المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414177
يتصفح الموقع حاليا : 118

البحث

البحث

عرض المادة

رُؤيَة رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المَنَامِ

قد يظُنُّ بعض الناس أن هناك نوعًا من الرؤيا لا يحتاج إلى تبين، فهي عندهم صادقة أبدًا، وهي رؤية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، ولا شَكَّ أن رؤيا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حقٌّ وصدقٌ؛ وذلك لما ثبت من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الحَقَّ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَزَايَا بي" (1)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من رآني فإني أنا هو، فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي" (2) وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَآنِي في المنَامِ فَسَيَرَانِي في اليَقَظَةِ -وفي روايةٍ عند مسلم: "أو: لكأنما رآني في اليقظة"-، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي" (3)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَآنِي في المَنَامِ فَقَدْ رَآني، إنَّهُ لَا يَنْبَغِي للشَّيْطَانِ أنْ يَتَمَثَّلَ في صُورتي" (4).

ولكن ينبغي أن نَعْلَمَ أن رُؤيَا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- تكون حقًّا إذا كانت الصورة المرئية له هي صورته الحقيقية التي كان عليها، والتي جاء وصفها في الأحاديث الصحيحة، فإنها هي الصورة التي لا يتمثل بها الشيطان، أما إذا رُؤِيَ بصورة غير صورته، وزعمت الصورة المرئية أنها الرسول، فالأمر ليس كذلك، فالممنوع أن يَتَمَثَّلَ الشيطان في الصورة الحقيقية للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، أما أن يزعم الشيطان أنه الرسول، وقد تَمَثَّلَ في صورة غير صورة 

الرسول، فهذا أمر لم ينفِهِ الحديث.

إذن هناك فرق كبير بين أن يقول: "من رآني"، وبين: "من رأى شخصًا يدعي أنه أنا"، أو"من رأى شخصًا، وظن أنه أنا"، فإن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من رآني" يعني رؤيته -صلى الله عليه وسلم- بشكله، وصورته التي كان عليها.

وهناك فرق -أيضًا- بين قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإن الشيطان لا يتمثل بي"، وبين: "فإن الشيطان لا يدعي أنه أنا"؛ فالأولى تعني أن الشيطان لا يستطيع أن يتراءى بصورة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشكله الذي كان عليه في حياته؛ بحيث لو رآه أحد الصحابة -رضِيَ اللَّهُ عنهم- لعرفه -صلى اللَّه عليه وسلم-.

إن الشيطان ممنوع من أن يتمثل بشخص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن ليس ممنوعًا من أن يقول: "أنا رسول اللَّه"، ويكون في صورة غير صورته -صلى اللَّه عليه وسلم-.

 


(1) رواه من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-: البخاري (6996) (12/ 383)، ومسلم (2267)، ومعنى: "لا يَتَزَايَا بي": لا يظهر في زيي، وفي رواية أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه-: "فإن الشيطان لا يتكونني" أي: لا يتكون في صورتي، كما قال الحافظ في "الفتح" (12/ 383).
(2) رواه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: الترمذي (2280)، وهو في "صحيح سنن الترمذي" برقم (1859).
(3) رواه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: البخاري (6993) (12/ 383)، ومسلم (2266) (11).
(4) رواه من حديث جابر -رضي الله عنه-: الإمام أحمد (3/ 350)، ومسلم (2268) (12)، وابن ماجه (3902).

قال الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه-: (وقوله: "لا يستطيع أن يتمثل بي" يشير إلى أن اللَّه -تعالى- وإن أمكن الشيطان من التصور في أي صورة أراد؛ فإنه لم يُمَكِّنه من التصور في صورة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذهب إلى هذا جماعة فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها) (1).

وقال العلَّامة ابن مفلح المقدسي -رحمه اللَّه-:

(قال أهل العلم: إنما تصح رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأحد رجلين: أحدِهما: صحابي رآه يعلم صفته؛ فإنه إذا رآه في المنام جزم بأنه رأى مَثَلَه المعصوم من الشيطان.


(1) "فتح الباري" (12/ 386).

وثانيهما: رجل تكرر عليه سماع صفاته المنقولة في الكتب، حتى انطبعت في نفسه صفاته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأما غير هذين فلا يحصل الجزم؛ بل يجوز أن يكون من تخييل الشيطان، ولا يُفيده قول المرئي: "أنا رسول الله"، ولا قولُ من يحضر: "هذا رسول اللَّه"، لأن الشيطان يكذب لنفسه، ويكذب لغيره، فلا يحصل الجزم) (1).

وروى الترمذي في "الشمائل" عن عوف بن أبي جميلة، عن يزيد الفارسي -وكان يكتب المصاحف- قال: رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام زمن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، فقلت لابن عباس: "إني رأيت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- في النوم"، فقال ابن عباس: إن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إن الشيطان لا يستطيع أن يتشبه بي، فمن رآني في النوم فقد رآني"، هل تستطيع أن تنعت هذا الرجل الذي رأيته في النوم؟ فقال: نعم، أَنْعَتُ لك رجلًا بين الرجلين، جسمه ولحمه أسمر إلى البياض، أكحل العينين، حسن الضحك، جميل دوائر الوجه، قد مَلَأَت لحيته ما بين هذه إلى هذه، قد ملأت نحره، قال عوف: ولا أدري ما كان هذا النعت.

فقال ابن عباس: "لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا" (2).

وروى الحافظ في "الفتح" (من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن سليمان بن حرب -وهو من شيوخ البخاري- عن حَمَّاد بن زيد، عن أيوب قال: "كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قَصَّ عليه رجل أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "صِفْ لي الذي رأيته"، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: "لم تَرَهُ"، وسنده صحيح). اهـ (3).


(1) "مصائب الإنسان من مكائد الشيطان" ص (172).
(2) "الشمائل" للترمذي رقم (412)، وحسنه الألباني -رحمه الله-.
(3) "فتح الباري" (2/ 384).

وعن عاصم بن كُليب قال: حدثني أبي؛ أنه سمع أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثلني"، قال أبي: فحدثت به ابن عباس، فقلت: قد رأيتُه -أي النبي- صلى اللَّه عليه وسلم -في المنام- فذكرتُ الحسنَ بنَ علي -رضي الله عنهما- فقلت: شبَّهْتُه به، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إنه كان يُشبهه" (1).

- فمِن ثم قال الحافظ -رحمه الله-: "قال علماء التعبير: إذا قال الجاهل: (رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-)؛ فانه يُسأل عن صفته، فإن وافق الصفة المروية؛ وإلا فلا يُقبل منه". اهـ (2).

(وقصة الشيخ عبد القادر مع الشيطان معروفة، وذلك حين قال له الشيطان: "أنا ربك، قد أبحتك من فرائضي"، فقال له الشيخ: "اخْسأ يا عدو الله"، فقال الشيطان: "غَلَبْتَنِي بفقهك يا عبد القادر"، فَسُئِلَ عن كيفية وقوفه على خُدْعَةِ الشيطان، فقال: إن الشيطان قال: "أنا ربك"، ولم يجرؤ على أن يقول: "أنا الله"، وزعم أنه قد أَحَلَّنِي من فرائض العبادات، والله -عَزَّ وجَلَّ- لم يُحِلَّ ذلك لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكيف يحلها لي؟

فإذا كان يُمْكِنُ للشيطان أن يقول: أنا ربك؛ ألا يمكنه أن يقول "أنا النبي"، من غير أن يتمثَّل بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالضرورة) (3).


(1) أخرجه الترمذي في "الشمائل" رقم (411)، والحاكم (4/ 393). وصححه، ووافقه الذهبي،
وجوَّد إسناده الحافظ في "الفتح" (12/ 384)، وصححه الألباني.
(2) "فتح الباري" (12/ 387).
(3) انظر: "شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة" ص (394).

إن رؤياه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام آمرًا بشيء، أو ناهيًا عن آخر، أو مظهرًا حبه لأمر أو شخص أو طائفة، أو مبديًا كراهته وسخطه على فرد أو جماعة، أو موقف أو عمل -كل ذلك لا يؤخذ به، ولا يثبت بمثله حكم شرعي من وجوب أو استحباب أو تحريم أو كراهة أوإباحة، أو ولاء أو براءة أو عداوة، وإنما يعرض ما يكون من ذلك على الشريعة الثابتة المعصومة، فإن وافقها فبها ونعمت، وتكون الحجة هي الشريعة، أما الرؤيا فللتأنيس فقط (1).

[فائدة]

قال الشيخ الأمين بن محمد المحجوب الضرير في رسالته "هدى المستهدي إلى بيان المهدي والمتمهدي": "من رأى أحدًا من الأنبياء وهو يأمره بما يخالف الشريعة يكون ذلك نهيًا له وزجرًا وتهديدًا، وذلك لقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فإن ذلك ليس بأمر فعل، وإنما هو تهديد" (2).


(1) انظر: "المصادر العامة للتلقي عند الصوفية" لصادق سليم صادق ص (310 - 326).
(2) نقله عنه في "الخصومة في مهدية السودان" ص (285).

نَمَاذِجُ مِن الاستِغلَالِ السَّيِّئ لِمَا يزُعَمُ مِن رُؤيَةِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المَنَامِ

وإن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قول الشعراني في "مختصره لتذكرة القرطبي":

فقد حكى اختلافَ الناس في موضع رأس الحسين -رضي اللَّه عنه- وحكى قول القرطبي: إن أصح ما قِيلَ فيه: إنَّهُ دُفِنَ بالبقيع عند قبر أمه، فاطمة -رَضِيَ اللَّهُ عنهما- ثم قال: "وبه قال الزبير بن بَكَّار الذي هو أعلم بالأنساب، قال القرطبي -رحمه اللَّه-تعالي-: وما ذُكر أنه في عسقلان في مشهد هناك، أو بالقاهرة، فشيء باطل لا يصح، ولا يثبت" (1).

ثم قال الشعراني: (ومما وقع لي أنني قلت لسيدي الشيخ شهاب الدين بن شلبي الحنفي مفتي المسلمين -رضي اللَّه عنه-:

"أترى أن تزور معنا رأس الحسين في المشهد بخان الخليلي؟ فقال: إنه لم يثبت كون الرأس هناك" (2)، قلت له: "نزوره بالنية على تقدير صحة ذلك"، فقال: "نعم"، فلما دخلنا مقصورته بالمشهد، قلت للشيخ: "اجلس مراقبًا بقلبك للرأس"، فجلس متخيلًا لها في ذهنه، فحصل له ثِقَلُ رأسٍ، فنام، فرأى نقيبًا مشدود الوسط، قد خرج من القبر، فما زال بصره يتبعه حتى دخل مقصورة


(1) "التذكرة" ص (667، 668).
(2) وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "بل المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي -رضي الله عنهما- الذي بالقاهرة كذب مختلق، بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم". اهـ. من "مجموع الفتاوى" (27/ 451)، وقال أيضًا: "فأصل هذا المشهد القاهري: هو ذلك المشهد العسقلاني، وذلك العقسلاني مُحدث بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة وثلاثين سنة، وهذا القاهري محدث بعد مقتله بقريب من خمسمائة سنة، وهذا مما لم يتنازع فيه اثنان ممن تكلم في هذا الباب من أهل العلم، وهذا بينهم مشهور متواتر". اهـ. "نفسه" (27/ 456).

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال له: "يا رسول الله إن الشيخ شهاب الدين بن الشلبي، وعبد الوهاب الشعراني - يزوران رأس ولدك الحسين"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "تَقَبَّل اللَّه منهما". انتهي، فاستيقظ الشيخ شهاب الدين، وتواجد حتى وقعت عمامته من فوق رأسه، وقال: "آمنت وصدقت بأن الرأس هنا"، وحكى الواقعة، ولم يزل يزوره حتى مات، فزر يا أخي هذا المشهد بالنية الصالحة إن لم يكن عندك كشف (1). فقول الإمام القرطبي -رحمه اللَّه-:

"إن دفن الرأس في مصر باطل" صحيح في أيام القرطبي؛ فإن الرأس إنما نقلها طلائع بن رُزِّيك بعد موت القرطبي (2)، فافهم، والله -تعالى- أعلم (3). اهـ. وقال خادم شيخ الاسلام ابن تيمية إبراهيمُ بن أحمد الغياني (4) -رحمه اللَّه-:

"ورأيت رجلًا من أهل القاهرة جاء إلى الشيخ بالقاهرة بعد مجيئه من إسكندرية، فقال له: "إن أبي حدثني عن أبيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد، وأن رأس الحسين ما جاء إلى ديار مصر، لكن جرت لي واقعة: أني وأنا صغير كنت أجري فوق سطح هذا المشهد، وما له عندي حُرْمة بما حدثني أبي عنه، فبينما أنا نائم ليلة وأنا أرى عجوزًا زرقاء العينين شمطاء الرأس ومعها قيد، فحطته في رجلي، وقالت: تتوب ولا تعود تجري فوق سطح المشهد؟ فقلت: التوبة، التوبة، ما بقيت أعود. فقعدت وأنا مرعوب".


(1) فتأمل -رحمك الله- هذه المغالطة، وهذا القفز فوق كل المعايير العلمية {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]، بل إنه لا يمتنع عند هؤلاء القبورين أن يكون للنبي أو الولي أكثر من ضريح ومشهد في أكثر من بلد، وأحيانًا يخرجون من هذا المأزق بزعمهم أن لا تعارض: "لأن الأرض لأجسام الأنبياء والأولياء كالماء للسمك، فيظهرون بأماكن متعددة، ويُزار كل مكان قيل عنه: إن فيه نبيًّا كريمًا أو وليًّا صالحًا"، وانظر: "الانحرافات العقدية والعلمية" (1/ 287).
(2) وليت شِعري، كيف يتسنى ذلك وقد توفي طلائع بن رزيك سنة (556 هـ)، كما في "البداية والنهاية" (12/ 243، 244)، وتوفي القرطبي -رحمه اللَّه- بعده بحوالي (115 سنة) إذ توفي القرطبي سنة (671 هـ)؟!
(3) "مختصر التذكرة للقرطبي" ص (182، 183)، وانظر: "وفيات الأعيان" (2/ 530).
(4) ألف إبراهيم بن أحمد الغياني، وكان خادمًا لشيخ الإسلام ابن تيمية، ألف كتابًا عن شيخ الإسلام طبع تحت اسم: "ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" ثم لمَّا أُلف "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية" -وهو قد جمع كل ما كُتب عن ابن تيمية- أدخلت هذه الرسالة فيه.

فقال الشيخ: "وهذا أيضًا حجة لي على صحة ما أقوله، فإن هذه شيطانةُ هذا الموضع، وهي التي تزينه للناس. وكذلك لما بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- بقطع (العُزَّى) فقال له: لما قطعتَ العزى أيّ شيءٍ رأيتَ خرج؟ فقال: خَرَجَتْ منها عجوز شمطاء هاربة نحو اليمن، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تلك شيطانة العُزَّى". وسمعت الشيخَ غير مرَّة يحكيها للناس" (1).

وقال الغياني أيضًا: "قد بلغ الشيخَ أن في المسجد الذي خلف (قبة اللحم) في (العلافين) وُيعْرف باسم (مسجد الكف) بلاطة سوداء، وقد شاع بين الناس أن إنسانًا من قديم الزمان رأى في منامه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحدثه بأمور فقال: يا رسول الله، إن حدَّثتُ الناس بالذي حدثتني لا يصدِّقونني، فقال له: هذا كفِّي اليمينُ في هذه البلاطة دليلًا على صدقك. وحط كفه فيها، فغاص، فبقي فيها موضع كف وخمس أصابع، وانعكف الناسُ عليه -كما ذكر- بالنذر له، والتبرك به، والاستسقاء.

فبلغ ذلك الشيخ، فطلع إليها ومعه جماعته وأخوه الشيخ شرف الدين فسمعته غير مرة يحدِّث يقول: لما نظرت إليها قلت: هذا الكف منحوت، مصنوع، مكذوب. فإن النَّحَّات جاء يعمله كف يمين فعمله كف شمال. فبقي معكوسًا يجيء الخِنْصر موضع الإبهام، والإبهام موضع الخنصر، فكسرها، وما بقي لها ذكر ولا أثر، وللَّه الحمد" (2).

الوَصِيَّةُ الخُرَافيَّةُ المُزمِنَةُ

ولعل أشهرَ ما زَوَّرَهُ الكذَّابُونَ، وروَّجه الأفاكونَ -الوصيةُ المنحولة المنسوبة إلى الشيخ أحمد، حامل مفاتيح حرم رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيها يزعم أنه رأى رسول الله- صلى اللَّه عليه وسلم- في رؤيا، وأخبره بوصية يُبَلِّغُهَا أمته، وتحتوي هذه الوصية على سلسلةٍ من الوعود بالخير والبركة على من يكتب منها ثلاثين نسخة، وُيوَزِّعُهَا على معارفه، والتهديد بنزول النكبات والمصائب على من يهملها ولا يكتبها. ومن العجيب أن هذه الخرافة "مزمنة"، لا تكاد تخبو منذ أن ظهرت قبل عشرات السنين، فهي تعود إلى الانتشار من حين لآخر، متجاوزة حُدود التاريخ والجغرافيا، فمِن ثمَّ تعاقب العلماء على تناولها بالنقض والإبطال، ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه اللَّه- تعالى (ت 1365 هـ)؛ حيث قال -رحمه اللَّه- في شأنها:

"إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن مرارًا كثيرة، وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، والوصية مكذوبة قطعًا، لا يختلف في ذلك أحد شَمَّ رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها البلداء من العوامِّ الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوامِّ الذين لم يتعلموا اللغة العربية؛ ولذلك وضعها بعبارة عامِّيَّة سخيفة، لا حاجة إلى بيان أغلاطها بالتفصيل؛ فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويزعم أنه وجده بجانب الحجرة النبوية مكتوبًا بخط أخضر، يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه، ثم يتجرأ بعد هذا على تكفير من أنكره؛ فهذه المعصية هي أعظم من جميع المعاصي التي يقول: إنها فشت في الأمة، وهي الكذِبُ على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وتكفير علماء أمته، والعارفين بدينه، فإن كل واحد منهم يكذِّب واضع هذه الوصية بها، وقد قال المحدِّثون: إن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا؛ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"، قد نُقِلَ بالتواتر، ولا شك أن واضع هذه الوصية مُتَعَمِّدٌ لكذبها، ولا ندري أهناك رجل يُسَمَّى الشيخ أحمد أم لا؟


(1) "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون" ص (141، 142)، والقصة المشار إليها رواها النسائي في "الكبرى" (11547)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": "رواه الطبراني، وفيه يحيى بن المنذر، وهو ضعيف". اهـ. (6/ 176)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" إلى ابن مردويه (14/ 30).
(2) "نفس المصدر" ص (135).

أما تَهَاوُنُ المسلمين في دينهم، وتركهم الفرائض والسنن، وانهماكهم في المعاصي؛ فهو مُشَاهَدٌ، وآثار ذلك فيهم مشاهدة، فقد صاروا وراء جميع الأمم، بعد أن كانوا بدينهم فوق جميع الأمم، ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول، ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع؛ فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدينا، وهما مملوءَانِ بالعِظَاتِ والعبر، والآيات والنذر" (1).

* وممن تناولها بالرد والإبطال مجلة "نور الاسلام" (2)؛ إذ جاء فيها:

بُلِيَ الإسلام بأشخاص يتخذون من الافتراء عليه طرقًا للتنفير منه، أو حبائل لاصطياد شيء من المال، ومن هذا القبيل صحيفة تشتمل على حكاية رؤيا منسوبة لشخص يُسَمِّي نفسه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، وقد اخْتُرِعَتْ هذه الأكذوبة من مدة تزيد على أربعين سنة، ولا يزال مخترعها يتعهد بها الناس في الشرق والغرب من سنة إلى أخرى، وكثيرًا ما كتب أهل العلم في تزييفها وبيان ضلالاتها، ورجاؤنا اليوم في الخطباء والوُعَّاظِ أن يُنبِّهُوا الأمة لفِريتها، وسخافة عقل من يتقبلها، وقد ورد إدارةَ المجلة مقالٌ مُحَرَّر بقلم فضيلة الأستاذ صاحب التوقيع، يكشف عن جهل كاتبها، وسوء قصده، وعظم وِزْرِهِ، وإليك ما كتب الأستاذ محمود ياسين:

لا نزال بين آونة وأخرى نسمع خبر هذه الرؤيا، ويسوؤنا أن يتهافت الناس على طبعها، ونشرها، وقراءتها، وتعليقها على الجدران؛ رغبة في الوعد الذي وقع فيها، وهو فوله: "ومن يُصَدِّقْ بها، يَنْجُ من عذاب النار"، وقوله: "ومن قرأها ونقلها من بلد إلى بلد؛ كان رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، وكانت له شفاعته يوم القيامة"، ورهبة من الوعيد الذي تضمنته، وهو قوله: "ومن كذَّب بها كفر"، وقوله: "ومن قرأها ولم ينقلها كان خَصْمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة".

كُنَّا في سنة (1321) هجرية نَشَرْنَا في الجزء السادس من المجلد الثالث من مجلة "الحقائق"؛ ردًّا مُمْتِعًا على هذه الفِرية، وحَذَّرْنَا الناسَ من الوثوق بها، والاغترار بوعودها، ووَقَعَ إذ ذاك في خَلَدِنَا أنَّ صاحب هذه النشرة سيرتدع عن إعادة نشرها، وأنَ الناس سيُعْرِضُونَ عنها، ولا يلتفتون بعد هذا إليها، ولكن خاب ما ظَنَنَّا، ولم نبلغ ما أملنا؛ فالكاذب لا يزال الفينةَ بعد الفينةِ ينشر فِريته، ويذيع كذبته بين الناس، وهم لا يزالون يُقْبِلُونَ عليها، ويتقبلون ما فيها من تُرَّهَاتٍ وتغريرٍ بالقبول الحسن، والعناية اللازمة.

ثم إن ناشرها -جريًا مع الأيام- قد عاد عليها بالتشذيب والتهذيب؛ فَنَقَّحَ وصَحَّحَ، وحذف منها كثيرًا من المفتريات التي كنا نبهنا عليها مثل قوله: "كنت ليلة الجمعة في اليوم الثاني والعشرين من شهر صفر الخير سنة كذا -مضطجعًا على وضوء كامل" إلخ، وقوله: "استحيت (كذا) من الله -عزَّ وَجَلَّ- وهو يقول لي: يا محمد، لأبدلن وجوههم، وأعذبهم عذابًا شديدًا. فقلت: يا رب، أمهلهم حتى أنذرهم وأبلغهم" إلخ، وقوله: "يا أحمد، إنهم قد سُلِبَ إيمانهم من كثرة الزنى" ... إلخ، وقوله: "يا أحمد، إن تارك الصلاة لا تمشوا بجنازته"، وقوله: "ومن اطلع عليها ولم يخبر بها الناسَ كان وجهُه مُسْوَدُّا يوم القيا مة " إلخ، وقوله: "ومن كذَّب ولم يُصَدِّقْ بها -يعني الوصية- فهو ملعون، ثم ملعون، ثم ملعون" ... إلخ، وقوله: "من بعد ألف وثلاث ومائة وأربعين سنة يخرجن (كذا) النساء من بيوتهن إلى الأسواق، من غير إذن أزواجهن" إلخ، وقوله: "وبعد ألف وثلاث مائة وخمسين ينزل من السماء مطر كبيض الدجاج، وبعد سنة (1370) تغيب الشمس ثلاثة أيام"، وقوله: "وبعد ألف وأربع مائة يظهر المسيح الدجَّال".

وقوله: "فما كان، والله، والله، والله، وآيات اللَّه، وأمانه، أنها مكتوبة بقلم القدرة"، وقوله: "ومن كان عنده ثلاثة دراهم واستأجر بهن (كذا)، وكتب هذه الوصية، وكان مُذْنِبًا، وعليه فرض صيام؛ غُفِرَتْ ذنوبه ببركة هذه الوصية".

كل هذه التُّرَّهَاتِ والأكذوبات قد حذفها هذا المفتري الكَذَّاب جَريًا مع الأيام كما قلنا، وجاء إلينا الآن برؤيا، أو وصية ملخَّصة مشذبة، ومع ذلك، لم تَخْلُ مما يجب إنكاره، وفضيحة صاحبه، واشهاره بين الناس بأنه كاذب أفَّاك متلاعب، مجترئ على اللَّه -تعالى-، وعلى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، القائل في الحديث الصحيح المتواتر الذي رواه الجم الكثير من الصحابة عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا؛ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ من النار"؛ أي: فليتخذ منزله منها.

"لو أن هذا الرجل الذي سَمَّي نفسه بالشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية كان ممن يخشون اللَّه -تعالى-، ويُعِدُّونَ العدة للقائه -سبحانه-، لما حَمَّل نفسه أقبح أنواع الكذب، وأشدها للَّه -تعالى- سخطًا؛ حيث اعتاد أن يبني وصيته على رُؤيَا منامية يحكيها للناس، وهو في ذلك من الأفاكين الكذَّابين الدَّجَّالين؛ فقد صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أنه قال: "إنَّ مِنْ أعْظَمِ الفِرَى أن يُدْعَى الرَّجُلُ إلى غيرِ أبِيهِ، أويُرِيَ عيْنَهُ في المَنَام مَا لَمْ تَرَ، أويَقُولَ عليَّ مَا لَمْ أقُلْ"، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِن أَفْرَى الفِرَى أنْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ".

* من افتِرَاءَاتِ صَاحِبِ الوصيةِ المَزعُومَةِ:

قوله: قال الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية الشريفة: قال -عليه الصلاة والسلام-: "من قَرَأَهَا ونقلها من بلد إلى بلد؛ كان رفيقي في الجنة، وشفاعتي له يوم القيامة، ومن قرأها ولم ينقلها؛ كان خصمي يوم القيامة"؛ لأن فيها إسنادَ حديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كَذِبٍ موضوعٍ عليه، لا أصل له في الدين، ولا يحل نقله عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأحد من المسلمين؛ فالعجب ممن يدعي أنه خادم الحجرة النبوية الشريفة؛ كيف يجرؤ هذه الجرأة، ويتقول على النبي- صلى اللَّه عليه وسلم- مالم يَقُلْهُ، وما لا يجتمع مع أحكام دينه، وقواعد شريعته؟ وهذا وأمثاله يحملنا على أن نظن بهذا الرجل أنه ليس من المسلمين، بل عدو لهم متستر باسم خادم الحجرة النبوية الشريفة، يستهزئ بدينهم، وبأحكام شرعهم؛ فيجعل جزاء نقل وصية من بلد إلى بلد مرافقة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنة، واستحقاق شفاعته.

ومنها قوله: "ومن يصدق بها ينجو (كذا) من عذاب النار، ومن كذَّب بها كفر"؛ لأنَّ هذا الوعيد لا يصح أن يكون إلا لكتاب اللَّه -تعالى-، وما عُلم من الدين الإسلاميِّ بالضرورة؛ كأركان الإيمان والإسلام، أما غير ذلك مما لا يجب الإيمان به شرعًا، فالتكذيب به ليس كفرًا، كما أن التصديق به لا يُنَجِّي من نار، ولا يمنع من عذاب، ومن هنا يعلم القارئ سَخَافَةَ عقل هذا الرجل الذي يسمي نفسه بالشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية الشريفة، وجهلَه، وقلةَ دينِه، وجرأته على اللَّه -تعالى- وعلى شريعته، وأنه على ما نُرَجِّحُ متلاعب مستتر بهذا الاسم، لا يريد إلا الكيد للمسلمين وإيذاءهم.

(إن هذه الوصية تحمل في طَيَّاتِهَا دليل كذبها، ودليل تزويرها؛ فصاحبها يهدِّد الناس ويخوِّفهم إذا لم ينشروها أن تصيبهم المصائب، وتحلَّ بهم الكوارث، وأن يموت أبناؤهم، وأن تُفْقَدَ أموالهم، وهذا ما لم يقل به إنسان، حتى في كتاب اللَّه، وفي سنة رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لم يُؤْمَرِ الناس أن كلَّ مَنْ قرأ القرآن كتبه ونشره، وأن مَنْ قرأ "صحيح البخاري" كتبه ونشره، وإلا حلت به المصائب؛ فكيف بمثل هذه الوصايا التخريفيَّة؟! هذا شيء لا يمكن أن يصدِّقَهُ عقل مسلم، يفهم الإسلام فَهْمًا صحيحًا.


(1) "فتاوى رشيد رضا" (1/ 240 - 242) بتصرف، بواسطة: "كتب حذر منها العلماء" (2/ 335، 336).
(2) "المجلد الثالث" -الجزء الرابع- عدد ربيع الثاني 1351 هـ (ص 289) وما بعدها، بواسطة "كتب حذر منها العلماء" (2/ 339 - 347) بتصرف.

وتقول الوصية الزَّائفة: إنَّ فلانًا في البلد الفلاني نشر هذه الوصية؛ فَرُزِقَ بعشرات الآلاف من "الروبيات"، هذا كله تخريف وتضليل للمسلمين عن الطريق الصحيح، وعن اتباع السنن والأسباب التي وضع اللَّه عليها نظام هذا الكون؛ فالرزق له أسبابه، وله طرائقه، وله سننه) (1).

- وقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى تُبْطِلُ هذه الوصية المزعومة، وهاك نَصَّها:

الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:

"من الممكن عقلًا الجائز شرعًا أن يرى المسلم في منامه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على هيئته وصورته التي خلقه اللَّه عليها؛ فتكون رؤيا حقِّ، فإن الشيطان لا يتمثل به؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَآنِي في المنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِى". رواه الإمام أحمد والبخاري من طريق أنس، ولكن قد يكذب الإنسان فيدعي زورًا أنه رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على صورته التي خَلَقَهُ اللَّه عليها، والتي نُقِلَتْ إلينا نقلًا صحيحًا، وقد يرى في منامه شَخْصًا على غير الصفة الخِلْقية للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُخَيِّلُ إليه الشيطان أنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وليس به؛ فتكون الرؤيا كاذبة.

والرؤيا المنسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية إن لم تَصِحَّ نسبتها إليه؛ كانت مصطنعة مفتراة، وهذا هو الظاهر؛ فإنه لا يزال مُدَّعٍ مجهول يسمي نفسه الشيخ أحمد، ويدعي أنه رأى هذه الرؤيا، وقد تُوُفِّي الشيخ أحمد خادم الحجرة من زمن طويل، كما أخبر بذلك أهله، وأقرب الناس إليه، حينما سئلوا عن ذلك، وأنكروا نسبة هذه الرؤيا إليه، وهم ألصق الناس به، وأعرفهم بحاله، وإن صَحَّتْ نسبتها إليه، فهي إما كذب منه وافتراء على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإما أضغاث أحلام وخيال كاذب، وتلبيس من الشيطان على الرائي، وليست رؤيا صادقة، والذي يدل على أنها كذب، وبهتان، أو خيال، وزور: ما اشتملت عليه مما يتنافى مع الواقع، وشريعة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.


(1) "فتاوى معاصرة" (1/ 187).

أما منافاتها للواقع، فإنها لا تزال تُطْبَع وتنشر مرات بعد وفاته، وقد أنكر أهله وألصَقُ الناس به نسبتها إليه حينما سُئِلُوا عن ذلك.

وأما منافاتها للشريعة الإسلامية، فلِما اشتملت عليه من الأمور التالية:

أولًا: الإخبار فيها عن تحديد عدد من مات من هذه الأمة على غير الإسلام من الجمعة إلى الجمعة، وهذا من أمور الغيب، التي لا يعلمها البشر، إنما يعلمها الله، ومن يظهره عليها من رسله في حياتهم، وقد انقطعت الرسالة من البشر بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 - 27]، وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]

ثانيًا: إخباره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال له: "أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة، ولم أقدر أن أقابل ربي والملائكة"؛ فإنه من الزور والأخبار المنكرة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم أحوال أمته بعد وفاته، بل لا يعلم منها أيام حياته في الدنيا إلا ما رآه بنفسه، أو أخبره به من اطلع عليه من الناس، أو أظهره اللَّه عليه؛ فعن ابن عباس -رضيَ اللَّهُ عنهما- قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إنكم مَحْشُورُونَ إلى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] ".

إلى أن قال: "ألا إنه يجاء برجال من أمَّتى فيؤخذ بهم ذات الشمال؛

فَأقُولُ: يا رَبِّ، أصْحَابِي (1). فيقالُ: لَا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَك. فأقولُ كمَا قال

العَبْدُ الصالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ


(1) أطلق عليهم وصف (الأصحاب) باعتبار ماكان قبل الردة، ولا شك أن الردة سلبتهم هذا الوصف الشريف.

وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]. فيقالُ: إنَّ هؤلاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ (1)


(1) [وهم أهل الردة الذين أسلموا في حياته -صلى الله عليه وسلم- ولم يخالط الإيمانُ قلوبهم، فارتدوا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وقاتلهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أو المراد بهم المنافقون، ونقل النووي عن ابن عبد البر قوله: "كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، من الخوارج والروافض، وسائر أصحاب الأهواء، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، المعلنون بالكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عُنُوا بهذا الخبر، والله أعلم". اهـ. من "شرح النووي" (3/ 137)، والظاهر أن هؤلاء لا يُجزم بأنهم يذادون عن الحوض لأنهم تحت المشيئة وحكمهم حكم أصحاب الكبائر الذين ماتوا على التوحيد.
ويتضح مما سبق أن المذادين عن الحوض هم القبائل المرتدة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو المنافقون -كما مر- وليسوا صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما زعمت الشيعة الاثنا عشرية. فأحاديث الحوض رواها الصحابة أنفسهم؛ أكثر من خمسين صحابيًّا، فكيف يُعقل أن يرووا من الأحاديث ما يدل على كُفْرِهم وردتهم مع اعتقاد الاثنى عشرية- إلا من شذ منهم- أن الصحابة حذفوا الآيات التي تحدثت عن مثالبهم، فَلِمَ لم يكتموا هذا الحديث، مع عظم ضرره إن كان يعنيهم؟ فدلَّ على أنه ليس المراد بهم أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
قال الخطابي فيما نقله عنه ابن حجر: "ولم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة لهم الدين. [وعند الكرماني: "ممن لا بصيرة له في الدين". "الكواكب الدراري" (17/ 106)]، وذلك لا يوجب قدحًا في الصحابة المشهورين"، ثم قال: "ويدل قوله: (أصيحابي) [كما في حديث أنس المتفق عليه]-بالتصغير- على قلة عددهم". اهـ. "فتح الباري" (11/ 324).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أصيحابي" -بالتصغير- مذكور في العديد من مصنفات الشيعة كما في "مجمع البيان" (1/ 485)، وهي تدل على قلة عدد من ارتد، لا كما تقول الشيعة عن الصحابة: "إنهم ارتدوا جميعًا إلا نفرا يسيرًا".
وقد رد ابن قتيبة استدلالهم بهذه الأحاديث فقال: "إنهم لو تدبروا الحديث وفهموا ألفاظه لاستدلوا على أنه لم يُرِد بذلك إلا القليل، يدلك على ذلك قوله: (ليردن عليَّ الحوض أقوام)، ولو كان أرادهم جميعًا إلا من ذُكروا لقال: لَتَرِدُنَّ عليَّ الحوض، ثم لتختلجُنَّ دوني، ألا ترى أن القائل إذا قال: أتاني اليوم أقوام من بني تميم وأقوام من أهل الكوفة، فإنما يريد قليلًا من كثير، ولو أراد أنهم أتوه إلا نفرًا يسيرًا، قال: أتاني بنو تميم، وأتاني أهل الكوفة، ولم يجز أن يقول: "قوم"، لأن القوم هم الذين تخلفوا، وكذلك أيضا قوله: (يا رب أصيحابي) -بالتصغير- وإنما يريد بذلك تقليل العدد" ... إلى أن يقول: "وقد ارتد بعده أقوام منهم عيينة بن حصن، ارتد، ولحق بطليحة بن خويلد حين تنبأ" ... إلى أن قال: "ولعيينة بن حصين أشباه ارتدوا حين ارتدت العرب، فمنهم من رجع وحسن إسلامه، ومنهم من ثبت على النفاق". اهـ. من "تاويل مختلف الحديث" ص (158، 159). =

= وقال في موضع آخر: "حدثني زيد بن أخزم الطائي قال: أنا أبو داود، قال: نا قرة بن خالد عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم كانوا في بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مئة، قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مئة. قال: أوهم رحمه الله، هو الذي حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مئة، فكيف يجوز أن يرضى الله -عز وجل- عن أقوام، ويحمدهم، ويضرب لهم مثلًا في التوراة والإنجيل، وهو يعلم أنهم يرتدون على أعقابهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يقولوا: إنه لم يعلم، وهذا هو شر الكافرين". اهـ. من "تأويل مختلف الحديث" ص (158، 159).
قال الله مخبرًا عن رضاه عن الذين بايعوا يعة الرضوان: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها". رواه مسلم (4/ 1942). قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده عن عثمان لأنه كان غائبًا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته، وبسببه بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس لما بلغه أنهم قتلوه". اهـ. من "منهاج السنة" (2/ 27).
وروى الشيعة عن أبي جعفر الباقر أن عدد الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة كان ألفًا ومائتين -وفي رواية- ألفًا وثلاثمائة.
ولكن رغم تسليم الاثنى عشرية لهذه النصوص، فإنهم يرون أن الرضا الذي وقع في بيعة الرضوان، والمغفرة العامة لأهل بدر كلها مشروطة بسلامة العاقبة وعدم النكث.
وترد عليهم المناظرة التي جرت بين إمامهم الخامس أبي جعفر الباقر وأحد الخوارج، فإن الباقر احتج على الخارجي بأحاديث في فضائل علي، والخارجي ردها بقوله: "أحدث الكفر بعدها"، فقال له أبو جعفر: "ثكلتك أمك، أخبرني عن الله أحب عليَّ بنَ أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟ قال: لئن قلت: "لا" كفرت. قال: فقال: "قد علم"، قال: "فأحبه الله على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته؟ " فقال: "على أن يعمل بطاعته"، فقال له أبو جعفر: "فقم مخصومًا". اهـ. من "الروضة من الكافي" للكيلي ص (421).
وكذلك الصحابة -رضي الله عنهم- قد أخبر الله بأنه رضي عنهم، وأمر بالاستغفار لهم، والرضا من الله صفة أزلية لا أول لها، وهو سبحانه لا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي اللهُ عنه لا يسخط عليه أبدًا، وخبر الله لا يُنسخ ولا يُبدل، ولا يجوز أن يتناقض أبدًا، ومن دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحدًا، انظر: "درء تعارض العقل والنقل" (5/ 208)]. اهـ. بتصرف من "موسوعة الدفاع عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم" للدكتور عبد القادر ابن محمد عطا صوفي ص (191 - 200).

على أعقابِهِمْ منذ فَارَقْتَهُمْ"، رواه البخاري (1).

وعلى تقدير أنه يعلم أحوال أمته بعد وفاته، فلا يلحقه بذلك حرج، ولا يصيبه من وراء كثرة ذنوبهم ومعاصيهم إثم ولا خجل، وقد ثبت في حديث الشفاعة العظمى أن أهل الموقف كُفَّارًا ومسلمين يستشفعون بالأنبياء واحدًا بعد آخر حينما يشتد بهم هول الموقف، فيعتذر كل منهم عن الشفاعة لهم عند اللَّه، ثم ينتهي أهل الموقف إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيسألونه أن يشفع لهم عند اللَّه، فيستجيب لهم، ولا يمنعه من الشفاعة لهم كثرة معاصيهم، أو كفر الكافرين منهم، ولا يخجل من ذلك، بل يذهب فيسجد تحت العرش، ويحمد ربه، ويثني عليه بمحامد يُعَلِّمُه إياها، حتى يأمره أن يرفع رأسه، وأن يشفع لهم، وبعد ذلك ينصرفون للحساب والجزاء، ولم يمنعه شيء من ذلك في لقاء ربه، ومقابلة الملائكة، ولم يَلْحَقْهُ منه عار.

ثالثًا: إخباره بالجزاء العظيم الذي يترتب على كتابة هذه الوصية، ونقلها من محل إلى محل، أو من بلد إلى بلد، وتعيين جزاء الأعمال وتحديده من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا اللَّه، وقد انقطع الوحي إلى البشر بوفاة خاتَم الأنبياء -عليه الصلاة والسلام-؛ فادعاء العلم بذلك باطل، وقد ادعاه الشيخ أحمد المزعوم؛ حيث قال في الوصية المكذوبة: "ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد، ومن محل إلى محل، بني له قصر في الجنة"، وقال: "ومن يكتبها وكان فقيرًا أغناه اللَّه، أو كان مَدينًا قضى اللَّه دَيْنَه، أو كان عليه ذنب غفر اللَّه له ولوالديه"؛ فهو كاذب في ذلك.

وكذا إخباره عن الوعيد الشديد الذي يصيب من لم يكتبها، ويرسلها، وتعيينه إياه بأنه يُحْرَمُ شفاعةَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيسْوَدُّ وجهه في الدنيا والآخرة؛ حيث قالَ فيها: "ومن لم يكتبها ويرسلها، حُرِّمَتْ عليه


(1) رواه البخاري (4/ 277)، ومسلم (4/ 2194، 2195) رقم (2860).

شفاعتي يوم القيامة"، وقال: "ومن لم يكتبها من عباد الله، اسْوَدَّ وجهه في الدنيا والآخرة"؛ فهذا -أيضًا- من الغيب الذي لا يعلم بتحديده إلا الله، فَإخْبَارُهُ به وقد انقطع الوحي إلى البشر؛ رجم بالغيب، وكذِبٌ وزور، وكذا قوله فيها: "ومن يُصَدِّق بها (ينجو) من عذاب النار، ومن يكذب بها كفر"؛ فهذا -أيضًا- زورٌ وبهتانٌ، فإن التكذيب بالرؤيا الصادرة من غير الأنبياء لا يعد كفْرًا بإجماع المسلمين.

رابعًا: إن كل ما أخْبرَ به من الوعد والوعيد على سبيل التعيين والتحديد يتضمن تشريعًا بالحث على كتابة الوصية، وإبلاغها ونشرها بين الناس للعمل بها، واعتقاد ما فيها رَجَاءَ المثوبة التي حدَّدَهَا، ويتضمن تشريع تحريم كتمانها، والتفريط في إبلاغها ونشرها، والتحذير من ذلك خشية أن يَحِيقَ بمن كتمها أو فَرَّطَ في نَشْرِهَا ما أخبر به من الوعيد الشديد بحرمانه من الشفاعة، واسوداد وجهه.

خامِسًا: عَدَمُ التناسب بين ما أخبر به من الجزاء والأعمال، وهو دليل الوضع والكذب في الأخبار، إلى غير هذه الأمور من الأكاذيب؛ فيجب أن يحذر المسلم هذه الوصية المزعومة، ويعمل على القضاء عليها.

وباللَّه التوفيق، وصلى اللَّه على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1).

* * *


(1) "فتاوى اللجنة الدائمة" (4/ 74 - 77) فتوى (999).

 

  • الثلاثاء PM 01:38
    2022-08-02
  • 4363
Powered by: GateGold