المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416597
يتصفح الموقع حاليا : 371

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629125579118.jpg

الحكمة من خلق الأواسط والأسباب

إذا كان أوائل الصوفية قد أفردوا الله بخلق أفعال العباد وأثبتوا دور الإنسان فى كسب أفعاله الخلقية وأكدوا أن الأسباب لا تستقل عن الفاعلية الإلهية بأى أثر يذكر ، فكيف وعلى أى وجه تنسب النتائج إلى الأسباب ؟ وكيف تكون الأسباب بذلـك حقـا وأثـرها صدقـا وهى ليست فاعلة أو مؤثرة بذاتها مما يجعلها أقرب إلى الوهم ؟ فـى حيـن أن المكـى يقـول : ( فى الأشياء أواسط حق وأسباب وصدق ) ؟!

    وفى الحقيقة قوله هذا يدل على  إثباته لحقيقة الأسباب ونفى وهميتها وبطلانها وجوديا ، إذ أنه استطرد بعد ذلك مبينا موقع هذه الحقيقة من قدرة الله المطلقة فيقول : ( لما كانت الأشياء بعد أن لم   تكن ولا تكون بعد أن كانت ، أشبهت الباطل الذى لا حقيقة له أولية ، ولا ثبات له آخرية ، وكان الله تعالى الأول الأزلـى الآخر الأبدى فهو الحـق ولا هكذا سواه ) (1) .  

    وهذا الكلام يبدوا متناقضا مع سابقه ، حيث أثبت الوجود الحـق للأسباب ثم جعله باطـلا ولكنه لا يعد فى حقيقه الأمر تناقضا ، وذلك ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ2 ص 14.

لأن الحقيقة التى أثبتهـا للأسبـاب غيـر الحقيقـة التى أثبتهـا للـه عـز وجـل ، فاللـه هـو الحق وكل ما سـواه حقائـق نسبيـة أو حقائـق وجوديـة مشروطـة ومتعلقـة بالمشيئـة الإلهية وبقـدرة اللـه وربوبيتــه ورعايتــه ، كمــا قــال سبحـانه وتعـالى : { الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل } (1) .

     فكل ما سوى الله عز وجل باطل بالنظر إليه فى ذاته إذا قيست حقيقته بوجود الحق سبحانه وتعالى ، ولذلك استدال المكى على هذه الحقيقة بقول النبى صلى الله عليه وسلم : ( أصدق بيت قاله الشاعر  ألا كل شىء ما خلا الله باطل ) (2) .

   يقول المكى معقبا على الحديث : ( وهو صلى الله عليه وسلم   يعلم أن فى الأشياء أواسط حق وأسباب صدق ثـم لم يمنعـه ذلك ــــــــــــــــــــــــ

1- الزمر / 62 .

2- هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة ، قال ابن حجر : ( المراد بقول الشاعر ما عدا الله أى ما عداه وعدا صفاته الذاتية والفعلية ، فكل شىء سوى الله جائز عليه الفناء لذاتة حتى الجنة والنار ، وإنما يبقيان بإبقاء الله لهما وخلق الدوام لأهلهما ، والحق على الحقيقة لا يجوز عليه الزوال ) انظر فتح البارى جـ7 ص188 والحديث أخرجه البخارى فى كتاب مناقب الأنصار ، باب أيام الجاهلية برقم (3841) ومسلم فى كتاب البر والصلة والآداب برقم (63) وأحمد فى المسند حـ3 ص 248 .

أن قال : أصدق بيت قـاله الشاعر كذا ، إيثارآ منه للتوحيـد وتـوحيدآ للمتـوحد ) (1) .

     وعلى هـذه النظرة العميقة ، فإن الأغيار والأسباب إنما هى حق بالنظر إلى القدر الإلهى ، وباعتبار مشيئة الله تعالى فى وجودها وبقائها وتأثيرها ، وبهذا النحو الذى فسر به المكى علاقة الأسباب أو الأغيار بالله عز وجل من حيث الوجود فسر به أيضا علاقـة فاعليـة الأسباب والأواسط بفاعلية الله عز وجل وربوبيته فيقول :

     ( ومثله الأسباب أيضا فى ثوانيها وأواسطها إلى جنب الأول المسبب مثل ما يقول فى القرآن قال الله كذا ، ولك أنه تقول : قال نوح وقال يوسف كذا فكل صواب ) (2) .

     فالأسباب فاعليتها إذا بالقياس إلى فاعلية الله باطلة ولا حقيقة لفعلها فى ذاتها وإن كانت لها فاعلية واقعة بإذن الله وخلقه لها  .

    فالسبب والنتيجة مخلوقان له واقعان بفاعليته ، ومن ثم تكون فاعلية السبب ليست حقيقية وليست مجازية ، بل ليست فاعلية على الإطلاق  لأنه فى كل مرة يقع منه أثره يكون هذا الأثر بخلق الله وإرادته وقدرته  كشأنهم فى إضافة الاستطاعة للإنسان يخلقها الله عز وجل فى السبب

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ2 ص 14 .

2- السابق حـ2 ص 14 .

مرة بمرة وفعلا بفعل ، فلا يكون السبب فيها فاعلا فى الحقيقة ، أو مستقلا بفاعليته برؤية وحتمية بينة كعلة وبين الفعل التابع له كمعلول  بل هو مؤثر ليس بالنظر لذاته ولكن بالنظر إلى خالقه وخالق معلوله على السواء .

   ويستدل المكى على ذلك فيقول : ( وقال فى إثبات الأسباب ورفع حقائقها : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } (1) .

    فنسب الرمى لله عز وجل وليس لرسوله حين رمى ، وقال تعالى فى ذكر الأواسط : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها } (2) .

    فالأموال والأولاد علل وأسباب وأواسط ، يظن الكافر أنها أوائل ذات فاعلية مستقله لإسعادهم ، ولكن القدرة الإلهية احتجبت وراءها ليعذبهم الله بها ، وذلك يدل على أنها ليست فاعلة على الإطلاق حقيقة أو مجازا لأنها لو كانت كذلك لما كانت سببا فى عكس ما توهم الكافرون أنها سبب له ، وكذلك يضرب المكى مثلا بالفعل يخلقه الله ويكسبه العبد يقول :

ــــــــــــــــــــــــ

1- الأنفال / 17 .

2- التوبة / 55

   وانظر السابق حـ2 ص 12وانظر كشف المحجوب ص304، ص305 وقــارن .

وكذلك قال سبحانه فى التفصيل والأمر : { فاقتلوا المشركين } (1) وقال فى مثله عند ذكر واسطة الأمر : { قاتلوهم يعذبهم الله   بأيديكم } (2) .

ثم قال التوحيد : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } (3) .

   وكل ذلك دليل على أن الله عز وجل هوالخالق والفاعل بالأسباب أو بالناس فهو يعذب الكافرين بأيدى المؤمنين ويخلق النتيجة بسبها وهو قادر على أن يفعل النتيجة بلا سبب والمعلول بلا علة ، ولكنه شاء أن يحجب قدرته بإيجاد المعلول بالعلة تحقيقا لمعنى الابتلاء وإظهارا       لقدرة العبد على القتل فينال الأجر والثواب .

   أما بالنسبة للأسباب الطبيعية فيورد المكى قوله تعالى : { أفرأيتــم ما تحـرثــون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } (4) .

    فذكر الأواسط ثم قال : { أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقــا } (5) .

ــــــــــــــــــــــــ

1-  التوبة / 5 .              

2- التوبة / 14 .

3- الأنفال / 17 وانظر السابق حـ 2 ص 12 وكشف المحجوب ص 305 .

4- الواقعة / 63 .   

5- عبس / 25 ، 26 وانظر السابق حـ 2 ص 12 .  

   أى أنه أثبت للإنسان حرثا وهو سبب غير مؤثر بذاته لإثبات الزرع بل مؤثر بأمر الله وبخلقه عز وجل للإنبات ، كما أثبت لنفسه خلق الأسباب أيضا بإنزال الماء وشق الأرض .

    وهكذا فهو الفاعل للعلة والمعلول على الحقيقة ومن ثم يثبت أوائل  الصوفية الأسباب كستار لحجب القدرة الإلهية فقط .

    يقول المقدسى : ( إن الإنسان إذا انكشف عن بصيرته أن لا فاعل سوى الله ، فإنه لا ينظر إلى غيره ، فلا يعتمد على المطر فى خروج الزرع ، ولا على الغيم فى نزول المطر ، ولا على الريح فى سير السفينة ، فإن الاعتماد على ذلك  جهل بحقائق الأمور ) (1) .

    ويمثل المكى العلاقة بين فاعلية الأسباب وفاعلية الله بقوله :

    ( ومثل الأواسط مثل الآلة بيد الصانع  ألا ترى أنه لا يقال الشفـرة حذت النعـل ولا الصوت ضرب العبد ) وذلك لافتقار الشفرة والصوت إلى المشيئة والعلم والاختيار ، مما ينفى كونها فاعلة .

     ومن ثم يقول المكى : ( إنما يقال الحذاء حذ النعل وفلان ضرب عبده بالسوط وإن كانت هذه الأواسط مباشرة للأفعال إلا أنها آلة بيد صانعها ) (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- مختصر منهاج القاصدين ص 346 ، 347 . 

2- قوت القلوب حـ 2 ص 13 .

   وإذا كان الأمر كذلك فإن الخليقة يباشرون الأسبـاب فى ظاهر العيان والله من ورائهم محيط وهو القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة .

     أما بالنسبة للأسباب الغيبية أى الملائكة ، فإن العلاقة بين فاعليتهم والفاعلية الإلهية هى نفس العلاقة بين العلل الطبيعية وفاعلية الله عز وجل ، ذلك أن الملائكة : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون       ما يؤمرون } (1) .

     وهم وإن كانوا يعملون فى حدود ما أوكل الله إليهم أعمالا ، إلا أنهم ليسوا أصحاب إرادة واختيار كالإنسان بحيث لا يحدث منهم ما هو مخالف للأمر بعبودية الله عز وجل ، ومن ثم تصبح أفعالهم تنفيذا وإمضاءا لأمر الله عز وجل وقدرته ومشيئته .

     فيكون الفعل لله عز وجل على الحقيقة ، والملائكة ليسوا سوى ححاب أو ستار ثان للربوبية عن الناس ، وذلك باعتبار أن العلل الطبيعية ستار أولى ، ويدلل المكى على ذلك أيضا بالكثير من الأمثلة الواردة فى كتاب الله عز وجل مثل قوله تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون } (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- التحريم / 6 .                 

2-السجدة / 11 .

    فهنا يثبت الفعل الإلهى محتجبا بالملائكة كأسباب غيبية ، وأظهر نفسه سبحانه فقال : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها } (1) .

    وبالنسبة لخلق الإنسان ونفخ الروح فيه قال تعالى : { فأرسلنا إليها روحنا } (2) .

     ثم قال فى التوحيد : { فنفخنا فيه من روحنا } (3) .

    وكان النافخ جبريل (4) ولكن الفعل لا يقع من جبريل ومن كل الملائكة إلا حسب مشيئة الله وإرادته وقدرته ، لأن جبـريل والملائكة من خلق الله عـز وجـل فـإن الفعـل لله وحده ، ولذلك نسبه لنفسه على هذا النحو وأثبت وقوعه من جبريل كسبب غيبى تحتجب وراءه القـدرة الإلهية .

    ويرفض المكى القول بخلق القرآن بمبدأ العلل أو الوسائط والأسباب الثوانى التى تحتجب بها الفاعلية الإلهية فيقول : ( إذا قلت : قال الله سبحانه وتعالى كذا فهو القائل الأول قبل القائلين متكلما بوصفه مخبرا

ــــــــــــــــــــــــ

1- الزمر / 42 وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 13 .

2- مريم / 17 .                 

3- التحريم / 12 .

4- السابق حـ 2 ص14 .

عن علمه بغير وقت لموقت ولا حد لمحدود ولا حد ثان .

    وإن قلت : قال صالح وقال شعيب  فقـد قالـوه بأنهم ثوان     فـى القــول وأواسط به ، قالوا ذلك عنه بحدوث أوقات        وظهور أسباب ) (1) .

     أى أن كل ما أخبر الله عز وجل به ، فهو قوله القديم دون تحديد لوقت وعندما حدث فى الزمان صالح وشعيب ، قال كل منهما قوله باعتباره مجرد علة تظهر من خلالها كلمات الله عز وجل .

   فالأنبياء والرسل قالوا ذلك عنه بحدوث أوقات وظهور أسباب فشأن الرسل فى ذلك شأن العلل الطبيعية والعلل الغيبية حيث أنه ليس لهم إرادة واختيار خاص مستقل إزاء ما أراده الله عز وجل وأمرهم به من فعل وتبليغ .

  • كما قال سبحانه عن نبينا صلى الله عليه وسلم : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى } (2) .

وقال عن الأنبياء جميعا : { وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنـا  منهـم ميثـاقا  غليظا ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعـد للكافرين  ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 2 ص 14.    

2-النجم / 3 : 5 .  

عذابا أليمـــا } (1) .

  • وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } (2) .
  • ويعقب المكى على النص السابق بما يفيد هذا المعنى ويقرره فيقول : ( وكذلك الأسباب وأواسطها ثوان عن الأول المبدئ ) (3) .

  ويعلل المكى قول المبتدعين بخلق القرآن بأنهم نسبوا فاعلية ذاتية مستقلة للأسباب والإنسان مما جعلهم ينسبون أقوال الأنبياء والرسل إليهم أولا ، ثم إخبار الله عنهم بذلك ثانيا ، فاضطروا إلى القول بحدوث القرآن وخلقه من حيث احتوائه على حوادث يقول  :

   ( ومن هنا وفى مثله دخلت الشبهة على المبتدعين فقالوا         بخلق القرآن ) (4) .

    ويرى المكى أنهم وقعوا فى أشنع مما هربوا منه حيث أثبتوا كلام المحدثين قبل كلام رب العالمين القديم الأزلى .

   وقد دخل الشبهة أيضا على أمثال هؤلاء المبتدعين فوقعوا فى الشرك ــــــــــــــــــــــــ

1- الأحزاب / 7  ، 8 .

2- الحاقة / 44 : 46 .          

3- السابق حـ 2 ص 14 .

4- السابق حـ 2 ص 15.

الخفى أيضا من حيث شهدوا المانعين والمنفقين أوائل فى الفعل من قبل أن الله تعالى أظهر المنع والعطاء بأيديهم (1) وجهلوا حقيقة ستر الفاعلية الإلهية بالأسباب والــوسائط ، وهـو شرك خفى نتيجة ضعف اليقين والغفلة والجهـل وذلك لا يخرج عــن المـلة عندهم .

    وفى هذا المعنى يقول الواسطى فيمن نسب الفعل إلى السبب أو الفاعلية ونسى نسبته إلى الله عز وجل :

( ادعى فــرعـون الربوبيــة علـــى الكشـــف وادعت المعتزلـة علىالسـتر تقــول : ما شئت فعلـت ) (2) .

    ولذلك يرى أوائل الصوفية وجوب اعتقاد المسلم بأن الله هو الفاعل الخالق وحده لأن ذلك عندهم أصل من أصول التوحيد .

   وقال بعضهم : ( التوحيد هو إضافة كل شئ إلى الأصل ، وإن كان الله فعل ذلك فى الفرع ) (3) .

    وهو يقصد بالأصل فعل الله تعالى بكلمة كن ويقصد بالفرع ظهور الفعل أو نتيجته بالأسباب واحتجاب قدرته الخالقة والمحدثة والفاعلة بالكن وراء هــذه الأسباب بدليل قوله بعد ذلك :

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 2 ص 15 .

2- الرسالة حـ 2 ص 35 .      

3- كشف المحجوب ص 246 .

   ( لا تنظر إلى أهل الأعراض والغفلة بادعاء ما ليس لهــم فى دعواهم بحق .

  • قـال فـرعــون : { أليس لى ملك مصر } (1) .
  • وقــال قــارون : { إنما أوتيته على علم عندى } (2) .
  • وقال المنافقون : { شغلتنا أموالنا وأهلونا } (3) .

    وكلها نماذج قرآنية  للتدليل على أن نسبة الفعل على سبيل الإيجاد إلى السبب أو الإنسان باطله ، لأنه تجاهل للفاعلية الحقة فى الوجود .

  ثم يبين بطلان هذه الفاعليـات والأسبـاب بقولـه : ثم لما رجع الفرع إلى الأصل قال عز وجل : { لمن الملك اليوم } (4) فخرست الألسن ولم يجترئ أحد على دعوى الملك فقال الله تعالى : {لله الواحد القهار } (5) .

    وهذا يتمشى مع قولهم باحتجاب القدرة الإلهية حيث أنها الأصل فى حدوث الأشياء والأحياء والعالم كله ، ثم احتجابها بالأسباب على ــــــــــــــــــــــــ 

1- الزخرف / 51 .

2- القصص /78.              

3- الفتح /11  .

4- غافر / 16 .    

5- غافر / 16  وانظر السابق ص 247 . 

سبيل الاستثناء ، وهذا الاستثناء لحكمة شاءها الله تعالى .

    ويدلل المكى على نسبة الفعل بكماله إلى الله عز وجل سواء وقع بالأسباب أو بدونها فيقول : هب أن الله تعالى أمر رسوله بالدعوة إليه فدعا لقوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن } (1) فمن الذى أسمع الآذان دعوته وفتح أقفال القلوب ووفق للاستجابة أليس ذاك الله ؟ واحد فى صنعه (2) .

   أى إذا عرفنا فاعلية الله عز وجل من خلال الوسائط فذاك التفصيل  أما التوحيد فهو تخطى هذه الأسباب إلى فاعليته ، وهذا هو توحيد الربوبية ، والنظر إلى الحالتين يتوقف على وجهة الناظر .

   وقال بعضهـم : ( إذا نظرت إلى التفصيل أثبت الوسائط      والرسل  وإذا نظرت إلى التوحيد لـم تر فى الـدارين مع الله     أحـدا غيره ) (3) .

    أى أن الله عز وجل واحد لا يتغير فى ذاته وفعله ، واحد فى قدرته منفرد بالفعل أولا وأخيرا ، والاختلاف بين الأصل والفـرع يرجع إلى الناظر ودرجته من التوحيد ليس إلا ، ويعلق ابن القيم على هذه القضية ــــــــــــــــــــــــ

1- النحل / 125 .

2- قوت القلوب حـ 2 ص 13 .

3- السابق حـ 2 ص 14 .

بأن الأسباب مخلوقة لله وليست لها أفعال مستقلة ، فالفعل الذى لا يعقل الناس سواه هو الفعل الاختيارى الإرادى الحاصل بقدرة الفاعل وإرادته ومشيئته ، وما يصدر عن الذات من غير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلا ، وإن كان أثرا من آثارها ومتولدا عنها كتأثير النار فى الإحراق والماء فى الإغراق ، والشمس فى الحرارة ، فهذه آثار صادرة عن هذه الأجسام وليست أفعالا لها ، وإن كانت بقـوى وطبائع جعلها الله فيها ، فالفعـل والعمل من الحى العالـم لا يقـع إلا بمشيئته وقدرته (1) .

    وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال هام لا نتجاهله وهو : ما الحكمة التى شاء الله عز وجل من أجلها أن يحجب قدرته وفاعليته المطلقة خلف العلل  والأسباب سواء كانت مشهودة أو غيبية ؟

     والجواب على ذلك عندهم ينبع من كتاب الله عز وجل ، حيث بين الله سبحانه وتعالى أن الحكمة من مشيئة ذلك هى الحكمة من خلقه للدنيا والآخرة والإنسان والجان ، هذه الحكمة هى الابتلاء .

     فالله سبحانه وتعالى ربط الأسباب بمسبباتـها شـرعا وقدرا ، وجعل الأسباب محل حكمته فى أمره الدينى الشرعى ، ومحل ملكه وتصربفه فى ــــــــــــــــــــــــ

1- شفاء العليل ص 188 بتصرف .

أمره الكونى القدرى ، فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات ، وقــدح فى العقول والفطر ، فقد جعل الله سبحانه مصالح العباد فى معاشهم ومعادهم  والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهى ، كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها .

    بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه ، بل الموجودات كلها أسباب ومسببات والشرع كله أسباب ومسببات والمقادير أسباب ومسببات والقدر جار عليها متصرف فيها ، فالأسباب محل الشرع والقدر ، يقــول الترمذى : ( فهــذه كلها أسباب والآدمى يرى ما ظهر عنهـــا وفى باطنهـــا ربـوبـيـتـة ، وهو الذى دبر هذا كله من القدر وأمضى التدبير بمشيئته تحقيقا للابتلاء ) (1) .

   والقرآن مملوء من إثبات الأسباب وتعليق الأحكام عليها بالتكليف والابتلاء .

  • قال تعالى : { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الأيام الخالية } (2) .

وقال تعالى : { فبظلـم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهـم الربا وقد نهوا ــــــــــــــــــــــــ

1- نوادر الأصول ص 397 .             

2- الحاقة / 24 .

  • عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل و أعتدنا للكافـرين منهـم عـذابا أليـما } (1) .

   والآيات كثيرة فى هذا الباب لا تكاد تحصى ، وكلها تدل على أن الأسباب إنما جعلت لحكمة وغاية .

  • قال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقنـاكم عبثا وأنكـم إلينا لا ترجعـون فتعالى الله الملك الحـق لا إله إلا هو رب العـرش الكريم } (2) .
  • وقال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } (3) .
  • يقول ابن القيم : ( والحق هو الحكمة والغايات المحمودة التى لأجلها خلق ذلك كله ) (4) .

وذكر من هذه الحكم والغايات :

   1- أن يعرف الحق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته0

   2- أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع .

   3- أن يأمر وينهى ويشرع الشرائع .

ــــــــــــــــــــــــ

1- النساء / 160 ، 161 .               

2- المؤمنون / 115 . 

3- الدخان / 38 : 39 .

4- شفاء العليل ص 189 ، وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 4 .

   4- أن يدبر الأمر ويتم القضاء ويتصرف فى ملكه بأنواع  التصرفات .

   5- أن يثيت ويعاقب فيجازى المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته   فيوجد أثرا لعدله وفضله موجودا مشهودا فيحمد على ذلك ويشكر ، إلى غير ذلك من الحكم التى تضمنتها الأسباب فى خلق السماوات والأرض (1) .

  • وقال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } (2) .

    ومن أوائل الذين انتبهـوا إلى هذه الحقيقة سهل بن عبد الله التسترى حــيث يقــول : ( إن الله عز وجل خلق الخلق وفطرهم على معـرفته وابتلاهـــم بنفسـه وقهرهــم بقدرته وأمضى فيهـم حكمه وهو فى علاه قائـم عليهــم ) (3) .

   وفضلا عن ذلك فإن التسترى يرى أن أوامر الله ونواهيه إن هى إلا ابتلاء حقيقى وامتحان خطير للإنسان (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 189 بتصرف .                 

2- ص / 27 .

3- من التراث الصوفى ص 268 .            

4- السابق ص 269 .

    وهذا الابتلاء يظهر من تصريف الحق لجميع الخلق حيث أنه منشئ ذواتهم ومجرى صفاتهم ، وبالابتلاء نوعهم فريقا أسعدهم ، وفريقا أبعدهم وأشقاهم ، وفريقا هداهم ، وفريقا أضلهــم وأعمــاهم وفريقا حجبهم عنه ، وفريقا جذبهم  إليه ، وفريقـا آنسهـم بوصله ، وفريقا أيسهم من رحمته ، وأنواع أفعاله لا يحيط بها حصر ، سواء احتجب عنهم بالأسباب ابتلاء ، أو شاهدوا قدرته من خلفها (1) .

   ولكن ما علاقة الحكمة من احتجاب القـدرة بالابتـلاء ؟ يقـول الدكتور جعفر :

     ( إن سهلا لا يعترف بحقيقة الاستطاعة وفقط ، بل يرى كذلك أنها محل البلاء ومحك الابتلاء ، ولقد صرح فى مواضع كثيرة أن خلق الإنسان فى الأصل بدأ بالابتلاء ، فالخلائق فى نظره وجهوا للابتلاء   فتحركت نفوسهم نحو التدبير لصالحها ) (2) .

    وعلى ذلك فإن الإنسان إذا تعامل مع هذه القدرة وجها لوجه ، فإن ذلك سيبطل معنى الابتلاء ، فالابتلاء بمعنى الامتحان والاختبار يقتضى وجود عالم غائب عن الإنسان تحتجب فيه القدرة الإلهية ، فليس من المعقول أن يكون على الأرض ابتلاء ، والإنسان المبتلى يستطيع أن يرى ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 226 .

2- من التراث الصوفى ص 268 .

النار وعذابها ، أو يحسها أو يسمع صراخ المعذبين فى القبور أو يرى رب العزة والجلال ، وبرهان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :

     ( إن العبد إذا وضع فى قبره ، وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه ، فيقولان له : ما كنت تقول فى هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا .

    قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح فى قبره ، ثم رجع إلى حديث أنس فقال : وأما المنافق أو الكافر فيقال له : ما كنت تقول فى هذا الرجل ؟  فيقول : لا أدرى ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ) (1) .

   والشاهد فى هذا الحديث ، أن كل الكائنات الحية على الأرض تسمع ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز ، باب الميت يسمع خفق النعال برقـم (1338) وأخرجه مسلم فى كتاب الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار وإثبات عذاب القبر والتعوز منه برقم (2870) والنسائى فى كتاب الجنائز ، باب مساءلة الكافر حـ 4 ص 97 ، 98 وابن حبان فى كتاب الجنائز فصل فى أحوال الميت فى قبره برقم (3120) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 3 ص 126 .

صوت المعذب إلا الإنس والجن ، لأنهما المخلوقان المبتليان على الأرض   أما ما عداهما من الأحياء فليسوا واقعين تحت الابتلاء ولم يخلقوا له  ومن ثم فهم يعيشون بغير هذا الغطاء الكونى الذى يمنع عن الثقلين معرفة الأمور الغيبية التى تقع فى الأرض ، كصراخ المعذبين فى القبور وكرؤية الملائكة المحيطة بالإنسان ورؤية الشياطين الملتفة حوله ، لأنه لو حدث ذلك للإنس والجن لآمنوا جميعا ، وما كان هناك فضل منهم ولا مبادرة ولا اجتهاد لمجتهد يستحق عليـه الثواب ولما تبين الظالم من   المحسن حيث يكون إيمانهم جميعا كنتيجة مباشرة لاطلاعهم على هذه     الأمور الغيبية .

      ولذلك فإن هذا الغطاء يرفع عن الإنسان بمجرد انتهاء فترة الابتلاء الخاصة بالمخلوق المبتلى فيقال للكافر حين ذاك : {  لقد كنت فى غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حـديـد } (1) .

   وعلى ذلك فلا يصح امتحان الإنسان إلا بستار القدرة المطلقة ، حتى يظهر إيمان الإنسان بالغيب أو كفره ، ومن ثم جعل الله فعله غيبيا غيبة عنا بالعلل والأسباب وتوالى النتائج والمعلولات  .

     ويؤكد المكى على رأى التسترى فى إثبات الابتلاء ومعانى الحكمة   ـــــــــــــــــــــــ

1- ق / 22 .

     

   فيذكر أن الله عز وجل ذو قدرة وحكمة ، فأظهر أشياء عن وصف القدرة ، وأجرى أشياء عن معانى الحكمة ، فلا يسقط المتوكل ما أثبت من حكمته لأجل ما شهد هو من قدرته .

   وذلك من قبل أن الله تعالـى حكيم فالحكمة صفته ، ولا يثبت المتوكل الأشياء حاكمة جاعلة نافعة ضـارة فيشرك فى توحيده .

   ومن قبل أن الله قادر والقدرة صفته ، وأنه حاكم جاعل ضار نافع لا شريك له فى أسمائة ولاظهير له فى أحكامه .

  • كما قال عز وجل : { إن الحكم إلا لله } (1) .
  • وقال تعالى : { ولايشرك فى حكمه أحدا } (2) .
  • وكما قال تعالى : { وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير  } (3) .

    والظهير المعين على الشئ ، فالمتوكل مع مشاهدته قدرة الله على الأشياء ، وأنه منفرد بالتقدير والتدبير قائم بالملك ، والمملوك هو أيضا عالم بوجوه الحكمة فى التصرف والتقليب بإظهار الأسباب والأواسط لإظهار الأشخاص والأشباح ، لإيقاع الأحكام على المحكوم ، وعـود

ــــــــــــــــــــــــ

1- يوسف / 67 .

2- الكهف / 26 .  

3- سبـــأ / 22 .

الثواب والعقاب على المرسوم ، من حيث كــان المتوكل قائما بأحكام الشريعة ملتزما لمطالبات العلم ، مع تسليمه الحكم الأول لله واعترافه أن كلا بقدر الله إذ سمع الله تعالى يقول : { لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون  } (1) .

    ثم يروى عن ابن مسعود رضى الله عنه ما يوضح الحكمة من إخفاء فاعلية الله عز وجل وحجبها عن العباد بالأسباب فيقول ابن مسعود :

   ( فى إعطاء هذا المال فتنة وفى منعه فتنة ، فإن أعطاه عبدا     مدح غير الذى أعطاه وإن منعه عبدا ذم غير الذى منعه ) (2) .

     ومراد الله من ذلك أن يختبر المنكرين للخير والغافلين لينظر كيف يعملون ، أما أهل اليقين فيعتبرون بالأسباب ويعجبون من المسبب فيزدادون بذلك هدى وإيمانا لشهودهم المعطى المانع واحدا فى العطاء والمنع ، وفوزهم فى هذا الابتلاء أو هذه الفتنة هو معرفتهم بجريان الحكمة فيما جاءت به الشريعة فتثبت لهم مقامات الشكر لله والصبر عليه (3) أما الغافلون الخاسرون فى الابتلاء والفتنة فيغترون بنظرهم إلى الأسباب والأيدى فيمدحون المعطين ويذمون المانعين (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الأنبياء / 23 .         

2- قوت القلوب حـ 2 ص 10 بتصرف .

3- السابق حـ 2 ص 11 .         4-  السابق حـ 2 ص 12 .  

   ومن ثم فإن الأسباب المادية الطبيعية والغيبية ما جعلها الله إلا فتنة للناس وابتلاء ، وهذا هو مكر الله عز وجل يخفى به قدرته ويستر فاعليته لكل شئ لينكشف الكافـر من المؤمن ، ولذلك يعقب المكى بعد ذلك بقوله : ( لقد صار المال فتنة للفريقين يكشف إيمانهم ويمتحن للتقوى قلوبهم ) (1) وهو لا يقصد المال وحده ولكنه يقصد كل الأسباب وعلى رأسها المال  .

    ويذكر المحاسبى أن الله يستدرج بالمال من أراد أن يهلكه ويعذبه   من خلال الابتلاء به وبغيره فيقول : ( أخبرنا الله أن الدنيا فتنة وبلوى واختبار وأنها ليست بدليل على رضى الله عن عباده ) (2) .

    ثم يستدل بقوله تعالى  : {  فأما الإنسـان إذا ما ابتلاه ربـه فأكـرمه ونعمـه فيقول ربى أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهـانـن كـلا بل لا تكرمون اليتيم } (3) .

     فكذبهما الله جميعا ونفى أن يكون فى هذا كرامته أو فى ذاك إهانته فالكريم من أكرمه الله بطاعته على أى حال كان ، فقيرا أو غنيا والمهان من أهانه بمعصيته على أى حال كان فقيرا أوغنيا ، فاغتر ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 2 ص 12 .

2- الرعاية  حـ 2 ص 13 .

3- الفجر / 15 ، 16 .

الكافرون بظاهر نعم الله عز وجل وظنوا أن ذلك من كرامتهم على الله فقال فى وصفهم : { أيحسبــون أنمــا نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون } (1) .

    فالأسباب فتنة ، تحتجب قدرة الله بستارها ، والمؤمن صامد لا يتاثر بها كما جاء فى حديث صهيب أنه صلى الله عليه وسلم قال  :

   ( عجبــا لأمـر المؤمن إن أمره كله خير ، إن أصابته سراء شكــر فكان خـيرا لــه ، وإن أصـابته ضــراء صبر وكان خــيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن ) (2) .

      ويذكر أبو سعيد الخراز أن أهل الصدق إذا ملكوا شيئا من الأسباب فهم يعتقدون أن الشئ لله لا لهم وأن الله خولهم فيها ، وهم مبتلون به حتى يقوموا بالحق فيه ، لأن النعمة بلاء حتى يقوم العبد بالشكر فيها ويستعين بها على طاعة الله تعالى ، وكذلك البلوى والضراء هو اختبار وابتلاء حتى يصبر عليه ويقوم بحق الله تعالى فيه .

ــــــــــــــــــــــــ

1- المؤمنون / 55 .

2- أخرجه مسلم فى كتاب الزهد ، باب المؤمن أمره كله خير برقم  (2999) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 4 ص 332 ، 333 ، والدرامى فى سننه حـ 3 ص 375‏ ، وابن حبان فى كتاب الجنائز ، باب ما جاء فى الصبر وثواب الأمراض برقم (2896) .

   ودليله فى ذلك قوله تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } (1) .

    والخلاصة أن أن أوائل الصوفية يعتبرون حقيقة العلل وحدوث الأسباب وتعلق معلولاتها بها وجودا وعدما هى مصدر كل ابتلاء .

      والناظر فى تاريخ الأمم السابقة التى قص علينا القرآن الكريم أخبارها  يجد أن الباب الذى دخل فيه الشر على هذه الأمم هو إيمانهم بحتمية العلاقة بيـن العلة والمعلـول كسيـف صـارم يعلـو قـدرة الله تعالى   فعبادة الكواكب والأفلاك والشمس والقمر أولها الاعتراف بفعلهـا وكـذلك مـا كانت الأوثان المعبودة إلا رموزا لفاعليات متعددة لها آثارها فـى حيـاة الناس (2) .

    وكذلك الأمر بالنسبة للملائكة كعلل غيبية حيث وقع كثير من الأمم فى عبادتها من دون الله عز وجل ومنهم العرب قبل         الإسلام ، والباب الذى أدى بهم إلى ذلك هو إثباتهم فاعلية مستقلة   لهم عن فاعلية الله .

    ولا شك أن انتباه الصوفية الأوائل إلى حقيقة العلاقة بين الفاعلية الإلهية وبين الأسباب الطبيعية والبشرية من ناحية ، وإلى معرفة حقيقة ــــــــــــــــــــــــ

1- محمد / 31 وانظر الصدق لأبى سعيد الخراز ص 34 .

2- كشف المحجوب ص 245 .

الأسباب والاستطاعة البشرية من ناحية أخرى ، كان له أثر كبير فى تثبيت قاعدة هامة من قواعد التوحيد الإسلامى ، مما كان له دوره الواضح فى إبعاد المسلمين عن مزالق الوثنية التى وقع فيها غيرهم من الأمم أو بتعبير أدق نقــول : إن أوائل الصوفية قدموا أسبابا واضحة فى هذا كله .

 

 

  • الاثنين PM 05:52
    2021-08-16
  • 1106
Powered by: GateGold