المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414278
يتصفح الموقع حاليا : 175

البحث

البحث

عرض المادة

الصُّوفِيَّةُ والإلهَامُ

لقد كانت قصة موسى والخَضِر -عليهما السلام- مَرْتعًا خَصِبًا لخيال الصوفية؛ حتى زعموا أن الخَضِرَ حيٌّ أبدَ الدهر، وأنه يلتقي بالأولياء، ويعلمهم علم الحقيقة، والأوراد، وأنه صاحب شريعة، وعلم باطني يختلف عن الشريعة الظاهرية، وأن علمه لدني موهوب من اللَّه بغير وحي الأنبياء، وكل ذلك بناءً على أنه وليٌّ، وليس نبيًّا.

قال إمامهم ابن عربي في "الفتوحات المكية":

"اعلم أيها الولي الحميم -أيدك اللَّه- أن هذا الوتد هو خَضِر صاحب موسى -عليه السلام- أطال اللَّه عمره إلى الآن، وقد رأينا من رآه، واتفق لنا في شأنه أمر عجيب" (1).

ذِكْرُ الأَدِلَّةِ علَى أنَّ الخَضِرَ نَبِيٌّ وَلَيْسَ وَليًّا فحَسْبُ:

قال الفخر الرازي في معرض حديثه عن الخَضِر -عليه السلام- وهل هو نبيٌّ أو ولي: والأكثرون على أن ذلك العبد كان نبيًّا، واحتجوا عليه بوجوه:

الحجة الأولى: أنه -تعالى- قال: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف: 65]، والرحمة هي النبوة بدليل قوله تَعَالَى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32].

وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86].

والمراد من هذه الرحمة النبوة.

الحُجَّةُ الثَّانِيَةُ:

قوله -تَعَالَى-: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، وهذا يقتضي أنه -تعَالَى- علَّمَهُ بلا واسطةِ تعليمِ مُعَلِّم، ولا إرشاد مرشد، وكل من عَلَّمَهُ اللَّه لا بواسطة البشر، وجب أن يكون نبيًّا يعلم الأمور بالوحي من اللَّه.


(1) "الفتوحات المكية" (3/ 180).

الحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:

أن موسى -عليه السلام- قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، والنبي لا يتبع إلا النبي في التعليم.

الحُجَّةُ الرَّابِعَةُ:

أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى؛ حيث قال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68].

وأما موسى فإنه أظهر التواضع؛ حيث قال: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69].

وكل ذلك يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى، ومن لا يكون نبيًّا لا يكون فوق النبي.

الحُجَّةُ الخَامِسَةُ:

احتج الأصمُّ على نبوَّته بقوله في أثناء القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]. ومعناه فعلته بوحي اللَّه، وهو يدل على النبوة" (1) اهـ.

ومما يَدُلُّ على أن الخضر -عليه السلام- نبيٌ من أنبياء الله، وليس وليًّا فحسب، قوله لموسى -عليه السلام-: "يَا مُوسَى إنِّي عَلَى عِلْم مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، وأَنْتَ عَلَى عِلْم مِنْ عِلْم اللَّهِ علَّمَكَهُ اللَّه لا أعْلَمُهُ".

وقال لموسى -أيضًا-: "مَا نَقصَ علْمِي وعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا مِثْلَ ما نقَصَ هذَا العُصُفُورُ بمِنْقَارِهِ مِنَ البَحْرِ" (2).

"ولا شك أن ما فعله الخَضِرُ فعله عن وَحْي حقيقي من اللَّه، وليس عن مجرد خيال، أو إلهام؛ لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن؛ ولذلك قال الخضر:


(1) "التفسير الكبير" (22/ 148).
(2) رواه البخاري (6/ 432 - فتح).

{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، فلم يفعل عن أمر الله الصادق، ووحيه القطعي، ومثل هذا الأمر، والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا وحي بعده، ومن ادَّعى شيئًا من ذلك، فقد كفر؛ لأنه بذلك خالف القرآن الذي يقول اللَّه فيه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40] (1) ".

وقد أيَّد القولَ بنبوة الخَضِر العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي -رحمه اللَّه-، ثم ناقش حجية الإلهام، وضوابط التعامل معه؛ حيث قال -رحمه اللَّه - تَعالَى-:

[قوله -تَعَالى-: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].

اعلم أولًا أن الرحمة تكَرَّرَ إطلاقها على النبوة في القرآن، وكذلك العلم المؤتى من الله تكرَّرَ إطلاقه فيه على علم الوحي، فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله -تَعَالَى- في "الزخرف": {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ... الآية [الزخرف: 31، 32]؛ أي نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقوله -تَعَالَى- في سورة "الدخان": {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ... الآية [الدخان: 4، 6]، وقوله -تَعَالَى- في آخر "القصص": {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية [القصص: 86] ...

ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله -تَعَالَى-: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} الآية [يوسف: 68] ... إلى غير ذلك من الآيات.


(1) انظر: "الفكر الصوفي" ص (132).

ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللَّذَين امتنَّ اللَّه بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله -تَعَالَى- عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]؛ أي وإنما فعلته عن أمر اللَّه -جل وعلا-، وأمر اللَّه إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تُعْرَفُ بها أوامر اللَّه ونواهيه إلا الوحي من الله -جلا وعلا-، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سُفُن الناس يخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس، وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله -تعَالَى-، وقد حَصَرَ -تَعَالَى- طُرُقَ الإنذار في الوحي في قوله -تَعَالَى-: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45]، و"إنما" صيغة حصر، فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام.

فالجواب: أن المقرر في الأصول: أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء؛ لعَدَمِ العصمة، وعدمِ الدليل على الاستدلال به.

بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به، وما يزعمه بعض المُتصَوِّفَةِ من جوَازِ العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضًا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره، جاعلين الإلهام كالوحي المسموع، مُسْتدِلِّينَ بظاهر قوله -تَعَالَى- {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] (1)، وبخبر: "اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ؛ فإنَّهُ يَنْظُرُ بنُورِ اللَّهِ" (2)، كله باطل لا يُعَوَّلُ عليه؛ لعدم اعتضاده بدليل، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان، وقد ضُمِنَتِ الهداية في اتباع الشرع، ولم تُضْمَنْ في اتباع الخواطر والإلهامات.


(1) والجواب عن استدلالهم بالآية هنا: أن شرح الصدر لا يراد به الإلهام كما زعموا، ولكن المراد به شرح الصدر بنور التوفيق حتى ينظر في الحجج والأدلة، فيستنبط منها بفضل الله -تعالى-.
(2) رُوي من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي أمامة الباهلي، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وثوبان -رضي الله عنهم-، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 146)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1821)، وكذا ضعفه محقق "مسند الشهاب" (1/ 387)، وانظر: "المقاصد الحسنة" (59)، و"فيض القدير" للمناوي (1/ 142).

والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يَثْلَجُ له الصدر من غير استدلال بوحي، ولا نَظَرٍ في حجة عقلية، يخْتَصُّ اللَّه به من يشاء من خلقه، أما ما يُلْهَمُه الأنبياءُ مما يلقيه اللَّه في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم؛ لأنهم معصومون بخلاف غيرهم، قال في "مراقي السعود" في كتاب الاستدلال:

وَيُنْبَذ الإلْهَامُ في العَرَاءِ ... أَعْنِي بِهِ إلْهَامَ الأولِيَاءِ

وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ مَنْ تصَوَّفَا ... وَعِصْمَةُ النَّبِيِّ تُوجِبُ اقْتِفَا (1)

وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تُعْرَفُ بها أوامر اللَّه ونواهيه، وما يُتقرب إليه به من فعل وترك، إلا عن طريق الوحي؛ فَمَنِ ادَّعَى أنه غَنِيٌّ في الوصول إلى ما يُرْضِى ربه عن الرسل، وما جاءوا به -ولو في مسألة واحدة-؛ فلا شك في زندقته، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تُحْصَى، قال -تَعَالَى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ولم يَقُلْ: حتى نُلْقِيَ في القلوب إلهامًا، وقال -تَعَالَى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الآية [طه: 134].

والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدًّا، وقد بَيَّنَّا طرَفًا من ذلك في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) [الإسراء: 15]، وبذلك تعلم أن ما يَدَّعِيهِ كثير من الجهلة المدعين التصوف -من أن لهم ولأشياخهم طريقًا باطنة توافق الحق عند اللَّه، ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع؛ كمخالفة ما فعله الخَضِرُ لظاهر العلم الذي عند موسى - زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره.


(1) "نشر البنود على مراقي السعود" ص (261، 262).
(2) "أضواء البيان" (3/ 429)، وما بعدها.

وقال القرطبي -رحمه الله- في "تفسيره" (1) ما نصه: "قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يُحْكَمُ بِهَا على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء، وأهل الخصوص؛ فلا يَحْتَاجُونَ إلى تلك النصوص؛ بل إنما يُرَادُ منهم ما يقَعُ في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم، وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسررار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخَضِرِ؛ فإنه استغنى بما تجَلَّى له من العلوم عمَّا كان عند موسى من تلك الفهوم (2)، وقد جاء فيما ينقلون: "اسْتَفْتِ قَلْبَك وَإنْ أفْتَاكَ المُفْتُونَ"، قال شيخنا -رضي اللَّه عنه-: وهذا القول زندقة وكفر، يُقْتَلُ قائله، ولا يُسْتَتَابُ؛ لأنه إنكار ما عُلِمَ من الشرائع؛ فإن اللَّه -تَعَالَى- قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تُعْلَمُ إلا بواسطة رسله السُّفَرَاءِ بينه وبين خلقه، وهم المُبَلِّغُونَ عنه رسالته، وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصَّهُمْ بما هنالك؛ كما قال -تَعَالَى-: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]، وقال -تَعَالَى-: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقال -تَعَالَى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]، إلى غير ذلك من الآيات، وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله -تَعَالَى- التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يُعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقًا أخرى يُعرف بها أمره ونهيه غير الرسل؛ حيث يُسْتَغْنَى عن الرسل- فهو كافر يُقتل ولا يُسْتَتَابُ، ولا يُحتاج معه إلى سؤال وجواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ الذي قد جَعَلَهُ اللَّه خاتَمَ أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول".


(1) "الجامع لأحكام القرآن" (11/ 40، 41).
(2) وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل الرد على هذا الزعم ص (258) وما بعدها.

وبيان ذلك أن من قال: يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه حكم الله -تَعَالَى-، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحْتَاجُ مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة؛ فإن هذا نحو ما قاله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفَثَ في رُوعِي" الحديث (1). انتهى من "تفسير القرطبي".

وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن الزنديق لا يُسْتَتَابُ هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بيَّنَا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم، وما يُرجِّحُهُ الدليل في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في سورة "آل عمران" (2)، وما يسْتَدِلُّ به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص؛ كحديث: "اسْتَفْتِ قلْبَكَ، وإنْ أفْتَاكَ النَّاسُ، وأفْتَوْكَ" (3)، لا دليل 

فيه البتة على اعتبار الإلهام؛ لأنه لم يقل أحد ممن يُعْتَدُّ به: إن المفتيَ الذي تُتَلقى الأحكامُ الشرعية مِن قِبَلِه القلبُ، بل معنى الحديث: التحذير من الشُّبَهِ؛ لأن الحرام بيِّنٌ، والحلال بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهة، لا يعلمها كل الناس؛ فقد يفتيك المفتي بحِلِّية شيء، وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حرامًا، وذلك باستنادٍ إلى الشرع؛ فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، والحديثُ كقوله: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى ما لَا يَريبُكَ"، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْبِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإثْمُ مَا حَاكَ في نفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ علَيْهِ النَّاسُ" رواه مسلم من حديث النَوَّاس بن سمعان -رضي اللَّه عنه-.

وحديث وابصة بن معبد -رضي اللَّه عنه- المُشَارُ إليه، قال: أتيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ؟ " قلت: نعم، قال: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البِرُّ ما اطْمَأنَّتْ إليْهِ النَّفْسُ، واطْمَأنَّ إلَيْهِ القَلْبُ، والإثْمُ مَا حَاكَ في النَّفْسِ، وترَددَ في الصَّدْرِ، وإنْ أفْتَاكَ النَّاسُ، وأفْتَوْكَ". قال النووي في "رياض الصالحين": حديث حسن، رواه أحمد والدرامي في "مسنديهما"، ولا شك أن المراد بهذا الحديثِ ونحوه: الحث على الوَرَعِ، وترك الشُّبَهِ، فلو التبسَتْ -مثلًا- ميتة بمُذَكَّاة، أو امرأة محرم بأجنبية، وأفتاك بعض المفتين بحلِّية إحداهما؛ لاحتمال أن تكون هي المُذَكَّاة في الأول، والأجنبية في الثاني، فإنك إذا استفتيت قلبك، علمتَ أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت، وأن ترك الحرام، والاستبراء للدِّين والعِرض، لا يتحقق إلا بتجنب الجميع؛ لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب، فهذا يَحِيك في النفس، ولا تنشرح له؛ لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى، وكل ذلك مُسْتنِدٌ لنصوص الشرع لا للإلهام.

 

 


(1) تقدم تخريجه ص (169).
(2) "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ص (63 - 66) ملحق بالمجلد الأخير من "تتمة أضواء البيان".
(3) انظر شرحه وافيًا في "الاعتصام" للشاطبي (2/ 153 - 163)، واستفتاء القلب إنما يكون في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة، وقال الغزالي -غفر الله له-:
"واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حَرَّم فيجب الامتناع، ثم إنه لا يُعَوَّل على كل قلب، فرب موسوس ينفي كل شيء، ورب مساهل ينظر إلى كل شيء، فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالِم الموفَّق المراقب لدقائق الأحوال، فهو المِحَك الذي تُمتحن به حقائق الصدر، وما أعزَّ هذا القلب! ". اهـ. نقله عنه في "البحر المحيط" (6/ 105)، وانظر: "إرشاد الفحول" ص (232).
وقيل: إن الحديث كان لوابصة في واقعة تخصه، ووقائع الأعيان لا عموم لها، وعلى فرض عمومه فموضع هذا: فيما لا نص فيه، ولا حجة شرعية، وإلا وجب اتباع الشرع لعموم الأدلة في ذلك، وانظر: "فيض القدير" (1/ 495).

ومِمَّا يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخرَّاز القواريري -رحمه اللَّه-: "مذهبنا هذا مُقيَّدٌ بالكتاب والسنة" (1)، نقله عنه غير واحد ممن ترجمه -رحمه اللَّه-، كابن كثير، وابن خلكان، وغيرهما، ولا شك أن كلامه المذكور هو الحق؛ فلا أمر ولا نهي إلا على ألسنة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وبهذا كُلِّه تعلم أن قتل الخَضِرِ للغلام، وخرقه للسفينة، وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، دليل ظاهر على نُبُوَّتِه، وعزا الفخر الرازي في "تفسيره" القول بنبوته للأكثرين.

ومما يُسْتَأْنَسُ به للقول بنبوته: تواضع موسى -عليه الصلاة والسلام- له في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، وقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]، مع قول الخَضِر له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] اهـ (2).

وقال العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه اللًه- تعليقًا على أثر: "يا سَاريَةُ الجَبَلَ":

"ومما لا شك فيه أن النداء المذكور إنما كان إلهامًا من اللَّه -تَعَالَى- لعمر، وليس ذلك بغريب عنه؛ فإنه "محدَّث"؛ كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن ليس فيه أن عمر كُشِفَ له حالُ الجيش، وأنه رآهم رأي العين؛ فاستدلال بعض المتصوفة بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء، وعلى 

إمكان اطلاعهم على ما في القلوب من أبطل الباطل، كيف لا، وذلك من صفات رب العالمين، المنفرد بعلم الغيب، والاطلاع على ما في الصدور، وليت شعري، كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل، واللَّه -عز وجل- يقول في كتابه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]، فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رسل من رسل اللَّه حتى يصح أن يُقَالَ إنهم يطلعون على الغيب بإطلاع الله إياهم؟!! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم!!

على أنه لو صَحَّ تسمية ما وَقَعَ لعمر -رضي اللَّه عنه- كَشْفًا، فهو من الأمور الخارقة للعادة، التي قد تقع من الكافر -أيضًا-، فليس مجرد صدور مثله بالذي يدل على إيمان الذي صدر منه فضلًا عن أنه يدل على وَلايته؛ ولذلك يقول العلماء: "إن الخارق للعادة: إن صدر من مسلم فهو كرامة، وإلا فهو استدراج"، ويضربون على هذا مثلًا الخوارقَ التي تقع على يدِ الدجَّال الأكبر في آخر الزمان؛ كقوله للسماء: أمطري، فتمطر، وللأرض: أنبتي نباتك، فتنبت، وغير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة.

ومن الأمثلة الحديثة على ذلك؛ ما قرأته اليوم من عدد (أغسطس) من السنة السادسة من مجلة "المختار" تحت عنوان: "هذا العالم المملوء بالألغاز وراء الحواس الخمس"، ص (23): قصة (فتاة شابة ذهبت إلى جنوب أفريقية للزواج من خطيبها، وبعد معاركَ مريرةٍ معه، فسخت خِطبتها بعد ثلاثة أسابيع، وأخذت الفتاة تذرع غرفتها في اضطراب، وهي تصيح في أعماقها بلا انقطاع: "أواه! يا أماه ... ماذا أفعل؟ "، ولكنها قررت ألا تزعج أمها بذكر ما حدَثَ لها، وبعد أربعة أسابيع تلقت منها رسالةً جاء فيها: ماذا حدث؟ لقد كنت أهبط السلم عندما سمعتك تصيحين قائلة: "أوَّاهُ يا أماه .. ماذا أفعل؟ "، وكان تاريخ الرسالة متفقًا مع تاريخ اليوم الذي كانت تصيح فيه من أعماقها).

 


(1) ومثله ما حكاه شيخُ الإسلام ابن تيمية عن أبي الحسن الشاذلي قال: "قد ضُمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام" "مجموع الفتاوى" (2/ 226).
وقال أبو سليمان الداراني: "إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنة". "تلبيس إبليس" ص (162).
وقال أبو عثمان النيسابوري: "من أمَّرَ على نفسه الشريعة قولًا وفعلًا، نطق بالحكمة، ومن أمَّر على نفسه الهوى قولًا وفعلًا، نطق بالبدعة؛ لأن اللَّه -تَعَالَى- يقول: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. وقال أبو عمرو بن نجيد: "كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة؛ فهو باطل" كما في: "قطر الولي" ص (252).
(2) "أضواء البيان" (4/ 158 - 162).

وفي المقال المشار إليه أمثلة أخرى مما يدخل تحت ما يسمونه اليوم بـ "التخاطر" (1)، و"الاستشفاف"، ويعرف باسم "البصيرة الثانية"، اكتفينا بالذي أوردناه؛ لأنها أقرب الأمثال مشابهة لقصة عمر -رضي الله عنه- التي طالما سَمعتُ من يُنكرها من المسلمين؛ لظنه أنها مِمَّا لا يُعْقَلُ، أو أنها تتضمن نسبة العلم بالغيب إلى عمر، بينما نجد غير هؤلاء ممن أشرنا إليهم من المتصوفة يستغلونها لإثبات إمكان اطلاع الأولياء على الغيب، والكل مخطئ؛ فالقصة صحيحة ثابتة، وهي كرامة أكرم اللَّه بها عمر، حيث أنقذ به جيش المسلمين من الأسر أو الفَتك به، ولكن ليس فيها ما زعمه المتصوفة من الاطلاع على الغيب، وإنما هو من باب الإلهام (في عرف الشرع)، أو (التخاطر) في عرف العصر الحاضر، الذي ليس معصومًا؛ فقد يصيب كما في هذه الحادثة، وقد يخطئ كما هو الغالب على البشر؛ ولذلك كان لابد لكل ولي من التقيد بالشرع في كل ما يصدر منه من قول أو فعل خشية الوقوع في المخالفة، فيخرج بذلك عن الولاية التي وصفها الله -تَعَالَى- بوصف جامع شامل فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]، ولقد أحسن من قال:

إذَا رَأَيْتَ الشَّخْصَ قَدْ يَطِيرُ ... وَفَوْقَ مَاءِ البَحْرِ قَدْ يَسِيرُ

وَلَمْ يَقِفْ عَلَى حُدُودِ الشَّرْعِ ... فَإنَّهُ مُسْتَدْرَجٌ وَبِدْعِي" (2)

* * *


(1) وهذا ما يعرف في "علم النفس غير الحِسِّيِّ" أو "البارا سيكولوجيا" Parapsychology بالتخاطر أو التليباثي Telepathy، وهو اتصال العقول عن طريق انتقال الخواطر Thought Transference أو قراءة الأفكار Mind Reading بأن يحدث الاتصال والاتفاق بين الأفكار في نفس اللحظة مع توصيل التأثيرات من غير استعانة بمسالك الحس المألوفة، انظر: "موسوعة علم النفس والتحليل النفسي" ص (182)، و"موسوعة الطب النفسي" (1/ 332، 333).
(2) "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3/ 102 - 104)، حديث (1110).

  • الثلاثاء AM 10:47
    2022-08-02
  • 932
Powered by: GateGold