قررنا أن الإجماع منعقد على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجوب تقديم القرشي في الإمامة العظمى بشرط الإيمان وإقامة الدين والعدل، وكذلك منعقد على عدم جواز تولية العبد الإمامة العظمى؛ لأن من شرطها الحرية، فنقول: إن هذا العبد - الذي أطلق عليه كلمة العبد من باب الوصف - يجب طاعته إذا ولي من قبل الإمام الأعظم؛ لأن ولايته صحيحة، وفي معصيته فتنة كبيرة.
وبالجمع بين ألفاظ الحديث النبوي في رواية "وإن استعمل عليكم" ورواية «إن أمر عليكم عبد» يتضح أن العبد مستعمل ومؤمر من قبل الإمام الأعظم، وليس هو الإمام الأعظم[21]، وذلك من باب ضرب المثل بالمبالغة في السمع والطاعة، ونظيره ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة[22] لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة»[23].
إن قدر مفحص القطاة لا يصلح لمسجد وإنما ذكره الرسول -صلى الله عليه وسلم- للترغيب في بناء المساجد والمشاركة فيها ولو بشيء قليل، فهكذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسمع والطاعة للعبد الحبشي؛ لأن هذا مما لا يقدح في الوجود ولا يتصور شرعا أن يلي العبد ذلك، ولكن ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- من باب ضرب المثل للمبالغة في أمر طاعة العبد ووجوبها إذا كان مولى من قبل الإمام الأعظم.
قال الخطابي: "قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود؛ يعني: وهذا من ذاك، أطلق العبد الحبشي مبالغة في الأمر بالطاعة، وإن كان لا يتصور شرعا أن يلي ذلك"[24].
وقال الشنقيطي: "ويشبه هذا الوجه قوله سبحانه وتعالى: )قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين (81)( (الزخرف)، على أحد التفسيرات[25]، فإنه مما لا شك فيه عدم اتخاذ الولد، وهذا مما لا يحدث في الوجود ولا يقدر، فيضرب المثل هنا للمبالغة في عدم اتخاذ الله للولد.
إن المتتبع للأحاديث السابقة وأقوال العلماء فيها يتبين له أن العبد المراد في هذه الأحاديث هو العبد القوي المنيع ذو الشوكة لا المختار، ففي هذه الحالة تجب طاعته، وإن كان عبدا حبشيا، ولا يجوز الخروج عليه لمجرد عبوديته، ويؤيد هذا الرأي لفظ «وإن تأمر عليكم...» فلفظ "تأمر" يدل على أنه تسلط على الإمارة بنفسه، ولم يؤمر من قبل أهل الحل والعقد [26].
يقول الإمام ابن حجر: "..، وهذا كله إنما هو فيما يكون بطريق الاختيار، أما لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة، فإن طاعته تجب؛ إخمادا للفتنة ما لم يأمر بمعصية. كما تقدم تقريره" [27].
وقال أيضا: "ووجه الدلالة منه - أي: من الحديث - أنه أمر بطاعة العبد الحبشي، والإمامة العظمى إنما تكون بالاستحقاق في قريش، فيكون غيرهم متغلبا، فإذا أمر بطاعته استلزم النهي عن مخالفته والقيام عليه، ورده ابن الجوزي بأن المراد بالعامل هنا من يستعمله الإمام لا من يلي الإمامة العظمى، وبأن المراد بالطاعة الطاعة فيما وافق الحق... ولا مانع من حمله على أعم من ذلك، فقد وجد من ولي الإمامة العظمى من غير قريش من ذوي الشوكة متغلبا [28].
إن الإجماع منعقد على عدم جواز تولية العبد الإمامة العظمى التي من شروطها الحرية، لأن إمامة العبد متعلقة باعتبار حال الاختيار، أما إذا تغلب العبد وكان ذا شوكة وقوة، فإنه تجب طاعته؛ إخمادا للفتنة ما لم يأمر بمعصية [29].
قال النووي: "وتتصور إمامة العبد إذا ولاه بعض الأئمة، أو إذا تغلب على البلاد بشوكته وأتباعه، ولا يجوز ابتداء عقد الولاية له مع الاختيار، بل شرطها الحرية"[30].
إن العبد الذي قررنا وجوب طاعته، وهو العبد المتغلب القوي ذو الشوكة لا تجب طاعته، إلا إذا أقام العدل والدين إقامة صحيحة، لا يحيد عن ذلك قيد أنملة، ولا يصح معصيته في هذا الوقت، أما إذا ضل العبد الطريق وزاغ عن عدل الله وإقامة دينه، فلا تجب طاعته؛ لأنه في هذه الحالة فقد شرط توليته، وهو إقامة دين الله -عز وجل- لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما قرر ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف»[31]، وكذلك صحابته الكرام في أقوالهم عند توليتهم الخلافة، فالطاعة إذا أمر بمعروف، فإن أمر بمعصية، فلا طاعة له.
وبالتالي - إذا قررنا تولية هذا العبد - فلا يصح تسميته بالعبد، وإنما قلنا العبد الحبشي من باب الوصفية، والذي يدل على ذلك روايات الحديث الأخرى كمثل:«كأن رأسه زبيبة»، «وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف»؛ لأنه لا يصح أن يكون إماما على المسلمين ويكون عبدا، لأنه وقت التولية يكون حرا.
والدليل على وصفية العبد هنا واتصافه بهذه الصفة ما جاء من إطلاق لفظ اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقا، وهذا ما يسمى في البلاغة العربية بالمجاز المرسل وعلاقته اعتبار ما كان، قال الله تعالى: )وآتوا اليتامى أموالهم( (النساء: ٢) فاليتيم من الإنسان - كما هو معروف - من مات أبوه وتركه صغيرا، أو من مات أبوه قبل أن يولد، فكيف نعطي هؤلاء اليتامى المال وكيف يتصرفون فيه، لكنهم وقت إعطاء المال لا يكونون يتامى، ولكن هذا وصفهم السابق، قال ابن حجر: "ويحتمل أن يسمى عبدا باعتبار ما كان قبل العتق"[32].
من خلال ما سبق يتبين لنا وجوب قرشية الإمامة والطاعة للأئمة عموما، وإن كان هذا المتعين عبدا حبشيا، فإنه تجب طاعته، طالما أنه موكل من قبل الإمام الأعظم - القرشي -، فإن تغلب العبد وأصبحت له شوكة الأمر وأصبح خليفة، فلا يحتج بعبوديته في عزله من الإمامة، بل تجب طاعته؛ إخمادا للفتنة، لا سيما وأنه قد أصبح حرا.
ثالثا. قصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر الإمامة على قريش ليس فيه أدنى عصبية لعرق أو لجنس:
لقد تضافرت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية التي تنهى عن التعصب والحمية لعرق أو لنسب، واستشكلت على بعض الناس الأحاديث الواردة بشأن جعل الإمامة في قريش، وقالوا: إن هذا نوع من التعصب قد خالف القرآن الكريم ومقاييس الفطرة والأفضلية الذاتية التي ترشح صاحبها لريادة المنازل وعلو الدرجات دون تدخل من أحد، فقالوا: إن حديث "الأئمة من قريش" يتناقض مع قول الله عز وجل: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم( (الحجرات: 13).
الجواب: أن الآية الكريمة هذه إنما نزلت من أجل هدف محدد، وهو "تأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية؛ لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس، بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود؛ إذ كثر الداخلون في الإسلام... وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى: )واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا( (آل عمران: ١٠٣) فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها، وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.
ولما أمر المؤمنين بأن يكونوا إخوة، وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة، ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يغبن على نورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتجسس والغيبة، ذكرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد؛ ليكون ذلك التذكير عونا على تبصرهم في حالهم، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعته الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه، وأهملوا صالح ما جعل له بقوله: )لتعارفوا(، ثم أتبعه بقوله: )إن أكرمكم عند الله أتقاكم( أي: فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى )وفي ذلك فليتنافس المتنافسون (26)( (المطففين)[33].
إن الإسلام باشتراطه أن يكون الإمام قرشيا، لم يكن بذلك داعيا إلى العصبية التي نهى عنها، فإن الحاكم الأعلى في الدولة الإسلامية ليس له أي مزية على سائر أفراد الأمة، وليس لأسرته كذلك أدنى حق زائد على الحقوق التي كفلها الشارع لسائر أفراد المسلمين، فالإمام وأفراد المسلمين كلهم سواء أمام القانون الإسلامي، يخضعون لأحكامه، بل الإمام متحمل من التبعات ما يجعله أشد الناس حملا وأثقلهم حسابا يوم القيامة؛ لأنه مسئول عن رعيته، كما نص على ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن لأي من الأسر التي ينتمي إليها أبو بكر أو عمر أدنى امتياز على أي فرد من أفراد المسلمين في زمن خلافتهما، ونزوان بني أمية على حقوق المسلمين زمن خلافة عثمان لم يكن نتاج العصبية من عثمان، وإنما كان لعدم توفيقه -رضي الله عنه- في اختيار من يتولون أمور الناس من قبله، حتى كان ذلك سببا في إيقاظ الفتنة التي اجتاحت العالم الإسلامي آنذاك وتلاقي الغوغاء، وذوو الأهواء، والدساسون للإسلام في تجمع هائج أدى في النهاية إلى مصرع الخليفة في داره وهو يقرأ القرآن الكريم.
فالإسلام لا يسود طائفة من الناس على من عداهم من أفراد الأمة، وإذا كان الإمام من قريش، فليس معنى ذلك أن تتبوأ قريش مكانة عالية دونها مكانة سائر المسلمين؛ لأن الإسلام - كما قلنا - لم يفرق بين قرشي وغير قرشي، وحاكم ومحكوم، والأمة بالتزامها القانون الإسلامي، هي - كما يقول الإمام محمد عبده - صاحبة الحق في السيطرة على الخليفة، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها... وليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من هو أدناهم[34]. معلوم أن كل تشريع من الله -سبحانه وتعالى- لابد له من حكمة نبيلة ومقصد شريف، علمه من علمه وجهله من جهله، ونحن لسنا مطالبين بمعرفة حكمة كل تشريع يرد، بل مطالبون بالتحقق من صحة هذا التشريع، ثم تنفيذه في واقع الحياة العملي، سواء اتضحت لنا حكمته أم لا.
على أن هناك كثيرا من العلماء قد حاول الاهتداء إلى الحكمة من اشتراط القرشية في الإمامة، وكان على رأسهم ابن خلدون حيث يقول في مقدمته: "إن الأحكام الشرعية كلها لا بد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها، وتشرع لأجلها. ونحن إذ ا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي، ومقصد الشارع منه، لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو في المشهور، وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلا، لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت، فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيتها. وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها، وينتظم حبل الألفة فيها[35].
إن المتأمل لكلام ابن خلدون يجده قصر الحكمة من اشتراط القرشية على وجود العصبية في قريش، فإذا لم تكن لقريش العصبية فلا يلزم - بناء على كلامه - أن تكون الإمامة فيهم، بل يجب أن تكون في الأقوى عصبية في ذلك العصر وإن كان من غير قريش.
وإذا كان ابن خلدون قد جعل مدار علة اشتراط القرشية على العصبية، فإذا وجدت وجد الشرط وإن عدمت عدم، فإن هناك من ذهب إلى أن الحكمة من ذلك هي أفضلية قريش واتسامها بقوة النبل وسداد الرأي.
فقال: "إن قريشا هي أفضل قبائل العرب بنص الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»[36].
وذلك أن قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم، وأهل الغلب فيهم، وكان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف، فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك، ويستكينون لغلبهم، فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة - خاصة أن أكثر قريش والعرب حديثو عهد بالإسلام ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم - والشارع يحذر من ذلك؛ لأنه حريص على اتفاقهم، ورفع التنازع والشتات بينهم لتحصل الحمية والعصبية وتحسن الحماية، بخلاف ما إذا كان الأمر في غير قريش؛ إذن اشتراط النسب في هذا المنصب ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة[37].
فالعرب في الأجناس وقريش في العرب مظنة أن يكون فيهم الخير أعظم مما يوجد في غيرهم، ولهذا كان منهم أشرف خلق الله النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يماثله أحد من قريش، فضلا عن وجوده في سائر العرب وغير العرب، وكان منهم الخلفاء الراشدون، وسائر العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنهم- وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب، وكان في العرب السابقون الأولون ممن لا يوجد لهم نظير في سائر الأجناس، فلابد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول، فمظنة وجود الفضلاء في قريش أكثر من مظنة وجودهم في غيرها، ولم يخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بني هاشم دون غيرهم من قريش، وهم أفضل بطون قريش؛ لأنها بطن من قبيلة، فعددها محصور وقليل، فلا يلزم أن يكون الفضلاء فيها، كما أن أفضل الناس بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن فيهم، وإنما في بني تيم وهو أبو بكر، ثم عمر من بني عدي، ثم عثمان من بني أمية، ثم علي من بني هاشم...
كما أن الله -سبحانه وتعالى- قد ميزهم عن غيرهم من سائر القبائل بقوة النبل وسداد الرأي، وهما صفتان مهمتان وضروريتان للإمام، ويدل على ذلك الحديث الذي رواه أحمد بسنده عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للقرشي مثلي قوة الرجل من غير قريش، فقيل للزهري: ما عنى بذلك؟ قال: نبل الرأي»[38][39].
قد تكون هذه هي الحكمة وقد تكون غيرها، وعلى كل فلا توجد أدنى عصبية في اشتراط القرشي للإمامة.
إن الغاية من تنصيب الإمام هي حراسة الدين وسياسة الدنيا، فإذا وجدت الكفاءة متساوية في القرشي وغير القرشي، لا يقل أحدهما عن الآخر في مستوى هذه الكفاءة، فالقرشي هو الإمام لنص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع الأمة، وإذا انعدمت هذه الكفاءة في القرشي، أو قلت فيه عنها في غير القرشي ولو كان أدنى الناس نسبا ففي هذه الحال لا يستحقها القرشي؛ لأن الإمامة يطلب فيها أمور لابد من توافرها فيمن يتولاها، وشرط القرشية هو أحد هذه الأمور، فالقرشي ليس بمجرد كونه قرشيا مستحقا للإمامة، بل لابد أن يكون من الكفاءة بمكان حتى يستطيع أن يقوم بأعباء هذا المنصب الخطير، ومن هنا فمبدأ المساواة العامة بين الناس لم يعارض اشتراط هذا الشرط؛ لأن باستطاعة الكفء من غير قريش أن يكون مستحقا للإمامة لو قل القرشي عن الكفاءة المطلوبة في الإمام، وقد قرر الفقهاء والمتكلمون ذلك عند الكلام عن شرار القرشية.
فهذه الأقوال من الفقهاء والكلاميين صريحة في أن الكفاءة إذا لم تتوفر في القرشي، وتوفرت في غيره فيجب العدول عن القرشي إلى غير القرشي، وإذا فإن الإمامة ليست حكرا على قريش في كل حال، سواء أكان فيها من يصلح للإمامة أم لم يكن فيها من يصلح لها، وإنما القرشي يختار للإمامة إذا لم يكن من هو أكفأ منه، وحينئذ فلا تعارض بين هذا وبين مبدأ المساواة العامة بين الناس؛ لأن القرشي في هذه الحال أكفأ من غير القرشي، وأما إذا تساويا في صلاح كل منهما للإمامة فالقرشي هو الذي يجب توليته انقيادا لحكم الشرع، بأن الأئمة من قريش، ولا عصبية في ذلك؛ لأن الإسلام لم يترك الإمام يتحكم في الناس تحكم الملوك والسلاطين، بل هو كأي فرد من أفراد الأمة الإسلامية ليست له أية مزية على أي واحد منهم، وهو وجميع أفراد الأمة ملزمون بالخضوع التام، خاضعون جميعا لقانون الإسلام، فأي عصبية في ذلك؟!
إن العصبية إنما تتصور لو كان يجب تولية القرشي، ولو لم يكن كفئا لهذا المنصب مع ترك غيره الذي توفرت له شروط هذا المنصب، وتتصور كذلك لو كان للإمام أو لأسرته من المزايا والأفضلية ما ليس لغيره من سائر أفراد الأمة، وهو مما لم يقل به الإسلام [40].
فإن قيل: إن حديث«الأئمة من قريش» حديث منقوض بالسنة كما انتقض بالقرآن، فقد ورد خبر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه «سيكون ملك من قحطان»، وهو حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه[41]، نقول: نعم، هذا الحديث صحيح، لكن ما معناه؟
لقد ورد في نص الحديث ذاته اعتراض سيدنا معاوية -رضي الله عنه- على هذا الخبر من عبد الله بن عمرو، وذلك في قوله: «فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين».
وهذا يعطي تأكيدا للحديث على أنه - فعلا - الأئمة من قريش. إلا أن الحديث قد ذيل بقوله: «ما أقاموا الدين»، فإذا لم يقيموا الدين، فلا حق لهم في الإمامة.
قال ابن حجر: وفي إنكار معاوية ذلك نظر؛ لأن الحديث الذي استدل به مقيد بإقامة الدين، فيحتمل أن يكون خروج القحطاني، إذا لم تقم قريش أمر الدين، وقد وجد ذلك، فإن الخلافة لم تزل في قريش، والناس في طاعتهم إلى أن استخفوا بأمر الدين فضعف أمرهم وتلاشى، إلى أن لم يبق لهم في الخلافة سوى اسمها المجرد في بعض الأقطار دون أكثرها [42].
وعلى هذا يحمل ما ورد بجعل الإمامة في قريش، فإذا جاء الخبر بحاكمية الملك القحطاني، فلا إشكال إذن في هذا الحديث.
وبهذا يزول انتفاء المساواة وإيثار العصبية الذي ألصقه هؤلاء بقول النبي؛ لأن الأمر بحاكمية قريش وتأميرها، إنما هو مقرون بشرط «ما أقاموا الدين»، وبدونه فلا حكم لقرشي.
الخلاصة:
- لقداتفقالعلماءعلىصحةحديث«الأئمةمنقريش»وتواتره،فقدرواهالإمامأحمدوغيره من علماء السنة، وروي من طريق أنس، وعلي بن أبي طالب، وأبي برزة الأسلمي -رضي الله عنهم- وقد جمع ابن حجر في جزء ضخم طرق هذا الحديث عن نحو أربعين صحابيا.
- لقدأمرناالله -عزوجل- بطاعته،ثمطاعةرسوله -صلىاللهعليهوسلم- ثمطاعةأوليالأمر،ومنهاطاعةالأمراء والولاة والخلفاء، وشرط طاعتهم هو إقامة الدين والعدل بين عموم المسلمين، فإن فعل الوالي أو الحاكم غير ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
- إنطاعةواليالإمارةمنطاعةصاحبالإمامةالعظمى،فإنتمتوليةعبدإمارةفلابدمنطاعتهوعدممعصيتهحتىلاتحدث فتنة أو ضرر.
- لايوجدأدنىتعارضبينأحاديثالإمامة،ولايوجدفيهامايقولإنالعبدالحبشيهوالإمامالأعظم،لأنالإمامالأعظمإذاولىأميراعلىبلدمعينوجبتطاعته - فالإمامالأعظمإمامعلىعمومالمسلمين،والعبدالمستعملأميرعلىمجموعةمنالمسلمين.
- إذاتغلبالعبدالقويذوالشوكةوجبتطاعته،وامتنعتمخالفتهخوفامنإشعالالفتنةبينالمسلمين.
- ليسالمقصودمنلفظ "العبد" فيأحاديثالنبي -صلىاللهعليهوسلم- السابقةالذلةوالمهانة؛لأنهذاالعبدسيكونحراحالتوليتهالخلافة،فليسهناكثمةتعارض بين الإمام القرشي والعبد الحبشي في أمر الإمامة.
- لاتعارضبينحديث«الأئمةمنقريش»وماقررهالإسلاممنالمساواة. وقدأرادالنبيأنيجعلهذاالأمرلمنلهقوةوشوكةوإحكام،فرأىالنبي -صلىاللهعليهوسلم- قريشاأجدربذلك؛لاسيماوأناللهاصطفاهموفضلهمبالحرم وأنها لا تنازع في هذا الأمر، ففعل ذلك درءا للفتنة التي قد تحصل بسبب نزع السيادة منهم.
- إنجعلالإمامةفيقريشليسفيهأيلونمنألوانالتعصبأوالانحيازنحوعرقأونسبدونسببتأهيليلذلككمايدعيهؤلاء،بلإنالشرطالأعظمفيالقائمعلىأمرالمسلمين هو (إقامة الدين)، فإن وجد هذا الشرط في قرشي وغير قرشي، يقدم القرشي لثبوت النص، وإن فقد فيه يبحث عن غيره ممن تحقق فيه هذا الشرط.
- لايعارضحديثخروجالملكالقحطانيحديث«الأئمةمنقريش»؛لأنالأمرمقرونبإقامةالدين،وعليهفلاإشكالفيذلكفقدزالتالقرشية في أكثر حكام الدول الإسلامية وولي غيرهم، بل إن الحديث الأول يقوي الثاني ويعضده؛ لأن الرسول اشترط شرطا وبدون هذا الشرط لا حق للقرشي في الإمامة وهو: «ما أقاموا الدين».
(*) دور السنة في إعادة بناء الأمة، جواد موسى محمد عفانة، جمعية عمال المطابع التعاونية، الأردن، ط1، 1419هـ/ 1999م. تحرير العقل من النقل، سامر إسلامبولي، دار الأوائل، دمشق، 2001م. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ .
[1]. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، (2/ 298: 301).
[2]. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، تحقيق: محمد إبراهيم نصر ود. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 152).
[3]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (21/ 183).
[4]. الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، الذهبي، تحقيق: محمد عوامة أحمد الخطيب، دار القبلة الإسلامية، جدة، ط1، 1413هـ/ 1992م، (2/ 49).
[5]. الجرح والتعديل، الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1372هـ/ 1952م، (4/ 206، 207).
[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأحكام، باب: الأمراء من قريش، (13/ 122)، رقم (7139).
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأحكام، باب: الأمراء من قريش، (13/ 122)، رقم (7140).
[8]. أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، أبو سليمان الخطابي، تحقيق: محمد بن سعيد بن عبد الرحمن آل سعود، مؤسسة مكة المكرمة، السعودية، ط1، 1409هـ/ 1988م، (4/ 2335).
[9]. شرح صحيح البخاري، ابن بطال، (15/ 329).
[10]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (7/ 2868، 2869).
[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: قول الله تعالى ) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى (، (6/ 608)، رقم (3495). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، (7/ 2866)، رقم (4620).
[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، (1/ 164)، رقم (18). وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره.
[13]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث أبي برزة الأسلمي، رقم (19792). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره.
[14]. الزبيبة: واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف، وإنما شبه رأس الحبش بالزبيبة لتجمعها، ولكون شعره أسود.
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، (13/ 130)، رقم (7142).
[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: إمامة العبد والمولى، (2/ 216)، رقم (693).
[17]. مجدع الأطراف: أي مقطوعها، والمراد: أخس العبيد.
[18]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، (7/ 2896، 2897)، رقم (4673).
[19]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، (7/ 2897)، رقم (4680).
[20]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/ 131).
[21]. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة، د. عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار طيبة، السعودية، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص243.
[22] . مفحص القطاة: المكان الذي تبيض فيه القطاة وتفرخ، والقطاة: نوع من الحمام يضرب به المثل في الاهتداء.
[23]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنه، (4/ 22)، رقم (2157). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره.
[24]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/ 131).
[25]. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر، بيروت، 1415هـ/ 1995م، (3/ 34).
[26]. انظر: الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة، د. عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار طيبة، السعودية، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص242.
[27]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/ 131).
[28]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (2/ 219).
[29]. انظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ، ص550.
[30]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (7/ 2900).
[31] . صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أخبار الآحاد، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة، (13/ 245، 246)، رقم (7257).
[32]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/ 131).
[33]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (26/ 258: 261).
[34]. الإسلام والنصرانية، محمد عبده، ص 65، 66، نقلا عن: رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، د. محمد رأفت عثمان، دار القلم، الإمارات، ط2، 1406هـ/ 1986م، ص209، 210.
[35]. مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن ابن خلدون، دار القلم، بيروت، ط6، 1406هـ/ 1986م، ص195.
[36]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، (8/ 3410)، رقم (5828).
[37]. مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دار القلم، بيروت، ط6، 1406هـ/ 1986م، ص195 بتصرف.
[38]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المدنيين، حديث جبير بن مطعم رضي الله عنهم، رقم (16788). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح.
[39]. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة، د. عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار طيبة، السعودية، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص294، 295.
[40]. رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، د. محمد رأفت عثمان، دار القلم، الإمارات، ط2، 1406هـ/ 1986م، ص222: 228 بتصرف.
[41]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش، (6/ 616)، رقم (3500).
[42]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (6/ 618).
-
الاثنين AM 01:27
2020-10-19 - 2665