بين الإنسان والإنسان الطبيعي - مشروع الحصن ll للدفاع عن الإسلام والحوار مع الأديان والرد على الشبهات المثارة ll lightnews-vII

المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 443018
يتصفح الموقع حاليا : 238

البحث

البحث

عرض المادة

بين الإنسان والإنسان الطبيعي

من الأمور المألوفة في الوقت الحاضر أن نتلقى معظم ، إن لم يكن كل ، ما يأتينا من أهل الغرب بكفاءة منقطعة النظير، دون أن نحاول أن نحلله أو نفسره ، ودون أن ندرك أن ما يأتينا منهم يعكس منظورهم وتحيزاتهم (كما هو متوقع من كل ما هو إنساني) . ولذا ثمة غياب ملحوظ للبعد النقدي في الدراسات العربية والإسلامية للمفاهيم والمصطلحات الغربية . إذ أننا نكتفى دائما بنقل أفكارهم من وجهة نظرهم دون أن نطرح أي أسئلة تنبع من رؤيتنا وتجربتنا التاريخية والإنسانية ، ودون أن نتوجه إلى القضايا الكلية والنهائية الكامنة في النصوص التي ننقلها ونشرحها فنحن لا نسأل ، على سبيل المثال ، عما إذا كان الإنسان - كما يتمثل في النص الذي ننقله - كائنا مادية بسيطة أم كائنا مركبا يتجاوز المادة؟ ومن أين يستمد هذا الإنسان معیاریته : من قوانين الحركة أم من شيء أكثر ترکیبا؟ هل هناك هدف أو غاية في حياة الإنسان أم أن حياته نهب الصدفة والحرية العمياء؟ وأخيرا ، هل الإنسان هو مركز الكون القادر على تجاوز عالم المادة ، أم أنه كائن لا أهمية له ، يذعن لظروفه المادية وللحتميات الطبيعية؟ وإخفاقنا في تعريف البعد الكلى والنهائی هو السبب الكامن وراء ما نلاحظ من خلط بين المفاهيم ، إذ يتم تصنيفها والربط أو الفصل بينها على أسس سطحية من التشابه والاختلاف .

وقد ظهر مؤخرا ً مصطلح «فیمینزم feminism» الذي يترجم إلى «النسوية» أو «النسوانية» أو «الأنثوية» وهي ترجمة حرفية لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا تفصح عن أي مفهوم کامن وراء المصطلح ، وقد يكون من المفيد أن نحاول أن نحدد البعد الكلي والنهائي لهذا المصطلح حتى ندرك معناه المركب والحقيقي ، ولإنجاز هذا لابد أن نضع المصطلح في سياق أوسع ، ألا وهو ما نسميه «نظرية الحقوق الجديدة» . فكثير من الحركات التحررية في الغرب في عصر ما بعد الحداثة (عصر سيادة الأشياء وإنكار المركز والمقدرة على التجاوز وسقوط كل الثوابت والكليات في قبضة الصيرورة) تختلف تماما عن الحركات التحررية القديمة التي تصدر عن الرؤية الإنسانية (الهيومانية) المتمركزة حول الإنسان .

وكاتب هذه الدراسة ينطلق من مفهوم معرفی أساسي وهو أن ثمة مواطن اختلافات جوهرية بين الإنسان والطبيعة ، فالإنسان يحوي داخله من التركيب ما يمكنه من تجاوز عالم الطبيعة / المادة ، ومقدرته على التجاوز هذه هي سبب ونتيجة في الوقت نفسه المركزيته في الكون . .

ومنظومة التحديث والعلمنة الغربية تدور في إطار ما نسميه «الحلولية الكمونية المادية» أو «المرجعية الكمونية الذاتية». وما يميز هذه المنظومة ، على مستوى البنية العامة ، أن المبدأ الواحد المنظم للكون ليس مفارقأ له أو منوها عنه ، متجاوزا له ، وإنما كامن (حال) فيه ، ولذا فالكون (الإنسان والطبيعة) يصبح مرجعية ذاته ، ومكتف بذاته .

هذا هو المبدأ البنيوي العام ، أو النموذج الثابت الكامن ، ولكن هذا النموذج يأخذ شكل متتالية تتحقق في الزمان ، تأخذ شكل حلقات تتبع الواحدة الأخرى ، يمكن تلخيصها فيما يلي :

1 - الواحدية الإنسانية (الهيومانية) : تبدأ متتالية التحديث والعلمنة بأن يواجه الإنسان الكون دون وسائط ، فيعلن أنه سيد الكون ومركزه ، موضع الحلول ، ولذا فهو مرجعية ذاته ، الذي لا يستمد معياريته إلا منها .

وانطلاقا من هذا الافتراض ، يحاول هذا الإنسان أن يؤكد جوهره الإنساني (المستقل عن الطبيعة) وأن يتجاوز الطبيعة / المادة بقوة إرادته وأن يفرض ذاته الإنسانية عليها باسم إنسانيتنا المشتركة ، أي باسم الإنسانية جمعاء .

۲ - الواحدية الإمبريالية : يتحدث الإنسان الذي يؤكد جوهره الإنساني باسم كل البشر . ولكن في غياب أية مرجعية متجاوزة لذاته الفردية ، ينغلق الإنسان على هذه الذات ، فيصبح تدريجيا إنسانا فردا لا يفكر إلا في مصلحته ولذته ، ولا يشير إلى الذات الإنسانية وإنما إلى الذات الفردية . حينئذ تصبح الذات الفردية ، لا «الإنسانية جمعاء» ، هي موضع الحلول . فيؤله الإنسان الفرد نفسه في مواجهة الطبيعة وفي مواجهة الآخرين ويصبح إنسانا إمبريالية . وحينما يستمد هذا الإنسان الإمبريالي معياريته من ذاته الإمبريالية التي تستبعد الآخرين ، يصبح إنسانة عنصرية يحاول أن يستعبد الآخرين ويوظفهم ، بل ويوظف الطبيعة نفسها لحسابه ، وهنا تظهر الثنائية الصلبة ، ثنائية الأنا والآخر .

٣- ثنائية الإنسان والطبيعة الصلبة : بعد المراحل السابقة التي تتميز بالتمركز حول الذات الإنسانية (إما بطريقة إنسانية د هیومانية ، أو بطريقة عنصرية إمبريالية) يكتشف الإنسان تدريجيا أن الطبيعة / المادة هي الأخرى موضع الحلول وأنها هي أيضا مرجعية ذاتها ومكتفية بذاتها . فتظهر إثنينية وازدواجية صلبة أخرى ، ازدواجية الإنسان المتمرکز حول ذاته الذي يشغل مرکز الكون ، مقابل الطبيعة المكتفية بذاتها التي تشغل مركز الكون .

4 - الواحدية الصلبة : سرعان ما تنحل هذه الازدواجية الصلبة إذ تصبح الطبيعة/ المادة وحدها هي موضع الحلول وتحل الواحدية الطبيعة / المادة محل الواحدية الإنسانية . فيبدأ الجوهر الإنساني في الغياب تدريجيا ويحل الطبيعى محل الإنساني، ويستمد الإنسان معیاریته لا من ذاته وإنما من الطبيعة / المادة ويزداد اتحاده بالطبيعة إلى أن ينوب فيها تماما ، ذوبان الجزء في الكل .

حينئذ يظهر الإنسان الطبيعي ، وهو إنسان ليس فيه من الإنسان سوى الاسم ، إنسان جوهره طبیعی / مادی وليس إنساني ، فهو يذعن للطبيعة ويتبع قوانينها ، وبعد أن كان يشير إلى ذاته ( الإنسانية أو الفردية) ، يصبح جزء لا يتجزأ من الطبيعة بشير إليها ، أي يتم تفكيك الإنساني ويتم رده إلى الطبيعي .

وهكذا تقوّض مقولة الإنسان وفكرة الطبيعة البشرية المنفصلة عن قوانين المادة ، والتي تتسم بقدر معقول من الثبات والاستمرارية ، أي أننا انتقلنا من عالم يتسم بالثنائية والصراع ، مركزه الإنسان أو الطبيعة ، إلى عالم واحدی مركزه الطبيعة / المادة وحسب.

ومن الجدير بالملاحظة أن هذا العالم - رغم لا إنسانيته - عالم له مرکز (لوجوسنترك

logo – centric في المصطلح ما بعد الحداثي) ، ولذا فهو يتسم بما نسمية «الواحدية الصلبة »

5 - الواحدية السائلة : تتصاعد معدلات الحلول والتفكيك،

وتتعدد مراكز الحلول إلى أن تصبح الصيرورة هي مركز الحلول ، ويصبح النسبي هو المطلق الوحيد ، ويصبح التغير هو نقطة الثبات الوحيدة ، حينئذ تفقد الطبيعة / المادة مركزيتها ، باعتبارها المرجعية النهائية .

ويغيب في نهاية الأمر كل يقين وتسيطر النسبية تماما وتتعدد المراكز ويسقط كل شيء في قبضة الصيرورة الكاملة . ويفضی بنا كل هذا إلى عالم مفكك لا مركز له ، ويتحول العالم إلى كيان شامل واحد تتساوی تمامأ فيه الأطراف بالمركز ، عالم لا يوجد فيه قمة أو قاع ، أو يمين أو يسار (أو ذكر أو أنثى) ، وإنما يأخذ شكلا مسطحة تقف فيه جميع الكائنات الإنسانية والطبيعية على نفس السطح وتصفى فيه كل الثنائيات ، وتنفصل الدوال عن المدلولات فتتراقص بلا جذور ولا مرجعية ولا أسس . وتصبح كلمة «إنسان» دا بلا مدلول ، أو دا متعدد المدلولات ، وهذا هو التفكيك الكامل ، وهذا هو الانتقال من الثنائية الصلبة و الواحدية الصلبة إلى الواحدية السائلة التي لا تعرف حدودة ولا قيود . وهو أيضا الانتقال من عالم التحديث والحداثة (والإمبريالية) إلى عصر ما بعد الحداثة (والنظام العالمي الجديد) .

ورغم الاختلاف المعرفي والفلسفي بين الواحدية الصلبة والواحدية السائلة إلا أنه يمكن القول بأن نقط التشابه بينهما - من منظور هذا البحث - أهم من نقط الاختلاف ، فجوهرهما هو تغييب الإنساني وتفكيكه وتقويضه ، وتذويبه إما في عالم مركزه الطبيعة ، أو في عالم لا مركز له .

هذا النمط (الواحدية الهيومانية (عالم مركزه الإنسانية جمعاء) - الواحدية الإمبريالية لعالم مركزه الذات الفردية - الثنائية الصلبة [صراع بين الإنسان والطبيعة] - الواحدية الصلبة [عالم مركزه الطبيعة] - الواحدية السائلة (عالم بلا مرکز سقط في قبضة الصيرورة]) هو نمط أساسي في الفكر المادي منذ بداية التفكير الفلسفي . ولكنه يظهر بشكل متبلور في الفلسفات المادية في العصر الحديث ، فبعد مرحلة هیومانية أولية قصيرة ( humanism) تظهر الإمبريالية ثم العنصرية والعداء العميق للانسان. (anti-humanism).

ويقسّم البشر في منظومة نيتشه إلى سوبرمان (superman) أي الرجل الأعلى ، أو الإنسان الذي تجاوز الإنسان ، وسبمان (subman) أي الرجل الأدنى ، أو الإنسان الذي هو دون الإنسان .

وهكذا يظهر عالم صراعی ثنائي ينقسم فيه البشر إلى : جزار وضحية - قاتل و مقتول - أقوياء وضعفاء - باطشون ومتكيفون مرنون .

ولكن ما يجمع السوبر مان والسبمان أن كليهما لا يعبر عن الجوهر الإنساني المتجاوز للطبيعة/ المادة وإنما هو جزء من عالم الطبيعة / المادة الدارويني الصراعى الواحدي الصلب . وأسبقية الطبيعة/ المادة على الإنسان تترجم نفسها إلى أسبقية الفرد على المجتمع وأسبقية المصلحة الشخصية والمنفعة الفردية على قيم المجتمع ومتطلبات بقائه .

هذا العالم يتسم بالحركة الدائمة ، ولذا سرعان ما ينحل العالم الثنائي الصلب والعالم الواحدى الصلب إلى عالم لا مركز له ، في حالة سيولة شاملة ، فيحل دریدا محل نيتشه ، ويحل مادونا ومايكل جاكسون محل طرزان ودراكيولا .

  • الخميس PM 05:12
    2022-08-18
  • 1281
Powered by: GateGold