المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416547
يتصفح الموقع حاليا : 255

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629125488425.jpg

العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية

مر بنا فى المبحثين السابقين أن مشايخ الصوفية الأوائل أثبتوا قدرة للإنسان واستطاعة على الفعل كما اعترفوا بالمؤثرات الطبيعية كأسباب وعلل خلقها الله عز وجل بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها وعلى الوجه الآخر أفردوا الله بالخلق والفاعلية وجعلوا ذلك جوهر التوحيد عندهم حتى يحكى الكلاباذى إجماعهم على ذلك فيقول :

    ( وأجمعوا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد كلها كما أنه خالق لأعيانهم ، وأن كل ما يفعلونه من خير وشر فبقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ) (1) .

    والسؤال الذى يطرح نفسه علينا الآن هو : كيف ينسب أوائل  الصوفية الفعل الحقيقى إلى الله وفى نفس الوقت يعترفون بأثر السبب الطبيعى وبالفاعلية الإنسانية ؟ حتى يقول المكى عن الفواعل والمؤثرات والوسائط بين الفاعلية الإلهيــة وبين حدوث الفعل أو خلــق الشئ :

   ( فى الأشياء أواسط حق وأسبــاب صــدق ) (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- التعرف ص 60 .

2- قوت القلوب حـ 2 ص 14 .

وذلك فى الوقت الذى أجمعـوا على أنه لا فاعل على الحقيقـة إلا الله ؟

   وهذا يوجب على أوائل الصوفية تقديم حل لتفسير هذا التعارض الظاهرى وثمة حلان يقدمهما الفكر الإنسانى :

أولهمـا : أن الفعل يأتى من فاعلين الإله والمخلوق .

ثانيهما : أن يقال إن الفاعل الحق هو الله عـز وجل وأن ما سواه ليس له أدنى دور فى الفعـل (1) .

   فإذا كانت الجهمية قد آثرت إثبات طلاقة الفاعلية الإلهية ونفى القدرة والفاعلية البشرية ، فإن المعتزلة لم تكن إلا المذهب المقابل لها ، حيث أصروا على أن يكون الفعل البشرى نتاجا خالصا وأثرا مستقلا للإنسان عن أى أثر خارجى آخر من فعل الرب أو من غيره ، وهم لا يتهاونون فى هذا الأصل من أصولهم ولا يكادون يختلفون فيه ، ونعنى به قدرة الإنسان على إحداث الفعل (2) .

   بينما رفض أوائل الصوفية شأنهم فى ذلك شأن الصحابة والتابعين من قبل ، أن يكون هناك خالق ومحدث للأشياء غير الله سبحانه وتعالى  فالحل الأول مرفوض رفضا تاما ، وذلك لأن الفعل عندهم لا يأتى من ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر فى ذلك كشف المحجوب ص 333 .

2- انظر القضاء والقدر فى الإسلام د . فارق الدسوقى حـ 2 ص 203 وانظر المحيط بالتكاليف ص 381 وما بعدها .

فاعلين وإلا كان شركا ، فالفاعل الثانى المظهر للفعل والذى فعل بيده وأجرى الفعل بواسطتة هو ثان محدث ، والأول القـديم هو الفاعل الأصلى ) (1) .

   فوقوع الفعل بفاعليتين أعده أوائل الصوفية شركا ، كما أنهم رفضوا الحل الثانى أيضا إذ يستدل المكى على رأى أوائل الصوفية في إثبات الأواسط ودورها كمؤثرات فعالـة من صنـع الله بقوله تعالى :

   { فلا تعجبك أمـوالهـم ولا أولادهم } (2)  

   وبقوله : { علـم بالقلـم } (3) .

   وقال في تثبيت الأملاك وبيعها منه بالأعواض كرما منه وفضلا :

{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } (4) .

   والحل الذى يمكن استنباطه من الكتب الرئيسية لأوائل الصوفية ومن أقوالهم ومؤثوراتهم الواردة في هذه الكتب يتلخص في الاعتقاد بأن الفعل الواحد ذو وجهيـن :

ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب جـ2 ص12 وانظر كشف المحجوب ص 333 .

2- التوبه / 55 .

3- العلق /4 . 

4- التوبه / 111 .

  وانظرالسابق جـ2 ص12 والتعرف ص62  .

[1] - وجه هو فيه محـــدث ومخلـوق على الحقيقـــة بفاعلية الله عــزوجل وحـده لا شريك له .

[2] - ووجه آخر باستطاعة الإنسان .

   وهذا الوجه الأخير لا يمت بأية صلة إلى إحداث الفعل أو خلقه ويسمى هذا الوجه كسبا ، والدليل على ذلك عندهم أن الفعل    الواحد ينسبه القرآن الكريم للخالق قبل الإنسان فعلا باعتبار أنه  سبحانه وتعالى هو الخالق المحدث له وحده وليس للإنسان أى دور فيه على الإطلاق ، أما الوجه الثانى وهو اكتساب الإنسان للفعل فليس خلقا أو إحداثا له ، وإن كان الكسب يثبت دورآ للفاعلية الإنسانية مترتبا على الاختيار .

  • قال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } (1) .
  • وقال أيضا : { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } (2) .

   فأضاف الإمناء والحرث إلينا لأنها أعمال ونحن عبيد عمال ، ولأنها صفاتنا وأحكامها عائدة علينا ، وأضاف الخلق والزرع إليه لأنها آيات ــــــــــــــــــــــــ

1- الواقعة /58 .                      

2- الواقعة /63 .

عن قدرته وحكمته والله هو القادر الحكيم (1) فالأشياء والأحياء والأفعال مخلوقات لله بقدره مكتسبة للعبد باستطاعته .

   يقول المكى : ( ألا ترى أنك لا تقول خلقنى أبى وإن كان هو سبب خلقك ولا تقول أحيانى وأماتنى فلان وإن كان واسطة في الإحياء والقتل ، لأن هذا شرك ظاهر اشتهر قبحه فتـرك ) (2) .

    ثم يعقب المكى على هذه الأمثله من الأفعال بقوله : ( وكذلك كـل ما ذكر فى الكتاب من الأعمال والاكتساب أضيف إلي الجـوارح المجترحة ونسـب إلى الأدوات المكتسبـة ) (3) .

   وهو عنده من كسب العبيد ومن خلق الله وحده .

   وبهذا الحل استطاع أوائل الصوفية إثبات الفعل الحقيقى بمعنى الإحداث والخلق لله وحده مستندين فى ذلك إلي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متبعين بذلك طريقة السلف من الصحابة والمحدثين والفقهاء وأهل السنة والجماعة ، وفى نفس الوقت وفقوا بهذا الحل فى إثبـات دور للفـاعلية الإنسانية يكفى لإثبات المسئولية الخلقية واستحاق الجزاء ، فهم أقاموا اكتساب العبد بناء علي اختياره ، وقرروا ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ2 ص11 .

2- السابق حـ2 ص11 .

3- السابق حـ2 ص11 .

خلق الله عز وجل استطاعة العبد عند الفعل وتزويده بها ليقدر على اكتساب الفعل وضده أو اكتساب الفعل واكتساب الترك لا ليقدر على إحداث الفعــل وخلقه لأن الخالق والمحدث هو الله عز وجل .

   فالاستطاعة للكسب وليست للخلق والإحداث ، والله سبحانه وتعالى خالق للفعل فى الحالين سواء كان الفعل المراد للعبد طاعة أو معصية ، ومن ثم فلا يتم شىء فى الكون ولا أثر ولا فعل لهذا الشىء إلا بإذنه الله وخلقه له .

وهذا الحل يتوافق مع الكلمات البليغة للحســن بـن على التي أوردها الكلاباذى في باب الاستطاعة : ( إن الله تعالى لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة ولم يهمل العباد من المملكة ) (1) .

    فأثبت اختيار الإنسان للطاعة والمعصية وبين أن هذا واقع بأمر الله  وفى هذا يقـول سهل بن عبد الله : ( إن الله تعالى لم يقو الأبرار بالجبـر إنما قواهم باليقـين ) (2) .

    ويرى المكى أن نسبة الفعل إلى السبب أو إلى العبد شركا ، ولا يفرق فى ذلك بين خلق الله وإحيائه وإماتته وبين الكسب فى الرزق   فكما أن الله أخبرنا أنه الخالق المحى المميت أخبرنا أنه الرازق ، وقرن بين ـــــــــــــــــــــــ

1- التعرف ص64 .

2- السابق ص 64 .

هذه الأربع فى قرن واحد مـع ترتيب الحكمة والقـدرة لظهور الأسباب ووجــود الأواسط فقـال تعالى  : { الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يمتيكم ثم يحيكم } (1) .

    يقول المكى معقبا : ( فكما ليس فى الثلاثة جاعـل ومظهـر إلا الواحـد فكذلك ليس فى الرابعـة مـن رازق إلا هــو ) (2) .

    ثم يلخص الأمر  فيقول : ( فظهرت حكمة الله فى الأشياء لعود الأحكام على المظهرين لها وبطنت قدرته فى الأشياء لرجوع الأمر كله إليه ، وهذه شهـادة التوحيــد للعارف المتوكـل وهو مقام  العلماء الربانيين ) (3) .

    وهذا الفكر الذى يشرح من خلاله أوائل الصوفية مفهومهم للتوكل وغيره استطاعوا بحق أن يضعوا به الحل المناسب لتفسير العلاقة بين فعل الله وكسب العبـد إلا أننـا نواجه سـؤالا ضروريا وهاما وهو : ما علاقة السبب الطبيعى أو غير الطبيعى الممثل فى وجود الملائكة أو الأسباب الغيبية بالربوبية والفاعلية الإلهية ؟

    وذلك لأن النظرية الصوفية للكسبب عند الأوائل خاصة بتفسير ــــــــــــــــــــــــ

1- الروم / 40 .

2- قوت القلوب جـ2 ص10  .

3- السابق حـ 2 ص 10  .

العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية بهدف إثبات المسؤلية الخلقية واستحقاق الجزاء دون خرق لمبدا إفراد الله عز وجل بالخلق .

    ولكن الأمر يختلف بالنسبة للفاعلية الطبيعية والأسباب غير الإنسانية بصفة عامة وهو ما يسمية أوائل الصوفية بصفة عامة والمكى بصفة خاصة بالأواسط (1) .

     ويعنى بها الفاعلية الوسط بين فعل الله عز وجل وبين المفعول     أو الحادث الأخير فى الفعل ، وهى عند المكى نوعان :

الأول : الأسباب الطبيعية التي تحدث على أثر حدوثها الظواهر الطبيعية والحيوية  .

الثانى : أسبـاب غيبيــة غير مرئيــة ويعنون بها الملائكــة  .

   لقد نسب أوائل الصوفية للإنسان دورا هاما فى الفعل حددوه بالكسب ، ولكنهم بالنسبة للأسباب الطبيعية والأحوال الغيبية رفضوا أن ينسبوا لها أى دور مستقل على الإطلاق ، وفهموا هذه الأواسط على أنها مجرد حجاب تحتجب وتستتر به الفاعلية الإلهية من ناحية وتظهر من خلاله الربوبية فيعرفونها من ناحية أخرى .

   فهم يفردون الله بالخلق والفعل ، ولكن الكسب الذى أثبثوه للإنسان

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر كشف المحجوب ص 466  .

ليس إلا استحقاقا للجزاء وإثباتا للعدل الإلهى ، أما بالنسبة للطبيعيات أو الغيبيات من الأسباب والأواسط فليست مسئولة أو محاسبة ، ومن ثم فلم يثبت الصوفية لها أى فاعلية مستقلة على الإطلاق ، بل الفاعلية كلها لله حيث هو الفاعل بها جميعا .

    ومبدأ احتجاب الفاعلية الإلهية النافـذة يتردد على أفواه الكثير مـن أوائل الصوفية (1) فهم ينظرون إلى الأسباب باعتبارها من مكر الله عز وجل وابتلاء للعباد لإخفاء فاعليته وعملها فلا يراها الناس رؤية مباشرة ولا يواجهـونهـا مواجهة صريحة ، وهـذا المعنى هو ما يفهمه المكى من قوله تعالـى : { ولا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء } (2) .

قيل : الهاء إشارة إلى الله تعالى وقال أبو العباس بن عطاء (3) :

ــــــــــــــــــــــــ

1- انظر كشف المحجوب ص10 ، 11 وانظر طبقات الصوفيه ص 51 ، 344 .

2- البقرة / 255 .

3- هو أبو العباس أحمد بن سهل بن عطاء الآدمى ، من كبار مشايخ الصوفية وعلمائهم  وهو من أقران الجنيد بن محمد ، مات سنه 309 وقيل سنة311 هـ ومن أفضل ما حفظ عنه : ( من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة ، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم فى أوامره وأفعاله وأخلاقه والتأدب بآدابه قولا وفعلا وعزما وعقدا ونية ) انظر فى ترجمته الرسالة القشيرية حـ 1 ص 146 حلية الأولياء حـ 11 ص 302 شذرات الذهب حـ 2 ص 257  البداية والنهاية حـ 11 ص 144 والمنتظم حـ 6 ص 160  .

    ( ولا يحيطون بشىء من ربوبيته علما ، لأنه لم يظهر شيئا إلا تحت غطاء وتلبيس ) (1) .

   وهو يقصد بربوبيته فاعلية الله فى الكون ، ومعنى ذلك أنه يقول : إن الله عز وجل هو فاعل كل شىء وخالق كل شىء وما نراه من الأسباب الطبيعية وما نعلمه من الوحى عـن الملائكة وما يتم بهما ليس إلا تلبيسـا لفاعليته وربوبيته وإخفاء لها اختبارا للعباد .

   ويؤكد الواسطى (2) تلبيس الأسباب وحجب صفة القدرة الإلهية من ورائها بقوله :

  ( إن الله تعالى يحتجب عن خلقه بخلقه ثم عن صنعته بصنعه وساقهم ــــــــــــــــــــــــ

1- حلية الأولياء حـ 10 ص 305 ومعنى التلبيس عند أوائل الصوفية إخفاء الأمر على سبيل الابتلاء ، حتى يمتحن العبد فى معرفة الله وإثبات الربوبية هل الخالق المدبر هو الله أم ما أبداه لهم من أسباب ؟ سواء كانت مرئية فى الأسباب الطبيعية أو غير مرئية فى الأسباب الغيبية ؟ فأما الموحدون فيعلمون أن الله من وراء الأسباب خالق مدبر وأما المشركون فيعبدون الملائكة والشمس والقمر وغير ذلك من الأسباب .

2- هو أبو بكر محمد بن موسى الواسطى خرسانى من بلد يقال لها : فرغانة ، وهو من أقران الجنيد والنورى ، ومن علماء مشايخ القوم ، مات بمرو سنة 320 هـ وقيل بعدها انظر طبقات الصوفية ص 302  المنتظم حـ 6 ص 262 ، حلية الأولياء حـ10 ص 149  الرسالة القشيرية حـ 1 ص 152 .

 

بأمره إلى أمره ) (1) .

  وقال أيضا : ( الموحد لا يرى إلا ربوبية صرفا تولت عبودية     محضا ) (2) .

     ويثبت المكى احتجاب القدرة الإلهية في فعلها بالأسباب بقوله :       ( احتجب عن العموم بالأسباب فهم يرونها ) أى أنهم لضعف توكلهم وإيمانهم يعاينون النتائج والأحداث بها ، بينما لا يخدع الموحدون والمتوكلون بالأسباب لقوة إيمانهم بالله ومعرفتهم بصفاته .

  يقول المكى : ( وحجب الأسباب بنفسه عن الخصوص فهم يرونه ولا يرونها ) (3) .

    ويرى الحكيم الترمذى أن كل شىء قائم بالله ومن الله ، وإن اختفى هذا السر وراء الأسباب الظاهرة ، فالله قد جعل من تدبيره أن يستر أموره بالأسباب والآدمى يرى ما ظهر عنها ابتلاء من الله وفى باطنها ربوبيته فالحكماء عن تدبير الله ينطقون وكيف دبر شأن الآدميين وكيف ركبهم يشكرون (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب حـ 1 ص 126 .            

2- طبقات الصوفية ص 303 .

3- قوت القلوب جـ2 ص15 .

4- نوادر الأصول للحكيم الترمذى ص 398 .

   ويوضح المكى مبدأ احتجاب صفة القدرة بقوله :

   ( وكذلك أيضا تدخل الشبهة على الغافلين من ضعف اليقين لشهود المانعين والمنفقين أوائل فى الفعل من قبل أن الله تعالى      أظهر العطاء والمنع بأيديهم ، فشهدوهم معطين مانعين لنقصان       توحيدهم ، فأشركوا فى أسماء الله ) (1) .

وفى هذا النص يتضح لنا من قول المكى عن الغافلين أنهم يرون الناس والأسباب أوائل فى الفعل اعتقاده بأن الأفعال المنسوبة للبشر والأسباب ليست على وجه الأصالة فى الإحداث ، لأن الفاعل الحقيقى هو الله وحده وإنما الأسباب والناس ليسوا إلا مجالا لإظهار فعل الله عز وجل ، وذلك بحجب قدرته الفاعلة بهم حتى يقع أصحاب الغفلة فى الشرك الخفى ابتلاء من الله .

     فيقول العبد أعطانى ومنعنى فلان ، وهذا شرك لأن الأسباب تظهر على أيديهم وتجرى بواسطتهم فحجبوا بها عن المسبب واستتر عنهم المعطى المانع (2) .

    ومن ثم فالصوفية الأوائل يفهمون علاقة الأسباب بالفاعلية الإلهية باعتبار الأسباب مجرد ستار وحجاب لقدرة الله عز وجل يسدله الخالق ــــــــــــــــــــــــ

1- قوت القلوب جـ2 ص15 .

2- السابق حــ2  ص11 .

رحمة بالناس وبخاصة الضعاف منهم من ناحية ، وابتلااء واختبارآ لهم من ناحية أخرى .

     ويعتبر التسترى فى هذه النقطة أدق من غيره ، لأن الخلق عنده لا يحجب الخالق وإنما الحجاب من قبل الخلق لا من  قبل الخالق ، وذلك لأن ميدان الربوبية فى نظرة أوائل الصوفية هو الميدان الذى تتحقق فيه العلاقة بين الله وخلقه من خلال صفاته سبحانه .

     يقول التسترى عن صفة الفعل : إنها الصفة التى بها احتجب وبها تسمى الله فإذا أبصر الإنسان أشعره الله بمباشـرة صفـاته وخفــى ألطـافه آثاراها فى خلقـه وهـذا هــو استـشعـار العبودية التى تثمر خوف المقام استمـدادا من قـوله الله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } (1) .

    فالوسائط التى هى أثار الصفات الإلهية لا ينظر إليها المؤمن على أنها ضروريات عقليه تدريجية لفهم طبيعة الفعل الإلهى ، ولكن ينظر      إليها على أنها سلم يصعد عبرها الإنسان روحيا حتى يستقر قلبه نهائيا مع ربه (2) .

   ومن هنا نشأ هذا التنوع فى موقف الصوفية فى وجهين يظهران من ــــــــــــــــــــــــ

1- النازعات / 40 .

2- من التراث الصوفى ص215 .

هذين الدعاءين المختلفين لشخص واحد وهو السرى السقطى (1) .

  • أحدهما : ينادى الصوفى فيه ربه اللهم لا تعذبنا بذل الحجاب (2)
  • والآخر : اللهم الطف بنا واسترنا بلطف الحجاب (3) .

     أما الأول فيقصد أن ينعم بشهود الربوبية والفاعلية الإلهية ، وأما الآخر فيسأل الله التخفيف حتى يستمر في حياته ليرعى شئون نفسه لأنه لو ظل مشاهــدا له وراء كــل شىء يسبـح الله حقيقـة استحـال عليه أن يفعل الضروريات أو يفكر فى غذائه وصلاح معيشته .

    وفى ذلك توجيه نبوى للصحابى أبى ربعى حنظلة بن الربيع كاتب الوحى فى قوله :

   ( والذى نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى وفى الذكر  لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم ولكن ياحنطلة ساعة ــــــــــــــــــــــــ

1- هو أبو الحسن سرى السقطى خال الجنيد وأستاذه ، من أقران معروف الكرخى وهو إمام البغدادين مات سنة 251 هـ  انظر حلية الأولياء حـ1 ص 116 طبقات الصوفية ص 48 تاريخ بغداد جـ9 ص187 طبقات الشعرانى جـ1 ص86 شذرات الذهب جـ2 ص127‏ البداية والنهاية جـ11 ص13 . 

2- حلية الأولياء جـ10 ص120 .

3- طبقات الصوفية ص51 ، وانظرختم الأولياء ص149.

 

وساعة ثلاث مرات ) (1) .

    إذ أن حنظلة ظن أن الانشغال بالأسباب في غير مجلس الذكر مدعاة للنفاق فقال : ( نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى         العين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعـات نسينـا كثيرا ) (2) وهو ما يعتبره نفاقا .

   وإرشاد النبى صلى الله عليه وسلم لحنظلة يوحى بأن أهل الحقائق فى دوام الأحوال ارتقوا عن وصف التأثر بالأواسط والأسباب ، فهم يباشرونها فى ظاهر العيان ويعلمون أن الله من ورائهم محيط قادر   فاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة (3) .

   ونخلص إلى القول بأن أوائل الصوفية أثبتوا أن الفعل يحتاج إلى فاعل واحد فى خلقه وإنشائه إذ أن وجود فاعلين يوجب استقلال الواحد عن الآخر ، ومن ثم فالفاعل يتحتم أن يكون واحدا فـى الحقيقة بلا جدال  ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجة مسلم فى كتاب التوبة ، باب فضل دوام الذكر والفكـر فى أمــور الآخرة برقم (2750) وابن حبان عن أنس فى كتاب البر، باب ما جاء فى الطاعات وثوابها برقم (344) وأخرجة أحمد عن أنس جـ3 ص 175 وابن المبارك فى الزهد عن أبى هريرة برقم (1075) والهيثمى فى مجمع الزوائد عن أنس حـ 10ص308 .

2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 254 .

3- السابق جـ1 ص 254 .

      وهذه الأسباب والأواسط أدوات للقدرة خلقها الله عز وجل لتحقيق علمه فى خلقه ليس لها أثر بذاتها ولا يمكن أن توجد      بنفسها (1) .

     يقول الهجويرى : ( ونحن فى هذا الصدد على طرفى نقيض مع أصحاب المذاهب الثنوية الذين يقولون بالنور والظلام ، ومع المجوس الذين يعتقدون ببزدان وأهريمن ، ومع الفلاسفة الطبيعيين الذين يقولون بالطبع والقوة ، والفلكيين الذين يصدقون بالأفلاك السبعة   والمعتزلة الذين يقولون بتعدد الخالقية والصانع بدون حد ) (2) .

     وقد نبه سهل بن عبد الله إلى أن ذلك لا يعنى القول بالجبر ، لأن قوما ممن ضلوا فى هذا الباب زعموا أنهم يغرقون فى بحار التوحيد ، ولا يثبتون لنفوسهم حركة وفعلا ويسقطون ذلك ظنا منهم أنهم يفردون الله بالفاعلية فيزعمون أنهم مجبورون على الأشياء وأنه لا فعل لهم مع فعل الله ويسترسلون فى المعاصى وكل ما تدعوا النفوس إليه من ترك الحدود والأحكام والحلال والحرم .

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- كشف المحجوب ص333 .               

2- السابق ص 333 ، 334 .

  • الاثنين PM 05:51
    2021-08-16
  • 2078
Powered by: GateGold